يقول رحمه الله :"ومن جمع هذه العلوم فهو من العلماء الربانيين، العلماء بالله العلماء بأمر الله، وهم أكمل ممن قصر علمه على العلم بالله دون العلم بأمره وبالعكس.
وشاهد هذا النظر في حال الحسن وابن المسيب والثوري وأحمد وغيرهم من العلماء الربانيين .
وحال مالك بن دينار والفضيل بن عياض ، ومعروف وبشر وغيرهم من العارفين.
فمن قاس بين الحالين عرف حال العلماء بالله وبأمره على العلماء بالله فقط.
فما الظن في تفضيل العلماء بالله وبأمره على العلماء بأمره فقط، فإن هذا واضح لا خفاء به، وإنما يظن بعض من لا علم له تفضيل العبَّاد على العلماء لأنهم تخيلوا أن العلماء هم العلماء بأمر الله فقط، وأن العبَّاد هم العلماء بالله وحده، فرجحوا العالم به على العالم بأمره وهذا حق".
المؤلف بيَّن من هو العالم بالله تعالى فقال:"هو العالم بأسمائه وصفاته وأفعاله التي توجب لصاحبها معرفة الله تعالى وخشيته ومحبته وإجلاله وعظمته والتبتل إليه"، ويتبع ذلك العلم بملائكته وكتبه وسائر أصول الإيمان.
وأما العلم بأمر الله تعالى فهو العلم بالحلال والحرام، العلم بأوامر الله تعالى ونواهيه وشرائعه وأحكامه.
بعد هذا البيان لهذين النوعين من العلم بيَّن المؤلف رحمه الله مراتب الناس فيهما، فمن كان عالماً بالله عالماً بأمره فهذا قد تبوأ أعلى المراتب وهو أفضل من العالم بالله تعالى فقط.
يعني من جمع العلم بالله والعلم بأمره أعظم ممن استقل فقط علمه بالله تعالى، ومثَّل لذلك بمن كمَّل العلمين كمالك وابن المسيب والثوري وأحمد، والحسن، وجماعة من الأئمة، ومن عظم علمه بالله تعالى وقصر علمه بأمره كمالك بن دينار والفضيل بن عياض ومعروف وبشر، وغيرهم من العارفين.
ثم قال رحمه الله :"فمن قاس بين الحالين"، أي نظر إلى حال هؤلاء وحال أولئك، " عرف حال العلماء بالله وبأمره على العلماء بالله فقط".
إذاً: تبَّن لنا أن أعلى المراتب هو العلم بالله وبأمره، وهو أعلى من العلم به سبحانه وبحمده فقط.
وإذا كان العالم بالله وبأمره أعلى من العالم بالله تعالى فقط، فما الظن بمن جمع العلم بالله وبأمره فيما إذا قورن أو وزن بمن علم بأمره فقط، لا شك أنه أعلى منه منزلة وهذا محل اتفاق، ولا لبس في ذلك ولا اختلاف.
" فما الظن في تفضيل العلماء بالله وبأمره على العلماء بأمره فقط"، التفضيل واضح وبيِّن.
" فإن هذا واضح لا خفاء به"، إنما الخفاء في النوع الأول، وهو الموازنة بين العالم بالله وبأمره، وبين العالم به سبحانه وبحمده.
قال رحمه الله في سبب الاشتباه، قال :" وإنما يظن بعض من لا علم له تفضيل العبَّاد على العلماء لأنهم تخيلوا أن العلماء هم العلماء بأمر الله فقط"، فحصروا العلم على العلم بتفاصيل الأحكام، "وأن العبَّاد هم العلماء بالله وحده"، فعلى هذا رجَّحوا العلم بالله تعالى على العلم بأمره.
يقول رحمه الله تعالى :" وهذا حق".
إذاً: المراتب من خلال ما تقدم هي ثلاثة، " عالم بالله وبأمره" هذا في أعلى المراتب.
يليه " عالم بالله تعالى" .
يليه بعد ذلك في المرتبة الدنيا "العالم بأمر الله تعالى".
ثم قال رحمه الله:"ونحن إنما نقول: إن العلماء بالله والعلماء بأمره أفضل من العُبَّاد، ولو كان العبَّاد من العلماء بالله لأن العلماء الربانيين شاركوا العبَّاد في فضيلة العلم بالله، بل ربما زادوا عليهم فيه، وانفردوا بفضيلة العلم بأمر الله، وبفضيلة دعوة الخلق إلى الله وهدايتهم إليه، وهو مقام الرسل عليهم السلام، وكذلك كانوا خلفاء الرسل وورثته كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
وهذا القدر الذي انفردوا به عن العباد أفضل من القدر الذي انفرد به العباد من نوافل العبادة، فإن زيادة المعرفة بما أنزل الله على رسوله توجب زيادة المعرفة بالله والإيمان به، وجنس المعرفة بالله والإيمان به، أفضل من جنس العمل بالجوارح والأركان".
اتضح الآن كيف كان العلم بالله وبأمره أفضل من العلم به مع عظيم التعبد.
يقول المؤلف رحمه الله تعالى إن العالم بالله تعالى إذا ضم إلى ذلك العلم بأمره ازداد معرفة بالله تعالى، فإن الشرائع تدل على كمال الرب جل وعلا، إذ منها يعرف العبد كمالات لرب العالمين في حكمه وأمره ونهيه وحكمته سبحانه وتعالى ، ويعرف عزته وقدرته وكمال علمه بالمصالح كل هذه تستبين وتضح بالعلم بتفاصيل الشريعة.
ولذلك العلم بأسرار الأحكام مما يزداد به اليقين ويعظم به العلم بالله تعالى.
وهذا أفضل من الاشتغال بنوافل العبادات، ولذلك يقول:"وهذا القدر الذي انفردوا به عن العباد"، وهو علمهم بأمر الله ونهيه، وإدراكهم لأسرار الشريعة وحكمها، " أفضل من القدر الذي انفرد به العباد من نوافل العبادة"، لماذا؟ قال:" فإن زيادة المعرفة بما أنزل الله على رسوله توجب"، أي تثبت وتقرر " زيادة المعرفة بالله والإيمان به، وجنس المعرفة بالله والإيمان به"، جنس العلم بالله تعالى أفضل من جنس العمل بالجوارح والأركان .
ثم بيَّن المؤلف لماذا مع هذا التفضيل البيِّن الواضح للعلم على العبادة، لماذا لم يقبل العباد على العلم.
يقول رحمه الله:"ولكن من لا علم له تعظم في نفسه العبادات على العلم لأنه لا يتصور حقيقة العلم ولا شرفه ولا قدرة له على ذلك، وهو يتصور حقيقة العبادات، وله قدرة على جنسها في الجملة".
إذاً: الذي جعل العُبَّاد يرون ما هم فيه أفضل من الاشتغال بالعلم، ما جعل العباد يرون ما يشتغلون به أفضل مما عليه أهل العلم أمران:
الأمر الأول: أنهم لم يتصوروا حقيقة العلم، وظنوا أن العلم مجرد حلال وحرام وتشقيقات ومسائل لا أثر لها على صلاح القلب وزكائه.
ثم إنهم عطفوا على جهلهم بالعلم وفضله وشرفه وحقيقته أمراً آخر ، وهو ما ذكره رحمه الله " أنه لا قدرة لهم على ذلك".
قصرت قدراتهم عن الدخول في العلم، ولذلك قنعوا بما هم فيه وكثير من الناس قد يشتغل بشيء ويرى أنه أفضل من غيره.
ولذلك لما كتب أحد الزُّهاد للإمام مالك رحمه الله يحثه على ترك الجلوس للناس ونفعهم وأن يقبل على التعبد والطاعة والإحسان وسائر النوافل من العبادات والطاعات، كتب له الإمام مالك رحمه الله ما ملخصه ومضمونه :" أنت على باب من الخير فُتح لك، وأنا على باب من الخير فُتح لي، وليس الذي أنت عليه بأفضل مما أنا عليه، وكل ميسر لما خلق له".
فالإمام رحمه الله بيَّن له أنه على خير، ولكن الخير الذي هو عليه ليس بأقل من الخير الذي عليه الإمام مالك من تعليم العلم ونشر السنة وتبليغها، وسيأتي جملة من كلام المؤلف في تقرير هذا الأمر ، وبيان فضيلة العلماء على العباد مهما بلغوا في عبادتهم وتعبدهم .
المقصود أن الذي قعد بالعباد عن الإقبال على العلم أمران:
الأمر الأول: أنهم جهلوا حقيقة العلم وشرفه وما يؤدي إليه.
الثاني: أنه ليس عندهم قدرة كاملة على العلم، ولذلك قنعوا بالاشتغال بالعبادات ورأوا أنها أفضل من الاشتغال بالعلم.
يقول رحمه الله:"ولهذا تجد كثيراً ممن لا علم لديه يفضل الزهد في الدنيا على العلوم والمعارف وسببه ما ذكرناه"، ما تقدم، السببان المتقدمان.
قال رحمه الله :"وهو أنه لا يتصور معنى العلم والمعرفة ومن لا يتصور شيء لا يقر في صدره عظمته، وإنما يتصور الجاهل بالعلم حقيقة الدنيا وقد عظمت في صدره فعظم عنده من تركها، كما قال محمد بن واسع وقد رأى شاباً فقيل له : هؤلاء زهاد، فقال:" وأي شيء قدر الدنيا حتى يمدح من زهد فيها".
وهذا المعنى استفاده من أين؟ من العلم، فقال :"وأي شيء قدر الدنيا حتى يمدح من زهد فيها "، هي ليست بشيء، حتى يمدح من زهد فيها، اكتسب هذا من أين؟ من العلم.
ولذلك رأى أن الفضيلة هي في العلم الذي يستبين به السبيل، ويستنير ويضيء به الطريق ويعرف به السبل الموصلة إلى طاعة الله تعالى ورضوانه.
يقول رحمه الله:"وقال أبو سليمان الداراني قريباً من هذا المعنى أيضاً.
فالمفتخر بالزهد في الدنيا كالمفتخر بترك نذر يسير من شيء هو أقل عند الله من جناح بعوضة، وهذا أحقر من أن يذكر، فضلاً عن أن يفتخر به.
ولهذا أيضاً يعظم في نفوس كثير من الناس ذكر الخوارق والكرامات ويرونها أفضل مما أعطيه العلماء من المعرفة والعلم، وإنما يتصورون حقيقة الخوارق لأنها من جنس القدرة والسلطان في الدنيا الذي يعجز أكثر الناس عنه.
وأما العلماء بالله فلا تعظم هذه الخوارق عندهم، بل يرون الزهد فيها، وأنها من نوع الفتنة والمحنة وبسط الدنيا على العبد فيخافون من الاشتغال بها والوقوف معها، والانقطاع عن الله عز وجل".
المؤلف رحمه الله الآن في هذا المقطع من كلامه يبين فضل العلم على التفرغ للعبادة، وأن العالم أفضل من العابد ، بيَّن ذلك من جهتين:
الجهة الأولى : أن العباد يعظمون من يزهد في الدنيا، والعلماء يرون أن الزهد في الدنيا ليس هو المنزلة العليا والمرتبة الكبرى التي ينبغي أن يسعى إليها الساعون ويتسابق إليها المتسابقون.
بل هي من المراتب التي يتصل بها السالكون ولكنها ليست أعلى المراتب بخلاف العبّاد أعلى المراتب عندهم الزهد في الدنيا، والفرق بيِّن في كلام محمد بن واسع، وفي كلام أبي سليمان الداراني.
الفرق الثاني الذي يتبين به فضل العالم على العابد: أن العباد يرون أن خوارق العادات أمراً عظيماً تسعى إليه قلوبهم وتنشرح لها صدورهم ويبتهجون بها بل كثير منهم يسعى لإدراكها ونيلها.
في حين أن العلماء يرون أن ما يجري من خوارق العادات وهي الكرامات إنما هي نوع ابتلاء، فليست مما تصبو إليه نفوسهم، ولا مما يوزن به الرجال وتعرف به مقاماتهم وأحوالهم.
وهذا فارق بين العباد وبين العلماء .
فالعلماء : الكرامات والخوارق ليست بمقصد لهم، وليست معياراً للحكم على الناس ومعرفة صحة سبيلهم من عدمه، بخلاف مَنْ؟ بخلاف العباد.
فالعباد عندهم الكرامات من أعلى ما يكون في المقاصد والدلالات، وأيضاً أنها معيار يقيسون به ويزنون به الناس.
وبعضهم يجعلها حاكماً على الصحة، والفساد على الصلاح وعدمه.
يقول رحمه الله" ولهذا أيضاً يعظم في نفوس كثير من الناس ذكر الخوارق والكرامات".
الخوارق والكرامات، في معنى واحد، وسميت خوارق لأن الكرامات هي الخارق للعادة، وهي تشتبه كثيراً بالأحوال الشيطانية التي تقع من أهلها، والاشتباه هو في الصورة، وأما في الحقيقة فبينهما بون شاسع وفرق كبير سبق الإشارة إلى الفرق بين الكرامة، وبين الخارق الذي يجري لأصحاب الضلالات ، ذكرنا الفارق:
يعني هناك فروق عديدة، أبرز هذه الفروق:
- أن الخوارق التي تكون لأصحاب الضلالات لا تكون إلا بالكفر، وأما الكرامات فإنها لا تكون إلا بالتقوى والإيمان.
فالفرق بينهما في السبب، تلك تحصل بالتقوى والإيمان، والأحوال الشيطانية تحصل بالكفر، فكلما عظم كفر الإنسان كان خارقه أكبر.
وأما بالنسبة لأولياء الله تعالى فكلما عظم تقوى الله تعالى في قلب العبد أجرى الله تعالى له من الكرامات ما قد يحصل به نفعه أو نفع الأمة أو إقامة الحجة.
- ولذلك أيضاً الفارق الثاني الذي يميز الكرامة عن الحال الشيطانية أن الكرامة مقصودها وغايتها إظهار الدين وتصديق الرسالة وإكرام الله تعالى لأوليائه، بخلاف الأحوال الشيطانية فمقصدها الفساد والفسق والكفر وأكل المال بالباطل، وما إلى ذلك من الفساد الحاصل بالأحوال الشيطانية.
هناك فروق أخرى لكن يكفي هذان الفرقان لأنهما مميزان يتميز بهما الكرامة التي تجري لأولياء الله تعالى، والأحوال الشيطانية التي تكون لأعداء الله تعالى وأولياء الشيطان.
والفرق بين من تجري لهم الكرامات بيِّن، فالعباد يفرحون بالكرامات، في حين أن العلماء يرونها فتنة.
ولذلك قال :"فلا تعظم هذه الخوارق عندهم بل يرون الزهد فيها، وأنها نوع من الفتنة والمحنة وبسط الدنيا على العبد فيخافون من الاشتغال بها والوقوف معها والانقطاع عن الله تعالى".
قال رحمه الله :"وقد ذكر أبو طالب المكي هذا المعنى في كتابه عن كثير من العارفين منهم أبو يزيد ، ويحيى بن معاذ، وسهل التستري، وذو النون والجنيد وغيرهم"، وهؤلاء أئمة هذا السبيل، كان عندهم من العلم ما يجعلهم يخافون الكرامات ويرونها بمنظار شرعي علمي بخلاف كثير من السالكين الذين يتبعون هؤلاء الأئمة فإنهم يرون الكرامات في أعلى الدرجات للدلالة على الصدق والصلاح.
قال :"وقيل لبعضهم إن فلاناً يمشي على الماء، فقال : من أمكنه الله من مخالفة هواه فهو أفضل".
الله أكبر.. واضح هذا ، لما قيل له إن فلانا يمشي على الماء، قال :" أفضل منه من أمكنه الله وأقدره علن أن يخالف هواه"، لأن مخالفة الهوى هي الكرامة الحقيقة، هي الكرامة التي ينبغي أن يسعى إليها الإنسان سواء مشى على الماء أو طار في الهواء.
الكرامة الحقيقية في طاعة الله تعالى، في امتثال أمره، هذا أعلى ما يكرم الله تعالى به عبده، سواء مشى على الماء أو طار في الهواء إذا كان موافقاً لأمر الله تعالى هي الكرامة الحقيقة، ولذلك قال :"من أمكنه الله من مخالفة هواه فهو أفضل".
وقال :"وكان أبو حفص النيسابوري يوماً جالساً مع أصحابه خارج المدينة وهو يتكلم عليهم، فطابت أنفسهم فجاء أيِّل قد نزل من الجبل حتى برك بين يديه فبكى بكاء شديداً وانزعج، فسئل عن سبب بكائه فقال"، الذي بكى أبو حفص النيسابوري.
نعم :" فسئل عن سبب بكائه فقال: رأيت اجتماعكم حولي وقد طابت قلوبكم، فوقع في قلبي لو أن لي شاة ذبحتها ودعوتكم فما تحكم هذا الخاطر حتى جاء هذا الوحش وبرك بين يدي، فخيِّل إليَّ أني مثل فرعون الذي سأل ربه أن يجري له النهر فأجراه له، قلت: فما يؤمنني أن يكون الله يعطيني كل حظٍ في الدنيا، وأبقى في الآخرة فقيراً لا شيء لي، فهذا الذي أزعجني".
الله أكبر.. وهذا دليل على فقهه رحمه الله ومع كونه من مشاهير العباد العارفين، لكن عنده من العلم ما انتبه لهذا المعنى.
فإنه رحمه الله كان يحدث أصحابه ولما رأى منهم الإقبال والخشوع وحضور القلب تمنى أن يطعمهم إكراماً لهم على استجابتهم وحسن قبولهم.
فنزل في أثناء هذا الحال أيِّل وهو نوع من أنواع الوحش الذي يشبه البقر أو الغزلان، فبرك بين يدي الشيخ، كأنه يقول اذبحني وادعهم عليَّ.
فبكى وانزعج انزعاجاً شديداً والسبب أن هذا نوع كرامة، خشي أن يكون هذا نوع استدراج، وأنه كلما قام في قلبه ورغب فيه حصَّله فكان في هذا استيفاء للأجر الذي يكون في الآخرة يستوفيه في الدنيا فلا يبقى له منه في الآخرة شيء.
وأبو حفص النيسابوري هذا هو عمرو بن أبي مسلم، وقيل ابن أبي سلمة، وهو من عبَّاد ونسَّاك القرن الثالث الهجري توفي سنة 265، وقيل 264، وقيل 267، وقيل 270.