قال ابن رجب رحمه الله تعالى:"فالعلم النافع هو ما باشر القلوب فأوجب لها السكينة والخشية والإخبات لله والتواضع والانكسار له، وإذا لم يباشر القلوب ذلك من العلم وإنما كان على اللسان فهو حجة الله على ابن آدم، تقوم على صاحبه وغيره، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع صاحبه"، خرَّجه مسلم.
وقال الحسن رحمه الله تعالى:"العلم علمان، علم باللسان وعلم بالقلب، فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللسان هو حجة الله على ابن آدم".
وروي عن الحسن رحمه الله تعالى مرسلاً عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وروي عنه عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً ، وعنه عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً، ولا يصح وصله.
فأخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن العلم الذي عند أهل الكتابين من قبلنا موجود بأيديهم ولا ينتفعون بشيء منه لما فقدوا المقصود منه وهو وصوله إلى قلوبهم حتى يجدوا حلاوة الإيمان به، ومنفعته بحصول الخشية والإنابة لقلوبهم، وإنما هو على ألسنتهم تقوم به الحجة عليهم".
هذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله بيَّن فيه العلم النافع، وبيانه رحمه الله للعلم النافع إنما هو بيان لأثره وثمرته، يعني هو الآن يبين لنا العلم النافع بالنظر إلى ما يعقبه في حال وقلب حامله.
وأما العلم النافع من حيث هو، فيمكن تعريفه بغير هذا التعريف، يعني المؤلف يقول :"فالعلم النافع هو ما باشر القلوب فأوجب لها السكينة والخشية والإخبات لله والتواضع والانكسار له"، هذا باعتبار الأثر والثمرة، كما قال ابن القيم :" العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة، هم أولوا العرفان".
هذا تعريف للعلم ، لكنه تعريف بحقيقته، وذاته، أما بالنظر إلى ثمرته وعاقبته فلا يوصف العلم النافع إلا بالذي يثمر صلاحاً وزكاةً للقلوب، ويثمر استقامة في الأعمال، ولهذا كل من كان تاركاً للعمل بالعلم فهو جاهل ولو بلغ من العلم ما بلغ، قال الله تعالى {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ}([1])، قال المفسرون :" كل من عصى الله فإنها يعصيه بجهل".
والمقصود بالجهل هنا ليس الجهل الذي هو عدم العلم،إنما الجهل هو عدم العمل بالعلم، فكل من لم يعمل بالعلم فهو جاهل.
وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي ذر:«إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ»([2])، المقصودبه عدم العمل بالعلم الذي يقتضي التواضع والذل وعدم الترفع والتكبر على الخلق.
إذاً: تعريف العلم هنا هو تعريف العلم بعاقبته وثمرته.
يقول رحمه الله :"وإذا لم يباشر القلوب ذلك"، أي الإخبات والانكسار والخشية وتلك الثمار الطيبة ، إذا لم يباشر القلب ذلك من العلم"وإنما كان على اللسان فهو حجة الله على ابن آدم ، تقوم على صاحبه وغيره"، يعني على صاحبه الذي يتكلم به وغيره ممن يبلغه ذلك العلم.
"قال ابن مسعود رضي الله عنه : إن أقواما يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم"، أي غاية العلوم عندهم ما جرى على ألسنتهم، وليس على قلوبهم من ذلك العلم نصيب ولا حظ، وهذا هو حال أهل النفاق أولاً، وحال الغلاة الخوارج ثانياً.
ففي "الصحيحين" من حديث أبي سعيد وغيره في وصف الخوارج « يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم»، يعني لا يتجاوز إلى قلوبهم، فلا يصل منه شيء إلى قلوبهم، ليس عندهم فقه ولا فهم، ولا لهذا العلم الذي يقرؤونه بألسنتهم تأثير على قلوبهم، ولا يعني هذا أنه ما يقرأ القرآن، النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول كما في "الصحيح" من حديث أبي سعيد الخدري قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ يَقْسِمُ قَسْمًا أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ، -وَهْوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ اعْدِلْ فَقَالَ:« وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ» فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ ائْذَنْ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ:«دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ...»([3]).
وهذا يبين أن العلم الذي في اللسان ليس نافعاً لا في النجاة في الدنيا ولا في النجاة في الآخرة، لا في النجاة في الدنيا من المهالك والفتن والضلالات، ولا في الآخرة من العقوبة والعذاب الأليم.
يقول رحمه الله "ولكن إذا وقع في القلب"، يعني سقط على القلب، هذا العلم فزكاه وطيبه وطهرة وسلَّمه، يقول :"فرسخ فيه نفع صاحبه".
"الحسن رحمه الله تعالى:" العلم علمان، علم باللسان وعلم بالقلب، فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللسان هو حجة الله على ابن آدم".
وذكر بعد ذلك أثراً ، ثم قال :"فأخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ"، وهذا إشارة إلى ما تقدم في الحديث الذي قال"فخرَّج النسائي من حديث جبير بن نفير رضي الله عنه، عن عوف بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ نظر إلى السماء يوماً فقال :« هذا أوان يرفع فيه العلم»، فقال رجل من الأنصار، يقال له زياد بن لبيد، :يا رسول الله يرفع العلم وقد أثبت ووعته القلوب، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ :"إني كنت لأحسبك من أفقه أهل المدينة، وذكر له ضلالة اليهود والنصارى على ما في أيديهم من كتاب الله عز وجل"، يقول "فأخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن العلم الذي عند أهل الكتابين من قبلنا موجود بأيديهم"، وهذه بقايا "ولا ينتفعون بشيء منه لما فقدوا المقصود منه"، يعني لما فقدوا روحه وهو العمل به وأنه يزكي القلوب والأعمال ويصلح المسار والمسالك، ما منه فائدة فكان حجة عليهم، بل قال الله تعالى {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِيَحْمِلُ أَسْفَارًا}([4])، لم ينتفعوا منه بشيء هم كالحمر التي توقر بالأحمال وليس لها مما فيها فائدة ولا نفع.
قال رحمه الله :"ولهذا المعنى وصف الله سبحانه في كتابه العلماء بالخشية كما قال الله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}([5]).
وقال تعالى:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}([6])".
قف عند هاتين الآيتين، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، وانظر إلى قدر نصيبك من الخشية لتعرف قدر نصيبك من العلم، فكل من عظمت في قلبه منزلة الخالق، وعظم في قلبه قدر ربه، علم قدر ما معه من الخشية، فهي مسألة متناسبة، إذا زاد العلم بالله والمعرفة به، والتعظيم له ، زاد في القلب خشيته والإخبات إليه جل في علاه.
ثم قال، وهذه الآية الثانية التي يغفل كثير من الناس عن النكتة التي فيها يقول الله تعالى {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا}، قانت يعني دائم على الطاعة {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ}، أيش يزين، يقول {سَاجِدًا وَقَائِمًا}،ثم هذا في الصورة السجود والقيام عمل بدني، لكن هناك وراء هذا العمل البدني عمل قلبي {يَحذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}، خوف ورجاء، رغبة ورهبة، {يَحذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}، بعد ذلك قال:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}، من هم العالمون، إنهم العاملون، العالمون هم العاملون، ولذلك بعد أن ذكر هذا العمل الجليل المتضمن القيام والسجود والركوع وحضور القلب في الصلاة، قال:{هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ}يعني التي هذه حالهم، وهي قيام الليل مع خوف الله تعالى ورغبته، {وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}، وهذا يدل على أن العلم ليس هو قول اللسان كما قال ابن مسعود :"ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم الخشية"([7]).
قال رحمه الله :"ووصف العلماء من أهل الكتاب قبلنا بالخشوع، كما قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا}([8]).
وقوله تعالى في وصف هؤلاء الذين أوتوا العلم {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا}.
مدح لمن أوجب له سماع كتاب الله الخشوع في قلبه، وقال تعالى:{فَوَيلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقشَعِرُّ مِنهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكرِ اللَّهِ}([9])، ولين القلوبهو زوال قساوتها لحدوث الخشوع فيها والرقة".
قوله تعالى{فَوَيلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكرِ اللَّهِ}، قاسية قلوبهم من هنا بمعنى عن أي قست قلوبهم فلم تذكر الله لإعراضها وغفلتها.
وقيل: من هنا للسببية، أي بسبب ذكر الله تعالى والغفلة عنه، فلما غفلوا عن ذكر الله تعالى.
والمعنيان متقاربان لكن في قول من قال : من بمعنى عن، ومن قال من هنا للسببية وهي على بابها.
{فَوَيلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكرِ اللَّهِأُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}،وهذا القسم الأول الذي ذكره الله تعالى من أقسام القلوب في هاتين الآيتين.
القسم الثاني: هم الذين لانت قلوبهم وزكت، وانظر إلى أعظم ما تزكى به القلوب وهو القرآن الحكيم، {اللَّهُ نَزَّلَ أَحسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقشَعِرُّ مِنهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخشَوْنَ رَبَّهُمْ}، واقشعرار الجلود لا يمكن أن يكون مع غفلة القلوب، فهذا بيان لآخر ما يكون من مدى التأثير، وهو ما يكون على جلودهم التي تتغير لتحرك قلوبهم لما سمعوه من ذكر الله جل وعلا .
يقول الله جل وعلا :{ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكرِ اللَّهِ}.
يقول رحمه الله :"ولين القلوبهو زوال قساوتها لحدوث الخشوع فيها والرقة".
قال رحمه الله :"وقد قبَّح الله من لا يخشع قلبه بسماع كتابه وتدبره، قال تعالى :{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}([10]).
قال ابن مسعود رضي الله عنه ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين"، خرَّجه مسلم وخرَّجه غيره([11])، وزاد فيه فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضاً.
وخرَّج ابن ماجه من حديث ابن الزبير رضي الله عنه قال: لم يكن بين إسلامهم وبين أن نزلت هذه الآية يعاتبهم الله بهذا إلا أربع سنين"([12]).
وقد سمع كثير من الصالحين هذه الآية تتلى فأثرت فيهم آثاراً متعددة ، فمنهم من مات عند ذلك لانصداع قلبه بها.
ومنهم من تاب عند ذلك وخرج عما كان فيه.
وقد ذكرنا أخبارهم في كتاب "الاستغناء بالقرآن".
قوله تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ }، يعني ألم يحن ، ألم يأتي الوقت الآن الذي تخشع قلوبهم، وخشوع قلوبهم هو ذلها ، وانكسارها وإخباتها للرب جل وعلا ، ولذلك قال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}، أي لأجل ذكر الله {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}، الذي يثمر هذا الخشوع، فأعظم ما تلين به القلوب وتطيب هو الإكثار من ذكر الله تعالى والإقبال على القرآن تلاوة وتدبر وتفهم.
الله تعالى يقول: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا}([13]).
هذا القرآن إنما أنزل لتثبيت القلوب وتزكيتها وإصلاحها وتطييبها.
والذكر من أعظم ما تطيب به القلوب كما قال الله تعالى {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}([14]).
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في "الصحيح" من حديث أبي هريرة «...سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ »، قَالُوا وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:«الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًاوَالذَّاكِرَاتُ »([15]).
ولهذا الذكر - يا إخواني - بالقلوب كالقوت، كالطعام والشراب للأبدان.
البدن الذي لا يأكل ولا يشرب، لو صمت اليوم مثلاً وجدت أنه في آخر النهار لاسيما إذا طال النهار واشتد الحر تجد كسلاً وتعباً تشفق على شيء من الماء أو شيء من الطعام ليتقوى بدنك، ثم إذا شربت الماء انتعش بدنك، ابتلت العروق وذهب الظمأ، وثبت الأجر إن شاء الله.
فهذا ما يكون تأثيره على الأبدان، تأثير الذكر على القلوب أعظم بكثير من تأثير الطعام على الأبدان .
فالقلب الذي يتغذى بذكر الله تعالى ويقتات بالأنس به جل وعلا ذكراً بالقلب، وذكرا باللسان، وذكراً بالجوارح، يطيب ويقوى ويصبح من أقوى القلوب ثباتاً عند الفتن وعند البلايا والرزايا.
ولهذا ينبغي للمؤمن أن يعتني بالذكر وأن يكون للذكر تأثير على القلب.
وأعظم الذكر كلام الله، القرآن الكريم العظيم الذي جعله الله تعالى شفاء لما في الصدور.
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}، ثم قال :"وقد سمع كثير من الصالحين هذه الآية تتلى فأثرت فيهم آثاراً متعددة، فمنهم من مات عند ذلك لانصداع قلبه بها"، وهذا يحصل ، لكن أيهما أكمل حالاً، حال الذين يتأثرون ويعملون، أو الذين يموتون؟ لأن بعض الناس يقول : هذه ما حصلت في الصحابة، من الصحابة من سمع هذه الآيات، فالصحابة نزلت هذه الآيات تعاتبهم ولم يذكر أن أحداً منهم مات.
الصحابة أقوى قلوباً ممن بعدهم، ولهذا الذي يسمع آية فيموت، أو الذي يسمع آية فيغشى عليه، ليست حاله أكمل من أولئك الصحابة الكرام الذين سمعوا الآيات وانتفعوا بها دون أن تؤثر فيهم غشياناً أو موتاً.
لكن الشيخ يذكر الأحوال وأن من الناس من يبلغ به الأثر إلى هذه الدرجة.
"ومنهم من تاب عند ذلك وخرج عما كان فيه"، كالفضيل بن عياض، الزاهد العابد العالم العارف الجليل الذي له من القدر ما هو معروف رحمه الله، فإن توبته كانت ببركة سماع هذه الآية {أَلَمْيَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}، فانخلع مما هو فيه من غفلة وغي.
نسأل الله أن يحيي قلوبنا وأن يصلح أعمالنا وأن يرزقنا ذكره وشكره وأن يمن علينا بحسن عبادته.