بعد ذلك قال ابن رجب رحمه الله :"ومما اختاره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقام العبودية على مقام الملك، وقام بين يديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل يوم الفتح فارتعد، فقال:«هَوِّنْ عَلَيْكَ ، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ - من قريش- كانت تَأْكُلُ الْقَدِيدَ»([1]).
وقد صح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:«لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُه»([2]).
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، قَالَ: وَلاَ أَعْلَمُهُ إِلاَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَلَسَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ ، فَإِذَا مَلَكٌ يَنْزِلُ ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا نَزَلَ مُنْذُ يَوْمِ خُلِقَ، قَبْلَ السَّاعَةِ، فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ: أَفَمَلِكًا نَبِيًّا يَجْعَلُكَ ، أَوْ عَبْدًا رَسُولاً ؟ قَالَ جِبْرِيلُ : تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ . قَالَ :« بَلْ عَبْدًا رَسُولاً»([3]).
ومن مراسيل يحيى بن أبي كثير رحمه الله تعالى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال :« آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد، فإنما أنا عبد»، خرَّجه ابن سعد في "طبقاته"، وخرَّجه أيضاً من رواية أبي معشر عن المقبري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أتاني ملك فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت نبياً ملكاً، وإن شئت عبداً رسولاً، فأشار عليَّ جبريل عليه السلام أن ضع نفسك قال فقلت :« نبياً عبداً» قالت: فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد ذلك لا يأكل متكئاً يقول : «آكل كما يأكل العبدُ، وأجلس كما يجلس العبد»([4]).
ومن مراسيل الزهري رحمه الله تعالى قال: بلغنا أنه أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ملك لم يأته قبلها ومعه جبريل عليه السلام، فقال الملك وجبريل عليه السلام صامت : فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ جَلَّ يُخَيِّرُكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا، أَوْ نَبِيًّا مَلِكًا، فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جِبْرِيلَ عليه السلام كَالْمُسْتَشِيرِ، فَأَشار إِلَيْهِ أَنْ تَوَاضَعْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ نَبِيًّا عَبْدًا»، قال الزهري فزعموا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأكل متكئاً حتى فارق الدنيا([5]).
وفي "المسند" وكتاب الترمذي، عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:« عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا قلت لا يا رب ولكن أشبع يوماً وأجوع يوما وقال ثلاثاً أو نحو هذا فإذا جعت ضرعت إليك وذكرتك وإذا شبعت شكرتك وحمدتك»([6]).
يقول المؤلف رحمه الله في هذا الفصل :" ومما اختاره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقام العبودية على مقام الملك"، فهذان مقامان هما في الحقيقة مما جرى للأنبياء، فمن الأنبياء من كان نبياً ملكاً، ومنهم من كان نبياً عبداً، أي لا ملك له، وجميع أولو العزم من الرسل لم يكونوا ملوكاً ،بل كانوا رسلاً عبيداً لله تعالى، فتحققت فيهم العبودية، وكانت هي الغالبة مع أنه جرى لهم من التصريف لشؤون الناس ما هو من شأن الملوك من حيث الأمر والنهي، ولكن ذلك لم يكن بمقتضى الملك إنما كان ذلك بمقتضى الرسالة.
فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو إمام الأمة فلم يكن أحد يأمر ولا ينهى ولا يجيش الجيوش ولا يرسل البعوث إلا هو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد كان قائماً بما تقوم به الملوك، فالملك غرضه أمران: حراسة الدين، وسياسة الدنيا، وهذا ما قام به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
لكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام بذلك على وجه التعبد والرسالة، وليستبين لك الفرق بين الملك النبي، والرسول العبد قارن بين سليمان عليه السلام وبين غيره من الأنبياء الذين كانوا عبيداً رسلاً مع ما أتاهم الله تعالى من التصريف والحكم بين الناس، فسليمان أتاه الله تعالى ملكاً لم يأته إلى أحد قبله، ويوسف عليه السلام أتاه الله تعالى ملكاً وكان ملكاً نبياً.
وهكذا أمثالهم من الأنبياء الذين كانوا ملوكاً، أي كانوا يتصرفون بمقتضى الملك مع النبوة.
لكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان تصرفه بمقتضى الرسالة وليس بمقتضى الملك.
ولهذا مات صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكانت درعه مرهونة عن يهودي ولا يمكن هذا أن يكون من شأن الملوك .
فالملوك لا يرهنون أسلحتهم ليغذوا أنفسهم ويقوتوا أهل بيوتهم.
في "الصحيح" من حديث عائشة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مات ودرعه مرهونة عند يهودي في شيء من الشعير، أو الطعام، الذي كان له ولأهل بيته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ([7]).
فدل هذا على أنه لم يكن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ملكاً، بل كان عبداً رسولاً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وهذا أكمل ما يكون من أوصاف النبي، أكمل ما يثنى به على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأوصاف أنه عبد رسول.
ولهذا وصف الله تعالى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعبودية في أشرف مقاماته، وانتبه لهذه الملاحظة في وصف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعبودية في أعلى مقاماته {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى}([8])، وهذا أعلى مقامات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث بلغ مبلغاً ومكاناً لم يبلغه أحد من الخلق، حتى جبريل تأخر، فبلغ مبلغ سمع فيه صريف الأقلام، وكلمه رب الأرض والسماء جل في علاه.
وفي مقام الدعوة قال تعالى:{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا}([9]).
وهذا مقام شريف وهو مقام الدعوة والرسالة والنذارة والبشارة وصفه الله تعالى بالعبودية.
وثالث أشرف مقامات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنزال القرآن كما قال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}([10]).
فوصفه بالعبودية في مقام الوحي، وهذا يدل على أن أكمل الصفات هي صفة العبودية.
ومما امتاز به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صفة الرسالة، فهو رسول الله { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}([11]).
{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}([12])، والآيات في هذا كثيرة.
ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في "الصحيح" من حديث ابن عمر:« لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ»([13]).
لاَ تُطْرُونِي: أي لا تتوسعوا في الثناء عليَّ،« لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُه»، وهذا بعض الناس يقول:" إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاله على وجه التواضع"، وهذا ليس بصحيح.
النبي أكمل المتواضعين، ولكن هذا مقام بيان وإيضاح، ولو كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوصف بأكمل من هذا الوصف لذكره.
ولذلك في "الصحيح" أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:«أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ولا فخر»([14]).
فلما كان المقام مقام بيان المنزلة والعلو على جميع الخلق لم يتواضع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل بيَّن منزلته في هذا اليوم فقال:«أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ولا فخر».
ولذلك لا يسوغ أن يقال: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما اقتصر على هذين الوصفين دون غيرهما لأجل التواضع ، النبي أكمل المتواضعين، لم يأت أحد في التواضع كالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وحتى تعرف التواضع،يعني نحن نقول :"فلان متواضع، وفلان متواضع"، ونصدق في هذا الوصف، لكن لما تعرف رفيع مقام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعظيم منزلته عند رب العالمين ثم مع هذا كيف كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تأخذ الجارية بيده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتستوقفه ويأتي الأعرابي فيشد ردائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يؤثر في عاتقه ثم يقابلهم بالتبسم تعرف أن هذا هو التواضع الحقيقي، وكل من مدح بالتواضع فتواضعه قطرة في بحر تواضع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لأن أحداً من الخلق لم يبلغ ما بلغه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المكانة..واحد.
ولم يبلغ ما بلغه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التواضع في الخلق.
ففرق بين الأمرين.
على كل حال: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيَّن حاله الذي منَّ الله تعالى عليه به، وهو أنه اختار مقام العبودية والرسالة.
يقول :"وقام بين يديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل يوم الفتح فارتعد"، أي خاف من هذا الموقف، الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدخل بجحافل من الناس جاءوا من أقطار الجزيرة، وهي عشرة آلاف مقاتل، يدخل ظافراً منتصراً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقام بين يديه رجل فارتعد في حين الذي ينظر إلى كيفية دخول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يظهر له حقيقة التواضع، النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل أولاً وهو يقرأ القرآن.
دخل وذقنه تمس رحله تواضعاً لله تعالى.
دخل وقال للناس : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لي ولكم.
دخل معظماً الكعبة، فلما سمع سعد بن عبادة يقول : "الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْكَعْبَةُ"، عزله، وقال :"هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ"، مع أنه منتصر وخصمه منهم، خصمه هم الذين أخرجوه طريداً قبل ثمان سنوات لا يلوي على شيء، طلبوه حياً أو ميتاً، ومع هذا دخل بهذا الذل لله عز وجل والتواضع.
ولما دخل ما أقام الحفلات والابتهاجات، بل دخل وأول ما بدأ طاف بالبيت صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وأسقط ما كان من الأصنام، وكان يتلو قول الله جل وعلا { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}([15]).
ثم لما دخل البيت فُتح له باب الكعبة ودخل وطلب ماء بخرقة فمسح صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كان في جدران الكعبة من تصاوير، وكبَّر فيها وهلَّل، "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، أنجز وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده"، فضل وإنعام وإجلال ليس له نظير.
هذا ما كان عليه حال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ولهذا لما جاء هذا الرجل قال :"هَوِّنْ عَلَيْكَ ، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ كانت تَأْكُلُ الْقَدِيدَ"، تعرفون ما هو القديد؟ اللحم الذي قطع شرائح وجفف ومُلِّح.
يعني لحم من أردى ما يكون من أنواع اللحم، فأنا لست ملكاً آكل من أفره ما يكون حتى تخاف.
وذكر المؤلف رحمه الله جملة من الآثار والأحاديث التي تصدق اختيار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقام النبوة على مقام الملك.
وهذه الأحاديث جاءت من طرق، من أهل العلم من صححها ومن أهل العلم من ضعفها، وتعدد طرقها يدل على صحة هذا الخبر، وقد أشار الهيثمي رحمه الله إلى أن رجاله رجال الصحيح، حديث أبي هريرة، وكذلك من المعاصرين الشيخ أحمد شاكر، وكذلك الألباني، وجماعة من أهل العلم صححوا هذا الحديث، خبر مجيء ملك إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتخييره بين أن يكون عبداً رسولاً وبين أن يكون ملكاً نبياً.
هذا ما يتصل بما ذكره المؤلف من الآثار .
بعد هذا يقول المؤلف رحمه الله:"قال بعض العارفين: من ادَّعى عبودية وله مراد باق فيه فهو كاذب في دعواه؛ إنما تصح العبودية لمن أفنى مراداته، وقام بمراد سيده فيكون اسمه ما سُمي به، ونعته ما حُلي به، إذا دعي باسمه أجاب عن العبودية فلا اسم له ولا رسم ، ولا يجيب إلا لمن يدعوه بعبودية سيده وأنشد يقول :
يا عمرو سريع عند زهراء*** يعرفه السامع والرائي.
لا تدعني إلا بيا عبدها*** فإنه أصدق أسمائي "
يقول المصنف رحمه الله :"قال بعض العارفين"، يريد بالعارفين هنا من له علم بأحوال القلوب، فهذا الاسم يطلق على علماء القلوب.
وبعضهم يقول: العارفين بالله ، فالمقصود بالعارفين العارفين بالله، وإنما يكون الإنسان عارفاً بالله إذا كمل علمه، وزكى قلبه بهذا العلم.
"من ادَّعى عبودية وله مراد باق فيه فهو كاذب في دعواه"، من ادَّعى العبودية لشيء وله حظ شخصي وميل ذاتي إلى شيء غير معبوده فهو كاذب في دعواه، ولذلك يقول :"إنما تصح العبودية لمن أفنى مراداته، وقام بمراد سيده"، يعني لم يكن له من عمله حظ ولا نصيب، بل حظه ونصيبه في تحقيق رضا مولاه سيده.
هذه العبودية خالصة، وهذا ما يشير إليه قول الله جل وعلا { قلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}([16]).
وهذا يدل على كمال التعبد، وكمال الخلوص من كل ميل أو رغبة أو حظ نفسي، وهذا ما دعا به عمر رضي الله عنه في المأثور عنه :" اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لك خالصاً، ولا تجعل فيه لأحد نصيباً".
وهذا الدعاء مأثور عن عمر رضي الله عنه، وهو من أجمع الدعاء في تحقيق أسباب القبول للعمل، فإنما العمل يكون مقبولاً إذا تمَّ فيه وصفان : الإخلاص والمتابعة.
"اللهم اجعل عملي كله صالحاً"، ولا يكون العمل صالحاً إلا ما كان متبعاً للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
" واجعله لك خالصاً"، لا تجعل فيه ميلاً لكذا أو لكذا.
" ولا تجعل فيه لأحد نصيباً"، حتى لنفسه، يدخل في لفظ "لأحد" حظ نفسه.
يقول رحمه الله :"إنما تصح العبودية"، أي يصح هذا الوصف ويكمل،" لمن أفنى مراداته، وقام بمراد سيده فيكون اسمه ما سُمي به، ونعته ما حلي به".
يعني ما حلي به من قصد، وما سمي به من غاية.
يقول :"إذا دعي باسمه أجاب عن العبودية فلا اسم له ولا رسم"، يعني لا حظ ولا نصيب، "ولا يجيب إلا لمن يدعوه بعبودية سيده"، يعني لا يجيب إذا دعي بسيد ، يا عظيم، يا كبير، إنما إذا قيل له "يا عبد الله" فذَّ قلبه وعلم أنه المقصود.
وإذا كان هذا المعنى وهو خلوص الإنسان من كل غرض، وأنه لا يفطن ولا يستحضر إلا أنه عبد لله تعالى، إذا كان هذا المعنى وهو الانهماك في عبودية المحبوب يقع من بعض العشاق فيمن عشقوا، فكيف بعبودية الله تعالى الذي تألهه القلوب فطرة، وتنجذب إليه القلوب ضرورة،
فالقلب مضطر إلى محبوبه الأعلى*** فلا يغنيه عنه حب ثانِ([17]).
ما في حب مهما كان هذا الحب يغني عن محبة الله جل وعلا، القلب مضطر إلى محبة الله.
يمثِّل يقول ، هذا مفتون يقول :"يا عمرو سريع عند دهري*** يعرفه السامع والرائي".
ثم قال:" لا تدعني"، يذكر عن محبوبته، يقول :"لا تدعني إلا بيا عبدها"، يعني عبد هذه المحبوبة، ثم يقول :"فإنه أصدق أسمائي"، يعني هذا الاسم الذي لا أقبل سواه لأنه يعبر عما في قلبه من التعلق بها، وهذا - نعوذ بالله من الحرمان- إذا كان هذا يقع من العشاق، فكيف بالله تعالى الذي ذكرت أن محبته فطرت القلوب عليها.
قال رحمه الله :"روى الحافظ أبو نعيم رحمه الله تعالى في كتاب " أسماء الصحابة" من طريق الشيخ أبي سليمان الداراني رحمه الله تعالى، حدثني علقمة بن الحارث الأزدي عن أبيه عن جده، يذكر وينقل عن لقمان الحكيم، أنه قال لابنه : جمعت لك حكمتي في ست كلمات، اعمل للدنيا بمقدار بقائك فيها، واعمل للآخرة بمقدار بقائك فيها، واعمل من المعصية بمقدار بقائك فيها، واعمل لله بمقدار حاجتك إليه، واعمل من المعصية بمقدار ما تطيق من العقوبة، ولا تسأل إلا من لا يحتاج إلى أحد، وإذا أردت أن تعصي الله فاعصه في مكان لا يراك فيه".
قال إبراهيم الخواص رحمه الله تعالى:"دواء القلوب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء الباطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين".
وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى في موعظته حين سألوه عن قوله تعالى {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}([18])، وإنا ندعوه ولم يستجب لنا، فقال لهم : عرفتم الله فلم تطيعوه، وقرأتهم القرآن ولم تعملوا به، وعرفتم الشيطان فوافقتموه، وادعيتم حب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتركتم سنته، وادعيتم حب الجنة ولم تعملوا لها، وادعيتم خوف النار ولم تنتهوا عن الذنوب، وقلتم إن الموت حق ولم تستعدوا له، واشتغلتم بعيوب غيركم ولم تنظروا إلى عيوبكم، وتأكلون رزق الله ولا تشكرون، وتدفنون أمواتكم ولا تعتبرون.
فنسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يرضيه عنا برحمته وخير ، آمين، إنه أرحم الراحمين، رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين".
هذا المقطع الأخير في الحقيقة يظهر أنه ملحق بالرسالة ولعله إما نقص في بعض النسخ أو أنه من الحواشي التي حشي بها أصل الرسالة، وفي كلام الداراني الذي نقله عن علقمة بن الحارث عن أبيه عن جده، في كلام لقمان .
لقمان اختلف هل هو نبي أو لا، والصحيح أنه ليس من الأنبياء، إنما هو رجل أتاه الله تعالى حكمة وعلماً وبصيرة وملكاً فكان على كمال في كلماته، حتى إن الله تعالى ذكر ذلك في سورة وسماها باسمه، في سورة لقمان.
يقول رحمه الله في وصيته لابنه :"جمعت لك حكمتي في ست كلمات"، ولو تسمع هذا من بعض المعاصرين أو المجربين لفرحت به، فكيف برجل نقل الله تعالى بعض كلماته في كتابه، ولا شك أن هذا مما يحتفى به ويفرح.
يقول :" اعمل للدنيا بمقدار بقائك فيها"، صحيح بقاؤنا في الدنيا قصير، يقول الله تعالى{ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا}([19])، قصير إلى الغاية.
وفي الآية الأخرى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ}([20]) هذا يدل على أن المدة قصيرة للغاية.
" اعمل للدنيا بمقدار بقائك فيها ، واعمل للآخرة بمقدار بقائك فيها"، وشتان بين البقائين، ولذلك الله تعالى يقول في ما أمر به المؤمنين :{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} هي الأصل {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}([21]).
يقول :" واعمل لله بمقدار حاجتك إليه"، هل في العباد من هو غني عن الله؟ لا، وأنت مرة كنت صلي جنب أحد الإخوان وكان كثير الحركة في الصلاة، وكان على باب الاختبارات، فلما انتهينا من الصلاة التفت إليه وقلت : يا ولدي لو أنك الآن لك حاجة عند أحد تريد أن يقضي حاجتك ، كيف تتعامل معه؟ هل تحسن الاتصال به والعلاقة به؟ قال :أي والله، اعطني بسرعة، أيش تبغي ؟ لا تطول عليَّ بالأمثلة،قلت: يا أخي أنت الآن علي أبواب الاختبارات وترجو أن الله يوفقك، أما تحسن الوقوف بين يديه، قال :بلى.
وهذا الذي ينبغي أن نستحضره أننا في حاجة ماسة إلى رب العالمين، ليس بنا غنى عنه جل وعلا.
فإذا كنا مضطرين إليه أيسوغ أن نعصيه وأن نسيء الصلة به جل وعلا؟ ما يسوغ هذا.
ولهذا يقول لقمان رحمه الله :" واعمل لله بمقدار حاجتك إليه"، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}.
يقول :"واعمل من المعصية بمقدار ما تطيق من العقوبة"، ومن أراد أن يجرب يشعل عود كبريت ويضع أصبعه وينظر هل له قوة وقدرة على التحمل؟ ما له قوة ولا قدرة مباشرة يبعد يده، وهذه نار الدنيا التي ليس بينها وبين الآخرة مقارنة في الشدة وعظم الأذى.
يقول بعد ذلك:"ولا تسأل إلا من لا يحتاج إلى أحد"، لا تسأل إلا الله جل وعلا، وأما من يحتاج إلى أحد فذاك فقير لا يتمكن من قضاء حاجته.
قال :"فإذا أردت أن تعصي الله فاعصه في مكان لا يراك فيه"، أين؟ ليس هناك مكان لا يراك الله فيه، وإذا كان كذلك فالزم طاعته لئلا يراك في معصيته جل وعلا.
ثم ذكر عن إبراهيم الخواص " دواء القلوب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر"، أسألكم - يا إخواني - ما هو التدبر؟ التدبر هو التفكر والتأمل في المعاني، هذا معنى التدبر، التأمل والتفكر، فتدبر القرآن التفكر والتأمل في معانيه.
وكيف يحصل التدبر والتأمل في القرآن؟ إنما يحصل ذلك لمن أدرك المعنى، لابد الخطوة الأولى، أولى الخطوات للحصول على التدبر فهم المعنى، إذا فهمت المعنى عند ذلك ينفتح لك باب التأمل والفكر والنظر.
ثم قال :" وخلاء الباطن"، المقصود به عدم الشبع ، " وقيام الليل، والتضرع عند السحر"،{وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}([22])،
قال :"ومجالسة الصالحين"، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم.
ثم ذكر عن إبراهيم بن أدهم يقول :"في موعظته حين سألوه عن قوله تعالى {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، وإنا ندعوه ولم يستجب لنا"، يقول رحمه الله :"عرفتم الله فلم تطيعوه، وقرأتهم القرآن ولم تعملوا به، وعرفتم الشيطان فوافقتموه، وادعيتم حب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتركتم سنته، وادعيتم حب الجنة ولم تعملوا لها"، كل هذا يجمعه معنى واحد، ما هو المعنى الذي يشير إليه إبراهيم؟ أنهم لم يستجيبوا لله، الله تعالى يقول : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، فلما تركوا الاستجابة لله وتحقيق الدعاء الحقيقي وهو دعاء العبادة والاستجابة، فالله تعالى لم يستجب لهم.
ولذلك يقول الله تعال :{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}([23])، أي يدركون الرشد والفلاح.
ومراد إبراهيم أنه قد قام فيهم من موانع إجابة الدعاء ما حال دون إجابة الله دعاءهم.
ثم ختم الرسالة بسؤال الله تعالى فقال :" فنسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يرضيه عنا برحمته وخير ، آمين، إنه أرحم الراحمين