بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
قال الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى في رسالة "ورثة الأنبياء شرح حديث أبي الدرداء".
" خرَّج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة في كتبهم أنَّ رَجُلاً قَدِمَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى أَبِى الدَّرْدَاءِ وَهُوَ بِدِمَشْقَ فَقَالَ مَا أَقْدَمَكَ يَا أَخِي، فَقَالَ حَدِيثٌ بَلَغَني أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ أَمَا جِئْتَ لِحَاجَةٍ؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: أَمَا قَدِمْتَ لِتِجَارَةٍ؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: مَا جِئْتَ إِلاَّ في طَلَبِ هَذَا الْحَدِيثِ، قال: نعم، قَالَ فَإِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلتمس فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ ليلة البدر عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا، وإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» أخرجه أحمد في "المسند" (5/196)، وأبو داود (3641)، والترمذي(2898)، وابن ماجة (223)..
وكان السلف الصالح رضي الله عنهم لقوة رغبتهم في العلم والدين والخير يرتحل أحدهم إلى بلد بعيد لطلب حديث واحد يبلغه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
الحمد لله رب العالمين أحمده سبحانه لا أحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فهذا هو المجلس الأول في قراءة هذه الرسالة التي ألفها الإمام العلامة الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، وهو من العلماء المتفننين، أي الذين كتبوا في فنون متعددة ، فله في الحديث مؤلفات، وله في الفقه مؤلفات، وله في مصطلح الحديث مؤلفات، وله رسائل متفرقة تدل على عمق علمه وغزارة فقهه وأنه رحمه الله على درجة كبيرة من العلم فنسأل الله تعالى أن يغفر له وأن يرحمه وأن ينفعنا بهذه الرسالة المباركة.
هذه الرسالة أيها الإخوان افتتحها المؤلف بالبسملة والحمدلة كما هو الشأن في أكثر المؤلفات.
وابتدأها بذكر حديث هو موضوع هذه الرسالة، فهذه الرسالة موضوعها بيان وشرح وتفصيل هذا الحديث العظيم الذي رواه أبو الدرداء.
قال المصنف رحمه الله :"خرَّج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه في كتبهم أنَّ رَجُلاً"، ولم يذكر إسناد الحديث اختصارا واقتصاراً، وإلا فالحديث عند هؤلاء الأئمة من طرق عن عاصم بن رجاء بن حيوة، عن داود بن جميل، عن كثير بن قيس، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، فهذا هو إسناد هذا الحديث عند هؤلاء.
فهو من طرق عن عاصم بن رجاء بن حيوة، عن داود بن جميل، عن كثير بن قيس.
وهذا الإسناد تكلم فيه جمع من الأئمة منهم الإمام الترمذي رحمه الله فإنه بيَّن ضعف هذا الحديث، وقد ضعفه الدارقطني رحمه الله فقال عن إسناد هذا الحديث :" لا يصح".
إلا أن هذا الحديث جاء له من المتابعات والشواهد ما يتقوى به، ولذلك لما ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري" ، في "باب العلم قبل القول والعمل"، ذكر في شرح هذه الترجمة وهذا الحديث فقال :" له شواهد يتقوى بها".
فالحديث في إسناده ضعف من قبل داود بن جميل، وكثير بن قيس، فهما مجهولان، وحال كثير أقوى من حال داود وإن كان جميعاً مجاهيل، ولقد قال عن هذا الحديث الدارقطني لما ذكر داود بن جميل قال : "هو ومن فوقه إلى أبي الدرداء ضعفاء".
على كلٍ الحديث من حيث الإسناد الذي سيق به حديث ضعيف، لكنه ينجبر بما جاء من المتابعات والشواهد التي تدل على ثبوته فهي تشهد لجملة ما في هذا الحديث أو لبعضه.
المؤلف رحمه الله ساق هذا الحديث وفيه قصة الرجل الذي رحل لطلب العلم وما دار بينه وبين أبي الدرداء من المسائلة في سبب وباعث السفر.
"أنَّ رَجُلاً قَدِمَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى أَبِى الدَّرْدَاءِ وَهُوَ بِدِمَشْقَ فَقَالَ: مَا أَقْدَمَكَ يَا أَخِي، فَقَالَ حَدِيثٌ بَلَغَني أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ أَمَا جِئْتَ لِحَاجَةٍ؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: أَمَا قَدِمْتَ لِتِجَارَةٍ؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: مَا جِئْتَ إِلاَّ في طَلَبِ هَذَا الْحَدِيثِ، قال : نعم"، بعد لك زفَّ إليه هذه البشرة.
وهذا فيه من أدب التعامل مع من صح عمله وصلح طريقه ما يُدخل به السرور على أخيه المسلم، فإنه لا شك أن هذا من البشائر التي تزف إلى الإنسان إذا كان قد خرج لأجل تحصيل هذا المقص فذكر له من البشارة ما تضمنه هذا الحديث.
وأوله :«مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِى فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ».
ثم ذكر البشارة الثانية «وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ».
والثالثة « وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ».
ثم الرابعة «وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ ليلة البدر عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ ».
والخامسة «وإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا، وإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ».
بعد هذا تكلم المؤلف رحمه الله فيما يأتي قبل الدخول في شرح الحديث وبيانه عن فضل الرحلة في طلب العلم وأنتم - يا إخواني - قد جئتم من بلاد شتَّى وجهات متعددة لطلب العلم في هذه الدروس الصيفية، ولا شك أن هذا يدخل فيما ذكره أبو الدرداء رضي الله عنه، وما سلكه أهل العلم من الرحلة في طلب العلم.
ولقد قال المؤلف رحمه الله في بيان أن هذا المسلك لم ينفرد به هذا الرجل، يقول رحمه الله: "وكان السلف الصالح رضي الله عنهم لقوة رغبتهم في العلم والدين والخير يرتحل أحدهم إلى بلد بعيد لطلب حديث واحد يبلغه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، فصح منهم العزم، وتم منهم القصد، فبالغوا في تحصيل مراداتهم ، ولا شك أن من امتلأ قلبه بحب شيء أعمل بدنه وكدَّ جسمه في تحصيل ذلك الشيء .
والعلم لا يحصل براحة البدن، من ظنَّ أنه يبلغ من العلم مبلغاً يكون محموداً مع راحة في بدنه واتساعه في رغباته فإنه أخطأ السبيل ولم يصب غايته وغرضه.
العلم لا يحصل إلا بالجهد والجد والاجتهاد الذي يترافق ويسبقه فضل الله تعالى، ففضل الله تعالى سابق لاحق، فلا يمكن أن يدرك العلم بمجرد الجهد الذاتي، لكن الجهد هو سبب يدرك به الإنسان فضل الله ورحمته.
نقل ابن القيم بيتين جيدين في بيان المعنى الذي نشير إليه من أنه لابد من الجهد مع استحضار فضل الله تعالى وسؤاله جل وعلا يقول :
وتلك مواهب الرحمن ليست *** تحصل باجتهاد أو بكسب.
" تلك" أي العلوم، والدرجات العليا فيه، " ليست تحصل باجتهاد أو بكسب"، إنما هي مواهب.
يقول :"
وتلك مواهب الرحمن ليست *** تحصل باجتهاد أو بكسب.
ولكن لا غنى عن بذل جهدِ *** بإخلاص وجد لا بلعب "مدارج السالكين" (2/508)..
والله سبحانه وتعالى إذا علم من العبد صدق الرغبة ذلل له الأمر، ويسر له السبيل، وسيأتي في كلام المؤلف رحمه الله ما يشهد لهذا المعنى، من أنه من صح في رغبته وصدق في نيته، وبذل جهده فلابد أن يدرك الغاية، فإن الله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد، ولقد {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} سورة القمر:17..
يقول رحمه الله :"وقد رحل أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه من المدينة إلى مصر للقاء رجل من الصحابة بلغه عن حديث يحدثه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وكذلك فعل جابر بن عبد الله الأنصاري مع كثرة ما سمع من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الحديث وروى.
وكان أحدهم يرحل إلى من هو دونه في الفضل والعلم لطلب شيء من العلم لا يجده عنده.
ويكفي في هذا المعنى ما قصَّه الله علينا من قصة موسى عليه السلام ، وارتحاله مع فتاه ، فلو استغنى أحد عن الرحلة في طلب لاستغنى عنها موسى عليه السلام حيث كان الله قد كلمه وأعطاه التوراة التي كتب له فيها من كل شيء، ومع هذا فلما أخبره الله عز وجل عن الخضر أن عنده علماً يختص به سأل السبيل إلى لقاءه، ثم سار هو وفتاه إليه كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} سورة الكهف:60.، يعني سنين عديدة.
ثم أخبر أنه لما لقيه قال له:{هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} سورة الكهف:66.، وكان من أمرهما ما قصَّه الله في كتابه.
ومن حديث أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قصة موسى والخضر مخرَّج في "الصحيحين" وهو مشهور.
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول:"والذي لا إله إلا هو ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيما أنزلت، ولو أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه".
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه :"لو أعيتني آية من كتاب الله فلم أجد أحداً يفتحها علي إلا رجلاً ببرك الغماد لرحلت إليه".
وبرك الغماد أقصى اليمن .
وخرج مسروق من الكوفة إلى البصرة لرجل يسأله عن آية من كتاب الله فلم يجد عنده فيها علم فأُخبر عن رجل من أهل الشام، فرجع إلى الكوفة ثم خرج إلى الشام إلى ذلك الرجل في طلبها.
ورحل رجل من الكوفة إلى الشام إلى أبي الدرداء رضي الله عنه يستفتيه في يمين حلفها.
ورحل سعيد بن جبير رحمه الله من الكوفة إلى ابن عباس رضي الله عنه بمكة يسأله عن تفسير آية.
ورحل الحسن رضي الله عنه إلى الكوفة إلى كعب بن عجرة يسأله عن قصته في فدية الأذى.
واستقصاء هذا الباب يطول".
يقول المؤلف رحمه الله:"وكان السلف الصالح لقوة رغبتهم في العلم والدين والخير يرتحل أحدهم إلى بلد بعيد لطلب حديث واحد يبلغه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، ثم ذكر لذلك نماذج تصدق هذا فقال رحمه الله :" ولقد رحل أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه من المدينة إلى مصر للقاء رجل من الصحابة بلغه عنه حديث يحدثه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وكذلك فعل جابر بن عبد الله الأنصاري مع كثرة ما سمع من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
يقول رحمه الله :" وكان أحدهم يرحل إلى من هو دونه"، وهذا فيه التنبيه إلى أن الرحلة لا يشترط فيها أن تكون لمن هو أعلى بل قد تكون الرحلة لمن هو أدنى ، ما دام عنده علم يفوقك ويزيد على علمك ولو كان ذلك في جانب من جوانب العلم فإن الرحلة إليه مشروعة كان عليها عمل السلف.
" وكان أحدهم يرحل إلى من هو دونه في الفضل والعلم لطلب شيء من العلم لا يجده عنده"، ثم ذكر في تصديق هذا ما كان من موسى عليه السلام.
فذِكر قصة موسى وما وراءه إنما هي في بيان حال أقوام بلغوا من العلم مبلغاً عظيماً فلم يستنكفوا عن الرحلة، ولم يستكبروا عليها بل رحلوا في تحصيل العلوم لما بلغهم علم ليس عندهم.
يقول :" ويكفي في هذا المعنى"، المعنى المشار إليه أيش؟ " الرحلة إلى من هو دونه في الفضل والعلم لطلب شيء من العلم لا يجده عنده "، " ويكفي في هذا المعنى ما قصَّه الله علينا من قصة موسى عليه السلام ، وارتحاله مع فتاه"، يقول :" فلو استغنى أحد عن الرحلة في طلب لاستغنى عنها موسى"، لماذا ؟ قال :" حيث كان الله قد كلمه وأعطاه التوراة التي كتب فيها من كل شيء"، وأيُّ علو بعد هذا العلو، وأيُّ استغناء بعد هذا الغناء، وهو أن يكلمه رب العالمين الذي أحاط بكل شيء علماً.
وبعد أن أعطاه الكتاب الذي كتبه جل وعلا له وجعل فيه من كل شيء ما يحصل به البيان، لكن موسى عليه السلام لما أخبره الله تعالى عن حال عبد عنده من العلم ما ليس عند موسى ارتحل في طلب ذلك العلم، فلما أخبره عز وجل عن الخضر وهو من الصالحين واختلف فيه هل هو نبي أو لا ، وأصدق الأقوال أنه من عباد الله الصالحين وليس نبياً.
" أن عنده علماً يختص به"، عن موسى "سأل السبيل إلى لقاءه ، ثم سار هو وفتاه إليه كما قال تعالى"، وتصور نبي من الأنبياء بل من أولي العزم من الرسل يخرج في طلب العلم لعلم بلغه عند شخص وليس عنده من ذلك العلم شيء.
يقول الله تعالى :"{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ}"، وهو مكان{أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}، أي أمضي في تحصيل مقصودي سنيناً، وهذا يبين لنا أن طلب العلم لا يقتصر على برهة من الزمن، ولا على موعد ينقضي بانقضائه، بل طلب العلم هم يقوم في القلب لا ينقضي حتى يبلغ الإنسان غايته ويدرك مقصوده ولذلك يقول الله جل وعلا فيما قام في قلب موسى من مواصلة السعي لتحصيل ذلك العلم قال :{أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}، يعني سنين عديدة، والحق جمع حقب، وهو ثمانون سنة، وقال مجاهد سبعون سنة، وقال الفراء سنة واحدة، وقال ابن عباس وقتادة :" أزمنة غير محدودة".
وهذا أقرب الأقوال وهو الذي سار عليه ابن رجب رحمه الله هنا حيث قال: "سنين عديدة".
فقوله :{أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}، أي سنين عديدة دون تحديد، لا بثمانين ولا بغيرها.
" ثم أخبر أنه لما لقيه قال له :{ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}"، سبحان الله! انظر كيف الأدب من هذا النبي الكريم الذي هو من أولي العزم من الرسل مع هذا الذي هو دونه في المنزلة بلا شك، فإن الخضر اختلف هل هو نبي أو لا، والصحيح أنه ليس بنبي، وإن كان نبي فهو في منزلة دون موسى عليه السلام، فإن موسى من أولي العزم من الرسل، ومع ذلك يتلطف في السؤال ويستجلب منه النوال فيقول {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}، أي علماً يحصل لي به الرشد ، وهذا كلام مَنْ يا إخواني ؟ كلام رسول من الرسل لشخص عنده من العلم ما ليس عند هذا الرسول.
فقوله {مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}، أي علماً ذا رشد وهو إصابة الخير.
وقال في تفسير " الجلالين" أي صواباً أرشد به، وهذا فيه بيان افتقاره لهذا العلم، وهذا لا شك -يا إخواني- أنه إذا امتثله الإنسان في سلوكه وتعلمه بأن تواضع لمن يعلمه كان ذلك من أسباب تحصيله وإدراكه لما يريد فإن العلوم لا تستجلب ولا تحصل بمثل التواضع، فإن الماء لا يكون إلا في المكان الداني، كما أن الماء لا يجتمع على رؤوس الجبال إنما يجتمع في الأودية والمنخفضات من الأرض ، فكذلك العلم لا يقر في أماكن العلو والارتفاع بل يكون في من خفض نفسه وتواضع وذل لتحصيل مقصوده.
"وكان من أمرهما ما قصَّه الله في كتابه"، في سورة الكهف.
" ومن حديث أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قصة موسى والخضر مخرَّج في "الصحيحين""
من شواهد ما ذكر من أن الرحلة لا يلزم أن تكون للفاضل وأن تكون للأعلى، بل تكون لمن دون ما كان من ابن مسعود رضي الله عنه، وهو الذي بلغ من العلم مبلغاً عظيماً، كما في "صحيح مسلم" عن الأعمش عن مسروق ، عن ابن مسعود قال:"والذي لا إله إلا هو ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، وما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيما أنزلت، ولو أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل " يعني يمكن أن أصل إليه" لركبت إليه "، وهذا يدل على تواضعه وأنه يقصد العلم حيث كان.
ثم ذكر عن أبي الدرداء ما ذكر من أنه:" لو أعيتني آية من كتاب الله فلم أجد أحداً يفتحها علي"، أي يبين لي فيها ما أحتاجه من البيان إما في تلاوتها وإما في فهمها " إلا رجلا ببرك الغماد"، وبرك الغماد مكان في أقصى اليمن، وقيل في أطراف هجر يعني الأحساء ، وقيل إنه واد في جهنم.
والذي يصح من هذه المعاني هو أنه في أقاصي اليمن، فإن البخاري ذكر بإسناده عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر لما خرج إلى الحبشة مهاجراً لقي ابن الدغِنَّة في برك الغماد، وهي منطقة في جهة اليمن فرده وأجاره كما هو معروف في قصة خروجه ورجوعه رضي الله عنه في الخبر الذي ساقه البخاري من حديث الزهري عن عروة عن عائشة.
المقصود أن برك الغماد كما ذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله هي في أقصى اليمن.
طيب. في فائدة في قول ابن مسعود وأبي الدرداء، وهي أن علم الصحابة رضي الله عنهم كان منصباً على كتاب الله تعالى.
وهذا علم تميَّز به الصحابة ففاقوا غيرهم، خلاف غيرهم من القرون فإن من بعدهم لاسيما في الأزمنة المتأخرة قلَّ الاهتمام والاعتناء بفهم كلام الله تعالى، تجد عند الطالب من الرغبة والحرص في فهم كلام البشر ما ليس عنده في فهم كلام الله تعالى .
فتجد عنده عناية بمتن كذا، ومتن كذا في الحديث، أو في الفقه أو في المصطلح أو في علوم الآلة واللغة، لكن ليس عنده عناية بفهم كلام الله تعالى، وهذا الذي فرَّق علم الأولين عن علم المتأخرين، أن علم الأولين كان متوافراً على كلام الله تعالى دراسة وفهماً في حين أن الجهود المبذولة من كثير من طلاب العلم الآن هو في فهم كلام المستنبطين من كلام الله تعالى، فتجده يقرأ في الفقه وفي الحديث وفي سائر الفنون مصنفات ومتون حتى يدرك معاني تلك المتون التي هي بيان لشيء من كلام الله تعالى.
وهذا لا يَعني التزهيد في العلوم، نحن ندعو إلى فهم كلام أهل العلم والاستفادة من المتون العلمية على شتَّى أصنافها وتنوعها؛ لكن نندب إخواننا إلى توفير الجهود إلى فهم كلام الله جل وعلا ، وأنت لو تلاحظ إقبال الناس على درس في الفقه أو درس في التفسير تجد الفارق كبيراً والسبب عدم إدراك كثير من طلبة العلم أهمية فقه كتاب الله تعالى .
العلم الحقيقي الذي ينبغي أن تصرف فيه الأوقات، وتوفر فيه الهمم هو فهم كتاب الله تعالى، وهو العلم الذي تميز به السلف عن غيرهم فإن علم الصحابة بل علم كل من تميز في علمه إنما جاء عن فقه كلام الله تعالى ومعرفة مقاصد كلام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا العلم الذي تقدم به أولئك عن غيرهم.
ولذلك - يا إخواني - أحثكم على توفير الهمم لفهم كلام الله تعالى ولا يقول الواحد منا "الحمد لله واضحة عندي الآية"، الآيات بيِّنة ولكن في كلام المفسرين من البيان والتوضيح والنكات والتنبيهات ما يخفى على كثير من الناس، مع أنه في الحقيقة نقرأ كثيراً من كلام الله تعالى ولا نفهم معناه.
فمثلاً كلنا يقرأ قول موسى فيما قصَّه الله :{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} سورة الكهف:60.، أنا أجزم أن كثيراً ممن يقرأها لا يدري معنى حقباً، لا يدري معنى {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}.
يظن أنه مكان، هذا الذي يتدبر، أما الذي يقرأ بدون تدبر فهم كُثر.
وقد يقرأ الإنسان الآية وتفسيرها ثم ينصرف عنها فترة من الزمن لا يراجع التفسير يغيب عنه المعنى ، وتصبح القراءة قراءة لسان لا توافق الفهم والمعاني التي ينبغي أن يُعتنى بها.