يقول رحمه الله :" وقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتخول أصحابه بالموعظة أحياناً خشية السآمة عليهم".
كما جاء في "الصحيحين""صحيح البخاري"(68)، ومسلم (2821). من حديث الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه قال:" كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتخولنا بالموعظة في الأيام مخافة السآمة علينا".
" مخافة السآمة علينا "، أي يخشى أن يصيبهم الملل، وأن ينفروا عن العلم، وهذا يدل على ترفق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لصحابه ، وتصديق قول الله جل وعلا {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} سورة التوبة:128..
فينبغي للعالم وطالب العلم أن يترفق بالناس.
بعض المشتغلين بالدعوة يغتنم كل فرصة للدعوة بصورة معينة، قد تكون الدعوة بفعل لا يلزم أن تكون الدعوة بكلام.
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام فلم يقعد على النذارة منذ أن قال الله له :{قُمْ فَأَنْذِرْ} سورة المدثر:2..
لكنه لم يتخذ صورة معينة للنذارة وهي الحديث والكلام فقط، بل كان منذراً بقوله وفعله وعمله، وسائر تقلباته وشأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فينبغي لطالب العلم أن لا يقتصر في الوعظ والتنبيه على القول، بل يقرن بذلك العمل، وأن ينظر مواطن الرحمة في معاملة الناس ويقدمها على غيرها فإنها شريعة ورحمة، ومن مظاهر ذلك كون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يراعي أصحابه ويرفع السآمة عنهم.
وبعض الناس إذا تكلم لا يسكت حتى يقول الناس ليته سكت، وينبغي لنا - يا إخواني - في معاملة الناس في الوعظ والإرشاد والخطابة ، يعني أن نسلك مسلك الاقتصار والاختصار، فلأن يقول الناس ليته لم يسكت خير من أن يقولوا ليته سكت".
يعني ليته لم يسكت، بعض الناس يقول " زدنا، زدنا"، يريد مزيد.
خير من أن يقولوا :" والله طوَّل، لو أنه اقتصر أو اختصر، لكان أحسن".
وهذا مسلك لا يهدى إليه كثير من المتكلمين.
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل معياراً في الخطابة في الدلالة على فقه الخطيب فقال:«إِنَّ طُولَ صَلاَةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ...» ، كما في "الصحيح""صحيح مسلم" (869).، وهذا يدل على أن قصر الخطبة ليس المقصود القِصر المخل ولا يخرج بمعنى، إنما المقصود به القصر ويحصل به تمام المعنى، « مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ»، أي دليل وبرهان لفقه الرجل.
ثم قال:"قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع»، خرَّج ابن ماجه رحمه الله تعالى من حديث زر بن حبيش قال: أتيت صفوان بن عسَّال، فقال ما جاء بك؟ قلت : أطلب العلم، قال : فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول :« ما من خارج يخرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضاً بما يصنع»، خرَّجه الترمذي وغيره موقوفاً على صفوان .
وقد اختلف الناس في تأويل وضع الملائكة أجنحتها، فمنهم من حمله على ظاهره وأن المراد فرش الأجنحة وبسطها لطلاب العلم، لتحملهم عليها إلى مقاصدهم من الأرض التي يطلبون فيها العلم، إعانة لهم على الطلب وتيسيرا عليهم.
وقد سمع هذا الحديث بعض الملحدين، فقال لطلبة العلم : ارفعوا أرجلكم عن أجنحة الملائكة لا تكسروها.
يستهزؤون بذلك ، فما زال من موضعه حتى جفت رجلاه وسقط.
وروي عن آخر قوله: لأكسرن أجنحة الملائكة، فصنع له نعلاً طرقها بمسامير كثيرة فمشى بها إلى مجالس العلم فجفت رجلاه ووقعت فيهما الأكلة".
المعنى الأول من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع"، وهو أن الفرش هنا فرش حقيقي، تضع الأجنحة فيسير عليها من سار إلى العلم.
وهذا قد يقول قائل: أنا لا أرى أجنحة.
نقول : نعم هذا من الأمور الغيبية، أنت أصلاً لا ترى ما هي أجنحة الملائكة، لا ترى الملائكة الذين يقابلونك في ذهابك ومجيئك وقد وكلوا بتسجيل أعمالك، فهذا أمر غيبي لا تدركه ويجب عليك أن تؤمن به دون أن تدخل في تفاصيل ذلك في طلب الكيفيات، فإن طلب كيفيات الغيب من الخروج عما يجب في الإيمان بالغيب من الإيمان الذي يقتضي التسليم دون طلب الكيفيات.
المقصود أن المعنى الأول هو أنه فرش حقيقي، أما كيفية هذا الفرش فهذا من أمور الغيب التي لا نعلمها.
وهذا القول ذكره المؤلف في أول الأقوال.
ثم ذكر قول طائفة من الملحدين الذين ذكر حالهم وما أصابهم، ومن استهزأ بكلام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحقيق أن يناله من عقوبة الله في الدنيا والآخرة ما يتبين به ضلاله، فإنه الله تعالى قد قال لرسوله واعداً إياه :{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} سورة الحجر:95..
وكفاية الله تعالى المستهزئين أنه سيرد كيدهم، ويبطل سعيهم، ويكشف عوارهم للناس.
المعنى الثاني من معاني وضع الملائكة أجنحتها، قال رحمه الله :"ومنهم من فسَّر وضع الملائكة أجنحتها بالتواضع لهم، والخضوع لطلاب العلم كما في قوله تعالى:{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} سورة الشعراء:215..
وفي هذا نظر لأن للملائكة أجنحة حقيقية بخلاف البشر".
هذا المعنى الثاني أنه تواضع الملائكة وخضوعها لطلاب العلم رضاً بما يصنعون من الاشتغال بطلب العلم.
لكن المؤلف رحمه الله ضعَّف هذا الوجه، لأن تنظيره بقوله تعالى {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، واضح أنه المقصود به الذل والخضوع للمؤمنين المتبعين للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وإنما حمله على هذا الوجه لكون البشر ليس لهم أجنحة حقيقية، بخلاف الملائكة فإن لهم أجنحة حقيقية.
وإذا سار الكلام بين أن يكون حقيقاً أو أن يكون مجازاً فالأصل الحقيقة، ولذلك قال:" وفي هذا نظر لأن للملائكة أجنحة حقيقية بخلاف البشر".
الوجه الثالث: قال :"ومنهم من فسَّر ذلك بأن الملائكة تحف بأجنحتها مجالس الذكر إلى السماء ، كما جاء ذلك صريحاً في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وورد مثله في بعض ألفاظ حديث صفوان بن عسال مرفوعاً،« إن طالب العلم لتحفه الملائكة وتظله بأجنحتها، ثم يركب بعضهم بعضاً حتى يبلغوا إلى سماء الدنيا من حبهم لما يطلب، ولعل هذا القول أشبه والله أعلم".
هذا المعنى الثالث الذي ذكره المؤلف في معنى وضع أجنحة الملائكة وأنها تحف طلبة العلم بأجنحتها.
ومعنى تحف أي أنها تحيط بهم ، وتصونهم وترعاهم وتحفظهم وتبارك في أوقاتهم وأعمالهم وتذب عنهم، هذا معنى حف الملائكة بأجنحتها مجالس الذكر.
وقد جاء هذا في "صحيح الإمام مسلم" من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لاَ يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلاَّ حَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»"صحيح مسلم"(2700)..
وذكر المؤلف رحمه الله شاهد ذلك أيضاً من"حديث صفوان بن عسال مرفوعاً،« إن طالب العلم لتحفه الملائكة" أي تحيط به "وتظله بأجنحتها، ثم يركب بعضهم بعضاً حتى يبلغوا إلى سماء الدنيا من حبهم لما يطلب"، وهذا المعنى الأخير هو الذي رجحه المؤلف رحمه الله حيث قال:"ولعل هذا القول أشبه"، يعني أقرب الأقوال إلى مراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن وضع الملائكة أجنحتها لطلبة العلم هو ما ذكره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث أبي هريرة من أن الملائكة تحف مجالس الذكر.
ثم قال رحمه الله:" قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في جوف الماء»، قد أخبر الله في كتابه باستغفار ملائكة السماء للمؤمنين عموماً بقوله تعالى {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} سورة غافر:7..
وقوله تعالى:{وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} سورة الشورى:7..
فهذا للمؤمنين عموماً، فأما العلماء فيستغفر لهم أهل السماء وأهل الأرض حتى الحيتان في البحر.
وخرَّج الترمذي من حديث أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:«إن الله وملائكته وأهل السماوات وأهل الأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير»، وصححه الترمذي"سنن الترمذي"(2685)..
وخرَّج الطبراني من حديث جابر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:« معلم الناس الخير يستغفر له كل شيء، حتى الحيتان في البحار»"المعجم الأوسط"(6/289)، ح(6219)..
ويروى من حديث البراء بن عازب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « العلماء ورثة الأنبياء، يحبهم أهل السماء، وتستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا إلى يوم القيامة» أخرجه الديلمي (3/75)، ح(4209)، وإسناده ضعيف ، كما قال الألباني في "الضعيفة" (8/467)..
وورد الاستغفار أيضاً لطالب العلم، ففي "مسند الإمام أحمد" عن قبيصة بن المخارق قال :أتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال ما جاء بك، قلت : كبر سني، ورق عظمي، وأتيتك لتعلمني ما ينفعني الله به، قال :« يا قبيصة ما مررت بحجر ولا شجر ولا مدر إلا استغفر لك»"مسند أحمد " (5/60)..
وقد دل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} سورة الأحزاب..
على أن الله وملائكته يصلون على أهل الذكر.
والعلم من أفضل أنواع الذكر كما سبق تقريره، وخرَّج الحاكم من حديث سليم بن عامر قال: جاء رجل إلى أبي أمامة فقال: يا أبا أمامة! إني رأيت في منامي كأن الملائكة تصلي عليك كلما دخلت وكلما خرجت، وكلما قمت وكلما جلست، فقال أبو أمامة: اللهم غفرا، دعونا عنكم، وأنتم لو شئتم لصلت عليكم الملائكة ثم قرأ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}".
وهذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله فيه غاية الحث لطالب العلم أن يجتهد في هذا الشأن الذي هو مقبل عليه وهو طلب العلم فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشَّر العالم بأنه يستغفر له من في السموات ومن في الأرض، وما حال من يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، أيبقى له ذنب؟!، لا أظن أن شخصاً يستغفر له من في السموات ومن في الأرض يشفعون فيه ويسألون الله أن يغفر له ويبقى له ذنب.
" وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في جوف الماء"، وهذا لعظيم شرف العلم وكبير منزلته.
وذكر المؤلف رحمه الله في شرح هذا المقطع من كلام المؤلف أولاً: استغفار الملائكة للمؤمنين عموماً، قال جل وعلا "{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}".
والثاني قوله :{وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ}.
فالآية الثانية التي في سورة الشورى بينتها آية غافر حيث قال :{يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}، فهم لا يستغفرون لجميع من في الأرض ، إنما للمؤمنين الذين في الأرض، ولذلك قال :" فهذا للمؤمنين عموماً".
أما العلماء على وجه الخصوص فهم في أعلى درجات الإيمان.
العلماء العاملون الذين لهم المنزلة والمكانة هم في أعلى درجات الإيمان ، فحقهم ونصيبهم من الاستغفار أعلى ما يكون في قوله تعالى:{ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}.
"فأما العلماء فيستغفر لهم أهل السماء وأهل الأرض حتى الحيتان"، وذكر في ذلك جملة من الأحاديث الدالة على استغفار الملائكة ومن في السموات ومن في الأرض لأهل العلم.
ثم قال:"وورد الاستغفار أيضاً لطالب العلم"، ثم ذكر استدلالاً عاماً، وكأنه يقول : هذه الأحاديث التي ذكرت في أسانيدها مقال، لكن مجموعها يفيد المعنى، ثم إن هذا المعنى قد جاء النص عليه في كلام الله جل وعلا، يعني يمكن أن يقول قائل: لماذا لم يذكر المؤلف الآية في أول الاستدلال، لأنه في غالب القاعدة إذا أردت أن تستدل تبدأ بذكر الأدلة من الكتاب ثم تذكر الأدلة من السنة.
المؤلف ذكر استغفار الملائكة لعموم المؤمنين، ثم لما ذكر الاستغفار للعلماء ذكر نصوص من الكتاب أو من السنة؟ من السنة.
ثم بعد ذلك أتى بدليل فقال:"وقد دل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}"، لماذا جاء بهذا بعد ذكر الأدلة من السنة، ما السبب؟ لماذا؟ لأن دلالة الأحاديث على المسألة التي يريد الاستدلال لها دلالة بالنص، فإن الأحاديث ذكرت استغفار الملائكة لمعلم الناس الخير، والعلماء هم معلمو الناس الخير.
ثم ذكر الأحاديث الأخرى، كلها في نفس السياق، فهي نص في المسألة.
لكن هذه الأدلة لما كانت من جهة الإسناد لا تخلو من مقال أراد أن يعضد ذلك المعنى الذي أفادته مجموع تلك الأحاديث التي فيها مقال بآية وهي قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}، ثم قال:{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، وهذا جزاء ما تقدم من الأمر، فإنه تقدم من الأمر {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}، ثم ذكر العاقبة للذاكرين فقال :{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، ففائدة الذكر حصول صلاة الله تعالى على العبد.
وصلاته سبحانه وتعالى على عبده هو إعطاؤه الخير الكثير.
والملائكة أيضاً يشتغلون بالدعاء للذاكرين، فيسألون الله تعالى لهم الخير الكثير.
ثم إنه من فوائد الذكر الخروج من الظلمات إلى النور، ولذلك قال :{لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، فاللام هنا للعاقبة، عاقبة هذه الصلوات وهذا الذكر هو أن يخرجوا من الظلمات إلى النور.
ويمكن أن يقال : إن هذا تعليل للأمر بالذكر فإنه قد قال :{اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} ، وفائدة ذلك :{لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}.
العلم هل هو ذكر؟ هو أشرف الذكر ، وأعلى الذكر الاشتغال بالعلم.
فإذا كان العلم يحصل به المرء صلاة الملائكة، فإن الملائكة يصلون على الذاكرين.
والعلماء هم أعلى الذاكرين لأنهم يذكرون الله تعالى في كل أحوالهم، في صلاتهم ذكر، في تسبيحهم ذكر، في تعليمهم ذكر، في أمرهم بالمعروف ذكر، في نهيهم عن المنكر ذكر، في إجابتهم السائلين ذكر، كل هذا من ذكر الله الذي هو أعلى درجات الذكر لكونه يتضمن نفع النفس ونفع الغير بخلاف الذي يقول " سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، أستغفر الله، لا إله إلا الله"، وما أشبه ذلك.
هذا ذكر يطيب به القلب ويسكن به الفؤاد ويستقيم به العمل، ولكن ليس كالذكر الذي فيه التعليم والتبصير، من دل على خير كان له من الأجر مثل من عمل به لا ينقص من أجورهم شيئاً .
أجور وخيرات ما لها حد ولا منتهى، لا يمكن أن يحصيها عقل، ويتدبرها فكر من جهة الإحصاء لكنه فضل الله الذي لا يضيع عنده جل وعلا مثقال ذرة ، كما قال جل وعلا :{يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} سورة لقمان:16.، الله أكبر، وهذا مثقال حبة سواء كانت من الخير أو من الشر فالله جل وعلا لا يضيع عمل عامل، لذلك ينبغي أن نحسن النية ، وأن يكون هذا حافزاً لنا على بذل كثير من العطاء والإحسان ولا يلزم أن يبلغ الإنسان أعلى درجات العلم حتى يعلم أو يأمر بالمعروف أو حتى يذكر أو ينصح أو حتى يبلغ.
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لأصحابه «بلغوا عني ولو آية، فرب مبلغ أوعى من سامع»"صحيح البخاري"(3461)..
وهذا فيه الندب لنا جميعاً أن نجتهد في نشر العلم، وكلما انتشر العلم ضاق الجهل، ما يمكن أن تقابل الأفكار المنحرفة ولا الآراء الشاذة ولا المعاصي والنفاق بمثل العلم.
العلم كالنيازك يدك معاقل الشرك ويهوي به بنيان وصرح المعصية والنفاق، ولذلك ينبغي لنا أن نشتغل بالعلم مهما طلبنا من إصلاح الأمة من أقرب وأيسر طريق فإنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
إن صلاح أول هذه الأمة كان بالعلم، لكن ينبغي أيضاً مع إدراكنا لهذه الحقيقة أن نفهم ما هو العلم الذي يصلح به هذه الأمة، هل هو فقط التشقيق في مسائل خلافية دقيقة؟ لا، العلم أوسع من هذا.
أصل العلم، العلم بكلام الله ، وكلام رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فمتى امتلأ القلب بذلك كان ذلك من أعظم ما يحصل به الهدى والبصيرة وإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
قال رحمه الله :"وقد ذكر بعضهم السر في استغفار دواب الأرض للعلماء، وهو أن العلماء يأمرون الناس بالإحسان إلى المخلوقات كلها، وبإحسان قتل ما يجوز قتله، أو ذبحه من الحيوانات، فيتعدى نفعهم إلى الحيوانات كلها، فلذلك يستغفرون لهم.
ويظهر فيه معناً آخر، وهو أن سائر المخلوقات طائعة لله قانتة له، مسبحة له، غير عصاة الثقلين: الجن والإنس.
فكل الخلق المطيعين لله، يحبون أهل طاعته، فكيف به وهو يعرف الله، ويعرف حقوقه وطاعته، فمن كانت هذه صفته فإن الله يحبه ويزكيه ،ويثني عليه ويأمر عباده من أهل السماء والأرض وسائر خلقه بمحبته والدعاء له، وذلك هو صلاتهم عليه.
ويجعل له المودة في قلوب عباده المؤمنين، كما قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا } سورة مريم: 96.، ولا تختص محبته بالحيوانات بل تحبه الجمادات أيضاً كما جاء في تفسير قوله تعالى {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} سورة الدخان:29.،أن السماء والأرض تبكي على المؤمن إذا مات أربعين صباحاً.
وفي الحديث «إن الأرض تقول للمؤمن إذا دُفن : إن كنت لأحب من يمشي على ظهري فسترى إذا صرت إلى بطني صنيعي»".
هذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله بيان للسب الذي من أجله يجعل الله تعالى الاستغفار من الحيوانات للعالم.
يقول:"وقد ذكر بعضهم السر في استغفار دواب الأرض للعلماء، وهو أن العلماء يأمرون"، بالعدل والإحسان في كل شيء، حتى في حق الحيوانات، فإنهم يأمرون بالإحسان إلى المخلوقات وعدم أذاها، وإذا قتلت أن تقتل على الوجه الذي أمر الله به في قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة»"صحيح مسلم"(1955)..
يقول:"ويظهر فيه معناً آخر ".
إذاً: المعنى الأول أن محبة الحيوانات لأهل العلم واستغفارها لهم سببه ماذا؟ أن العلماء يأمرون الخلق بإعطاء كل ذي حق حقه ، فيأمرون بالإحسان إلى الحيوان، ويأمرون بإعطائه حقه.
ولذلك لا يجوز أن يحمل الإنسان الدابة أكثر مما تحتمل، يأثم حتى ولو كانت عجماء، وهذا مما يبينه أهل العلم مما فهموه وعلموه من كلام الله وكلام رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
هناك معنى آخر وهو رابطة الإيمان التي تربط المؤمنين، فإنها توجب المودة والألفة، قال الله جل وعلا {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} سورة التوبة: 71.، هذا في حق المؤمنين والمؤمنات من الثقلين {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، يحبونهم وينصرونهم.
وكذلك يقول المؤلف رحمه الله:" وهو أن سائر المخلوقات طائعة لله" تعالى تحب المؤمنين والمؤمنات، وتدعو لهم وتستغفر لهم لاسيما من كان في أعلى المراتب منهم وهم أهل العلم الذين تبوأوا منزلة عليا فهم ورثة الأنبياء في إقامة الشريعة، وورثة الأنبياء في العمل بها، وورثة الأنبياء في المنزلة والمكانة.