يقول رحمه الله :"فالعلم النافع هو ما باشر القلب فأوقر فيه معرفة الله تعالى وعظمته، وخشيته وإجلاله، وتعظيمه ومحبته، ومتى سكنت هذه الأشياء في القلب خشع فخشعت الجوارح كلها تبعاً لخشوعه .
وفي "صحيح مسلم" عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقول:« إني أعوذ بالله من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع»"صحيح مسلم" (2722).، وهذا يدل على أن العلم الذي لا يوجب الخشوع في القلب فهو علم غير نافع.
وروي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يسأل الله علماً نافعاً.
وفي حديث آخر قال :« سلوا الله علماً نافعاً، وتعوذوا بالله من علم لا ينفع»أخرجه ابن ماجه (3843)، وحسنه الألباني..
وأما العلم الذي على اللسان فهو حجة الله على ابن آدم كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «والقرآن حجة لك أو عليك»"صحيح مسلم"(223)..
فإذا ذهب من الناس العلم الباطن بقي الظاهر على الألسنة حجة، ثم يذهب هذا العلم الذي هو حجة بذهاب حملته، ولا يبقى من الدين إلا اسمه، فيبقى القرآن في المصاحف ثم يسرى به في آخر الزمان، فلا يبقى منه في المصاحف ولا في القلوب شيء ، ومن هنا قسَّم من قسَّم من العلماء العلم إلى باطن وظاهر".
يقول رحمه الله :"فالعلم النافع هو ما باشر القلب فأوقر فيه"، أي ملأه بـ"معرفة الله تعالى وعظمته، وخشيته وإجلاله، وتعظيمه ومحبته "فالعلم النافع هو ما باشر القلب وليس ما قرَّ في اللسان فقط أو نطق به اللسان فقط، بل لابد وأن يباشر القلب فيدخله .
قال الله تعالى:{للَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ}، قال العلماء من أهل التفسير :" مثل نوره في قلب عبده المؤمن"، {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ}، نور القرآن والهدى والعلم الذي يدخل القلب مع نور الفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ}سورة النور:35..
فالعلم النافع هو ما باشر القلب فملأه بمعرفة الله تعالى"فأوقر فيه معرفة الله تعالى وعظمته، وخشيته وإجلاله، وتعظيمه ومحبته"، وهذه المعاني تدور على المحبة والتعظيم اللذان هما ساقا العبادة، فمن قام في قلبه محبة الله تعالى وتعظيمه فقد حقق له العبودية، "ومتى سكنت هذه الأشياء في القلب خشع" .
إذاً: الخشوع يكون بالإجلال والتعظيم كما ذكرنا قبل قليل، ويكون مع التعظيم المحبة ليكمل خشوعه وتستقيم حاله.
"فخشعت الجوارح كلها تبعاً لخشوعه".
وهذا التعريف للعلم النافع هو من التعاريف الجامعة التي ركزت على أصل العلم النافع، فقال :"العلم النافع هو ما باشر القلب"، هذا هو الأصل في العلم أن يكون العلم مباشر للقلب مزكياً مطهراً منقياً لهذا القلب.
فالعلم كله قول الله وقول رسوله إنما جاء لتطهير القلب وتزكيته، قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}سورة المدثر.، والتطهير هنا هو تطهير الظاهر والباطن.
تطهير الباطن من الشرك والفسوق والنفاق وسائر الآفات.
وتطهير الظاهر من الأرجاس والأنجاس ، وسائر المستقذرات.
يقول المؤلف رحمه الله في تعريف العلم أنه "ما باشر القلب"، وهذا أحد الأقوال.
وللعلماء في تعريف العلم النافع عدة أقوال تدور على معان متقاربة ، فبعضهم يعرفه بحقيقته، وبعضهم يعرفه بعاقبته، هذا التعريف تعريف العلم النافع بحقيقته، أنه ما باشر القلب فيبين موضعه ويبين ثمرته بأنه يورث الإجلال والتعظيم والمحبة والتقدير لرب العالمين الذي ينتج عنه خشوع القلب وإذا خشع القلب، صلحت سائر الجوارح كما جاء ذلك في "الصحيحين" من حديث زكريا عن الشعبي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِىَ الْقَلْبُ»"صحيح البخاري" (52)، ومسلم (1599)..
العلم النافع عرفه بعضهم بأنه الذي يورث الخشية ، وهذا قريب من تعريف المؤلف ، لأن الخشية ثمرة المحبة والتعظيم.
وعرفه بعضهم فقال:" العلم الذي تحصل به النجاة في الدنيا والآخرة، ويسعد به العباد".
وهذا تعريف للعلم النافع بثمرته، وأنه الذي ينجي العبد من المهالك ويسعده في دنياه وأخراه.
وعرَّفه طائفة من أهل العلم فقالوا:" العلم النافع هو الدَّال على العمل الصالح".
وأوسع من عرَّف العلم النافع قال: العلم النافع هو المرشد للخير في أمر الدين أو أمر الدنيا".
وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في "منظومة القواعد" بيتين هما ضابط للعلم النافع من حيث ثمرته ومن حيث حقيقته، فقال رحمه الله:
اعلم هديت أن أفضل المنن *** علم يزيل الشك عنك والدرن.
ويكشف الحق لذي القلوب *** فيوصل العبد إلى المطلوب.
فبين رحمه الله في هذين البيتين حقيقة العلم النافع، وبيَّن أنه أعظم ما يمن الله تعالى على العبد .
" اعلم هديت أن أفضل المنن" أفضل ما يمن الله تعالى به على العبد " علم يزيل الشك عنك والدرن".
يزيل الشك من قلب، والدرن منه، فيطهره من الشكوك والأدران، ويطهر أيضاً البدن من الأدران والأقذار.
"ويكشف الحق لذي القلوب" فيبصر ما أخبرت به الرسل من العلوم المتعلقة بالله تعالى وباليوم الآخر بصراً يوقن به صدق ما أخبرت به الرسل كأنه يرى ما أخبر ت به الرسل رأي عين.
يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سأله جبريل عن الإحسان قال :« أن تعبد الله كأنك تراه»، وهذه مرتبة عليا لا تكون إلا من كمال العلم وتمام المعرفة، « كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»أخرجه البخاري (50)، ومسلم(8)..
وهذا يبين ما ذكره رحمه الله بقوله " ويكشف الحق لذي القلوب"، ثم بعد ذلك ما ثمرة هذا العلم الذي يزيل الشك والدرن ويكشف الحق لذي القلوب ما ثمرته؟ ما نتيجته؟ " ويوصل العبد إلى المطلوب" والمطلوب هو تحقيق العبودية في الدنيا والفوز بالجنة في الآخرة.
فهذان البيتان يصلحان ضابطاً للعلم النافع.
هذا هو ضابط العلم النافع الذي به يبلغ العبد الخير الكثير، وهو العلم الذي سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه أن يرزقه إياه بقوله {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}سورة طه:114..
وهذا الذي أمر الله رسوله بأن يسأله في قوله{وَقُلْ} يعني يا محمد {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}.
فالعلم المسؤول المطلوب المنشود المرغوب فيه هو العلم الذي يباشر القلوب فيثمر فيها تعظيم الله تعالى وإجلاله ومحبته.
ليس العلم بكثرة الرواية، وليس العلم بتشقيق الكلام وفصاحة اللسان، كم من عيي عنده من العلم بالله وبدينه ما ليس عند أصحاب الألسنة الفصيحة والبيان الجزيل، لكن العلم في الحقيقة هو الخشية.
يقول الإمام أحمد يثني على معروف الكرخي، وكان يثني كثيراً على معروف الكرخي وهو من العبَّاد النسَّاك أصحاب العمل والجد في طاعة الله تعالى وعنده من العلم ما يتعبد به ربه، لكنه ليس من العلماء، ولم يصنف من الحفظة والنقلة للعلم والفقهاء ، لكنه كان عظيم الخشية لله تعالى، وكان الإمام أحمد يجله ويقدره ويثني عليه خيراً كثيراً.
فقال له بعض من حضره :"إن معروف قصير العلم"، يعني قليل في علمه.
فقال الإمام أحمد :"إن معروف وصل إلى ما يطلب لأجله العلم وهو خشية الله تعالى".
هذا هو الفقه الحقيقي للعلم -يا إخواني- ، نحن نظن أن العلم هو بتشقيق البيان وكثرة الكلام، وهذا خطأ كما قال ابن رجب فبي بعض كتبه ورسائل :" كم من عيي" يعني لا يحسن البيان، تقول له تعالى اخطب بنا أو تكلم يمكن ما يركب جملتين تركيب سليم، "لكن عنده من العلم بالله والمعرفة به جل وعلا ما بلغ به منزلة عليا ودرجة كبرى".
فينبغي لنا أن نعرف حقيقة العلم، العلم ما يصلح به القلب ويزكو به الفؤاد وتستقيم به أعمال الباطن ويثمر ذلك زكاء وصلاحاً لأعمال الظاهر.
يقول المؤلف رحمه الله :"وفي "صحيح مسلم" عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقول:« إني أعوذ بالله من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع»"، وهذا جاء في "صحيح الإمام مسلم" من حديث أبي عثمان النهدي ، عن زيد بن أرقم في دعاء ذكره عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان من جملته "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن دعوة لا يستجاب لها".
ثم قال:"وهذا يدل على أن العلم الذي لا يوجب الخشوع في القلب فهو علم غير نافع".
صحيح، العلم الذي لا يوجب الخشوع في القلب هو علم غير نافع لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرن بين الأمرين في الاستعاذة، قرن بين العلم الذي لا ينفع والقلب الذي لا يخشع لأنه لما كان غير نافع ما أثمر المطلوب وهو خشوع القلب وزكاؤه.
يقول المؤلف رحمه الله :"وروي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يسأل الله علماً نافعاً"، كما جاء ذلك في "مسند الإمام أحمد " وغيره بإسناد لا بأس به من حديث أم سلمة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول في دعائه في صباح كل يوم « اللهم إني أسألك علماً نافعاً ورزقاً طيباً»أخرجه ابن ماجة (925)..
فكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأل ربه العلم النافع.
"وفي حديث آخر قال :«سلوا الله علماً نافعاً، وتعوذوا بالله من علم لا ينفع»".
يقول:"وأما العلم الذي على اللسان فهو حجة الله على ابن آدم"، هو الحجة التي يقيمها الله تعالى عليك وعلى من يبلغه هذا العلم.
وهذا يحمل بعض الناس على ترك التعلم، ويقول :" ما أحفظ القرآن ولا أتعلم العلم حتى لا أزداد حجج عليَّ"، وهذا من مداخل الشيطان.
العلم إذا علمته فهو حجة عليك، وإذا أعرضت عنه وتركته فهو حجة عليك، ولذلك يقول الله تعالى :{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}سورة طه:124..
فتعلم العلمولو لم يعمل به الإنسان هو في الحقيقة خير لأنه قد ينقله إلى من لا يعلم، وقد يحيي الله قلبه بهذا العلم فكم من علم ظن صاحبه أنه لا ينفعه عاد عليه بالرشد والصلاح، وهذا ما يشير إليه سفيان بن عيينة رحمه الله حيث قال:" طلبنا العلم لغير الله" يعني إما ليتبوأ قضاء أو ليصل إلى مركز أو إلى قبول وجاه عند الناس، " فأبى العلم أن يكون إلا لله".
يعني العلم إذا وصل القلب لابد أن يصلحه، وإذا وصل القلب أبصر وعلم أن الثمرة الحقيقية لهذا العلم ليس في المكاسب التي يحصلها في الدنيا ، ما الذي ينفعك إذا أبعدوا لك في الطريق ووخروا عنه ، وجاء الشيخ وذهب الشيخ في حين أنك عند الله تعالى في مقام سافل وفي منزلة دنيا.
في حين أنك لو كنت في غبراء الناس أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لكنك على علم بالله تعالى تعبده حق عبادته فأنت في المنزلة العليا والسبق ليس في مناصب الدنيا وزخارفها، إنما السبق الحقيقي الذي ينبغي أن نشمر إليه هو ما أعده الله تعالى لعباده المتقين وأوليائه الصالحين، جنة عرضها السموات والأرض نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا من أهلها ومن السابقين إليها.
يقول رحمه الله :"وأما العلم الذي على اللسان فهو حجة الله على ابن آدم كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، والقرآن حجة لك أو عليك"، هو حجة لك في ما إذا تعلمته وعملت به.
وهو حجة عليك في حالين:
إذا علمته وتركت العمل به، أو إذا تركت تعلمه وبالتالي تركت العمل به.
فهذا معنى حجة عليك، لأن بعض الناس يقول لا تعلمني الحكم، لا تخبرني بالدليل حتى لا تقوم الحجة عليَّ".
الحجة قائمة عليك بترك التعلم، فقوله "حجة عليك" في حالين إذا تعلمته ولم تعمل به، وإذا تركت تعلمه مع إمكان التعلم.
وهذه مسألة مهمة تفيدك في نصح من يتدرع بمثل هذه الأحاديث التي يخطئ في فهمها فيخطئ العمل نتيجة خطأ الفهم.
يقول رحمه الله:"فإذا ذهب من الناس العلم الباطن بقي الظاهر"، ذهب منهم علم القلوب بقي الظاهر على الألسنة حجة.
"ثم يذهب هذا العلم الذي هو حجة بذهاب حملته، وما يبقى من الدين إلا اسمه، فيبقى القرآن في المصاحف ثم يسرى به في آخر الزمان"، يعني يمر عليه في آخر الزمان في ليلة "فلا يبقى منه في المصاحف ولا في القلوب منه شيء"، نعوذ بالله أن ندرك ذاك الزمان.
"ومن هنا قسَّم من قسَّم من العلماء العلم إلى باطن وظاهر".
قال رحمه الله :"فالعلم الباطن هو ما باشر القلوب فأثمر لها الخشية والخشوع والتعظيم والإجلال والمحبة والأنس والشوق، والظاهر ما كان على اللسان فبه تقوم حجة الله على عباده، وكتب وهب بن منبه إلى مكحول :"إنك امرؤ قد أصبت بما ظهر لك من علم الإسلام شرفاً فاطلب بما بطن من علم الإسلام محبة وزلفى".
يقول :"إنك امرؤ"، هذا يدل على عظيم فقه وهب بن مُنَبِّه، ويقال وهب بن مَنْبَه ، له وجهان في قراءته.
"وكتب وهب بن منبه إلى مكحول"، وهو من الفقهاء المشهورين والأئمة الذين ظهر فقههم واشتهر صيتهم.
"إنك امرؤ قد أصبت بما ظهر لك من علم الإسلام شرفاً"، أي تقدماً ومنزلة عند الناس، وذلك بما كان على لسانه من الفقه في كلام الله وكلام رسوله.
"فاطلب بما بطن من علم الإسلام محبة وزلفى"، عند مَن؟ عند الله تعالى.
فقد أصبت الشرف عند الناس بعلم الإسلام الذي على لسانك، ففز بمحبة الله تعالى والقربى منه جل وعلا بعلم الإسلام الذي تملأ به قلبك.
وهذا معنى قوله "فاطلب بما بطن من علم الإسلام محبة وزلفى".
قال رحمه الله :"وفي رواية أخرى أنه كتب إليه إنك قد بلغت بظاهر علمك عند الناس منزلة وشرفاً فاطلب بباطن علمك عند الله منزلة وزلفى، واعلم أن إحدى المنزلتين تمنع من الأخرى".
يعني المقصود "واعلم أن إحدى المنزلتين تمنع من الأخرى"، يعني إذا اشتغل الإنسان بطلبها وليس أنه لا يمكن أن تحصل الثنتين فإذا أصبت شرفاً فمعنى هذا أنك لم تنل محبة وزلفى، ولا أنك إذا نلت محبة وزلفى لن تنال شرفاً عند الناس.
بل إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشَّر إن العبد إذا صدق مع الله تعالى فإن الله يكتب له القبول في الأرض، كما في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر " أن الله تعالى إذا أحبَّ عبداً نادى في السماء يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه، فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه ، فيوضع له القبول في الأرض".
وفي البغض "إن الله إذا أبغض فلاناً نادى يا جبريل إني أبغض فلاناً فيبغضه فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه فيكتب له البغض في الأرض"أخرجه البخاري (3209)، ومسلم (2637).، نعوذ بالله من الخذلان.
فقوله رحمه الله :"واعلم أن إحدى المنزلتين تمنع من الأخرى"، يعني الاشتغال في طلب إحدى المنزلتين يمنع من الأخرى.
فإذا كان اشتغالك بطلب المنزلة عند الناس يمنع حصول المنزلة عند الله تعالى فأيهما تقدم؟ لا شك أنك تقدم طلب المنزلة والزلفى عند رب العالمين، ومن صدق مع الله صنع له، وصدقه الله فالله لا يخلف الميعاد.
والله سبحانه وتعالى قد وعد من آمن وعمل صالحاً ببشرى فقال:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}سورة مريم: 96.، أي محبة في قلوب الخلق.
لكن ما يكون هذا بأن تطلب المودة في قلوب الخلق وتسعى ويكون حبك وبغضك وعملك وتركك وإقدامك وإحجامك هو فيما يحب الناس ويبغضون، أو ما يرضى به الناس ويسخطون إنما كل ذلك في مرضاة الله تعالى ومن كان مع الله فإن الله تعالى لا يخيبه،{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}سورة النحل:128..
فنعم المولى ونعم النصير سبحانه وبحمده.