×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

مرئيات المصلح / دروس المصلح / دروس منوعة / رسالة الذل والانكسار / الدرس(9) "اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا"

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis

بعد هذا يقول المؤلف رحمه الله :"وخرج ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه «اللهم أحيني مسكينا ، وأمتني مسكينا ، واحشرني في زمرة المساكين»([1]). وخرج الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، وزاد فقالت عائشة رضي الله عنها لم يا رسول الله؟ قال « إنهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا يا عائشة لا تردى المسكين ولو بشق تمرة، يا عائشة أحبى المساكين وقربيهم فإن الله يقربك يوم القيامة»([2]). وقال أبو ذر: أوصاني رسول الله  صلى الله عليه وسلم أن أحب المساكين وأدنو منهم، خرجه الإمام أحمد وغيره([3]). وفي حديث معاذ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قصة المنام «أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين»([4])، وذكر الحديث. والمراد بالمساكين في هذه الأحاديث ونحوها من كان قلبه مستكينا لله خاضعا له خاشعا، وظاهره كذلك. وأكثر ما يوجد ذلك مع الفقر من المال لأن المال يطغي. وحديث أنس رضي الله عنه يشهد بهذا إلا أن إسناده ضعيف. وخرج النسائي من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الفقر فقر النفس، والغنى غنى القلب». وفي "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ولكن الغنى غنى النفس»([5]). ولهذا قال الإمام أحمد وابن عيينة وابن وهب وجماعة من الأئمة :"إن الفقر الذي استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم هو فقر النفس".  فمن استكان قلبه لله عز وجل وخشع له فهو مسكين وإن كان غنيا من المال، لأن استكانة القلب لا تنفك عن استكانة الجوارح، ومن خشع ظاهره واستكان وقلبه ليس بخاشع ولا مستكين فهو جبار. وفي الحديث الذي خرجه النسائي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم مر في طريق وفيه امرأة سوداء، فقال لها رجل: هذا الطريق،فقالت: إن شاء أخذ يمينة، وإن شاء أخذ يسرة، فقال رسول صلى الله عليه وسلم:«دعوها فإنها جبارة»، فقالوا : يا رسول الله: إنها تعني إنها مسكينة، فقال :«إن ذلك في قلبها»([6]). وقال الحسن رحمه الله تعالى :"إن قوما جعلوا التواضع في لباسهم والكبر في قلوبهم ولبسوا مدراع الصوف، والله لأحدهم أشد كبرا بمدرعته من صاحب السرير بسريره، وصاحب المطرف بمطرفه". وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أنكر أن يكون لبس الثوب الحسن، والنعل الحسن كبرا، وقال :« الكبر بطر الحق، وغمط الناس»([7]). وهذا تصريح بأن حسن اللباس ليس بكبر الكبر، إنما هو في القلب، وهو عدم الانقياد للحق تكبرا عليه، وغمط الناس هو احتقارهم وازدراؤهم، فمن كان في نفسه عظيما بحيث يحقر الناس لاستعظام نفسه، ويأنف من الانقياد للحق تكبرا عليه فهو المتكبر، وإن كان ثوبه ليس بحسن، ونعله ليس بحسن، ومن ترك اللباس الحسن تواضعا لله، وخشية أن يقع في نفسه شيء من الكبر فقد أحسن فيما فعل، وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يفعل ذلك. وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الإنبجانية التي لبسها «إنها ألهتني آنفا عن صلاتي»([8])، يدل على ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم ".  هذا الفصل عقده المؤلف رحمه الله لبيان فضل المسكنة، والمسكنة مأخوذة من السكون، والخضوع، والخشوع، وقد تقدم في أول الرسالة وأعاد تقريره هنا ليبين حقيقة الخشوع وأنها سكون القلب بغض النظر عن ما يطرأ على البدن من مظاهر وأحوال، فالبدن قد يكون على حال متقشفة، لكنه خال عن الخشوع. وقد يكون على حال من الجمال والحسن والنضرة وجمال الهيئة ما قد يتوهم معه كبر القلب والأمر على خلاف ذلك . لهذا بين المؤلف رحمه الله معنى المسكنة، وما هي المسكنة المحمودة، وما هي المسكنة التي لا تفيد صاحبها مدحا ولا ثناء. ذكر في أول ما ذكر حديث أبي سعيد، قال :"خرج ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه «اللهم أحيني مسكينا ، وأمتني مسكينا ، واحشرني في زمرة المساكين»"، قد تقدم هذا الحديث في أول الرسالة، فإنه في افتتاحها بعد حمد الله تعالى، بل في ثنايا ذكره للصلاة على النبي:"أنه كان يقول في دعائه «اللهم أحيني مسكينا ، وأمتني مسكينا ، واحشرني في زمرة المساكين»"، وهو حديث أخرجه الترمذي، وهنا عزاه لابن ماجه وهو عند جماعة من أهل العلم بأسانيد مختلفة إلا أن الحديث ضعيف في إسناده على اختلاف طرقه، ولهذا ضعفه جماعة من أهل العلم وحكموا بأن إسناده ضعيف لضعف رواته، ومن أهل العلم من احتج بتعدد الطرق وأثبت الحديث. على كل حال الحديث من حيث الإسناد ضعيف؛ لكن لو قلنا بصحته، فإنه لا يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله تعالى بأن يكون فقيرا، فلم يسأل الله تعالى قلة ذات اليد التي تحوجه إلى غيره، بل النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا»([9]). أي كفاية تغنيه عن الناس وسؤالهم. وجاء في النصوص أنه كان يستعيذ بالله من الفقر ، ففي "الصحيحين" من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:«اللهم إني أعوذ بك ... ومن شر فتنة الغنى وأعوذ بك من فتنة الفقر»([10]). وجاء عنه أنه استعاذ في أذكار الصباح والمساء من الفقر والكفر، كما جاء في حديث أبي بكرة « اللهم أني أعوذ بك من الكفر والفقر...»([11]). واستعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من الفقر ثابتة، وهو بيان أن الفقر الذي يحوج الإنسان إلى غيره هو مما سأل النبي صلى الله عليه وسلم الله تعالى أن يجنبه إياه. فقوله «اللهم أحيني مسكينا»، على ثبوت الحديث فليس المقصود بالمسكنة هنا الإعواز وقلة ذات اليد التي تحمل الإنسان على الفاقة والحاجة، وأما حديث «كاد الفقر أن يكون كفرا»، فهذا الحديث لا يصح، قال عنه بعض أهل العلم :"إسناده ضعيف جدا"، وقال بعضهم إنه موضوع، وقد جاء من طرق لكنها لا تقويه ولا تثبته فالحديث ضعيف كما قال الأئمة. والمقصود أن هذا الحديث على ثبوته لا يعارض ما جاء في ما يتصل بالاستعاذة بالله تعالى من الفقر، فما سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يقيه إياه هو الفقر المحوج إلى الغير، وأما المسكنة فالمقصود بها هو سكون القلب ورقته وانكساره. يقول :"وخرج الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، وزاد فقالت عائشة لم يا رسول الله"، أي لما تقول "اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا"، قال:"«إنهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا"، وهذا الدخول لا يعني أنهم أفضل من الأغنياء، سبق الدخول لا يعني أنهم أفضل من الأغنياء ، لأنهم قد يدخل الأغنياء بعدهم ويكونون في منازل أعلى من منازل الفقراء. ولذلك جاء في الصحيح من حديث أبي ذر أن الصحابة جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا "ذهب أهل الدثور من الأموالبالدرجات العلا"، فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل :" لا، أنتم أفضل منهم"، وهذا يدل على أن تأخر الدخول لا يلزم منه علو المنزلة والأفضلية المطلقة، بل هذا فضيلة خاصة . يقول :"يا عائشة لا تردى المسكين ولو بشق تمرة"، المسكين هنا هو الفقير،"لا تردى المسكين ولو بشق تمرة"، يعني بما تيسير، وقد فعلت هذا رضي الله عنها. "يا عائشة أحبي المساكين وقربيهم فإن الله يقربك يوم القيامة"، وهذا الحديث إسناده ضعيف ، كما أشار إليه المؤلف رحمه الله بقوله :"وحديث أنس رضي الله عنه يشهد بهذا إلا أن إسناده ضعيف"، وقد قال عنه الترمذي وهو ممن أخرج هذا الحديث قال:" حديث غريب"، أي ضعيف . قال :"وقال أبو ذر: أوصاني رسول الله  صلى الله عليه وسلم وأن أحب المساكين وأدنو منهم"، وهذا أيضا حديث في إسناده مقال، وقد صححه بعض العلماء المتأخرين، وهو متسق مع الأحاديث السابقة في المعنى، فمحبة المساكين تشمل الرفق بهم والإحسان إليهم والدنو منهم مما يكسر النفس ويذهب عنها العلو والترفع. "وفي حديث معاذ رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قصة المنام «أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين»"، وهذا من حديث معاذ رضي الله عنه وقد أخرجه أحمد والترمذي. بعد هذا السياق لهذه الجملة التي تفيد أن النصوص قد تواردت في محبة المسكنة، يقول :"والمراد بالمساكين في هذه الأحاديث"، بين المعنى ،"ونحوها من كان قلبه مستكينا لله خاضعا له خاشعا، وظاهره كذلك"، يعني اجتمع فيه سكون القلب وسكون الظاهر، وأما إذا خالف الباطن الظاهر فإن هذا لا يفيد، ولهذا يقول "وأكثر ما يوجد ذلك"، أي سكون القلب مع سكون الظاهر "مع الفقر من المال لأن المال يطغي"، كما قال جل وعلا : {كلا إن الإنسان ليطغى (6) أن رآه استغنى}([12]). بأي نوع من الغنى، فإن الغنى من أسباب الطغيان. يقول :"وخرج النسائي من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الفقر فقر النفس، والغنى غنى القلب»،وفي "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ولكن الغنى غنى النفس» " فهذا يشهد لحديث أبي ذر عند النسائي، والمعنى أن الغنى غنى النفس، والفقر فقر النفس . يقول رحمه الله :"ولهذا قال الإمام أحمد وابن عيينة وابن وهب وجماعة من الأئمة : إن الفقر الذي استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم هو فقر النفس"، وهذا في حديث عائشة، وفي حديث أبي بكرة وغيرهما. "فمن استكان قلبه لله عز وجل وخشع له فهو مسكين وإن كان غنيا من المال"، لخشوع قلبه ، قال :"لأن استكانة القلب لا تنفك عن استكانة الجوارح"، لقول النبي «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله»([13]). قال:"ومن خشع ظاهره واستكان"، أي ظهر عليه الذل والانكسار، "وقلبه ليس بخاشع ولا مستكين فهو جبار"، أي متكبر، معنى جبار :متكبر. وهذا ما أشار إليه الحديث الذي أخرجه النسائي، وهو في "سنن النسائي الكبرى" "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر في طريق وفيه امرأة سوداء، فقال لها رجل: هذا الطريق"، يعني تأخري عن الطريق حتى يعبر النبي صلى الله عليه وسلم "فقالت: إن شاء أخذ يمينة، وإن شاء أخذ يسرة"، يعني ما هي متأخرة، "فقال رسول صلى الله عليه وسلم:«دعوها"، يعني اتركوها "فإنها جبارة"، يعني مستكبرة، لأنها أبت أن تفسح عن الطريق، وليس لها الحق أن تبقى في الطرق وتضر المارة، "فقالوا : يا رسول الله: إنها تعني إنها مسكينة"، أين الجبارة، "فقال :«إن ذلك في قلبها»"، المشار إليه الكبر، "ذلك"، أي الجبروت والكبر في قلبها ولو كان ظاهر حالها غير هذا. وهو ما أشار إليه حديث مسلم في "الصحيح" من حديث أبي هريرة « ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم»، ثم عدهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « شيخ زان، وملك كذاب»، ثم قال:«وعائل مستكبر»([14]). عائل يعني فقير، ومع فقره مستكبر، وهذا إنما بلغ هذه المنزلة ليش؟ لأنه من المتوقع في مثل هذه الحال أن لا يكون مستكبرا لكونه ما عنده من موجبات الكبر من الدثور والأموال ، فكونه يستكبر مع كونه عائلا، هذا دليل على فساد فطرته، فكيف لو كان معه مال، وهذا ما أشار إليه حديث النسائي. "وقال الحسن رحمه الله تعالى :"إن قوما جعلوا التواضع في لباسهم والكبر في قلوبهم ولبسوا مدراع الصوف، والله لأحدهم أشد كبرا بمدرعته من صاحب السرير بسريره"، يعني من صاحب الملك بملكه، "وصاحب المطرف بمطرفه". ثم انتقل المؤلف لبيان حقيقة الكبر الذي ذمه الشرع، قال :"وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أنكر أن يكون لبس الثوب الحسن، والنعل الحسن كبر"، وهو يشير بهذا إلى ما جاء في "الصحيح" من حديث أبي وائل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل فقال:" إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، قال « إن الله جميل يحب الجمال»([15])، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على اختيار الحسن في الملبس في ثيابه وفي نعاله. ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم الكبر قال :« الكبر بطر الحق، وغمط الناس». بطر الحق: أي رده، وغمط الناس: أي احتقارهم وازدراؤهم. هذا هو الكبر. قال :"الكبر، إنما هو في القلب"، يعني إنما يكون في القلب، ولهذا جاء في "الصحيح" في هذا الحديث حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر». يقول :"وهو عدم الانقياد للحق تكبرا عليه، وغمط الناس هو احتقارهم واذدراؤهم". يقول رحمه الله :"فمن كان في نفسه عظيما"، يعني من وجد من نفسه علوا وارتفاعا "بحيث يحقر الناس لاستعظام نفسه ، ويأنف من الانقياد للحق تكبرا عليه فهو المتكبر"، سواء لبس الجميل من الثياب أو لبس الرديء منه، ولهذا قال :"وإن كان ثوبه ليس بحسن، ونعله ليس بحسن". ثم قال :"ومن ترك اللباس الحسن تواضعا لله، وخشية أن يقع في نفسه شيء من الكبر فقد أحسن فيما فعل"، لأن النفس قد تزهو وتعجب بجمال مظهرها وحسن لباسها فيكون هذا مدعاة إلى الكبر  ولهذا جاء في "السنن" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «البذاذة من الإيمان»([16])،وهذا ليس على صفة الدوام، إنما كون الإنسان لا يأنف عن لبس ما تيسر له من اللباس سواء كان حسنا أو كان ضعيفا، إذا كان لا يأنف عن هذا ولا ذاك ولا يرى لبسه للجميل سبب لرفعته، ولا أن لبسه للرديء نزولا لمكانه فإنه مما سلم قلبه من الكبر. ولهذا جاء في "الصحيح" من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال:«لا ينظر الله» يوم القيامة «إلى من جر ثوبهخيلاء»([17]). وهذا يبين عظيم ما يكون في القلب، والإزار سواء كان فاخرا أو كان رديئا، ولكن جر الإزار خيلاء والترفع عن الناس به والزهو هو المذموم، وليس جودة الثياب ولا جمالها هو الكبر أو هو المنهي عنه. يقول رحمه الله:"وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يفعل ذلك"، يعني يلبس اللباس الخشن واللباس النازل ليكسر نفسه عن العلو والترفع عن الخلق. "وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الإنبجانية التي لبسها «إنها ألهتني آنفا عن صلاتي»"، هل هذا الذي جرى من النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي قصته عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام ، ثم لما فرغ من صلاته نزعها وقال :« اذهبوا بخميصتي هذه وأتوني بإنبجانية أبي جهم بن حذيف»، هل هذا كان لأجل ما وجد في نفسه من علو؟ لا. الذي يظهر من التعليل هو لكون هذه الخميصة أشغلته لما فيها من الأعلام، لما فيها من التزيين الذي شوش عليه صلى الله عليه وسلم حضوره الذي كان قد ألفه في صلاته  صلى الله عليه وسلم . قال رحمه الله :"وقول النبي صلى الله عليه وسلم ... يدل على ذلك "، يعني في الانصراف عن المشغل الذي يشتت القلب ولو كان بغير الكبر، فالنبي صلى الله عليه وسلم  طلب سلامة قلبه، وقطع مادة الإشغال ، ولو لم يؤدي ذلك إلى الكبر.     ([1]) "سنن ابن ماجة" (4126). ([2]) "سنن الترمذي"(2526). ([3]) أخرجه أحمد في "الزهد" (399). ([4]) أخرجه الترمذي (3541)، وأحمد(1/368). ([5]) أخرجه البخاري (6446)، ومسلم (1051). ([6]) أخرجه النسائي في الكبرى"(9/206)، ح(10315). ([7]) تقدم تخريجه. ([8]) تقدم تخريجه. ([9]) أخرجه البخاري (6460)، ومسلم (1055). ([10]) "صحيح البخاري"(6368)، ومسلم (589). ([11]) أخرجه النسائي (1347)، وأحمد (5/36)، ؛(20397). ([12]) سورة العلق:6. ([13]) تقدم تخريجه. ([14]) "صحيح مسلم "(107). ([15])"صحيح مسلم "(91). ([16]) "سنن أبي داود" (4161)، وابن ماجه (4118). ([17]) "صحيح البخاري"(3665)، ومسلم (2085).

المشاهدات:5502

بعد هذا يقول المؤلف رحمه الله :"وخرّج ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقول في دعائه «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا ، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا ، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ»([1]).

وخرَّج الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثله، وزاد فَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ « إِنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا يَا عَائِشَةُ لاَ تَرُدِّى الْمِسْكِينَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، يَا عَائِشَةُ أَحِبِّى الْمَسَاكِينَ وَقَرِّبِيهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ يُقَرِّبُكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»([2]).

وقال أبو ذر: أوصاني رسول الله  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُحِبَّ الْمَسَاكِينَ وَأَدْنُوَ مِنْهُمْ، خرَّجه الإمام أحمد وغيره([3]).

وفي حديث معاذ رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال في قصة المنام «أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ»([4])، وذكر الحديث.

والمراد بالمساكين في هذه الأحاديث ونحوها من كان قلبه مستكيناً لله خاضعاً له خاشعاً، وظاهره كذلك.

وأكثر ما يوجد ذلك مع الفقر من المال لأن المال يطغي.

وحديث أنس رضي الله عنه يشهد بهذا إلا أن إسناده ضعيف.

وخرَّج النسائي من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الفقر فقر النفس، والغنى غنى القلب».

وفي "الصحيح" عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال :«وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ»([5]).

ولهذا قال الإمام أحمد وابن عيينة وابن وهب وجماعة من الأئمة :"إن الفقر الذي استعاذ منه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو فقر النفس".

 فمن استكان قلبه لله عز وجل وخشع له فهو مسكين وإن كان غنياً من المال، لأن استكانة القلب لا تنفك عن استكانة الجوارح، ومن خشع ظاهره واستكان وقلبه ليس بخاشع ولا مستكين فهو جبار.

وفي الحديث الذي خرَّجه النسائي وغيره أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرَّ في طريق وفيه امرأة سوداء، فقال لها رجل: هذا الطريق،فقالت: إِنْ شَاءَ أخذ يَمِينة، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ يسرة، فَقَالَ رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«دَعُوهَا فَإِنَّهَا جَبَّارَةٌ»، فقالوا : يا رسول الله: إِنَّهَا تعني إِنَّهَا مسكينة، فقَالَ :«إِنَّ ذَلِكَ فِي قلبها»([6]).

وقال الحسن رحمه الله تعالى :"إن قوماً جعلوا التواضع في لباسهم والكبر في قلوبهم ولبسوا مدراع الصوف، والله لأحدهم أشد كبراً بمدرعته من صاحب السرير بسريره، وصاحب المطرف بمطرفه".

وقد صح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أنكر أن يكون لبس الثوب الحسن، والنعل الحسن كبراً، وقال :« الكبر بطر الحق، وغمط الناس»([7]).

وهذا تصريح بأن حسن اللباس ليس بكبر الكبر، إنما هو في القلب، وهو عدم الانقياد للحق تكبراً عليه، وغمط الناس هو احتقارهم وازدراؤهم، فمن كان في نفسه عظيماً بحيث يحقر الناس لاستعظام نفسه، ويأنف من الانقياد للحق تكبراً عليه فهو المتكبر، وإن كان ثوبه ليس بحسن، ونعله ليس بحسن، ومن ترك اللباس الحسن تواضعاً لله، وخشية أن يقع في نفسه شيء من الكبر فقد أحسن فيما فعل، وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يفعل ذلك.

وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الإنبجانية التي لبسها «إنها ألهتني آنفاً عن صلاتي»([8])، يدل على ذلك فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".

 هذا الفصل عقده المؤلف رحمه الله لبيان فضل المسكنة، والمسكنة مأخوذة من السكون، والخضوع، والخشوع، وقد تقدم في أول الرسالة وأعاد تقريره هنا ليبين حقيقة الخشوع وأنها سكون القلب بغض النظر عن ما يطرأ على البدن من مظاهر وأحوال، فالبدن قد يكون على حال متقشفة، لكنه خالٍ عن الخشوع.

وقد يكون على حالٍ من الجمال والحسن والنضرة وجمال الهيئة ما قد يتوهم معه كبر القلب والأمر على خلاف ذلك .

لهذا بيَّن المؤلف رحمه الله معنى المسكنة، وما هي المسكنة المحمودة، وما هي المسكنة التي لا تفيد صاحبها مدحاً ولا ثناءً.

ذكر في أول ما ذكر حديث أبي سعيد، قال :"خرّج ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقول في دعائه «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا ، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا ، وَاحشُرْنِي فِي زُمرَةِ الْمَسَاكِينِ»"، قد تقدم هذا الحديث في أول الرسالة، فإنه في افتتاحها بعد حمد الله تعالى، بل في ثنايا ذكره للصلاة على النبي:"أنه كان يقول في دعائه «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا ، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا ، وَاحْشُرْنِي فِي زُمرَةِ الْمَسَاكِينِ»"، وهو حديث أخرجه الترمذي، وهنا عزاه لابن ماجه وهو عند جماعة من أهل العلم بأسانيد مختلفة إلا أن الحديث ضعيف في إسناده على اختلاف طرقه، ولهذا ضعفه جماعة من أهل العلم وحكموا بأن إسناده ضعيف لضعف رواته، ومن أهل العلم من احتج بتعدد الطرق وأثبت الحديث.

على كل حال الحديث من حيث الإسناد ضعيف؛ لكن لو قلنا بصحته، فإنه لا يعني أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل الله تعالى بأن يكون فقيراً، فلم يسأل الله تعالى قلة ذات اليد التي تحوجه إلى غيره، بل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا»([9]).

أي كفاية تغنيه عن الناس وسؤالهم.

وجاء في النصوص أنه كان يستعيذ بالله من الفقر ، ففي "الصحيحين" من حديث عائشة أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ ... وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ»([10]).

وجاء عنه أنه استعاذ في أذكار الصباح والمساء من الفقر والكفر، كما جاء في حديث أبي بكرة « اللهم أني أعوذ بك من الكفر والفقر...»([11]).

واستعاذة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الفقر ثابتة، وهو بيان أن الفقر الذي يحوج الإنسان إلى غيره هو مما سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الله تعالى أن يجنبه إياه.

فقوله «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا»، على ثبوت الحديث فليس المقصود بالمسكنة هنا الإعواز وقلة ذات اليد التي تحمل الإنسان على الفاقة والحاجة، وأما حديث «كاد الفقر أن يكون كفراً»، فهذا الحديث لا يصح، قال عنه بعض أهل العلم :"إسناده ضعيف جداً"، وقال بعضهم إنه موضوع، وقد جاء من طرق لكنها لا تقويه ولا تثبته فالحديث ضعيف كما قال الأئمة.

والمقصود أن هذا الحديث على ثبوته لا يعارض ما جاء في ما يتصل بالاستعاذة بالله تعالى من الفقر، فما سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه أن يقيه إياه هو الفقر المحوج إلى الغير، وأما المسكنة فالمقصود بها هو سكون القلب ورقته وانكساره.

يقول :"وخرَّج الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثله، وزاد فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ"، أي لما تقول "اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا"، قال:"«إِنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا"، وهذا الدخول لا يعني أنهم أفضل من الأغنياء، سبق الدخول لا يعني أنهم أفضل من الأغنياء ، لأنهم قد يدخل الأغنياء بعدهم ويكونون في منازل أعلى من منازل الفقراء.

ولذلك جاء في الصحيح من حديث أبي ذر أن الصحابة جاءوا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا "ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنَ الأَمْوَالِبِالدَّرَجَاتِ الْعُلاَ"، فأقرهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يقل :" لا، أنتم أفضل منهم"، وهذا يدل على أن تأخر الدخول لا يلزم منه علو المنزلة والأفضلية المطلقة، بل هذا فضيلة خاصة .

يقول :"يَا عَائِشَةُ لاَ تَرُدِّى الْمِسْكِينَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ"، المسكين هنا هو الفقير،"لاَ تَرُدِّى الْمِسْكِينَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ"، يعني بما تيسير، وقد فعلت هذا رضي الله عنها.

"يَا عَائِشَةُ أَحِبِّي الْمَسَاكِينَ وَقَرِّبِيهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ يُقَرِّبُكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، وهذا الحديث إسناده ضعيف ، كما أشار إليه المؤلف رحمه الله بقوله :"وحديث أنس رضي الله عنه يشهد بهذا إلا أن إسناده ضعيف"، وقد قال عنه الترمذي وهو ممن أخرج هذا الحديث قال:" حديث غريب"، أي ضعيف .

قال :"وقال أبو ذر: أوصاني رسول الله  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْ أُحِبَّ الْمَسَاكِينَ وَأَدْنُوَ مِنْهُمْ"، وهذا أيضاً حديث في إسناده مقال، وقد صححه بعض العلماء المتأخرين، وهو متسق مع الأحاديث السابقة في المعنى، فمحبة المساكين تشمل الرفق بهم والإحسان إليهم والدنو منهم مما يكسر النفس ويذهب عنها العلو والترفع.

"وفي حديث معاذ رضي الله عنه ، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال في قصة المنام «أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ»"، وهذا من حديث معاذ رضي الله عنه وقد أخرجه أحمد والترمذي.

بعد هذا السياق لهذه الجملة التي تفيد أن النصوص قد تواردت في محبة المسكنة، يقول :"والمراد بالمساكين في هذه الأحاديث"، بيَّن المعنى ،"ونحوها من كان قلبه مستكيناً لله خاضعاً له خاشعاً، وظاهره كذلك"، يعني اجتمع فيه سكون القلب وسكون الظاهر، وأما إذا خالف الباطن الظاهر فإن هذا لا يفيد، ولهذا يقول "وأكثر ما يوجد ذلك"، أي سكون القلب مع سكون الظاهر "مع الفقر من المال لأن المال يطغي"، كما قال جل وعلا : {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}([12]).

بأي نوع من الغنى، فإن الغنى من أسباب الطغيان.

يقول :"وخرَّج النسائي من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الفقر فقر النفس، والغنى غنى القلب»،وفي "الصحيح" عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال :«وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ»

" فهذا يشهد لحديث أبي ذر عند النسائي، والمعنى أن الغنى غنى النفس، والفقر فقر النفس .

يقول رحمه الله :"ولهذا قال الإمام أحمد وابن عيينة وابن وهب وجماعة من الأئمة : إن الفقر الذي استعاذ منه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو فقر النفس"، وهذا في حديث عائشة، وفي حديث أبي بكرة وغيرهما.

"فمن استكان قلبه لله عز وجل وخشع له فهو مسكين وإن كان غنياً من المال"، لخشوع قلبه ، قال :"لأن استكانة القلب لا تنفك عن استكانة الجوارح"، لقول النبي «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله»([13]).

قال:"ومن خشع ظاهره واستكان"، أي ظهر عليه الذل والانكسار، "وقلبه ليس بخاشع ولا مستكين فهو جبار"، أي متكبر، معنى جبار :متكبر.

وهذا ما أشار إليه الحديث الذي أخرجه النسائي، وهو في "سنن النسائي الكبرى" "أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرَّ في طريق وفيه امرأة سوداء، فقال لها رجل: هذا الطريق"، يعني تأخري عن الطريق حتى يعبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "فقالت: إِنْ شَاءَ أخذ يَمِينة، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ يسرة"، يعني ما هي متأخرة، "فَقَالَ رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«دَعُوهَا"، يعني اتركوها "فَإِنَّهَا جَبَّارَةٌ"، يعني مستكبرة، لأنها أبت أن تفسح عن الطريق، وليس لها الحق أن تبقى في الطرق وتضر المارة، "فقالوا : يا رسول الله: إِنَّهَا تعني إِنَّهَا مسكينة"، أين الجبارة، "فقَالَ :«إِنَّ ذَلِكَ فِي قلبها»"، المشار إليه الكبر، "ذَلِكَ"، أي الجبروت والكبر في قلبها ولو كان ظاهر حالها غير هذا.

وهو ما أشار إليه حديث مسلم في "الصحيح" من حديث أبي هريرة « ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ»، ثم عدَّهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال : « شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ»، ثم قال:«وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ»([14]).

عائل يعني فقير، ومع فقره مستكبر، وهذا إنما بلغ هذه المنزلة ليش؟ لأنه من المتوقع في مثل هذه الحال أن لا يكون مستكبراً لكونه ما عنده من موجبات الكبر من الدثور والأموال ، فكونه يستكبر مع كونه عائلاً، هذا دليل على فساد فطرته، فكيف لو كان معه مال، وهذا ما أشار إليه حديث النسائي.

"وقال الحسن رحمه الله تعالى :"إن قوما جعلوا التواضع في لباسهم والكبر في قلوبهم ولبسوا مدراع الصوف، والله لأحدهم أشد كبراً بمدرعته من صاحب السرير بسريره"، يعني من صاحب الملك بملكه، "وصاحب المطرف بمطرفه".

ثم انتقل المؤلف لبيان حقيقة الكبر الذي ذمه الشرع، قال :"وقد صح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أنكر أن يكون لبس الثوب الحسن، والنعل الحسن كبر"، وهو يشير بهذا إلى ما جاء في "الصحيح" من حديث أبي وائل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأله رجل فقال:" إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ « إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ»([15])، فأقره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على اختيار الحسن في الملبس في ثيابه وفي نعاله.

ثم بيَّن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكبر قال :« الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ».

بطر الحق: أي رده، وغمط الناس: أي احتقارهم وازدراؤهم.

هذا هو الكبر.

قال :"الكبر، إنما هو في القلب"، يعني إنما يكون في القلب، ولهذا جاء في "الصحيح" في هذا الحديث حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ».

يقول :"وهو عدم الانقياد للحق تكبراً عليه، وغمط الناس هو احتقارهم واذدراؤهم".

يقول رحمه الله :"فمن كان في نفسه عظيماً"، يعني من وجد من نفسه علواً وارتفاعاً "بحيث يحقر الناس لاستعظام نفسه ، ويأنف من الانقياد للحق تكبراً عليه فهو المتكبر"، سواء لبس الجميل من الثياب أو لبس الرديء منه، ولهذا قال :"وإن كان ثوبه ليس بحسن، ونعله ليس بحسن".

ثم قال :"ومن ترك اللباس الحسن تواضعاً لله، وخشية أن يقع في نفسه شيء من الكبر فقد أحسن فيما فعل"، لأن النفس قد تزهو وتعجب بجمال مظهرها وحسن لباسها فيكون هذا مدعاة إلى الكبر  ولهذا جاء في "السنن" أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : «الْبَذَاذَةُ مِنَ الإِيمَانِ»([16])،وهذا ليس على صفة الدوام، إنما كون الإنسان لا يأنف عن لبس ما تيسر له من اللباس سواء كان حسناً أو كان ضعيفاً، إذا كان لا يأنف عن هذا ولا ذاك ولا يرى لبسه للجميل سبب لرفعته، ولا أن لبسه للرديء نزولاً لمكانه فإنه مما سلم قلبه من الكبر.

ولهذا جاء في "الصحيح" من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  قال:«لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ» يوم القيامة «إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُخُيَلاَءَ»([17]).

وهذا يبين عظيم ما يكون في القلب، والإزار سواء كان فاخراً أو كان رديئاً، ولكن جر الإزار خيلاء والترفع عن الناس به والزهو هو المذموم، وليس جودة الثياب ولا جمالها هو الكبر أو هو المنهي عنه.

يقول رحمه الله:"وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يفعل ذلك"، يعني يلبس اللباس الخشن واللباس النازل ليكسر نفسه عن العلو والترفع عن الخلق.

"وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الإنبجانية التي لبسها «إنها ألهتني آنفاً عن صلاتي»"، هل هذا الذي جرى من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، الذي قصته عائشة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى في خميصة لها أعلام ، ثم لما فرغ من صلاته نزعها وقال :« اذهبوا بخميصتي هذه وأتوني بإنبجانية أبي جهم بن حذيف»، هل هذا كان لأجل ما وجد في نفسه من علو؟ لا.

الذي يظهر من التعليل هو لكون هذه الخميصة أشغلته لما فيها من الأعلام، لما فيها من التزيين الذي شوش عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حضوره الذي كان قد ألفه في صلاته  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

قال رحمه الله :"وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... يدل على ذلك "، يعني في الانصراف عن المشغل الذي يشتت القلب ولو كان بغير الكبر، فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  طلب سلامة قلبه، وقطع مادة الإشغال ، ولو لم يؤدي ذلك إلى الكبر.

 

 


([1]) "سنن ابن ماجة" (4126).

([2]) "سنن الترمذي"(2526).

([3]) أخرجه أحمد في "الزهد" (399).

([4]) أخرجه الترمذي (3541)، وأحمد(1/368).

([5]) أخرجه البخاري (6446)، ومسلم (1051).

([6]) أخرجه النسائي في الكبرى"(9/206)، ح(10315).

([7]) تقدم تخريجه.

([8]) تقدم تخريجه.

([9]) أخرجه البخاري (6460)، ومسلم (1055).

([10]) "صحيح البخاري"(6368)، ومسلم (589).

([11]) أخرجه النسائي (1347)، وأحمد (5/36)، ؛(20397).

([12]) سورة العلق:6.

([13]) تقدم تخريجه.

([14]) "صحيح مسلم "(107).

([15])"صحيح مسلم "(91).

([16]) "سنن أبي داود" (4161)، وابن ماجه (4118).

([17]) "صحيح البخاري"(3665)، ومسلم (2085).

الاكثر مشاهدة

4. لبس الحذاء أثناء العمرة ( عدد المشاهدات93795 )
6. كيف تعرف نتيجة الاستخارة؟ ( عدد المشاهدات89655 )

مواد تم زيارتها

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف