الحمد لله رب العالمين، أحمده حق حمده، لا أحصي ثناء عليه، وكما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدا عبد الله صفيه، وخليله صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:-
فمن العمل الصالح الذي ينبغي للمؤمن أن يجتهد فيه في هذه الأيام دعاء الله تعالى وسؤاله، فإن دعاء الله ـ تعالى ـ من أجل العبادات، وأعظم القربات، بل كل ما يفعله الإنسان من الأعمال الصالحة القولية والعملية، الظاهرة والباطنة إنما هو في الحقيقة دعاء؛ لأنه يسأل الله ـ تعالى ـ به فضله، ويرجو به إحسانه، ويمتثل به أمره، ولذلك قال-جل وعلا-: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر:60]فسمى الله ـ تعالى ـ الدعاء عبادة؛ لأن كل عبادة دعاء، ولتعلم أيها الموفق أن الدعاء إذا أطلق في القول يتبادر إلى ذهن كثيرين نوع من أنواع الدعاء، وهو دعاء السؤال والطلب، فإذا ذكر الدعاء تبادر إلى الذهن دعاء الله ـ تعالى ـ بسؤاله، وطلب الحاجات، وإغاثة اللهفات، وإدراك المأمولات، وما إلى ذلك من المسائل، وهذا حقيقة هو نوع من الدعاء، وأما الدعاء الواسع العام الذي يشمل هذا وغيره، فهو دعاء العبادة الذي يشمل كل ما يكون من الإنسان من الطاعات والعبادات، فالذي يصلي يدعو، والذي يزكي يدعو، والذي يصوم يدعو، والذي يحج يدعو الله، والذي يبر والديه يدعو الله-عز وجل- والذي يحسن إلى جاره، ويكرم جاره يدعو الله-عز وجل- بهذا العمل، والذي يبتسم في وجه أخيه يدع الله-عز وجل- والذي يؤدي الأمانة، والذي يفي بالعهود والعقود، والذي يتجنب الكذب والغيبة كل هذا دعاء لله-عز وجل- ويسميه العلماء دعاء العبادة، وهو المفهوم الواسع للدعاء الذي يشمل كل ما تتقرب به إلى الله-عز وجل- من الأعمال الظاهرة والباطنة، القولية والفعلية، وهذا معنى قول الله-عز وجل-: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِب لَكُمْ﴾ [غافر:60] أي: اعبدوني، ولذلك قال:﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر:60]
هذا هو النوع الأول من أنواع الدعاء، وهو المعنى العام الواسع، ويسمى دعاء العبادة، وأما النوع الثاني من الدعاء فهو دعاء المسألة والطلب، وهذا هو المتبادر إلى الذهن عند الإطراق، وهو الذي يفهمه كثير من الناس عندما يذكر الدعاء دعاء الحاجات، سؤال الله تعالى المطالب رب اغفر لي، رب اعني، رب وفقني، رب اصرف عني الشر، رب ارزقني، رب بلغني صلاحا في أولادي، وما إلى ذلك، هذا دعاء مسألة وطلب، وهو الذي يتبادر إلى الذهن عند إطلاق الدعاء لكن الدعاء يشمل النوعين، ومما ينبغي للمؤمن في هذه الأيام أن يكثر من سؤال الله-عز وجل-من فضله، ودعائه-جل في علاه- فالدعاء له منزلة عظيمة عند الله-عز وجل- يكفي فيه أن الله أسقط فيه الواسطة بينه وبين خلقه، لم يرتضي الله تعالى في الدعاء أن يكون بينه وبين الناس واسطة، بل كل من سأل الله، فليسأله مباشرة دون أن يجعل بينه وبينهم وسائط، قال الله-جل وعلا-: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة:186] قال فإني قريب، وقربه-جل وعلا- لم يرد إلا في حالات محدودة، ذكر قربه العبادة لم يرد مطلقا، إنما جاء قربه من الداعي، وقربه من الساجد، والسجود سبب القرب فيه هو أنه موضع الدعاء، ولذلك الدعاء له منزلة عند الله فمن أراد أن يقترب من الله-جل وعلا- فليكثر من دعائه وسؤاله، فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان فهو قريب من الداعي، وقد قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» صحيح مسلم (482) لأن السجود موضع إيش؟ موضع دعاء، فقد قال النبي-صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين من حديث عبد الله ابن عباس: «أما الركوع فعظموا فيه الرب»صحيح مسلم (479) أما الركوع يعني في الصلاة فعظموا فيه الربط، وأما السجود فأكثروا فيه الدعاء أن يستجاب لكم أي حري، وقريب أن يستجاب الله تعالى لكم، والله تعالى عندما ذكر أعمال الحجيج ذكر نوعين من العمل في كل مراحل تنقلاتهم، وذهابهم، ومجيئهم الذكر، وهذا المفهوم العام الشامل الذي يشمل السؤال والطلب، ويشمل التمجيد، والتقديس، والتحميد، والتهليل، والتكبير، وسائر ما يكون من الأذكار، وذكر الدعاء على وجه الخصوص، ولذلك قال الله ـ تعالى ـ: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ [البقرة:200] ثم ذكر قسمة الناس بعد ذلك ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ﴾ [البقرة:200] ليس له نصيب في الآخرة ليس له هم، ولا نظر، همه كله في أن تصلح دنياه أما آخرته فلا بال له فيها، ولا هم له فيها ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ﴾ [البقرة:200]
﴿وَمِنْهُم﴾ وهذا هو القسم الثاني ﴿مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة:201]
فهؤلاء سألوا الله ثلاثة مسائل:
المسألة الأولى:الحسنة في الدنيا.
والمسألة الثانية:الحسنة في الآخرة.
والمسألة الثالثة: الوقاية من عذاب النار.
أما الحسنة في الدنيا، ما هي الحسنة في الدنيا؟ عندما تقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة، ماذا تريد؟ ماذا تسأل؟ ماذا تطلب من الله-عز وجل-؟ هذا الدعاء يقول أنس: "قلما يدعو النبي-صلى الله عليه وسلم- بدعاء إلا وقال فيه ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة:201] ولم يذكر الله-عز وجل- سؤالا وطلبا في سياق آيات الحج إلا هذا الطلب، فما معنى حسنة الدنيا؟ حسنة الدنيا دعاء وسؤال شامل لكل ما تطيب به حالك، لكل ما تحسن به حالك، في نفسك، في ولدك، في عملك، في مالك، في بلدك، في كل شأن من شئونك، فأنت تسأل الله الحسنة أي الطيب، والأمر الحسن في نفسك، وفي مالك، وفي أهلك، وفي ولدك، وفي زوجك، وفي بلدك، وفي كل شأنك، ولهذا أجمع دعاء تدعو به لنفسك ولغيرك بخير في الدنيا والآخرة، أن تقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة؛ لأنه يشمل كلما تحسن به الحالة، ولهذا ما كان النبي-صلى الله عليه وسلم- يكثر من أن يقول هذا في دعائه ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة:201] فيشمل سعادة القلب، سعة الرزق، صحة البدن، طمأنينة النفس، صلاح الولد، صلاح الزوجة، والغنى من الفقر، الخروج من المضايق والبلايا والهموم، كل هذا مندرج في هذه الكلمة المختصرة ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ أما حسنة الآخرة فتبدأ من خروج روحك، فالآخرة اسم لكل ما يكون بعد الموت من القبر، والحياة البرزخية التي فيه، فلما تقول:﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً﴾
سؤال الله حسنة القبر بأن يثبتك في الفتنة عندما يأتيك الملكان فيسألانك من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ وأيضا تسأل الله-عز وجل- من نعيم القبر، فإن المقبورين في نعيم وعذاب، فأنت تسأل الله الوقاية من العذاب عذاب القبر، ومن النعيم الذي يجليه الله ـ تعالى ـ لأهل القبور في الحياة البرزخية، ثم بعد ذلك يندرج في قولك ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ تسأل الله ـ تعالى ـ الأمن يوم الفزع والنشور، يوم يقوم الناس من قبورهم حفاة عراة غراً فزعين، يأتي الناس يوم القيامة في فزع عظيم، وقد تغيرت عليهم السماوات والأرض ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [إبراهيم:48] تبدل هذه السماء وهذه الأرض إذا بعث الناس من قبورهم على حال مختلفة، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، ما فيها مستوية مبسوطة، ليس فيها اعوجاج، ولا فيها شيء يستظل به الناس، بل هي مبسوطة، فتتغير معالم الأرض كما السماء تتغير عليهم، كما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ﴾ [الانفطار:1] ﴿وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ﴾ [الانفطار:2] ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ﴾ [الانفطار:3] ﴿وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ﴾ [الانفطار:4]
تتغير عليه الأحوال في ذلك اليوم فيكون فزعا، أنت الآن لو تسمع صوت مفزع، كأن وجدت خوفا وهلعا في قلبك، فكيف بذلك اليوم الذي يتغير فيه كل ما حولك، تخرج إلى عالم جديد مختلف تماما عن ما عهدت، لا شك أن ذلك يحتاج إلى تأمين، ولا يأتي يوم القيامة آمنا إلا من جاء الله ـ تعالى ـ بقلب سليم كما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ﴾ [الشعراء:88]
﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء:89] فقولك ربنا آتنا في الدنيا حسنة يشمل سؤالك الله-عز وجل- أن يؤمنك يوم البعث والنشور، وأن يؤمنك يوم العرض على الله-عز وجل- ووزن الأعمال، وأن يؤمنك الله تعالى وأنت تعبر الصراط الذي على متن جهنم، وأن يؤمنك الله ـ تعالى ـ بأن يدخلك الجنة، وأن يبلغك الله ـ تعالى ـ المنازل العالية كل هذا في قولك في دعائك ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ ثم قال:﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ لأن النار أعظم مخوف في الآخرة، أعظم مخوف في الآخرة النار، فلذلك ذكرها على وجه الخصوص، سأل الله تعالى الوقاية منها ﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ أي: اجعل بيننا وبين عذاب النار وقاية، اجعل بيننا وبين عذاب النار وقاية؛ نتقي بها حرها وسمومها، وعذابها فأنت تسأل الله ـ تعالى ـ الوقاية من عذاب النار، ولن تتوقى عذاب النار في الآخرة إلا بتوقي أعمال أهل النار في الدنيا ،فإنه لا وقاية من الآخرة من نار الآخرة إلا بالوقاية من أعمال أهلها في الدنيا، وأعمال أهلها تنحصر في ثلاثة أمور، أو في أربعة أمور:
الكفر، النفاق، المعصية، البدعة.
هذه مجمل أعمال أهل النار كفر، ونفاق، ومعصية، وبدعة هذه أصول أعمال أهل النار، فأنت لما تقول وقنا عذاب النار، فتش نفسك في الشرك، والكفر، وخصاله فتش نفسك في النفاق، فتش نفسك في المعاصي، فتش نفس فيما يتعلق بالإحداث والبدعة، فإذا سلمت من هذه فإنك قد أخذت أسباب الوقاية من النار، وقانا الله وإياكم نار جهنم، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.