قال رحمه الله :"وأصل الخشوع الحاصل في القلب إنما هو من معرفة الله ومعرفة عظمته وجلاله وكماله، فمن كان بالله أعرف فهو له أخشى، وتتفاوت القلوب في الخشوع بحسب تفاوت معرفتها لمن خشعت له، وبحسب تفاوت مشاهدة القلوب للصفات المقتضية للخشوع.
فمن خاشع لقوة مطالعته لقرب الله من عبده، واطلاعه على سره وضميره المقتضي للاستحياء من الله تعالى، ومراقبته في الحركات والسكنات.
ومِن خاشع لمطالعته لجلال الله وعظمته وكبريائه المقتضي لهيبته وإجلاله.
ومن خاشع لمطالعته لكماله وجماله المقتضي للاستغراق في محبته والشوق إلى لقائه ورؤيته .
ومن خاشع لمطالعة شدة بطشه وانتقامه، وعقابه المقتضي للخوف منه.
وهو سبحانه وتعالى جابر القلوب المنكسرة لأجله، فهو سبحانه وتعالى يتقرب من القلوب الخاشعة له كما يتقرب ممن هو قائم يناجيه في الصلاة، وممن يعفر له وجهه في التراب بالسجود، وكما يتقرب من وفده وزوار بيته والوافدين بين يديه، المتضرعين إليه في الوقف بعرفة المتضرعين إليه بالوقف في عرفة، ويدنو ويباهي بهم الملائكة، وكما يتقرب من عباده الداعين له السائلين له، المستغفرين من ذنوبهم بالأسحار، ويجيب دعائهم ويعطيهم سؤلهم، ولا جبر لانكسار العبد أعظم من القرب والإجابة، وروى الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتابه "الزهد" بإسناده عن عمران القصير قال: قال موسى بن عمران أي ربي أين أبغيك؟، قال: أبغني عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، إني أدنو منهم كل يوم باعاً، ولولا ذلك لانهدموا".
وروى إبراهيم بن الجنيد رحمه الله تعالى في كتاب "المحبة" بإسناده عن جعفر بن سليمان، سمعت مالك بن دينار قال: قال موسى عليه السلام : إلهي أين أبغيك، فأوحى الله عز وجل إليه، أن يا موسى أبغني عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، فإني أدنو منهم في كل يوم وليلة باعاً، ولولا ذلك لانهدموا.
قال جعفر قلت لمالك بن دينار: كيف المنكسرة قلوبهم، فقال: سألت الذي قرأ في الكتب فقال: سألت الذي سأل عبد الله بن سلام ، فقال سألت عبد الله بن سلام عن المنكسرة قلوبهم ما يعني؟ قال : المنكسرة قلوبهم بحب الله عز وجل عن حب غيره.
وقد جاء في السنة الصحيحة ما يشهد بقرب الله من القلب المنكسر ببلائه الصابر على قضائه أو الراضي بذلك كما في "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:«إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا ابنَ آدَمَ مَرِضتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ يَا رَبِّ كَيفَ أَعُودُكَ وَأَنتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ أَمَا عَلِمتَ أَنَّ عَبدِي فُلاَنًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ أَمَا عَلِمتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ ...»([1]).
وروى أبو نعيم من طريق ضمرة بن أبي شودب، قال: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أتدري لأي شيء أصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي، قال: لا يا ربي، قال: لأنه لم يتواضع لي أحد قط تواضعك".
وتواضعه هذا هو الخشوع، وهو العلم النافع وهو أول ما يرفع من العلم".
يقول رحمه الله :"وأصل الخشوع الحاصل في القلب إنما هو من معرفة الله ومعرفة عظمته وجلاله وكماله"، ثم يعطي قاعدة يقول :"فمن كان بالله أعرف فهو له أخشى"، الله أكبر،، قاعدة ما أجملها وما أضبطها وأطردها فإنه بقدر ما يكون في قلب العبد من العلم بالرب بقدر ما يكون مع العبد من الخشوع وتحقيق العبودية لله تعالى.
ولهذا من أراد أن يفوز بنصيب واسع من الخشوع فليقبل على العلم بالله.
العلم - يا إخواني - علمان: علم بالله، وعلم بالطريق الموصل إلى الله جل وعلا.
لا يكمل للإنسان سعادة في الدنيا ولا فوز في الآخرة إلا بكمال هذين العلمين.
أكثر الناس لهم عناية بالطريق الموصل إلى الله.
وأكثر الناس أقصد بهم الذين يشتغلون بالعلوم وبطلب العلم، لهم عناية بمعرفة الطريق الموصل إلى الله، ومن ذلك معرفة أحكام الصلاة ومعرفة أحكام الزكاة، وأحكام الحج.
هذا طريق يوصل إلى الله تعالى، فتجده مشتغلاً بمعرفة الطريق وهذا حسن طيب، ولكن أعظم من هذا العلم هو أن يشتغل في العلم بالله تعالى، فالعلم بالله هو أصل العلوم التي إذا كَملت كمل للإنسان نعيمه وسعادته وجاءته من علوم الطريق وتفاصيل هذا الطريق ما يفتحه الله تعالى عليه.
ولهذا ينبغي للإنسان أن يكثر من العلم بالله تعالى، العلم بأسمائه، العلم بصفاته، ولما نقول العلم بأسمائه وصفاته لا نقصد أن يدخل الإنسان في العلم بالأسماء والصفات مدخل البحث والمناظرة للمتكلمين والمنحرفين عن هدي السلف الصالحين فيما يتصل بأسماء الله وصفاته.
نقصد بالعلم بالله تعالى العلم بمعاني أسمائه جل وعلا، الله، الرحمن، الرحيم، الحي، القيوم، هذه الأسماء ما دلالاتها، ما معانيها ، وما أثر هذا العلم في القلوب.
هذا هو العلم الذي يثمر الخشية.
لذلك يقول رحمه الله في بيان أن أقدام الناس وأقدارهم تتفاوت في الخشية والخشوع بقدر تفاوتهم بالله تعالى.
يقول:"وتتفاوت القلوب في الخشوع بحسب تفاوت معرفتها لمن خشعت له"، فكلما عظم في قلب العبد علمه بربه ومعرفته به، كان ذلك من أسباب خشوع قلبه.
طيب/ هناك أمر آخر، وهو ما أشار إليه في السبب الثاني.
قال :"وبحسب تفاوت مشاهدة القلوب للصفات المقتضية للخشوع"، وهذا تنبيه لطيف من المؤلف، يعني عندنا الآن علم ومعرفة، وعندنا مشاهدة واستحضار.
لما تعلم أن الله تعالى بكل شيء عليم، أصغر أبناء المسلمين تقول له : الله عالم بكل شيء؟ يقول : الله عالم بكل شيء.
لكن فرق بين العلم وإدراك ومعرفة أن الله تعالى عالم بكل شيء وبين شهود علم الله تعالى.
ولهذا يقول المؤلف :"وبحسب تفاوت مشاهدة القلوب للصفات المقتضية للخشوع"، ومثَّل لذلك، فقال:"فمن خاشع"، وهذا من موجبات الخشوع المتصلة بالعلم بالله تعالى، ومشاهدة هذا العلم واستحضار هذا العلم.
يقول:"فمن خاشع لقوة مطالعته لقرب الله من عبده، واطلاعه على سره وضميره المقتضي للاستحياء من الله تعالى، ومراقبته في الحركات والسكنات ... ومِن خاشع لمطالعته لجمال الله ... ومن خاشع لمطالعة شدة بطشه وانتقامه ...ومن خاشع ... ومن خاشع .."، كل هذا بيان لموجبات الخشية والخشوع التي تكون لشهود كمال الرب وصفاته سبحانه وبحمده.
إذاً : فرق بين العلم وبين الشهود.
العلم هو إدراك المعلومات، لكن الشهود هو التنعم واستحضار تلك المعلومات واقعاً مشهوداً محسوساً في حياة الناس وفي حياة الإنسان.
يقول رحمه الله بعد ذلك في بيان فضيلة الخشوع، وأنه سبب لقرب الله تعالى يقول :"وهو سبحانه وتعالى جابر القلوب المنكسرة قلوبهم من أجله "، يجبر قلوبهم يمن عليهم بألوان النعم، ويفيض عليهم بصنوف السعادات، والطمأنينة والانشراح ما لا يجده غير الخاشع.
ولذلك الخشوع ليس حالة من القلق النفسي، إنما هو حالة من الاطمئنان والسكون واللين والرقة، تغشى القلب فينشرح ويطمئن.
يقول رحمه الله :"وهو سبحانه وتعالى جابر القلوب المنكسرة قلوبهم من أجله، فهو سبحانه وتعالى يتقرب من القلوب"، أي يقرب من عباده الخاشعين "كما يقرب من عباده الداعين،.. كما يقرب من عباده الساجدين،.. كما يقرب من عباده الذين وفدوا إليه"، ذكر نماذج من قرب الله تعالى لعباده وأوليائه، وهذه أنواع من القرب الخاص، وهي إما خاص بحال أو خاص بمكان، أو خاص بعمل.
ومن الخصوصية في العمل الدعاء فإنه أقرب ما يكون العبد من ربه و هو ساجد، سجود محل للدعاء.
وأيضاً يقول الله تعالى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}([2]).
إذاً: هذا دليل لما ذكره المؤلف من أن الخشوع سبب لقرب الله تعالى من العبد، وإذا قَرُبَ الله من العبد انفتحت له أبواب الخير والطاعة والرحمة وكان في السعادات على وجه لا يمكن أن يناله سوء أو ضيق {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}([3]).
يقول في الاستشهاد في أن الله تعالى قريب من المنكسرة قلوبهم، ذكر لذلك شاهدين من خبر عمران القصير، ومن خبر مالك بن دينار، إلا أن هذين الحديثين لا أصل لهما في المرفوع، فهي فيما يظهر من أخبار بني إسرائيل.
لكن المؤلف فقيه محدِّث، ليس من الجمَّاعين، من حاطبي الليل الذين يجمعون الغث والسمين، بعد أن ذكر ما ذكر أراد أن يستشهد له من صحيح السنة ما يعضد هذا الذي تضمنته هذه الأخبار، قال :"وقد جاء في السنة الصحيحة"، وكأنه يشير إلى أن ما تقدم ليس ثابتاً ،"ما يشهد بقرب الله من القلب المنكسر ببلائه"، يعني التي استكانت وافتقرت بسبب البلاء الذي نزل بها، لكن في حالين، الصابر على قضائه، أو الراضي بذلك، يعني إما حال الصبر أو حال الرضا.
وذكر لذلك الحديث الإلهي في "صحيح الإمام مسلم" " يقول « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا ابنَ آدَمَ مَرِضتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ يَا رَبِّ كَيفَ أَعُودُكَ وَأَنتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ أَمَا عَلِمتَ أَنَّ عَبدِي فُلاَنًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ"، ما موجب كون الرب جل وعلا عند المريض، أن المريض منكسر القلب، أن المريض فقير إلى رب العالمين، قد خرج عن العلو والزهو والارتفاع، وهذه الحال هي الحال التي يكون الله تعالى فيها قريب من العبد.
ثم ذكر شاهداً آخر وهو التواضع، وأن التواضع لا يكون إلا عن انكسار القلب، وأنه إذا تواضع العبد كان هذا مؤذناً بقرب الرب.
يقول رحمه الله :"وروى أبو نعيم من طريق ضمرة بن أبي شودب، قال: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أتدري لأي شيء أصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي، قال : لا يا ربِّ، قال : لأنه لم يتواضع لي أحد تواضعك"، قال :" وتواضعه هذا هو الخشوع"، ذل القلب وانكساره.
ثم قال رحمه الله في بيان ما هو التواضع الحقيقي، يقول :"وتواضعه هذا هو الخشوع وهو العلم النافع، وهو أول ما يرفع من العلم، فخرَّج النسائي([4]) من حديث جبير بن نفير رضي الله عنه، عن عوف بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ نظر إلى السماء يوماً فقال :«هذا أوان يرفع فيه العلم»، فقال رجل من الأنصار، يقال له زياد بن لبيد، :يا رسول الله يرفع العلم وقد أثبت ووعته القلوب، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :"إني كنت لأحسبك من أفقه أهل المدينة، وذكر له ضلالة اليهود والنصارى على ما في أيديهم من كتاب الله عز وجل، قال : فلقيت شداد بن أوس فحدثته بحديث عوف بن مالك، فقال : صدق عوف، ألا أخبرك بأول ذلك يرفع، قلت : بلى، قال الخشوع، حتى لا ترى خاشعاً.
وخرجه الترمذي([5]) من حديث جبير بن نفير عن أبي الدرداء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بنحوه، وفي آخره قال جبير: فلقيت عبادة بن الصامت فقلت: ألا تسمع إلى ما يقول أخوك أبو الدرداء، وأخبرته بالذي قال أبو الدرداء، قال: صدق أبو الدرداء، لو شئت لحدثتك بأول علم يرفع عن الناس، الخشوع ، يوشك أن تدخل مسجد الجامع فلا ترى فيه رجلا خاشعاً.
وقد قيل: إن رواية النسائي أرجح، وقد روى سعيد بن بشير عن قتادة قال الحسن رحمه الله تعالى، عن شداد بن أوس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:« أول ما يرفع من الناس الخشوع»([6])، فذكره ورواه أبو بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حبيب مرسلاً، وروى نحوه عن حذيفة من قوله، فالعلم النافع هو ما باشر القلوب فأوجب لها السكينة والخشية، والإخبات لله والتواضع والانكسار له".
الله أكبر .. يعني أقول يا إخواني نحن طلبة العلم الذين نشتغل بتحصيل العلوم هذه درة ينبغي أن يَعض عليها الإنسان بالنواجذ وينظر ما مدى تحصيله للعلم النافع، "فالعلم النافع هو ما باشر القلوب فأوجب لها السكينة والخشية، والإخبات لله والتواضع والانكسار"، أنا أجزم أن نحن - يا إخواني - ما نفتش عن هذا في قلوبنا، نظن أن العلوم النافعة هي قدر ما أنهينا من المتون، وقدر ما حفظنا من المتون، وقدر ما أنهينا من المختصرات، ولا نفتش عن أثر هذا الذي تلقيناه في قلوبنا.
وهنا اختلال، وهذا من العلم الذي سيأتي في كلام المؤلف رحمه الله أنه علم اللسان، في قول الحسن:" العلم علمان، علم باللسان وعلم بالقلب"، والبحث هو في العلم النافع الذي تعلو به المراتب، والذي يرفع الله تعالى به أهله، فالله تعالى يقول : {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}([7]).
هذا ليس في كل علم يشتغل الإنسان بتحصيله، إنما هو العلم الذي يباشر القلوب إصلاحاً وتزكية وتطييباً وتطهيراً.
فليتكم تضعون علامة على هذا الموضع في بيان ضابط العلم النافع، وهذا ضابطه من حيث أثره وثمرته، لأن العلم النافع يمكن أن يفسّر بعدة تفسيرات، المؤلف فسَّره هنا بالنظر إلى ثمرته وعاقبته - نسأل الله أن يبلغنا وإياكم ذلك.