ثم قال:" وَأَمَّا مَنْ أَقَرَّ بِمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ مِنْ شَفَاعَتِهِ وَالتَّوَسُّلِ بِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَكِنْ قَالَ لَا يُدْعَى إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ الْأُمُورَ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إلَّا اللَّهُ لَا تُطْلَبُ إلَّا مِنْهُ مِثْلَ غُفْرَانِ الذُّنُوبِ وَهِدَايَةِ الْقُلُوبِ وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ وَإِنْبَاتِ النَّبَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : فَهَذَا مُصِيبٌ فِي ذَلِكَ بَلْ هَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا . كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ} وَقَالَ :{إنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وَقَالَ:{ إلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا}. فَالْمَعَانِي الثَّابِتَةُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: يَجِبُ إثْبَاتُهَا، وَالْمَعَانِي الْمَنْفِيَّةُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ يَجِبُ نَفْيُهَا، وَالْعِبَارَةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَعَانِي نَفْيًا وَإِثْبَاتًا إنْ وُجِدَتْ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ إقْرَارُهَا، وَإِنْ وُجِدَتْ فِي كَلَامِ أَحَدٍ وَظَهَرَ مُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ رُتِّبَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ وَإِلَّا رُجِعَ فِيهِ إلَيْهِ".
المؤلف رحمه الله ذكر الآن بعد أن بيَّن الأوجه الثابتة في الكتاب والسنة والتي لا يجوز إنكارها من الاستشفاع وهي قد تسمى استغاثة في القسم المتقدم.
قال:"وَأَمَّا مَنْ أَقَرَّ بِمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ مِنْ شَفَاعَتِهِ وَالتَّوَسُّلِ بِهِ"، وهما ما قدم بهما الجواب "وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَكِنْ قَالَ لَا يُدْعَى إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ الْأُمُورَ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إلَّا اللَّهُ لَا تُطْلَبُ إلَّا مِنْهُ مِثْلَ غُفْرَانِ الذُّنُوبِ، وَهِدَايَةِ الْقُلُوبِ..."،إلى آخر ما ذكر.
قال:"فَهَذَا مُصِيبٌ فِي ذَلِكَ"، يعني مصيب في هذا الإطلاق، أنه لا يدعى إلا الله، ولا يستغاث في هذه الأمور إلا بالله.
" بَلْ هَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ".
إذاً: هنا الشيخ رحمه الله في هذه الكلمة فصَّل لأنها تحتمل معنى صحيحاً ومعنى فاسداً، فالمعنى الصحيح أثبته، والمعنى الفاسد ردَّه.
فقول القائل "لا يستغاث إلا بالله"، إن أراد به أنه لا يُسأل غفران الذنوب، وتفريج الكروب، وهداية القلوب، وإنزال المطر، وإنبات النبات، إلا الله تعالى فهذا معنى صحيح، ولا نزاع فيه بين المسلمين، وذكر لذلك الأدلة.
وإن كان يريد بقوله "لا يستغاث إلا بالله"، إنكار ما دلت عليه النصوص من الشفاعة والتوسل، فإن ذلك لا يجوز، ومع قيام الحجة التي يثبت بها العلم يكفر قائل ذلك القول.
ثم قال رحمه الله:"فَالْمَعَانِي الثَّابِتَةُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: يَجِبُ إثْبَاتُهَا، وَالْمَعَانِي الْمَنْفِيَّةُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ يَجِبُ نَفْيُهَا".
إذاً: لابد من التفصيل فإثبات ما أثبته الله تعالى، ونفي ما نفاه الله تعالى.
يقول :"وَالْعِبَارَةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَعَانِي نَفْيًا وَإِثْبَاتًا"، الآن يتكلم عن العبارة التي يُسأل عنها، وهذه قاعدة أن العبارة التي تحتمل نفي ما أثبته الله، أو إثبات ما نفاه الله فالواجب فيها التفصيل، إذا كانت تحتمل معنى صواباً ومعنى خطأ.
يقول:"وَالْعِبَارَةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَعَانِي نَفْيًا وَإِثْبَاتًا إنْ وُجِدَتْ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ إقْرَارُهَا"، لأنه مما أطلقه الله ورسوله فيجب إقرارها.
"وَإِنْ وُجِدَتْ فِي كَلَامِ أَحَدٍ وَظَهَرَ مُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ رُتِّبَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ"، أي من جهة الجواز والتحريم.
إذاً: العبارات في الحكم عليها يقال:"ما جاء في الكتاب والسنة مما يوافق هذه العبارة التي يتكلم بها الإنسان جاز إطلاقها، جاز التكلم به، وما لم يأت في الكتاب والسنة دليل عليه من هذه العبارات فالواجب فيها الاستفصال بالنظر إلى مقصود القائل، ولذلك قال :"وَإِنْ وُجِدَتْ فِي كَلَامِ أَحَدٍ وَظَهَرَ مُرَادُهُ"، أي تبين مقصوه،"مِنْ ذَلِكَ رُتِّبَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ وَإِلَّا رُجِعَ فِيهِ إلَيْهِ"، يعني سُئل "ماذا تقصد بهذه العبارة"، إذا تبين المراد والقصد فلا حاجة إلى الاستفصال، وإذا لم يتبين مراده وقصده بكلامه فعند ذلك يرجع إليه في الاستفصال حتى يفهم معنى قوله ويحكم عليه.
وهذا في كل العبارات المجملة لا يجوز إطلاق الحكم عليها بحلٍ أو حرمة إلا بعد الاستفصال لأنه به يتضح المقام ويزول الإشكال، أما أن يطلق الحكم فهذا فيه مجازفة لاسيما في الكلمات التي تحتمل صواباً وخطأً .
فهذا الكلام الذي ذكره الشيخ رحمه الله يعتبر قاعدة يحكم فيها على ألفاظ الناس وما يتكلمون به، وما أكثر ما يتكلم الناس بكلام من هذا النوع الذي ذكر فيه المؤلف رحمه الله "وَإِنْ وُجِدَتْ فِي كَلَامِ أَحَدٍ وَظَهَرَ مُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ رُتِّبَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ وَإِلَّا رُجِعَ فِيهِ إلَيْهِ"، يعني ما يحتاج إلى استفصال واستبيان.
فقول القائل " لا يستغاث برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، إن كان يريد به نفي الشفاعة، إن كان يريد به نفي طلب الدعاء منه في الحياة، إن كان يريد به ما ثبت له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما دلت عليه السنة فإنه لا يجوز إثباته، بل الواجب نفيه.
وإن كان يريد بذلك أنه لا يستغاث به بمعنى أنه لا يطلب منه ما لا يقدر عليه، ولا يُسأل ما لا يكون إلا لله جل وعلا، كهداية القلوب، ومغفرة الذنوب، وإنزال الغيث، وما أشبه ذلك فإنه معنى صحيح.
يقول:"فَالْمَعَانِي الثَّابِتَةُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: يَجِبُ إثْبَاتُهَا، وَالْمَعَانِي الْمَنْفِيَّةُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ يَجِبُ نَفْيُهَا"، هذا أصل، ثم قال :"وَالْعِبَارَةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَعَانِي نَفْيًا وَإِثْبَاتًا إنْ وُجِدَتْ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ إقْرَارُهَا"، الآن الكلام في أيش يا إخواني؟ ترى هذه قاعدة مهمة تفيد في هذا وفي غيره، الكلام في أيش؟
الكلام في العبارات المحتملة، الألفاظ التي تحتمل حقا وباطلاً، هذه العبارات، وهذه الألفاظ لا تخلو من حالين:
1- إما أن يكون قد ورد بها النص في الكتاب أو في السنة.
2- وإما أن لا يرد به النص، يعني من كلام الناس وليس لها في كلام الله ولا في كلام رسوله وجود.
فما العمل معها؟ من حيث المعنى يجب إثبات المعنى الصواب ونفي المعنى الباطل .
أما من حيث اللفظ ، فإن كان اللفظ وارداً في كلام الله وفي كلام رسوله، وهو ما أشار إليه في قوله :" وَالْعِبَارَةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَعَانِي نَفْيًا وَإِثْبَاتًا إنْ وُجِدَتْ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ إقْرَارُهَا"، يجب إقرارها لأنها وردت في كلام الله وفي كلام رسوله، ولا يجوز الإنكار على من تكلم بها لأن الله قد تكلم بها، ولأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد تكلم بها.
لكن إذا كان هناك معنى باطل يبين أن هذا المعنى الباطل غير مراد في كلام الله ولا في كلام رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه لا يلزم على كلام الله ولا على كلام رسوله شيء من الباطل.
هذه الألفاظ المحتملة التي جاء بها النص في كلام الله وفي كلام رسوله.
* القسم الثاني الكلام أو العبارات الواردة في كلام الناس ليس في كلام الله ولا في كلام رسوله، وردت في كلام الناس وهي تحتمل معنى صحيحاً، ومعنى باطلاً، كيف يفعل بها؟
يقول:"وَإِنْ وُجِدَتْ فِي كَلَامِ أَحَدٍ وَظَهَرَ مُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ رُتِّبَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ"، إن وردت في كلام أحد وكان المعنى واضحاً بما قبله أو بما بعده بسياقه أو سباقه والمعنى صحيح أثبت المعنى الصحيح وصحة الكلمة، وإلا فإنه ينفى المعنى الباطل وترد الكلمة ، فإذا كانت هذه الكلمة، أو هذه العبارة، أو هذه اللفظة محتملة، ما ندري ما مراده، يعني لم يتضح لنا مراد المتكلم بها فما العمل؟.
يقول :"وَإِلَّا رُجِعَ فِيهِ إلَيْهِ"، أي رجع في معنى هذا الكلام " إلَيْهِ "، يعني إلى من تكلم بهذه العبارة أو هذه الكلمة.
ثم قال رحمه الله:"وَقَدْ يَكُونُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِبَارَةٌ لَهَا مَعْنًى صَحِيحٌ لَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَفْهَمُ مِنْ تِلْكَ غَيْرَ مُرَادِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا يُرَدُّ عَلَيْهِ فَهْمُهُ".
قوله "وَقَدْ يَكُونُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِبَارَةٌ لَهَا مَعْنًى صَحِيحٌ "، الآن هذا كالاستدراك هناك عبارات لها معاني صحيحة في كلام الله وفي كلام رسوله لكن قد يفهم منها معنى باطل.
لكن هذا ليس لأن اللفظ يدل عليه وهو من لوازمه إنما هذا من قِبَل من تكلم بها، ولذلك يقول:"وَقَدْ يَكُونُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِبَارَةٌ لَهَا مَعْنًى صَحِيحٌ لَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَفْهَمُ مِنْ تِلْكَ غَيْرَ مُرَادِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، فالإشكال هنا والخلل في الكلمة نفسها أو في فهم القارئ لها؟ في الفهم.
فهنا الإشكال في الفهم.
يقول:"فَهَذَا يُرَدُّ عَلَيْهِ فَهْمُهُ"،ويبين له المعنى الصواب، أي الذي تضمنه كلام الله وكلام رسوله.
قال:"كَمَا رَوَى الطَّبَرَانِي"، الآن مثَّل بمثال لهذه القاعدة، وهي وجود كلام صحيح في كلام الله وفي كلام رسوله يفهم على وجه باطل، ففي هذه الحال يرد الفهم ويبقى اللفظ والمعنى الصحيح لأنه قد ورد به كلام الله وكلام رسوله.
هذا كلام نفيس ومهم في الكلام المحتمل والعبارات المجملة.
يقول رحمه الله:"كَمَا رَوَى الطَّبَرَانِي فِي "مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ"«أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَافِقٌ يُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ : قُومُوا بِنَا لِنَسْتَغِيثَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْمُنَافِقِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهُ لَا يُسْتَغَاثُ بِي وَإِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِاَللَّهِ».
فَهَذَا إنَّمَا أَرَادَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَعْنَى الثَّانِيَ وَهُوَ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ وَإِلَّا فَالصَّحَابَةُ كَانُوا يَطْلُبُونَ مِنْهُ الدُّعَاءَ وَيَسْتَسْقُونَ بِهِ كَمَا فِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : رُبَّمَا ذَكَرْت قَوْلَ الشَّاعِرِ وَأَنَا أَنْظُرُ إلَى وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَسْقِي فَمَا يَنْزِلُ حَتَّى يَجِيشَ لَهُ مِيزَابٌ :
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ *** ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُصَنِّفُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى : يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْلَمَ أَنْ لَا غِيَاثَ وَلَا مُغِيثَ عَلَى الْإِطْلَاقِ إلَّا اللَّهُ".
يقول رحمه الله :"كَمَا رَوَى الطَّبَرَانِي فِي "مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ"«أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، هذا الحديث حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه هو حديث فيه ضعف فهو من رواية ابن لهيعة أخرجه أحمد(5/317)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(7/350):"رواه أحمد، وفيه راو لم يسم، وابن لهيعة".، لكن المقصود ما تضمنه من شاهد، وابن لهيعة فيه خلاف من جهة حاله، ولذلك حسن هذا الحديث جماعة من أهل العلم.
المقصود أن الشاهد في هذا أنه كان في زمن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منافق يؤذي المؤمنين.
قال" فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ : قُومُوا بِنَا لِنَسْتَغِيثَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْمُنَافِقِ".
قوله "نَسْتَغِيثَ"، أولاً طلب الغوث، قوله "نَسْتَغِيثَ"، أي نطلب الغوث، وطلب الغوث هو طلب كشف الشدة وإزالتها، لأن الاستغاثة هي طلب إزالة الشدة ورفعها.
فقول أبي بكر رضي الله عنه "قُومُوا بِنَا لِنَسْتَغِيثَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، أي نطلب منه كشف الشدة الحاصلة من هذا المنافق.
والمنافقون، هل كانوا يؤذون المؤمنين؟ نعم، بل يؤذون الله ورسوله، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المنبر :«مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِي» أخرجه البخاري(2661)، ومسلم (2770)..
يريد عبد الله بن أُبَيّ بن سلول رأس المنافقين.
فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أذاه المنافقون ولا شك، وآذوا أهل الإيمان دون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذا كان أذاهم بلغ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع ما له من المكانة والمنزلة فمن دونه من باب أولى.
فأبو بكر رضي الله عنه يقول لأصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "قُومُوا بِنَا لِنَسْتَغِيثَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْمُنَافِقِ"، هل هذه الاستغاثة في أمر يقدر عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو لا؟ يعني لما قال أبو بكر " قُومُوا بِنَا لِنَسْتَغِيثَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْمُنَافِقِ"، هل في بال أبي بكر والصحابة أن ذلك في مقدور النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو لا؟ الجواب: بلى، وإلا ما استغاثوا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنما في قلوبهم وفيا يظهر من حالهم أنهم يعتقدون أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقدر أن يكف أذى هذا المنافق عن أهل الإيمان.
ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه :" قُومُوا بِنَا لِنَسْتَغِيثَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْمُنَافِقِ"، وذلك أن أهل الإيمان لا يتمكنون من إيصال الأذى إلى المنافق فإنه معصوم المال، معصوم الدم، معصوم النفس، فالعصمة في ماله ودمه ونفسه.
إذاً: عندنا الآن إذا كان معصوم الدم والمال والعرض فإنه لا يستطع أن يكف أذاه من أفراد المؤمنين، فقالوا نذهب لمن له الولاية والسلطة، كما أن له التبليغ عن رب العالمين وهو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما أتوا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ماذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«إنَّهُ لَا يُسْتَغَاثُ بِي، وَإِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِاَللَّهِ»، اللفظ عام أو خاص؟ اللفظ عام.
هل هو ورد على سبب خاص أو ورد مطلقاً؟ ورد على سبب خاص .
فهل يقال : إن هذا يفيد أنه لا يستغاث به مطلقاً فينفى بذلك شفاعته لأهل الموفق، شفاعته لمن يدخل النار، شفاعته لأهل الجنة، هل ينفى كل هذا بسبب هذا العموم في قول « إنَّهُ لَا يُسْتَغَاثُ بِي، وَإِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِاَللَّهِ »؟ يحتمل.
يحتمل لأن اللفظ يحتمل أنه لا يستغاث به مطلقاً، لكن هذا المعنى دلت النصوص على أنه غير مراد، وأن نفي الاستغاثة هنا ليس نفي الاستغاثة من كل وجه، وأنه لا ينفع من يسأله رفع الشدة من كل وجه، إنما هذا فيما لا يقدر عليه إلا الله.
إذاً: هذا اللفظ الآن" لَا يُسْتَغَاثُ بِي" مجمل، أو مبيَّن؟ لفظ مجمل لأنه يشمل كل أوجه الاستغاثة.
لكن تفصيل ما يستغاث به بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما يستغاث به فيه يرجع فيه إلى السنة.
ولذلك قال المؤلف رحمه الله " فَهَذَا إنَّمَا أَرَادَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَعْنَى الثَّانِيَ"، من أي شيء المعنى الثاني؟ من الاستغاثة، لأنه تقدم لنا من كلام المؤلف رحمه الله في جوابه على سؤال من قال : ما حكم من يقول "لا يستغاث برسول الله"،فقال :" قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ بَلْ الْمُتَوَاتِرَةِ وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ : أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّافِعُ الْمُشَفَّعُ ..." إلى آخر ما ذكر، فأثبت الشفاعة العامة، ثم أثبت الشفاعة الخاصة وهي التي تكون لأهل الإيمان، ثم أثبت الاستشفاع به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الاستسقاء بدعائه وأنهم سألوه أن يدعو الله تعالى، وهذا نوع من الرجوع إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كشف الشدة ورفعها كل هذا ثابت هذا هو المعنى الأول.
المعنى الثاني هو سؤاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لا يقدر عليه، من كشف الكربات، ومغفرة الزلات وما إلى ذلك كالذي أشار إليه في قوله " وَأَمَّا مَنْ أَقَرَّ بِمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ مِنْ شَفَاعَتِهِ وَالتَّوَسُّلِ بِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَكِنْ قَالَ لَا يُدْعَى إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ الْأُمُورَ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إلَّا اللَّهُ لَا تُطْلَبُ إلَّا مِنْهُ"، هذا معنى صحيح، هذا هو المعنى الثاني.
المؤلف يقول :"فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إنَّهُ لَا يُسْتَغَاثُ بِي وَإِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِاَللَّهِ" فَهَذَا إنَّمَا أَرَادَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَعْنَى الثَّانِيَ"،بيَّن لنا ما هو المعنى الثاني، قال :" وَهُوَ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ"، فالذي يأتي إلى قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل إليه وهو حي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول :" يا رسول الله اغفر لي ذنوبي، اهدي قلبي"، هل هذا يجوز أو لا يجوز؟ هذا لا يجوز في حياته، فكيف بعد موته، لا يجوز لأحد أن يأتي إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول :"يا رسول الله اغفر لي ذنبي"، لا يجوز أن يأتي أحد ويقول :" يا رسول الله اهدي قلبي"، لأن هذا لا يملكه إلا الله {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} القصص:56..
هداية القلوب مُلك لله جل وعلا ليس لأحد من الخلق أن يزعمها ولا أن يدعيها، بل هداية القلوب لله جل وعلا.
قال :"وَإِلَّا فَالصَّحَابَةُ ..."،الآن يبين لنا لماذا هذا اللفظ ليس على إطلاقه "لَا يُسْتَغَاثُ بِي"، ليس مطلقاً إنما هو فيما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا، "لَا يُسْتَغَاثُ بِي"، فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، دليل ذلك قال:"وَإِلَّا فَالصَّحَابَةُ كَانُوا يَطْلُبُونَ مِنْهُ الدُّعَاءَ"، وهذا نوع من أنواع الاستغاثة، أليس في "صحيح الإمام البخاري"، من حديث خبَّاب بْنِ الأَرَتِّ قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ قُلْنَا لَهُ: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا!, أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا!، قَالَ:«كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ ...» "صحيح البخاري"(3612).إلى آخر الحديث.
هذا استغاثة أو لا؟ هذا نوع استغاثة بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شيء يقدر عليه أو لا؟ في شيء يقدر عليه، وهو دعاء الله وسؤاله وطلبه رفع الضر وكشف البلاء عن أهل الإيمان في مكة.
هذا نموذج من النماذج كما في "الصحيحين" من حديث أنس في قصة الرجل الذي وقف يوم الجمعة فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! هَلَكَتِ الْمَوَاشِي وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ يُغِيثُنَا ..." "صحيح البخاري"(1013)، ومسلم(897).،
أليس هذا نوع استغاثة بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كشف كربة وإزالة نازلة، بلى، ولكنه في مقدوره ولذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اللَّهُمَّ أَغِثْنَا»، فدعا فحصل بدعائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخير ونزل الغيث.
إذاً: يقول:"وَإِلَّا فَالصَّحَابَةُ كَانُوا يَطْلُبُونَ مِنْهُ الدُّعَاءَ وَيَسْتَسْقُونَ بِهِ كَمَا فِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : رُبَّمَا ذَكَرْت قَوْلَ الشَّاعِرِ وَأَنَا أَنْظُرُ إلَى وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَسْقِي فَمَا يَنْزِلُ حَتَّى يَجِيشَ لَهُ مِيزَابٌ"، أي تمطر ويكون المطر غزيراً إلى درجة أن تسيل مجاري السيل في البيوت من الميازيب وشبهها.
قال :"وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ *** في مَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ".
وهذا ما كان رضي الله عنه يقول ويذكره من قول أبي طالب في النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قال:"وَهُوَ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُصَنِّفُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى: يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْلَمَ أَنْ لَا غِيَاثَ وَلَا مُغِيثَ عَلَى الْإِطْلَاقِ إلَّا اللَّهُ"، أما على وجه المقيد فإن ذلك يجوز أن يكون من المخلوق وللمخلوق.
مثاله في جوازه من المخلوق، أيش؟ ما جرى من القصص الماضية، وأيضاً في القرآن قول الله جل وعلا :{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} سورة القصص:16.، هذه استغاثة، وهي طلب كشف شدة ورفع كربة، لكن فيما يقدر عليه المخلوق المسؤول المطلوب.
أما ما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا، أو الاستغاثة المطلقة فإنها لا تكون إلا لله جل وعلا.
قال:"وَأَنَّ كُلَّ غَوْثٍ فَمِنْ عِنْدِهِ وَإِنْ كَانَ جَعَلَ ذَلِكَ عَلَى يَدَيْ غَيْرِهِ فَالْحَقِيقَةُ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلِغَيْرِهِ مَجَازٌ ".