ثم قال رحمه الله :"وقد سماهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه العلماء الربانيين، يشير إلى أنهم الربانيون الممدوحون في غير موضع من كتاب الله عز وجل فقال: الناس ثلاثة، عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج الرعاع.
ثم ذكر كلاماً طويلاً وصف فيه علماء السوء والعلماء الربانيين، وقد شرحناه في غير هذا الموضع، والمقصود هاهنا أن التماس العلم سبب موصل إلى الجنة".
يقول رحمه الله :"وقد سماهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه العلماء الربانيين"، أي الذين كمَّلوا العلم بالله تعالى والعلم بشرعه.
والربانيون: هم العلماء كما جاء ذلك في كلام جمهور المفسرين، فإن الله تعالى قد أثنى في كتابه على الربانيين كما ذكر المؤلف رحمه الله في مواضع من ذلك ما ذكره الله تعالى في قوله:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} سورة آل عمران:79..
هذا الذي أمر به الرسل أقوامهم أن يكونوا ربانيين.
وكذلك في مثل قوله:{لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} سورة المائدة:63..
وكذلك في مثل قوله:{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} سورة المائدة : 44..
فجعل الربانيين مرتبة أعلى من مرتبة الأحبار فقدمهم في الذكر.
والرباني: هو من يربي الناس بصغار العلم قبل كباره كما ذكر ذلك الإمام البخاري رحمه الله في "صحيحه".
وقيل في الرباني إنه منسوب إلى الرب، وإنما جاءت النون في النسبة لبيان عظيم تمسكه بما أمره به ربه جل وعلا.
فالرباني هو عظيم التمسك، شديد العمل بما أمر الله تعالى به، فهو المستمسك بما أمر الله تعالى به ورسوله، والنون في النسبة تفيد المبالغة في تحقق الوصف المذكور.
قال رحمه الله: "فقال: الناس ثلاثة، عالم رباني ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج الرعاع"، وهمج الرعاع هؤلاء هم الذين أعرضوا عن العلم، أو أعرضوا عن العمل بالعلم، فإن الله تعالى مثلهم بما هو أشد من علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} سورة الجمعة: 5..
وهذا مثل قبيح.
ومثله أيضاً في القبح ما ذكره الله تعالى في الذي أعرض عن ذكر الله تعالى في سورة الأعراف حيث قال تعالى:{ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} سورة الأعراف:176..
أي أنه في عناء ومشقة على كل حال ، وهذا يدل على أن هذا الوصف الذي ذكره رحمه الله لمن أعرض عن التعليم والتعلم وصف مطابق لما ذكره الله في كتابه من التمثيل لهؤلاء بالحيوانات.
قال :" ثم ذكر كلاماً طويلاً وصف فيه علماء السوء والعلماء الربانيين، وقد شرحناه في غير هذا الموضع"، عاد المؤلف بعد هذا الاستطراد ليعيدنا إلى ما هو فيه من شرح حديث « من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة».
فقال رحمه الله:" والمقصود هاهنا أن التماس العلم"، أي طلبه والسعي في تحصيله " سبب موصل إلى الجنة"، وهو من أقرب الطرق التي يصل بها العبد إلى الله تعالى إذا حسنت نيته وصلح قصده، ولذلك يقول الإمام أحمد رحمه الله لما ذكر فضائل العمل، وسئل عن أي العمل أفضل، قال : العلم لا عدل له لمن صحت نيته".
العلم لا عدل له: أي ليس له مثيل ولا نظير في السبق لمن اشتغل به.
لكن ليس لكل أحد، إنما هو لمن صلحت نيته، بأن يكون قصده من التعلم وجه الله تعالى: العلم به والعلم بشرعه والقيام بأمره، وهداية الخلق فإن هذا هو الذي يصلح به النفس ويتم به العمل.
أما من أراد بالعلم أن يصرف وجوه الناس إليه أو أن يتبوأ المنزلة والمكانة فإنه قد يحصِّل هذا في الدنيا كما في حديث أبي هريرة في قصة الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار فإنه يقال : « يؤتى برجل فيُذكر بنعمة الله تعالى ، يذكر الله عليه نعمة التعليم فيقال ماذا صنعت فيه، فيقال: قرأت فيك القرآن وعلمته، فيقول الله له: إنما قرأته ليقال قارئ، وتعلمت ليقال عالم وقد قيل، فيؤمر به فيسحب على وجه- نعوذ بالله - فيلقى في النار» أخرجه مسلم (1905)..
هذا نصيب من لم يخلص في طلبه وقصده، نسأل الله أن يصلح لنا النية وأن يصلح لنا ولكم العلم.
ثم قال رحمه الله :"وفي الحديث المعروف عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا وما رياض الجنة ؟ قال :« حِلَق الذكر» أخرجه أحمد (3/150)، والترمذي (3509) وإسناده ضعيف..
وكان ابن مسعود رضي الله عنه إذا ذكر هذا الكلام يقول: أما أني لا أعني القُصَّاص ولكن حلق الفقه.
وروي عن أنس معناه أيضاً.
وقال عطاء الخرساني : مجالس الذكر مجالس الحلال والحرام، كيف تشتري وتبيع، وتصلي وتصوم، وتنكح وتطلق، وتحج وأشباه هذا .
وقال يحيى بن أبي كثير: درس الفقه صلاة.
وكان أبو السوار العدوي في حلقته يتذاكرون العلم ومعه فتى شاب، فقال لهم قولوا سبحان الله والحمد لله ، فغضب أبي السوار وقال : ويحك في أي شيء كنا إذاً.
والمراد بهذا أن مجالس الذكر لا تختص بالمجالس التي يذكر فيها اسم الله، بالتسبيح والتكبير والتحميد ونحوه، بل تشمل ما ذكر فيه أمر الله ونهيه، وحلاله وحرامه وما يحبه ويرضاه فإنه ربما كان هذا الذكر أنفع من ذلك لأن معرفة الحلال والحرام واجبة في الجملة على كل مسلم بحسب ما يتعلق به في ذلك، وأما ذكر الله باللسان فإن أكثره يكون تطوعاً، وقد يكون واجباً كالذكر في الصلوات المكتوبة.
وأما معرفة ما أمر الله به ونهى عنه، وما يحبه ويرضاه، وما يكرهه وينهى عنه يجب على كل من احتاج إلى شيء من ذلك أن يتعلم، ولهذا روي : طلب العلم فريضة على كل مسلم، فإنه يجب على كل مسلم معرفة ما يحتاج إليه في دينه كالطهارة والصيام والزكاة، ويجب على من له مال معرفة ما يجب عليه في ماله من زكاة ونفقة وحج وجهاد، وكذلك يجب على كل من يبيع ويشتري أن يتعلم ما يحل وما يحرم من البيوع كما قال عمر رضي الله عنه : لا يبع في سوقنا إلا من قد فقه في الدين، خرَّجه الترمذي" السنن"(487)، وإسناده حسن..
ويروى بإسناد فيه ضعف عن علي رضي الله عنه : الفقه قبل التجارة، إنه من اتجر قبل أن يتفقه ارتطم في الربا، ثم ارتطم.
وسئل ابن المبارك ما الذي يجب على الناس من تعلم العلم؟ قال : أن لا يقدم الرجل عل شيء إلا بعلم يسأل ويتعلم فهذا الذي يجب على الناس من تعلم العلم ، ثم فسَّره وقال : لو أن رجلاً لم يكن له مال لم يكن عليه واجب أن يتعلم الزكاة، فإذا كان له مائتي درهم وجب عليه أن يتعلم كم يخرج ومتى يخرج وأين يضع، وسائر الأشياء على هذا.
وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن الرجل ما يجب عليه من طلب العلم؟ فقال: ما يقيم به الصلوات وأمر دينه من الصوم والزكاة، وذكر شرائع الإسلام، وقال : ينبغي له أن يتعلم ذلك.
وقال أيضاً: الذي يجب على الإنسان من العلم ما لابد له منه في صلاته وإقامة دينه.
واعلم أن علم الحلال والحرام علم شريف، ومنه ما تعلمه فرض عين ، ومنه ما هو فرض كفاية ، وقد نص العلماء على أن تعلمه أفضل من نوافل العبادات، منهم أحمد وإسحاق، وكان أئمة السلف يتوقون الكلام فيه تورعاً لأن المتكلم فيه مخبر عن الله بأمره ونهيه مبلغ عنه شرعه ودينه".
هذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله فيه بيان ما ينقسم إليه العلم من حيث تعلمه.
العلم من حيث التعلم ينقسم إلى قسمين: علم يجب على كل أحد أن يتعلمه وأن يجتهد في تحصيله، وعلم كفائي إذا تعلمه من يحصل به حفظ العلم وإقامة الشريعة كفى.
فالعلم من حيث الوجوب ينقسم إلى قسمين : علم عيني يجب على كل إنسان أن يتعلمه، وعلم كفائي وهو ما لا يتعين عليه إنما يجب أن ينصرف إلى تعلمه من تحصل بتعلمهم الكفاية .
وأشار المؤلف رحمه الله إلى هذا وبدأ ذلك بذكر الحديث الذي فيه بيان فضل مجالس العلم ، فقال :" وفي الحديث المعروف عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا»، قالوا وما رياض الجنة ؟ قال :« حلق الذكر»"، وهذا الحديث أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ، وقد أشار الترمذي رحمه الله إلى ضعف طريق أنس، وقد أخرجه أيضاً من طريق أبي هريرة لكن بلفظ مقارب لهذا، وفيه ذكر التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، ووصفه بأنه حسن غريب.
المقصود أن الحديث لا بأس به من حيث الإسناد لمجيئه من عدة طرق، وإلا فإن هذه الأحاديث قد سئل عنها الإمام البخاري رحمه الله كما ذكر ذلك الترمذي في " علله" قال: سألت محمداً - يعني البخاري- عن هذه الأحاديث - يريد حديث أنس بن مالك رضي الله عنه - فلم يعرف شيئاً منها، وقال : محمد بن ثابت يأتي بالعجائب.
ومقصوده بمحمد بن ثابت أحد رواة الإسناد في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
" إذا مررتم برياض الجنة"، رياض جمع روضة، والروضة في اللغة تطلق على الأرض المخضرة بأنواع النبات.
فشبه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِلق الذكر التي يذكر فيها ويعظم جل وعلا ويعلم ماله من الكمالات وما في شرعه من الأحكام برياض الجنة، وهي الأرض المخضرة بأنواع النبات.
وقوله :"فارتعوا"، المقصود بالرتع هنا هو التوسع في اقتناص الفوائد وأخذها، وتحصيلها.
ويطلق الرتع في الأصل على الأكل والشرب رغداً في الريف.
وعلى كل حال المقصود بالرتع هنا هو الاستكثار من أسباب الخير الموجودة في هذه المجالس.
"قالوا وما رياض الجنة ؟ قال :« حلق الذكر»"، ثم بيَّن أن حِلق الذكر ليست هي حلق التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير وتقديس الله جل وعلا بالأذكار المعروفة إنما هو ما وراء ذلك من تعلم كلام الله تعالى ، وتعلم سنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ومعرفة أمر الله تعالى من كتاب الله وسنة رسوله.
يقول: " وكان ابن مسعود رضي الله عنه إذا ذكر هذا الكلام يقول: أما أني لا أعني القُصَّاص"، إذا ذكر فضل العلم وفضل حلق الذكر قال:" أما أني لا أعني القُصَّاص"، وهم الذين يشتغلون بحكاية الأخبار، سواء كانت هذه الأخبار على سبيل الوعظ أو كانت هذه الأخبار لمعرفة حوادث الزمان، فإن قصص القصاص وخبرهم يقصد به هذا ويقصد به هذا، وهو الذي يروج ويقبل عليه الناس منذ زمن، ليس هذا الأمر بالحديث.
الإمام أحمد رحمه الله كان يحضر حلقته خمسة آلاف في بعض حِلقه رحمه الله في تحديثه.
في حين أن القصاص يحضر عندهم ألوف مألفة أكثر من هذا بكثير، فإقبال الناس على القصاصين، وأصحاب الأخبار التي قد يقصد منها الوعظ أو يقصد منها التذكير أو يقصد منها ذكر حكايات الزمان فإنه أمر قديم وليس أمراً حديثاً.
وما جاء من التحذير من القصاص لكون القصاص كثيراً ما يتساهلون في ضبط ما يخبرون به أيضاً طرائق الوعظ ولذلك جاء ذم القصاص في كلام المتقدمين من أهل العلم.
لكن من قصَّ ضابطاً ما يتكلم به، وازناً ذلك بالكتاب والسنة ، قاصدا نفع الناس فإنه يرجى أن يكون ذلك داخلاً في قول الله تعالى:{فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} سورة الأعراف:176..
فالقصص فيه منافع ولكن المقصود الأعلى بحلق الذكر هو الحلق التي يتعلم فيها الحلال والحرام، وليس المقصود بالحلال والحرام الجامد الذي لا يُراعى فيه التعبد ويقرن بتعظيم الله تعالى، أعلى العلم هو العلم بالله تعالى، ومن تمام العلم به سبحانه وتعالى العلم بشرعه، ولذلك لا يكمل علم العبد بالله تعالى إذا لم يكن عالما بأمر الله تعالى ، عالماً بنهيه سبحانه وبحمده.
يقول رحمه الله:"وروي عن أنس معناه أيضاً"، معنى قوله"أما أني لا أعني القُصَّاص ولكن حلق الفقه"، هنا تنبيه ما المقصود بحلق الفقه، هل المقصود بحلق الفقه، الفقه الخاص الذي اصطلح عليه المصلحون في الفنون في القرون التي تلت القرون المفضلة، يعني هل الفقه معرفة الأحكام التفصيلية من أدلتها الشرعية؟ الجواب.لا.
الفقه في كلام الله وفي كلام رسوله وفي كلام الصحابة رضي الله عنهم أوسع من ذلك.
فالفقه هو الفهم للشريعة وذلك بفهم ما فيها من معاني كلام الله تعالى وهذا أعلى الفهم، وأعلى الفقه، ولذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«اللهم فقه في الدين»، وفقه الدين لا يكون إلا بفقه مصدره.
«وعلمه التأويل» أخرجه أحمد (1/266).، أي علمه التفسير، وهو تفسير كلام الله جل وعلا.
فالفقه في الدين أوسع من المفهوم الضيق الذي فهمه المتأخرون، أو اصطلح عليه المتأخرون من أنه معرفة الأحكام التفصيلية فقط، بل هو أوسع من ذلك.
ولذلك قال :"ولكن حلق الفقه" يشمل حلق الحديث، يشمل حلق التفسير، ابن مسعود رضي الله عنه من أئمة المفسرين، من كبارئهم، وكان يشتغل بالتفسير في أكثر تعليمه رضي الله عنه، فلا يعقل أنه يريد بالفقه جانب الأحكام التفصيلية ويهمل بقية العلوم التي هي أصل العلم وأكمله، وبه يحصل للإنسان إدراك العلم على وجه الكمال.
قال :" وقال عطاء الخرساني : مجالس الذكر مجالس الحلال والحرام، كيف تشتري وتبيع، وتصلي وتصوم، وتنكح وتطلق، وتحج وأشباه هذا"، وكان السلف رحمهم الله تعالى يعدون هذا من كلام الله جل وعلا ومن كلام رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
ثم قال :"وقال يحيى بن أبي كثير: درس الفقه صلاة"، وذكر قصة يناسب أن تذكر لأنه متكرر عبر الزمان، فيقول :" وكان أبو السوار العدوي"، وهو من المعلمين المتفقهين "في حلقته يتذاكرون العلم ومعه فتى شاب"، أي فتى حديث السن، قال:" فقال لهم قولوا سبحان الله والحمد لله"، الظاهر أنهم كانوا يفصلون في بعض الأحكام إما في المواريث أو في الحيض أو في شيء من العلم المتعلق بأحكام الشريعة، فلعله استطال ذلك وقال خير من هذا أن تقولوا سبحان الله والحمد لله، " فغضب أبي السوار وقال : ويحك"، ويحك كلمة تقال في مقابل ويلك.
ويلك : كلمة عقوبة، الويل كلمة عقوبة وتهديد، وأما ويح فهي كلمة رحمة وتعطف على من قيلت له.
هكذا التفريق بين هاتين الكلمتين، فقوله " ويحك" يعني لك الرحمة،" في أي شيء كنا إذاً"، يعني نحن نتكلم في أي شيء، إن تعلم العلم من التسبيح والتقديس والتمجيد لله تعالى.
يقول:"والمراد بهذا أن مجالس الذكر لا تختص بالمجالس التي يذكر فيها اسم الله، بالتسبيح والتكبير والتحميد ونحوه، بل تشمل ما ذكر فيه أمر الله ونهيه، وحلاله وحرامه وما يحبه ويرضاه فإنه ربما كان هذا الذكر أنفع من ذلك"لماذا؟ لأن هذا الذكر يثمر عملاً فيستبصر به الإنسان ما يجب عليه من حقوق الله تعالى.
قال رحمه الله في بيان وجه التفضيل:"لأن معرفة الحلال والحرام واجبة في الجملة على كل مسلم"، لأنه لا يمكن أن يتعبد الله تعالى إلا بالعلم الذي يهتدي به إلى القيام بحق الله تعالى " بحسب ما يتعلق به في ذلك، وأما ذكر الله باللسان فإن أكثره يكون تطوعاً" كأذكار أدبار الصلوات، وأذكار الصباح والمساء، وهذا ليس نزولاً بها عن مكانتها، لكن عند المفاضلة وعند معرفة مراتب الأعمال لابد أن نبين ما هي مراتب الأعمال، وليس هذا مدعاة للقدح في عمل أو التزهيد فيه، بل العلم والعمل يكمل بعضه بعضاً.
يقول رحمه الله :"وأما ذكر الله باللسان فإن أكثره يكون تطوعاً، وقد يكون واجباً كالذكر في الصلوات المكتوبة.
وأما معرفة ما أمر الله به ونهى عنه، وما يحبه ويرضاه، وما يكرهه وينهى عنه يجب على كل من احتاج إلى شيء من ذلك أن يتعلمه"، هنا بيّن العلم الكفائي والعلم العيني.
ضابط العلم العيني ما قاله فيما نقله عن الإمام أحمد في قوله ما يجب على الإنسان من العلم ما لابد له في صلاته وإقامة دينه.
في صلاته لأنها أشرف وأهم الأعمال البدنية، وهي واجبة على كل من كان من أهل الإسلام.
وإقامة دينه يشمل هذا ما يتعلق بعلم القلب، فالعلم الذي يجب على المؤمن تعلمه هو ما تستقيم به عقيدته ويكمل به العلم، وهو يحصل به الحد الأدنى من العلم بالله تعالى، وسائر أصول الإيمان، هذا فيما يتعلق بالاعتقاد.
أما فيما يتعلق بالعمل، فهو ما يتعبد به الله تعالى، وهذا يختلف باختلاف الناس بعد الاتفاق على الصلاة.
ثم بعد ذلك ما يتعلق بالحج والزكاة، وكذلك أحكام البيع وكذلك أحكام النكاح، وأحكام القضاء وأحكام الحدود والمنازعات، هذه أمور تختلف باختلاف أحوال الناس وما يحتاجون إليه.
ولذلك قال رحمه الله في هذا الموضع نقولات عن أهل العلم فيما يجب تعلمه.
لكن ضابط العلم الذي يجب تعلمه هو ما يقيم به الإنسان عبادته، هذا هو الواجب يختلف هذا باختلاف الناس، لكن القاسم المشترك هو ما يتعلق بالعلم بالله تعالى، فهذا فيما يتعلق بعلم القلب.
وما يتعلق بالتعبد لله تعالى وهذا يتعلق بالعمل.
فلا يفهم من قوله رحمه الله :" الذي يجب على الإنسان من العلم ما لابد له منه في صلاته وإقامة دينه"، أنه فقط في أعمال الجوارح، بل حتى في أعمال القلوب منها ما هو واجب.
ولذلك لما ذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإسلام ذكر أعمالاً هي واجبة ، ثم ذكر الإيمان ذكر أصولاً هي واجبة، فلما سأله عن الإيمان قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وهذا هو الحد الأدنى من العلم الذي يجب على كل أحد وهو الإيمان المجمل.
ثم الإيمان المفصَّل يختلف باختلاف أحوال الناس.