قال رحمه الله :"وخرج مسروق من الكوفة إلى البصرة لرجل يسأله عن آية من كتاب الله فلم يجد عنده فيها علم فأُخبر عن رجل من أهل الشام، فرجع إلى الكوفة ثم خرج إلى الشام إلى ذلك الرجل في طلبها"، وذكر خبراً من أخبار المتقدمين في الرحلة في طلب العلم.
وانظروا أن غالب ما يكون هو الفقه في كلام الله تعالى ، ثم قال :"واستقصاء"، أي طلب جمع هذا من حال الصحابة والتابعين وصدر الأمة يطول.
قال رحمه الله :"وحلف رجل يميناً فأشكلت على الفقهاء فدل على بلد فاستبعده فقيل له إن ذلك البلد قريب على من أهمه دينُه ، وفي هذا إشارة إلى من أهمه أمر دينه كما أهمه أمر دنياه إذا حدثت له حادثة في دينه لا يجد من يسأله عنها إلا في بلد بعيد فإنه لا يتأخر عن السفر إليه ليستبرأ لدينه كما أنه لو عرض له هناك كسب دنيوي لبادر بالسفر إليه .
وفي هذا الحديث أن أبا الدرداء بشَّر من أخبره أنه رحل إليه لطلب الحديث بما سمعه من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في فضل العلم وطلبه وهذا مأخوذ من قوله تعالى {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} سورة الأنعام:54..
وقد ازدحم الناس مرة على باب الحسن البصري رحمه الله لطلب العلم فأسمعهم أبنه كلاماً فقال الحسن مهلاً يا بني،ثم تلا هذه الآية.
وفي كتاب الترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاهم بطلبة العلم والمتفقهين في الدين.
وجاء زر بن حبيش إلى صفوان بن عسال في طلب العلم فقال له :" بلغني أن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم ، وفي رواية أنه روي له ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وازدحم الناس مرة على باب المبارك رحمه الله فقال:"حق لهم من ولاية سرور الأبد"، يغبطهم بازدحامهم على طلب العلم لأنه يؤدي إلى الخلود في النعيم المقيم.
ولهذا تأسف معاذ بن جبل رضي الله عنه عند موته وبكى على مفارقته لمجالس الذكر فقال:" إنما أبكي على ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومزاحمة العلماء بالركب عند حِلق الذكر".
وينبغي للعالم أن يرحب بطلبة العلم ويوصيهم بالعمل، كما قال الحسن رحمه الله لأصحابه وقد دخلوا عليهم :" مرحباً بكم وأهلاً وحياكم الله بالسلام وأدخلنا وإياكم دار السلام، هذه علانية حسنة إن صبرتم وصدقتم وأيقنتم، لا يكونن حظكم من هذا الخير رحمكم الله أن تسمعوه بهذه الأذن فيخرج من هذه الأذن، فإنه من رأى محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد رآه غادياً ورائحاً لم يضع إلى الله لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة ولكن رُفع له علم فشمَّر إليه، الوحى الوحى، النجا النجا، علام تعرِّجون، أبيتم ورب الكعبة كأنكم والأمر معاً".
المؤلف رحمه الله ختم الأخبار المتقدمة في الرحلة بخبر ذاك الذي أشكلت عليه في اليمين مسألة فاستبعد المكان الذي وجه إليه، فقال له من قال :"إن ذلك البلد قريب على من أهمه أمر دينه"، ورأى من حق الله تعالى عليه أن يعبده على بصيرة استسهل في ذلك كل صعب، والأمور كل ما شق فيها السبيل كان ذلك مدعاة لثبوتها وقرارها.
ولذلك الإنسان الآن إذا اشتغل بأمر من أمور الدنيا فتيسر إليه سرعان ما يذهب وينسى، لكنه إذا عانى في تحصيله مشقة وصعوبة يقر في قلبه ويصبح لهذا الذي حصله قيمة كبيرة لا يفرط فيه بسهولة.
وقد قال الشاعر:
لولا المشقة ساد الناس كلهم *** الجود يفقر والإقدام قتَّالُ.
فلولا أن العلو في الفضائل والسبق في المكارم له كُلفة، ويعاني أصحابه مشقة لتحصيله لكان السبق إليه من كل أحد، ولتقدم إليه كل شخص، ولكن ذلك يحتاج إلى معاناة، فكان ذلك لأفراد من الناس.
يقول :"وفي هذا إشارة إلى من أهمه أمر دينه كما أهمه أمر دنياه إذا حدثت له حادثة في دينه لا يجد من يسأله عنها إلا في بلد بعيد فإنه لا يتأخر عن السفر إليه ليستبرأ لدينه كما أنه لو عرض له هناك كسب دنيوي لبادر بالسفر إليه"، أي سابق وتقدم في السفر إليه.
بعد هذا ذكر المؤلف رحمه الله فائدة من فوائد هذا الخبر الذي ساقه وهو ما أشرنا إليه من التبشير لمن قصد الخير.
"فإن أبا الدرداء بشَّر من أخبره أنه رحل إليه لطب الحديث بما سمعه من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في فضل العلم وطلبه"، يقول :" وهذا"، أي البشارة، والتبشير "مأخوذ من قوله تعالى:{وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}".
وهذا فيه التبشير لهم بتحصيل ما قصدوه وأنهم يفدون إلى رب كريم إذا قصدوا رباً كريماً بإخلاص وصدق فإنه لا يخيبهم الله تعالى فيما قصدوه.
ولذلك - يا إخواني - من المهم وأنت في أوائل هذه الرحلة أن تُخلصوا النية لله تعالى، وأن تصدقوا في التعامل معه فإنه من صدق مع الله صنع له، وهذا قانون مطرد، وقاعدة لا تنخرم ، أن من صدق مع الله جل وعلا في قصده، في رغبته، وسلك الطريق الموصل إلى الغاية فإن الله تعالى لا يخيبه.
يقول الله جل وعلا:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} سورة العنكبوت:69..
يقول المؤلف رحمه الله :"وهذا مأخوذ من قوله تعالى:{وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}"، وهذا فيه البشارة للمؤمنين إذا جاءوا، هذا إذا كان مجيئهم على وجه العموم، أو هذا في مجيئهم على وجه العموم فإذا كان مجيئهم لأمر يتعلق بزيادة الإيمان كان أحق من وجه إليه هذا القول وهو ما أمر الله به رسوله بقوله :{فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، فإن العلم بما يزداد به الإيمان ويقر به اليقين، وينمو به الصلاح في قلب العبد .
" وقد ازدحم الناس مرة على باب الحسن البصري رحمه الله لطلب العلم فأسمعهم أبنه كلاماً"، يعني خرج ابن الحسن وتكلم عليهم كلاماً،" فقال الحسن مهلاً يا بني،ثم تلا هذه الآية "{وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}.
وهذا -يا أخواني- ليس فقط في طلب العلم من أهله ، يعني ليس هذا حقاً لطلبة العلم فحسب ، بل هو حق لطلبة العلم ولمن سأل عن شيء من العلم.
ولذلك قال الله جل وعلا : {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} سورة الضحى:10.، وهذا يشمل سائل المال وأعلى منه منزلة وأرفع منه مكانة سائل العلم، فإنه يستحق أن لا ينهر، بل حقه أن يكرم كما قال الله تعالى:{فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}.
" وفي كتاب الترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاهم بطلبة العلم والمتفقهين في الدين"، فينبغي لنا طلبة العلم أن نستقبل الناس بالبِشر، وأن نحسن معاملتهم، وأن نرغبهم.
كثير من طلاب العلم يكونوا طلب العلم في حقهم سبباً للجفاء، وذلك أنه يرى أنه قد حصَّل من العلم ما ارتفع به على من حوله من الناس، فيكون هذا سبباً لجفائه، وهذا نقص في العلم وليس زيادة فيه، فإن العلم إذا كان لله تعالى خالصاً أثمر تواضعاً.
فكلما ازداد علم الإنسان كلما ازداد ذله وتواضعه لإخوانه، ليس الذل المذموم إنما هو الذل الذي وصفه الله تعالى به الصفوة فقال جل وعلا :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} سورة المائدة :54..
فذكر في صفاتهم أنهم أذلة على المؤمنين، وهذا ليس قصوراً في الشخص ولا نزولاً بمكانته،بل هذا علو له، ولذلك كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أسهل الناس عِشْرة، ومن أيسرهم معاملة، ونحن الواحد منا إذا حفظ حديثين أو حفظ متن أو حفظ كتاب انتفخ حتى أصبح لا يلقي السلام على إخوانه، بل بعضهم تَكْبُر نفسه حتى على مشايخه الذين حفظ عندهم وتعلم على أيديهم، وهذا ليس نسجا لخيال، هذا واقع نشاهده من أنفسنا ومن إخواننا واقعاً ملموساً، إذا حصَّل شيئاً من العلم تكبر وعلا ورأى أن من العلم أن لا يبذل السلام إلا على طرف لسانه قد يسمع الإنسان سلامه أو لا يسمع.
وهذا- يا إخواني - قلة فقه، هذا ضعف دين، وليس علماً ولا علواً ومثل هذا لا يمكن أن يفلح لا يكتب له قبول في الأرض، ولا يرتفع له ذكر في الأرض.
ومن طلب العلم ليذكر ويعلو على الناس فإن الله يعاقبه بنقيض قصده.
فمن طلب العلم ليذكر لن يذكر، ومن طلب العلم ليعلو على الناس لن يحصِّل علماً، ولن يحصِّل علوا ولا ارتفاعاً، كثير هم الذين يحفظون مئات ألوف من الأحاديث، ويحفظون من النصوص الشيء الكثير لكنهم مغمورون، لا يعرفون يمكن من أسباب ذلك ضعف يقينهم وضعف إخلاصهم، لا نتهم أحداً من الناس من يرغب في الخمول ويأثره.
والإمام أحمد رحمه الله لما اشتهر وعلا ذكره قال :" ليتنا لم نشتهر ، ليتنا لم نعرف".
والشافعي يقول :" ليت الناس أخذوا عنا هذا العلم ولم نذكر".
وهذا لتمام إخلاصهم وصدق معاملتهم لله تعالى.
نحن الواحد منا يفرح إذا قيل له : قال فلان، أو نقل عنه قول، أو تلقى عنه أحد، أو ذكر أنه تلقى عنه، هذا - يا إخواني - قدح ونقص وقصور.
ولا يغرنك كثرة الهالكين، الواحد يقول :"طيب، كثير من نراهم على هذه الشاكلة"، هذه الكثرة ليست حجة، الحجة فيما كان عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وما كان عليه الصحابة وما كان عليه الأئمة ممن عرفوا وكان لهم لسان صدق في الأمة فإن هذا هو الذي يجب أن يرتسم ويجب أن يتحلى به.
نحن في كثير من الأحيان قد لا ينقصنا العلم لكن ينقصنا التأدب بهذا العلم، معرفة فضل هذا العلم ، وإدراك أن العلو في الدنيا والآخرة سبيله التواضع والذل، وصدق المعاملة لله جل وعلا.
أما الذي يرتفع على الناس وينتفخ عليهم هذا نصيبه ما ذكر الله جل وعلا {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} سورة القصص:83.، فكل من أراد العلو في الأرض فإنه لا ينال العلو لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وفي الآخرة يكون الأمر على أقصى ما يكون فإن المتكبرين يحشرون يوم القيامة كالذر يطؤهم الناس بأقدامهم انظر " مسند أحمد" (2/179)، و"سنن الترمذي"(2492)..
فينبغي لنا أن نستشعر مثل هذه المعاني، وأن نعلم أن العلم إن لم يكسبنا حسناً في الأخلاق وطيبة في التعامل، وجودة في معاملة الناس ومعاشرتهم فإننا لن نحصِّل الثمرة.
ما فائدة قرأت كتاب كذا، وكذا، وحفظت كذا وكذا ، وأنهيت كذا، ودرست على فلان وعلى فلان، وهذا العلم لا يرى له أثر لا في خلق ولا في معاملة ، ولا في صلاة، ولا في استقامة، ولا في قيام ليل، ولا في سائر معاني الخير التي ينبغي أن تعلو على طالب العلم وأن تظهر على مسلكه.
إذا لم ير للعلم أثر في قلبك، وأثر في عملك فإنه لا ينفع.
نسأل الله أن يعيننا وإياكم على أنفسنا.
يقول رحمه الله:"وجاء زر بن حبيش إلى صفوان بن عسال في طلب العلم فقال له :" بلغني أن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم"، هذا من التبشير ، وذكر شيئاً من ذلك الكلام الذي يبشر به السلف منه ما ذكره ابن المبارك قال:" حق لهم من ولاية سرور الأبد"، أي حق لهم الازدحام في تحصيل العلم فإنها ولاية، من أدركها أدرك سرور الأبد، يعني السرور الذي لا حزن بعده، قال الله تعالى:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} سورة يونس..
قال:"يغبطهم بازدحامهم على طلب العلم لأنه يؤدي إلى الخلود في النعيم المقيم"، نسأل الله أن نكون من أهله.
يقول:"ولهذا تأسف معاذ بن جبل رضي الله عنه، وبكى"، على أي شيء بكى معاذ رضي الله عنه؟ :"على مفارقته لمجالس الذكر"، مثل هذا المجلس نسأل الله عز وجل أن يجعله خالصاً لوجه.
فقال:" إنما أبكي على ظمأ الهواجر"، يعني الصيام في شدة الحر، "وقيام ليل الشتاء، ومزاحمة العلماء بالركب عند حِلق الذكر"، بكى على هذه الأمور الثلاثة التي هي العلم وثمرته، فإن ثمرة العلم صلاح العمل.
قال رحمه الله:"وينبغي للعالم أن يرحب بطلبة العلم ويوصيهم بالعمل"، أي يجمع لهم بين البشر في استقبالهم، فليس من شأن العلم أن يعلو على طلبة العلم ، بل ينبغي أن يكون يسيراً وسهلاً، ولا يعني هذا أن يكون العالم مبتذلاً، فرق بين اليسر والسهولة ، والسماحة في التعامل والقرب من الناس وبين الابتذال، فإن الابتذال لا يليق بطالب العلم ولا بالعالم ، وهناك حدود فاصلة بين الأخلاق .
فهناك إسراف وكرم، وهناك شجاعة وتهور، وهناك خوف وجبن، وهناك حدود رقيقة بين أخلاق قد ينتقل بها الخلق بين كونه خلقاً محموداً إلى كونه خلقاً مذموماً يحتاج طالب العلم إلى أن يلاحظ مثل هذه المعاني.
يقول رحمه الله :" كما قال الحسن رحمه الله لأصحابه حينما دخلوا عليهم"، وهذه وصية لنا - يا إخواني -، الحسن يقولها لطلابه ونحن نقولها لأنفسنا "مرحباً بكم وأهلاً وحياكم الله بالسلام وأدخلنا وإياكم دار السلام، هذه علانية حسنة"، يعني مجيئكم إلى طلب العلم، واجتماعكم في حِلق الذكر " علانية حسنة"، يعني مظهر طيب وعمل صالح، تقع عليه أعين الناس "إن صبرتم وصدقتم وأيقنتم، لا يكونن حظكم من هذا الخير رحمكم الله أن تسمعوه بهذه الأذن فيخرج من هذه الأذن"، أي ينبغي لنا أن نحرص على الاستماع الذي يعقبه أيش؟ عمل، ويترجم هذا إلى واقع ، فإن من كان حظه من العلم الاستماع لن يدرك شيئاً، سيكون وعاء ، لكنه لا يكون إماماً ، فالإمامة والتقدم في الخير لا تكون إلا لمن ترجم ما علمه عملاً واقعاً.
يقول رحمه الله :" فإنه من رأى محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد رآه غادياً ورائحاً"، يعني لم يراه جالساً في مكان، " لم يضع إلى الله لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة ولكن رفع له علم فشمَّر إليه "، أي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد جدَّ في تحصيل مراده، وفي تحقيق ما أمره الله تعالى به.
لم يكن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منظراً لا يترجم ذلك بالعمل، بل كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعمل وصحابته ينقلون دقائق أعماله لأنها ترجمة وبيان لما كان عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من امتثال أمر ربه .
ولذلك لما سُئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال :" كان خلقه القرآن" أخرجه أحمد (6/91).. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومعنى كان خلقه القرآن يعني يترجم القرآن في ذكره في عمله في قيامه في معاملته في حكمه في سائر شأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
" الوحى الوحى"، المقصود بها السرعة السرعة، فهي كلمة حثّ مثل البِدار البدار.
"النجا النجا، علام تعرِّجون"، يعني على أي شيء تذهبون وتميلون، فالتعريج هو الميل، يعني ما الذي يحملكم على الوقوف والانقطاع عن السير.
"أبيتم ورب الكعبة كأنكم والأمر معاً"، أي أن الأمر قريب قصير.
الأمر المقصود به مجيء الأجل، فالدنيا ليست طويلة حتى تستطيل الأيام والليالي في إدراك مقصودك، وتقول :" ما لا أدركه اليوم أدركه غداً من العلم"، ينبغي في العلوم النافعة والأعمال الصالحة أن تغتنم ويسابق إليها الإنسان مسابقة قبل الفوات.
وأما في أمر الدنيا فما لا تدركه اليوم تدركه غداً ، فإنه لا يفوت، فما قسم لك منه أنت مدركه، لكن الأمر فيما يتعلق بالطاعة والإحسان على ضوء ما قال رب العالمين في محكم التنزيل{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} سورة آل عمران :133..
وقال جل وعلا:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} سورة الحديد:21..
وقال جل وعلا :{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} سورة الأنبياء:90..
في وصف زمرة من الأنبياء والرسل.
وقال جل وعلا : {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} سورة الواقعة : 10..
فالسابقون إلى الخيرات في هذه الدنيا هم السابقون إلى البر والفوز بالنعيم في الدنيا، والنعيم في البرزخ، والنعيم في الآخرة.
إذاً: هي مسابقة، وميدان، من شمَّر واجتهد فيه وبذل قصارى جهده لابد أن يبلغ - يا إخواني - الله جل وعلا كريم، ويعطي على النية والقصد ما لا يعطي على العمل، إذا كان هناك مانع من ترجمة هذه النية.
قال جل وعلا:{وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ}، خاب عمله ولا أدرك شيء؟!، ماذا قال ربنا :{ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} سورة النساء:100..
فالله سبحانه وتعالى يعطي على ما يقوم في القلب من النوايا الصادقة والعزائم الجادة والهموم الراشدة شيئاً كثيراً .
لكننا نخطئ التعامل مع ربنا، ونبخس أنفسنا في كثير من الأحيان.