×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

مرئيات المصلح / دروس المصلح / دروس منوعة / رسالة الذل والانكسار / الدرس(8) "ومن أنواع العبادات التي يظهر فيها الذل "

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis

قال ابن رجب رحمه الله تعالى:"ومن أنواع العبادات التي يظهر فيها الذل والخشوع([1])لله عز وجل : الدعاء، قال الله تعالى : {ادعوا ربكم تضرعا وخفية}([2])، وقال:{إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين}([3])، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رفع يديه في الدعاء في مواطن كثيرة، وأعظمها في الاستسقاء فإنه كان يرفع فيه يديه حتى يرى بياض إبطيه، وكذلك كان يجتهد في الرفع عشية عرفة بعرفة، وخرج الطبراني رحمه الله تعالى من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بعرفة ويداه إلى صدره كاستعطاء المسكين، و قد كان بعض الخائفين يجلس بالليل ساكنا مطرقا برأسه، ويمد يديه كحال السائل، وهذا من أبلغ صفات الذل وإظهار المسكنة والافتقار، ومن ذلك أيضا افتقار القلب في الدعاء، وانكساره لله عز وجل، واستشعاره شدة الفاقة إليه والحاجة لديه، وعلى قدر هذه الحرقة والفاقة تكون إجابة الدعاء. وفي "المسند" والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال:«إن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه». ومن ذلك إظهار الذل باللسان في نفس السؤال والدعاء والإلحاح فيه. قال الأوزاعي رحمه الله تعالى : كان يقال أكبر الدعاء الإلحاح على الله والتضرع إليه، وفي الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا يوم عرفة فقال :« اللهم إنك ترى مكاني، وتسمع كلامي، ولا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير المستغيث المستجير ، الوجل المشفق المقر المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، دعاء من خضعت لك رقبته، وذل لك جسده، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه، اللهم لا تجعلني بدعائك ربي شقيا، وكن بي بارا رؤوفا رحيما، يا خير المسؤولين ، ويا خير المعطين.  وكان بعضهم يقول في دعائه :" بعزتك وذلي، وبغناك وفقري". وقال طاووس رحمه الله تعالى :" دخل علي بن الحسين رحمه الله تعالى ذات ليلة الحجرة فصلى، فسمعته يقول في سجوده " عبدك بفنائك، مسكينك بفنائك، فقيرك بفنائك، سائلك بفنائك". قال طاووس فحفظتهم، فما دعوت بهن عن كرب إلا فرج عني"، خرجه ابن أبي الدنيا . وروى ابن باكويه الصوفي رحمه الله تعالى بإسناد له أن بعض العباد حج ثمانين حجة على قدميه، فبينما هو في الطواف وهو يقول يا حبيبي، يا حبيبي، وإذا بهاتف يهتف به" ليس ترضى أن تكون مسكينا حتى تكون حبيبا، قال : فغشي عليه، ثم كنت بعد ذلك أقول : مسكينك مسكينك، وأنا تائب عن قولي "حبيبي". هذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله انتقال عن نوع من الخشوع إلى نوع آخر ما تكلم عنه فيما تقدم هو من الخشوع في الصلاة، ذكر جملة من المظاهر التي يتحقق بها الخشوع في الصلاة. ثم إن المؤلف رحمه الله قال:"ومن أنواع العبادات التي يظهر فيها الذل والخضوعلله عز وجل الدعاء"، على أن جميع العبادات مبنية على الذل والخضوع ، لكن العبادات لتحقيق هذا المعنى متفاوتة لكن جميعها ينتظمه هذا المعنى، وهي أنها وسائل للخضوع، طرق لتحقيق الذل لله جل وعلا، لكن منها ما يكون الذل فيه باديا ظاهرا، ومنها ما يكون الأمر أقل، فهي متفاوتة في ذلك ،وما لها من النصيب في إظهار الذل. الدعاء: هو العبادة، فقد جاء في الحديث الصحيح، عند الترمذي وغيره من حديث النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « الدعاء هو العبادة»([4])، وهذا يبين لنا منزلة الدعاء في تحقيق العبودية لله تعالى . والعبادة والعبودية إنما تتحقق بكمال الذل. وعبادة الرحمن غاية حبه *** مع ذل عابده هما قطبان([5]). فغاية الذل لا تفوت ولا تغيب عن أي عبادة من العبادات، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم « الدعاء هو العبادة»، بين أن الدعاء لا يتحقق إلا بكمال الذل لله جل وعلا، فإنه وسيلة يطهر فيها الإنسان نفسه من كل علو وارتفاع أو كبر وخروج عن سنن العابدين. يقول رحمه الله :"ومن أنواع العبادات التي يظهر فيها الذل والخضوع لله عز وجل : الدعاء"، الدعاء المقصود به هنا دعاء المسألة، فالدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة. ودعاء العبادة، يشمل الصوم والصلاة والزكاة والحج وسائر الأعمال العبادية، لأن كل عابد إنما يعبد الله جل وعلا ، ليش؟ يسأله بهذه العبودية وبهذه العبادة أن ينجيه من النار وأن يرزقه الجنة أليس كذلك؟ فهي سؤال بالحال، سؤال بالعمل، ولذلك سمي دعاء عبادة. وأما النوع الثاني وهو المراد هنا، فهو دعاء المسألة، وهو أنواع أيضا، دعاء المسألة أنواع: منه ما يكون تمجيدا وتقديسا للرب سبحانه وبحمده، ومنه "سبحانك الله وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك"، هذا دعاء، لكنه دعاء خالص من السؤال وطلب الحاجات، إنما هو سؤال لله تعالى بالثناء عليه، وهذا من أعظم ما تحصل به المطالب، وهذا إذا كان في الخلق والثناء عليهم سبب لتحصيل النوال منهم، فكيف بالخالق الذي له الحمد كله، وله الثناء كله جل وعلا، والذي لا أحد أحب إليه المدح من الله جل وعلا ، وهو يحب المدح لأنه أهله، والمستحق له، فكل محمود إنما يستحق الحمد لا لذاته إنما لوصف خارج، وأما الله جل وعلا فهو المحمود لذاته سبحانه وبحمده . ولهذا لا أحد أحب إليه المدح من الله جل وعلا . فهذه صورة من صور الدعاء، وهو الدعاء بالثناء على الله تعالى .  أذكر حاجتي أم قد كفاني *** حبائك إن شيمتك الحباء. النوع الثاني من الدعاء، دعاء المسائل والمطالب يسأل فيها الإنسان ما شاء " رب اغفر لي"، " رب ارحمني، رب ارزقني"، " اهدنا الصراط المستقيم"، "رب زدني علما"، وما أشبه  ذلك. النوع الثالث من الدعاء الذي فيه شكوى الحال، أو بيان حال الإنسان دون أن يسأل، وهو نوع من الشكوى لله تعالى، ومنه قول موسى عليه السلام {رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير}([6]). ما سأل شيء، هل طلب سؤال؟ هل طلب حاجة؟ وصف حاله لربه.  وقد تجتمع هذه الأنواع في صيغة واحدة. مما اجتمع فيه الثناء وشكاية الحال ما ذكره الله تعالى مما دعا به آدم {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين}([7]). هذه شكاية حال {ربنا ظلمنا أنفسنا}، يشكو حاله إلى الله. وفيه التوسل إلى الله تعالى بربوبيته، فقال : ربنا، فدعا الله تعالى بوصفه ، ودعا بشكوى حاله. وإما جمع الأمرين، دعاء يونس :{لا إله إلا أنتسبحانك إني كنت من الظالمين}([8])، ما في مسألة، إنما فيه شكاية حال. وهذا كله من الدعاء. فقول المؤلف رحمه الله :"ومن أنواع العبادات التي يظهر فيها الذل والخضوع لله عز وجل : الدعاء"، يعني بجميع صوره، إذا أثنيت على الله فأنت تذكر مجده وعظمته وهذا يستوجب الذل والانكسار والخضوع له. إذا سألت حاجتك فإنما تسأل حاجتك من الغني جل في علاه، وتبين فقرك له. وإذا شكوت حالك فكذلك أنت تشكو لمن إليه المشتكى جل في علاه. وكل هذا مما يظهر به الذل.  "قال الله تعالى: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية}"، والتضرع هو الانخفاض والذل لله جل وعلا. قال بعض العلماء هو مأخوذ من الضرع لأن البهائم إذا أرادت أن ترضع ترفع رؤسها أم تخفض؟ تخفض . هذا أصله في اللغة، فاشتق منه معنى التضرع في السؤال والطلب وهو الانخفاض والذل {ادعوا ربكم تضرعا}، يعني وأنتم أذلة له جل وعلا. وفرق بين من يسأل الله وهو ذليل، ومن يسأل الله مستغن عن الله وعن فضله، لذلك قال : {ادعوا ربكم تضرعاوخفية}، وفي آية أخرى{واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة}([9]).  فقوله{خفية}، أي دون إظهار وجهر بالدعاء والتعدي {إنه لا يحب المعتدين}. قال:"وقال:{إنهم كانوا يسارعون في الخيرات"، أي يسابقون إليها، "{ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين}". {ويدعوننا}، دعاء عبادة، ودعاء مسألة، {رغبا ورهبا}، أي في حال الرغب والرهب، {وكانوا لنا خاشعين}، أي أذلاء. فمما يظهر فيه الذل ر فع اليدين. إذا: الدعاء أصله ذل لله جل وعلا، لكن فيه من الأحوال في الدعاء ما يظهر فيه الذل، كرفع اليدين، ورفع اليدين ورد على صفات ذكرها ابن رجب رحمه الله في شرحه " فتح الباري"، وهو من أجمع المواضع التي ذكر فيها صفات رفع اليدين في الدعاء، ومن أعظم ما ورد في ذلك مبالغته في رفع يديه صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستسقاء. يقول المؤلف رحمه الله :"وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رفع يديه في الدعاء في مواطن كثيرة، وأعظمها"، أي في إظهار الافتقار والذل إلى الله تعالى"في الاستسقاء"، أي في السقيا، "فإنه كان يرفع فيه يديه حتى يرى بياض إبطيه"، بياض إبطيه هذا من إضافة الشيء إلى محله، البياض الذي يكون عند الإبطين، بسبب المبالغة في الرفع، حتى يبدو بياض إبطيه  صلى الله عليه وسلم . قال:"وكذلك كان يجتهد في الرفع عشية عرفة"، ما ذكر أنه بالغ في الرفع كثيرا، لكن الذي ذكر في عرفة أنه رفع طويلا حتى كان إذا احتاج إن يسوي راحلته أبقى إحدى يديه مرفوعة واشتغل في إصلاح ما أراد إصلاحه بالأخرى ، وهذا لشدة الافتقار. يقول رحمه الله :"وخرج الطبراني رحمه الله تعالى من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بعرفة ويداه إلى صدره"، أي مرفوعة "ويداه إلى صدره كاستعطاء المسكين"، يعني كما يستعطي المسكين ويستجلب من يتصدق عليه. قال :"و قد كان بعض الخائفين يجلس بالليل ساكنا مطرقا برأسه، يمد يديه كحال السائل"، يرجو من الله تعالى العطاء، "وهذا من أبلغ صفات الذل وإظهار المسكنة والافتقار"، ثم قال بعد أن ذكر هذه الصورة من صور الذل والخضوع لله تعالى  في الدعاء، قال :"ومن ذلك"، أي ومن صور الذل والخضوع لله تعالى في الدعاء "افتقار القلب"، وهذا أهم من افتقار اليد وإظهار المسكنة. "افتقار القلب"، أي شعور القلب بالفقر والضرورة إلى فضل الله وإحسانه. "ومن ذلك أيضا افتقار القلب في الدعاء، وانكساره لله عز وجل"، كيف يفتقر ؟ من أين يأتي الافتقار؟ بينه المؤلف، قال:"واستشعاره شدة الفاقة إليه والحاجة لديه، وعلى قدر هذه الحرقة والفاقة تكون إجابة الدعاء".  وهذا مجرب - يا إخوان - بقدر ما يظهر ويستشعر العبد افتقاره وفاقته وضرورته إلى عطاء الله تعالى بقدر ما يعطي الله تعالى العبد، والله جل وعلا لا يظلم الناس شيئا فبقدر ما في قلوبهم من الضرورة إليه بقدر ما ينالون، وإذا كان الكافر وهو كافر يجيب الله تعالى دعائه في حال الضرورة {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء}([10])، فكيف بالمؤمن الذي يشعر بضرورة عون الله له، بضرورة إجابة الله له، حتى في مسائله التي لا تبلغ حد الضرورة لكن هو يعلم أنه لن تتم هذه الحاجة إلا بالله، ولن تتيسر إلا به جل وعلا ، وأنه لا ملجأ له ولا منجى إلا إليه جل في علاه، بهذا يستشعر الإنسان لذة الدعاء ولذة الافتقار إلى الله جل وعلا، وبه يدرك جواب سؤاله، وإعطاء الله تعالى له. ولهذا يقول المؤلف رحمه الله في بيان تأثير هذا "وفي "المسند" والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال«إن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه»"، كثير من الناس يقول "رب اغفر لي"، ويقول من الأدعية ما يشاء أن يقول وهو في غفلة لا يشعر ضرورته إلى هذا الذي يسأل، ولا يشعر بذله وانكساره وبالتالي لا يدرك سؤاله ولا جواب طلبه. قال :"ومن ذلك إظهار الذل باللسان في نفس السؤال والدعاء والإلحاح"، يعني ينتقي من الأدعية ما يظهر به فقره، وما يظهر به حاجته إلى الله تعالى وأنه فقير، ذليل ، وهذا في السنة منه الشيء الكثير لبيان نماذج نبوية من دعائه ومن ذلك ما في " صحيح الإمام مسلم " من حديث عائشة أنها فقدت النبي فطلبته وهو في المسجد فوقعت يداها عليه وهو في سجوده صلى الله عليه وسلم يقول :«اللهم أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتكمن عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك»([11]). لا شك أن هذا دعاء ذليل، دعاء يتضمن من الافتقار إلى الله تعالى ما هو أهل أن يجاب.  ولهذا المعنى الثالث من المعاني التي ذكرها المؤلف من الذل والخضوع في الدعاء هو انتقاء الألفاظ التي يظهر بها الإنسان فقره وحاجته وضرورته ، و أنه لا غنى به عن ربه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت...»، لإظهار الاستغناء «ولكن ليعزم المسألة وليعظم الرغبة»([12])، الرغبة إنما هي محل القلب، يعني تعظيم الرغبة إنما يكون بتكبير السؤال، تعظيم الرغبة يكون أيضا بالثقة التامة وبالحاجة إلى هذا ، وأنه إذا لم يتممه الله تعالى فإنه لا يتم. وأنت لو تذكر في أثناء دعائك « لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع»، شعرت تماما بمدى فقرك إلى إجابة الله تعالى دعائك. وهذه من المسائل التي يغفل عنها كثير من الناس. المؤلف ذكر بعد هذا نقول ونماذج من الأدعية التي يظهر بها ويبان بها الفقر إلى الله جل و علا ، وهي في مجملها مما لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن مما قاله وأثر عن جماعة من الصالحين والسلف السابقين.  "قال الأوزاعي رحمه الله تعالى : كان يقال أكبر الدعاء الإلحاح على الله"، والله يحب الملحين في الدعاء. والإلحاح يكون بكثرة السؤال، ويكون بصفة السؤال. الإلحاح يكون بأمرين : إما بصفة السؤال، وإما بكثرة السؤال . "اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، صغيره وكبيره، علانيته وسره، أوله وآخره". اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وعمدي وخطئي ، وكل ذلك عندي"، كل هذا من الإلحاح في الدعاء، وهو التكرار للسؤال. كما أن الإلحاح في الدعاء يكون بتكرار السؤال نفسه. يعني إما أن يكون بصيغته مثل ما ذكرنا قبل قليل، والتفصيل والإطناب. وإما أن يكون بإعادة السؤال ولذلك بعد الصلاة نحن نقول " أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله"، مرة واحدة تكفي لكن هذا من الإلحاح في الدعاء، وتكرار السؤال. ومن الإلحاح في الدعاء الإطالة والإطناب في مواطن السؤال. هذا نوع وهذا نوع من الإلحاح. إذا : الإلحاح له صورتان: الصورة الأولى تكرار السؤال، الصورة الثانية التطويل في إظهار الحاجة والفاقة وتفصيل فيما مقامه الإجمال، أو في ما يكفي فيه الإجمال. بعد ذلك ذكر أثر ابن عباس "اللهم إنك ترى مكاني وتسمع كلامي ولا يخفى عليك شيء من أمري"، هذا لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كما ذكر ذلك الحافظ العراقي وغيره من أهل العلم، لكن هذا مما نقل عن جماعة من السلف .  ومثله ما جاء في كلام طاووس، عن علي بن الحسين، أنه قال:"دخل علي بن الحسين رحمه الله تعالى ذات ليلة الحجرة"، لا ندري أيش الحجرة هذه ، قد يكون مكان احتجره، "فسمعته يقول :عبدك بفنائك، مسكينك بفنائك، فقيرك بفنائك، سائلك بفنائك". وأما الأثر الأخير عن بعض العباد "يقول يا حبيبي، يا حبيبي"، هذا من المحدثات في خطاب الله جل وعلا، ولهذا سمع هاتفا يقول ما قال، والأولى أن يعظم الله جل وعلا بذكر صفاته، {ولله الأسماء الحسنىفادعوه بها}([13]).     ([1]) في بعض النسخ بلفظ " الخضوع". ([2]) سورة الأعراف:55. ([3]) سورة الأنبياء:90. ([4]) "سنن الترمذي"(2969)، وابن ماجة (3828). ([5]) "متن القصيدة النونية"ص(35). ([6]) سورة القصص:24. ([7]) سورة الأعراف:23. ([8]) سورة الأنبياء:87. ([9]) سورة الأعراف:205. ([10]) سورة النمل:62. ([11]) "صحيح مسلم"(486). ([12]) أخرجه البخاري (7477)، ومسلم (2679). ([13]) سورة الأعراف:180.

المشاهدات:7444

قال ابن رجب رحمه الله تعالى:"ومن أنواع العبادات التي يظهر فيها الذل والخشوع([1])لله عز وجل : الدعاء، قال الله تعالى : {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}([2])، وقال:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}([3])، وقد صح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه رفع يديه في الدعاء في مواطن كثيرة، وأعظمها في الاستسقاء فإنه كان يرفع فيه يديه حتى يرى بياض إبطيه، وكذلك كان يجتهد في الرفع عشية عرفة بعرفة، وخرَّج الطبراني رحمه الله تعالى من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو بعرفة ويداه إلى صدره كاستعطاء المسكين، و قد كان بعض الخائفين يجلس بالليل ساكناً مطرقاً برأسه، ويمد يديه كحال السائل، وهذا من أبلغ صفات الذل وإظهار المسكنة والافتقار، ومن ذلك أيضاً افتقار القلب في الدعاء، وانكساره لله عز وجل، واستشعاره شدة الفاقة إليه والحاجة لديه، وعلى قدر هذه الحرقة والفاقة تكون إجابة الدعاء.

وفي "المسند" والترمذي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  قال:«إن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه».

ومن ذلك إظهار الذل باللسان في نفس السؤال والدعاء والإلحاح فيه.

قال الأوزاعي رحمه الله تعالى : كان يقال أكبر الدعاء الإلحاح على الله والتضرع إليه، وفي الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا يوم عرفة فقال :« اللهم إنك ترى مكاني، وتسمع كلامي، ولا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير المستغيث المستجير ، الوجل المشفق المقر المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، دعاء من خضعت لك رقبته، وذل لك جسده، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه، اللهم لا تجعلني بدعائك ربي شقياً، وكن بي باراً رؤوفاً رحيماً، يا خير المسؤولين ، ويا خير المعطين.

 وكان بعضهم يقول في دعائه :" بعزتك وذلي، وبغناك وفقري".

وقال طاووس رحمه الله تعالى :" دخل علي بن الحسين رحمه الله تعالى ذات ليلة الحجرة فصلى، فسمعته يقول في سجوده " عبدك بفنائك، مسكينك بفنائك، فقيرك بفنائك، سائلك بفنائك".

قال طاووس فحفظتهم، فما دعوت بهن عن كرب إلا فرَّج عني"، خرَّجه ابن أبي الدنيا .

وروى ابن باكويه الصوفي رحمه الله تعالى بإسناد له أن بعض العباد حجَّ ثمانين حجة على قدميه، فبينما هو في الطواف وهو يقول يا حبيبي، يا حبيبي، وإذا بهاتف يهتف به" ليس ترضى أن تكون مسكيناً حتى تكون حبيباً، قال : فغشي عليه، ثم كنت بعد ذلك أقول : مسكينك مسكينك، وأنا تائب عن قولي "حبيبي".

هذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله انتقال عن نوع من الخشوع إلى نوع آخر ما تكلم عنه فيما تقدم هو من الخشوع في الصلاة، ذكر جملة من المظاهر التي يتحقق بها الخشوع في الصلاة.

ثم إن المؤلف رحمه الله قال:"ومن أنواع العبادات التي يظهر فيها الذل والخضوعلله عز وجل الدعاء"، على أن جميع العبادات مبنية على الذل والخضوع ، لكن العبادات لتحقيق هذا المعنى متفاوتة لكن جميعها ينتظمه هذا المعنى، وهي أنها وسائل للخضوع، طرق لتحقيق الذل لله جل وعلا، لكن منها ما يكون الذل فيه بادياً ظاهراً، ومنها ما يكون الأمر أقل، فهي متفاوتة في ذلك ،وما لها من النصيب في إظهار الذل.

الدعاء: هو العبادة، فقد جاء في الحديث الصحيح، عند الترمذي وغيره من حديث النعمان بن بشير أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: « الدعاء هو العبادة»([4])، وهذا يبين لنا منزلة الدعاء في تحقيق العبودية لله تعالى .

والعبادة والعبودية إنما تتحقق بكمال الذل.

وعبادة الرحمن غاية حبه *** مع ذل عابده هما قطبان([5]).

فغاية الذل لا تفوت ولا تغيب عن أي عبادة من العبادات، فلما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « الدعاء هو العبادة»، بيَّن أن الدعاء لا يتحقق إلا بكمال الذل لله جل وعلا، فإنه وسيلة يطهر فيها الإنسان نفسه من كل علوٍ وارتفاع أو كبرٍ وخروج عن سَنن العابدين.

يقول رحمه الله :"ومن أنواع العبادات التي يظهر فيها الذل والخضوع لله عز وجل : الدعاء"، الدعاء المقصود به هنا دعاء المسألة، فالدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة.

ودعاء العبادة، يشمل الصوم والصلاة والزكاة والحج وسائر الأعمال العبادية، لأن كل عابدٍ إنما يعبد الله جل وعلا ، ليش؟ يسأله بهذه العبودية وبهذه العبادة أن ينجيه من النار وأن يرزقه الجنة أليس كذلك؟ فهي سؤال بالحال، سؤال بالعمل، ولذلك سمي دعاء عبادة.

وأما النوع الثاني وهو المراد هنا، فهو دعاء المسألة، وهو أنواع أيضاً، دعاء المسألة أنواع:

منه ما يكون تمجيداً وتقديساً للرب سبحانه وبحمده، ومنه "سبحانك الله وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك"، هذا دعاء، لكنه دعاء خالص من السؤال وطلب الحاجات، إنما هو سؤال لله تعالى بالثناء عليه، وهذا من أعظم ما تحصل به المطالب، وهذا إذا كان في الخلق والثناء عليهم سبب لتحصيل النوال منهم، فكيف بالخالق الذي له الحمد كله، وله الثناء كله جل وعلا، والذي لا أحد أحب إليه المدح من الله جل وعلا ، وهو يحب المدح لأنه أهله، والمستحق له، فكل محمود إنما يستحق الحمد لا لذاته إنما لوصف خارج، وأما الله جل وعلا فهو المحمود لذاته سبحانه وبحمده .

ولهذا لا أحد أحب إليه المدح من الله جل وعلا .

فهذه صورة من صور الدعاء، وهو الدعاء بالثناء على الله تعالى .

 أذكر حاجتي أم قد كفاني *** حبائك إن شيمتك الحباء.

النوع الثاني من الدعاء، دعاء المسائل والمطالب يسأل فيها الإنسان ما شاء " رب اغفر لي"، " رب ارحمني، رب ارزقني"، " اهدنا الصراط المستقيم"، "رب زدني علماً"، وما أشبه  ذلك.

النوع الثالث من الدعاء الذي فيه شكوى الحال، أو بيان حال الإنسان دون أن يسأل، وهو نوع من الشكوى لله تعالى، ومنه قول موسى عليه السلام {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}([6]).

ما سأل شيء، هل طلب سؤال؟ هل طلب حاجة؟ وصف حاله لربه.

 وقد تجتمع هذه الأنواع في صيغة واحدة.

مما اجتمع فيه الثناء وشكاية الحال ما ذكره الله تعالى مما دعا به آدم {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}([7]).

هذه شكاية حال {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا}، يشكو حاله إلى الله.

وفيه التوسل إلى الله تعالى بربوبيته، فقال : ربنا، فدعا الله تعالى بوصفه ، ودعا بشكوى حاله.

وإما جمع الأمرين، دعاء يونس :{لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَسُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}([8])، ما في مسألة، إنما فيه شكاية حال.

وهذا كله من الدعاء.

فقول المؤلف رحمه الله :"ومن أنواع العبادات التي يظهر فيها الذل والخضوع لله عز وجل : الدعاء"، يعني بجميع صوره، إذا أثنيت على الله فأنت تذكر مجده وعظمته وهذا يستوجب الذل والانكسار والخضوع له.

إذا سألت حاجتك فإنما تسأل حاجتك من الغني جل في علاه، وتبين فقرك له.

وإذا شكوت حالك فكذلك أنت تشكو لمن إليه المشتكى جل في علاه.

وكل هذا مما يظهر به الذل.

 "قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}"، والتضرع هو الانخفاض والذل لله جل وعلا.

قال بعض العلماء هو مأخوذ من الضرع لأن البهائم إذا أرادت أن ترضع ترفع رؤسها أم تخفض؟ تخفض .

هذا أصله في اللغة، فاشتق منه معنى التضرع في السؤال والطلب وهو الانخفاض والذل {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا}، يعني وأنتم أذلة له جل وعلا.

وفرق بين من يسأل الله وهو ذليل، ومن يسأل الله مستغن عن الله وعن فضله، لذلك قال : {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًاوَخُفْيَةً}، وفي آية أخرى{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً}([9]).

 فقوله{خُفْيَةً}، أي دون إظهار وجهر بالدعاء والتعدي {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}.

قال:"وقال:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ"، أي يسابقون إليها، "{وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}".

{وَيَدْعُونَنَا}، دعاء عبادة، ودعاء مسألة، {رَغَبًا وَرَهَبًا}، أي في حال الرغب والرهب، {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}، أي أذلاء.

فمما يظهر فيه الذل ر فع اليدين.

إذاً: الدعاء أصله ذل لله جل وعلا، لكن فيه من الأحوال في الدعاء ما يظهر فيه الذل، كرفع اليدين، ورفع اليدين ورد على صفات ذكرها ابن رجب رحمه الله في شرحه " فتح الباري"، وهو من أجمع المواضع التي ذكر فيها صفات رفع اليدين في الدعاء، ومن أعظم ما ورد في ذلك مبالغته في رفع يديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دعاء الاستسقاء.

يقول المؤلف رحمه الله :"وقد صح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه رفع يديه في الدعاء في مواطن كثيرة، وأعظمها"، أي في إظهار الافتقار والذل إلى الله تعالى"في الاستسقاء"، أي في السقيا، "فإنه كان يرفع فيه يديه حتى يرى بياض إبطيه"، بياض إبطيه هذا من إضافة الشيء إلى محله، البياض الذي يكون عند الإبطين، بسبب المبالغة في الرفع، حتى يبدو بياض إبطيه  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

قال:"وكذلك كان يجتهد في الرفع عشية عرفة"، ما ذكر أنه بالغ في الرفع كثيراً، لكن الذي ذكر في عرفة أنه رفع طويلاً حتى كان إذا احتاج إن يسوي راحلته أبقى إحدى يديه مرفوعة واشتغل في إصلاح ما أراد إصلاحه بالأخرى ، وهذا لشدة الافتقار.

يقول رحمه الله :"وخرَّج الطبراني رحمه الله تعالى من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو بعرفة ويداه إلى صدره"، أي مرفوعة "ويداه إلى صدره كاستعطاء المسكين"، يعني كما يستعطي المسكين ويستجلب من يتصدق عليه.

قال :"و قد كان بعض الخائفين يجلس بالليل ساكناً مطرقاً برأسه، يمد يديه كحال السائل"، يرجو من الله تعالى العطاء، "وهذا من أبلغ صفات الذل وإظهار المسكنة والافتقار"، ثم قال بعد أن ذكر هذه الصورة من صور الذل والخضوع لله تعالى  في الدعاء، قال :"ومن ذلك"، أي ومن صور الذل والخضوع لله تعالى في الدعاء "افتقار القلب"، وهذا أهم من افتقار اليد وإظهار المسكنة.

"افتقار القلب"، أي شعور القلب بالفقر والضرورة إلى فضل الله وإحسانه.

"ومن ذلك أيضاً افتقار القلب في الدعاء، وانكساره لله عز وجل"، كيف يفتقر ؟ من أين يأتي الافتقار؟ بيَّنه المؤلف، قال:"واستشعاره شدة الفاقة إليه والحاجة لديه، وعلى قدر هذه الحرقة والفاقة تكون إجابة الدعاء".

 وهذا مجرب - يا إخوان - بقدر ما يُظهر ويستشعر العبد افتقاره وفاقته وضرورته إلى عطاء الله تعالى بقدر ما يعطي الله تعالى العبد، والله جل وعلا لا يظلم الناس شيئاً فبقدر ما في قلوبهم من الضرورة إليه بقدر ما ينالون، وإذا كان الكافر وهو كافر يجيب الله تعالى دعائه في حال الضرورة {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}([10])، فكيف بالمؤمن الذي يشعر بضرورة عون الله له، بضرورة إجابة الله له، حتى في مسائله التي لا تبلغ حد الضرورة لكن هو يعلم أنه لن تتم هذه الحاجة إلا بالله، ولن تتيسر إلا به جل وعلا ، وأنه لا ملجأ له ولا منجى إلا إليه جل في علاه، بهذا يستشعر الإنسان لذة الدعاء ولذة الافتقار إلى الله جل وعلا، وبه يدرك جواب سؤاله، وإعطاء الله تعالى له.

ولهذا يقول المؤلف رحمه الله في بيان تأثير هذا "وفي "المسند" والترمذي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  قال«إن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه»"، كثير من الناس يقول "رب اغفر لي"، ويقول من الأدعية ما يشاء أن يقول وهو في غفلة لا يشعر ضرورته إلى هذا الذي يسأل، ولا يشعر بذله وانكساره وبالتالي لا يدرك سؤاله ولا جواب طلبه.

قال :"ومن ذلك إظهار الذل باللسان في نفس السؤال والدعاء والإلحاح"، يعني ينتقي من الأدعية ما يظهر به فقره، وما يظهر به حاجته إلى الله تعالى وأنه فقير، ذليل ، وهذا في السنة منه الشيء الكثير لبيان نماذج نبوية من دعائه ومن ذلك ما في " صحيح الإمام مسلم " من حديث عائشة أنها فقدت النبي فطلبته وهو في المسجد فوقعت يداها عليه وهو في سجوده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول :«اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَمِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لاَ أُحْصِى ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ»([11]).

لا شك أن هذا دعاء ذليل، دعاء يتضمن من الافتقار إلى الله تعالى ما هو أهل أن يجاب.

 ولهذا المعنى الثالث من المعاني التي ذكرها المؤلف من الذل والخضوع في الدعاء هو انتقاء الألفاظ التي يظهر بها الإنسان فقره وحاجته وضرورته ، و أنه لا غنى به عن ربه، ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ...»، لإظهار الاستغناء «وَلَكِنْ لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ وَلْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ»([12])، الرغبة إنما هي محل القلب، يعني تعظيم الرغبة إنما يكون بتكبير السؤال، تعظيم الرغبة يكون أيضاً بالثقة التامة وبالحاجة إلى هذا ، وأنه إذا لم يتممه الله تعالى فإنه لا يتم.

وأنت لو تذكر في أثناء دعائك « لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع»، شعرت تماماً بمدى فقرك إلى إجابة الله تعالى دعائك.

وهذه من المسائل التي يغفل عنها كثير من الناس.

المؤلف ذكر بعد هذا نقول ونماذج من الأدعية التي يظهر بها ويبان بها الفقر إلى الله جل و علا ، وهي في مجملها مما لا يصح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ولكن مما قاله وأُثر عن جماعة من الصالحين والسلف السابقين.

 "قال الأوزاعي رحمه الله تعالى : كان يقال أكبر الدعاء الإلحاح على الله"، والله يحب الملحين في الدعاء.

والإلحاح يكون بكثرة السؤال، ويكون بصفة السؤال.

الإلحاح يكون بأمرين : إما بصفة السؤال، وإما بكثرة السؤال .

"اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، صغيره وكبيره، علانيته وسره، أوله وآخره".

اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وعمدي وخطئي ، وكل ذلك عندي"، كل هذا من الإلحاح في الدعاء، وهو التكرار للسؤال.

كما أن الإلحاح في الدعاء يكون بتكرار السؤال نفسه.

يعني إما أن يكون بصيغته مثل ما ذكرنا قبل قليل، والتفصيل والإطناب.

وإما أن يكون بإعادة السؤال ولذلك بعد الصلاة نحن نقول " أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله"، مرة واحدة تكفي لكن هذا من الإلحاح في الدعاء، وتكرار السؤال.

ومن الإلحاح في الدعاء الإطالة والإطناب في مواطن السؤال.

هذا نوع وهذا نوع من الإلحاح.

إذاً : الإلحاح له صورتان: الصورة الأولى تكرار السؤال، الصورة الثانية التطويل في إظهار الحاجة والفاقة وتفصيل فيما مقامه الإجمال، أو في ما يكفي فيه الإجمال.

بعد ذلك ذكر أثر ابن عباس "اللهم إنك ترى مكاني وتسمع كلامي ولا يخفى عليك شيء من أمري"، هذا لا يصح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كما ذكر ذلك الحافظ العراقي وغيره من أهل العلم، لكن هذا مما نقل عن جماعة من السلف .

 ومثله ما جاء في كلام طاووس، عن علي بن الحسين، أنه قال:"دخل علي بن الحسين رحمه الله تعالى ذات ليلة الحجرة"، لا ندري أيش الحجرة هذه ، قد يكون مكان احتجره، "فسمعته يقول :عبدك بفنائك، مسكينك بفنائك، فقيرك بفنائك، سائلك بفنائك".

وأما الأثر الأخير عن بعض العباد "يقول يا حبيبي، يا حبيبي"، هذا من المحدثات في خطاب الله جل وعلا، ولهذا سمع هاتفاً يقول ما قال، والأولى أن يعظم الله جل وعلا بذكر صفاته، {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىفَادْعُوهُ بِهَا}([13]).

 

 



([1]) في بعض النسخ بلفظ " الخضوع".

([2]) سورة الأعراف:55.

([3]) سورة الأنبياء:90.

([4]) "سنن الترمذي"(2969)، وابن ماجة (3828).

([5]) "متن القصيدة النونية"ص(35).

([6]) سورة القصص:24.

([7]) سورة الأعراف:23.

([8]) سورة الأنبياء:87.

([9]) سورة الأعراف:205.

([10]) سورة النمل:62.

([11]) "صحيح مسلم"(486).

([12]) أخرجه البخاري (7477)، ومسلم (2679).

([13]) سورة الأعراف:180.

الاكثر مشاهدة

3. لبس الحذاء أثناء العمرة ( عدد المشاهدات90574 )
6. كيف تعرف نتيجة الاستخارة؟ ( عدد المشاهدات87037 )

مواد تم زيارتها

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف