ثم قال رحمه الله:
وأَرُدُّ عُهْدَتَها إِلَى نُقَّالِهَـِاُ *** وَأَصُونُها عـَنْ كُلِّ مَا يُتَخَيَّلُ
قُبْحاً لِمَنْ نَبَذَ القُرَانَ وَرَاءَهُ *** وَإِذَا اسْتَدَلَّ يَقُولُ قَالَ الأَخْطَلُ
وَالمؤْمِنُونَ يَـرَوْنَ حَقّـاً ربَّهُمْ *** وَإلَى السَّمَـاءِ بِغَيْرِ كَيْفٍ يَنْزِلُ
وأُقِرُ بـالْمِيـزَانِ وَالْحَوضِ الَّذِي *** أَرجُـو بأَنِّي مِنْـهُ رَيّاً أَنْهَـلُ
وَكَذَا الصِّراطُ يُمَدُّ فَوْقَ جَهَنَّمٍ *** فَمُسَلَّمٌ نَـاجٍ وَآخَـرَ مُهْمَـلُ
و النَّارُ يَصْلاَهَا الشَّقِيُّ بِحِكْمَةٍ *** وَكَذَا التَّقِيُّ إِلى الجِنَانِ سَيَدْخُلُ
ولِكُلِّ حَيٍّ عَاقِـلٍ في قَبْـرِهِ *** عَمَلٌ يُقارِنُـهُ هُنَـاكَ وَيُسْـأَلُ
هذا اعْتِقَـادُ الشَّافِعيِّ و مَالِكٍ *** وَأَبِي حَنِيفَـَةَ ثُمَّ أَحْـمَدَ يُنْقَـلُ
فَإِنِ اتَّبَعْــتَ سَبِيلَهُــم فَمُوَفَّـــقٌ *** وَإِنِ ابْتَدَعْتَ فَمَــا عَلَيْــكَ مُعَـــوَّلُ
يقول رحمه الله "وأرد عهدتها إلى نقالها "، أرد : أي أرجع , عهدتها .
العهدة : هي درك الشيء, أي ما يترتب على الشيء فيما إذا ترتب عليه ضمان .
"أرد عهدتها إلى نقالها" أي أرد ضمانها وضمان ما فيها من المعنى "إلى نقالها", أي إلى من نقلها .
فإذا ثبتت هذه الأخبار من الطرق الصحيحة وجب اعتقادها واعتقاد ما تضمنته .
ثم قال بعد بيان طريقه في الإثبات :"وأصونها عن كل ما يتخيل ",
وأقول قال الله جل جلاله ***والمصطفي الهادي ولا أتأول
في هذا الشطر والبيت الذي يليه بيان طريقة أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات.
" أصونها " الصيانة : هي الحفظ والاحتراز والتَوَقِّي , فقوله رحمه الله "أصونها" أي أحفظها وأقيها وأحرزها عن كل ما يتخيل, عن كل ما يدور في الخيال، وهذا يتضمن نفي أمرين .
قوله "وأصونها عن كل ما يتخيل" يتضمن نفي أمرين :
نفي التمثيل، ونفي التكييف.
لأن الخيال لا يكون إلا عن تكييف وتمثيل, فإذا صان العبد النصوص عن التمثيل وعن التكييف سلم من الخيالات التي ترد على قلبه فيما أخبر الله تعالى به عن نفسه من الأسماء والصفات .
أما إذا لم يقيد عقده بنفي التمثيل ونفي التكييف انفتح عليه باب عظيم من أبواب الخيالات .
ولُيعلَم أن كل ما يدور في خَلَد الإنسان من كيفية صفات الله تعالى وتمثيلها فهي باطلة.
كل ما يدور في خلد الإنسان وفكره مما يتعلق بكيفية صفات الله تعالى وتمثيلها فهو باطل.
فالله تعالى قد أغلق الباب وقال جل وعلا ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ سورة الشورى:11..
فكل شيء يطرق ذهنك ويدور في فكرك أن الله تعالى على تلك الصفة أو على نحو ذلك الخيال فاعلم أنه باطل.
فقول المؤلف رحمه الله "أصونها عن كل ما يتخيل"، أي : أصونها عن التكييف والتمثيل .
وما الفرق بين التكييف والتمثيل ؟
التكييف: هو طلب كيفية الصفات , فمثلا أخبر الله تعالى في كتابه عن نفسه أنه استوى على العرش , هذا خبر ثبت في الكتاب يجب اعتقاده , ومما يجب اعتقاده في هذا الخبر أن أصونه عن التكييف فلا أطلب كيفية لهذا الاستواء, أعلم أن الاستواء بمعنى العلو بمعنى الصعود أو الارتفاع أو الاستقرار كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله في قوله :
فلهم عبارات عليها أربع *** قد حصلت للفارس الطعان
وهي استقر وقد علا وكذلك كذاك *** ارتفع الذي ما فيه من نكران
قد صعد الذي هو أربع"متن القصيدة النونية" ص(87).
أي رابع معاني الاستواء .
فقوله "وأصونها عن كل ما يتخيل" أي أحفظها عن تمثيل وتكييف.
ثم قال "وأقول قال الله جل جلاله" أي أعتقد ما قاله الله تعالى.
"جل جلاله" أي عظمت عظمته , الجلال هو العظمة.
"والمصطفي الهادي"، أي أقول ما قاله "المصطفي الهادي" والمراد به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وهو مصطفي لأنه الصفوة كما قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِى هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ» أخرجه مسلم(2276)..
فهو خيار من خيار صلى الله عليه وسلم والحديث في "الصحيح" من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه.
فهذا يدل على أنه مصطفي وهو الهادي كما قال الله تعالى ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ سورة الشورى:52..
فالنبي صلى الله عليه وسلم هادي يدل الناس على الخير ويبين لهم الحق .
قال :
وأقول قال الله جل جلاله *** والمصطفي الهادي ولا أتأول
أي ولا أُحرف قول الله وقول رسوله عن موضعه .
قوله "ولا أتأول" أي لا أطلب تأويل ذلك ولا أؤوله.
والتأويل هو إحدى طريقي الانحراف في باب الأسماء والصفات, فإن التأويل صرف الألفاظ عن معانيها المتبادرة إلى معاني أخرى من غير دليل أو من غير مرجح , هذا هو التأويل .
فقوله "لا أتأول" أي لا أحرف الكلم عن موضعه وإنما قال "لا أتأول " ولم يقل " لا أحرف " لأن أهل الكلام يسمون تحريفهم تأويلاً .
فقوله رحمه الله:"ولا أتأول" يتضمن نفي التأويل الذي هو التحريف ويتضمن أيضاً نفي التعطيل الذي هو تخلية الله تعالى عما أخبر به عن نفسه.
لأن المعطل لم يعطل إلا بعد التأويل، فالتعطيل نتيجة التأويل، والتمثيل نتيجة التكييف.
ولذلك أهل السنة والجماعة يقولون في عقائدهم نثبت ما أثبته الله لنفسه من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل.
فالعتبة التي يصل بها الإنسان إلى التعطيل هي التأويل، والدرجة التي يصل بها الإنسان إلى التمثيل هي التكييف.
ولذلك قوله "ولا أتأول" ينفي أمرين :
ينفي التحريف، وينفي التعطيل .
وبهذا يتبين أن قوله رحمه الله:
وَجَمِيعُ آيَاتِ الصِّفَاتِ أُمِرُّهَـا *** حَقّـاً كَمَا نَقَـلَ الطِّرَازُ الأَوَّل
أن ذلك بالقيود التالية : من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
ودليل ما ذكره رحمه الله من نفي التأويل نهي الله تعالى عن تحريف الكلم عن مواضعه فقد أخبر الله تعالى عن اليهود أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه.
وتحريفه : هو إزالته عن موضعه، وهذا لا شك أنه لا يجوز في أخبار الله تعالى مطلقاً، وفي الأخبار التي أخبر بها عن نفسه خصوصاً؛ لأن الله تعالى بعث الرسل به معرفين وإليه داعين.
فإذا تسلط الإنسان على هذه النصوص بالتحريف والتعطيل فقد ضادَّ الرسل فيما أرادوا بيانه.
فإن من أسباب تحقيق العبودية لله جلَّ وعلا معرفته سبحانه وتعالى،والعلم به, فإنه من عرف الله تعالى وعلم به حقق له العبودية، فإذا جهل صفاته وجهل أسماءه وجهل ما أخبر تعالى به عن نفسه فكيف يحقق العبودية؟!.
ولذلك الخلل في هذا النوع من التوحيد ينجر إلى كل خلل في العبادة، في الغالب أنه لا ينفك الخلل في التعبد من خلل في توحيد الأسماء والصفات، ولا يمكن أن تستقيم عقيدة شخص، ثم تستقيم عبادته.
بل إذا انحرف في العلم انحرف في العمل, إذا انحرف في العلم بالله انحرف في العمل بأمر الله تعالى ونهيه .
قال رحمه الله بعد هذا :
قُبْحاً لِمَنْ نَبَذَ القُرَانَ وَرَاءَهُ *** وَإِذَا اسْتَدَلَّ يَقُولُ قَالَ الأَخْطَلُ
" قبحاً" ،أي أُقَبِّح قبحاً , والقبح هو الشَّيْن , فهو دعاء أو خبر بأن من نبذ القرآن وراءه فقد استحق القبح في الدنيا والآخرة.
ونبذ القرآن هو الإعراض عنه ولو كان بين يدي الإنسان وعلى رأسه فإن النبذ له صور ؛ نبذ عملي، ونبذ علمي، ونبذ حقيقي في الإعراض عنه وإلقاءه وراء الظهر .
يقول :
قُبْحاً لِمَنْ نَبَذَ القُرَانَ وَرَاءَهُ *** وَإِذَا اسْتَدَلَّ يَقُولُ قَالَ الأَخْطَلُ
أي قبحت حال هذا الرجل الذي نبذ القرآن وراءه فجعله وراءه ظهريا, وقد عاب الله تعالى قوماً جاءهم رسول بكتاب من عند الله تعالى فنبذوه وراءهم وقد أخبر بذلك عن اليهود في قوله تعالى﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ سورة البقرة:101..
فمن أعرض عن دلالة الكتاب والسنة فيما أخبر الله تعالى به عن نفسه فقد شابه اليهود فيما عابهم الله تعالى عليه وذمهم عليه وهو إعراضهم عن كتاب الله تعالى.
"قبحا لمن نبذ القران وراءه" كيف نبذ القرآن وراءه ؟.
بيَّنه قال:" وإذا استدل " مثلاً هو يقرأ القرآن مساء صباح لكنه لا يستدل به ولا يعتمده في عقيدته، أما السني الذي يعتمد على الهدى والنور فإنه يستدل بقال الله , قال الرسول.
ولذلك قال المؤلف رحمه الله في أول بيان عقده فيما يتعلق بالصفات قال :"وأقول في القرآن ما جاءت به آياته " ثم بعد أن ذكر ما يجب اعتقاده في أحاديث الصفات , قال رحمه الله "وأقول قال الله جل جلاله والمصطفي الهادي ولا أتأول".
فبيَّن أن النبذ ليس نبذ القراءة فقط وإنما نبذ الاستدلال, ولذلك قال:"وإذا استدل يقول قال الأخطل".
إذا استدل لفهم معاني كلام الله لا يقبل على كلام الله ليفهمه إنما يقبل على كلام شذاذ الناس لمعرفة معاني كلام الله تعالى.
وقوله رحمه الله :"وإذا استدل" أي في عقيدته وفيما يعتمد "يقول قال الأخطل"، والأخطل شاعر فحل من شعراء العرب ولكنه مُوَلَّد وليس من أصحاب اللسان الفصيح كما أنه على اعتقاد غير سليم فهو نصراني فجمع وصفين يسقطان الاحتجاج بقوله:
أولا أنه وإن كان شاعراً فحلاً فإنه مولد وليس من أصحاب اللسان الأصلي الذي نحتج بقولهم ويستشهد بكلامهم.
كما أنه صاحب اعتقاد فاسد فهو على غير دين الإسلام فكيف يستدل بكلام مثل هذا في بيان ما يحب اعتقاده في كلام رب العالمين.
وهو يشير بهذا البيت إلى ما اعتمده بعض أهل الكلام في اعتقادهم في كلام الله تعالى حيث قالوا إن الكلام معنىً نفسي وليس لازماً أن يكون الكلام بحرف وصوت واستدلوا لذلك بقول الأخطل "إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً".
وأيضا استدلوا بقول الأخطل في تفسير الاستواء فقالوا: إن الاستواء هو الاستيلاء واستدلوا لذلك بالبيت المشهور المنسوب إلى الأخطل:
قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ولا دم مهراق.
فهو يشير إلى استدلال من استدل بهذين البيتين في بيان وصفين من صفات الله تعالى تتابعت النصوص على إثباتهما، وتضافرت الأدلة على اعتقاد السلف معناهما قبل أن يتكلم الأخطل بهذا الكلام، فكيف يُترك عقد الأمة هذه المدد المتطاولة حتى يأتي الأخطل ويقول هذا البيت، فتفهم الأمة معنى الاستواء المذكور في كتاب الله تعالى في سبعة مواضع، وكذلك في معنى كلام الله تعالى الذي أخبر عنه في مواضع عديدة من كلامه سبحانه وتعالى لا شك أن هذا قصور في الفهم وجناية على النصوص .
ولذلك قال المؤلف رحمه الله "قبحا لمن نبذ القران وراءه" يعني أعرض عن دلالة القرآن.
أعرض عن الاستدلال بالقرآن إلى الاستدلال في الاعتقاد بأقوال الشذاذ.
"وإذا استدل يقول قال الأخطل" ولا شك أن هذا قصور، فإنه يجب تفسير كلام الله تعالى بكلامه، فإذا لم نجد بيان كلام الله تعالى من كلامه بحثنا عن بيانه في كلام رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا لم نجد ذلك بحثنا عن بيانه في كلام الصحابة رضي الله عنهم، فإذا لم نجد ذلك بحثناه في كلام العرب أصحاب اللسان لا أصحاب العقائد المنحرفة، وأيضاً أصحاب اللسان المولد الذي جاء بعد اختلاط العرب بغيرهم وذهاب عصر الأقحاح الذين يعتمد على قولهم ويصدر عن استعمالهم, هذا هو الترتيب الذي ينبغي أن يسلك في فهم كلام الله تعالى.
هل تظنون أن الله تعالى يخبر عن نفسه بصفات ثم يتركها بلا بيان؟.
الجواب : لا , بل بينها الله تعالى وفهمها رسوله صلى الله عليه وسلم وفهمها الصحابة فيجب التقيد بفهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفهم السلف الصالح وألا نتجاوز ذلك.
وقد ذكر رحمه الله ما كان عليه الطراز الأول, السلف الصالحون من الإقرار بالصفات وإمرارها كما جاءت في قوله
وَجَمِيعُ آيَاتِ الصِّفَاتِ أُمِرُّهَـا *** حَقّـاً كَمَا نَقَـلَ الطِّرَازُ الأَوَّل
ثم قال:
وأُقِرُ بـالْمِيـزَانِ وَالْحَوضِ الَّذِي *** أَرجُـو بأَنِّي مِنْـهُ رَيّاً أَنْهَـلُ
انتقل المؤلف رحمه الله في هذه الأبيات إلى ذكر ما يتعلق بأصل من أصول الإيمان وهو الإيمان باليوم الآخر .
والإيمان باليوم الآخر أصل من أصول الإيمان التي لا يستقيم إيمان أحد إلا بأن يؤمن بها، سواء كان ذلك في الأصول المتقدمة أو هذا الأصل، وسواء كان ذلك في الأصول التي ذكرها المؤلف رحمه الله أو التي لم يذكرها.
لأن أصول الإيمان ستة ذكر منها المؤلف رحمه الله طائفة وما لم يذكره فإنه يجب الإيمان به.
والأصل في ذلك ما في "الصحيح" من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان قال:«أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ » "صحيح مسلم"(8)..
فالإيمان باليوم الآخر من أصول الإيمان، وهو من الأمور التي أجمعت الرسل على الدعوة إليها .
الرسل جميعاً جاءوا بالإيمان بالله، والإيمان بالرسل، الإيمان باليوم الآخر، ولذلك يذكر الله تعالى الإيمان به مقروناً بالإيمان باليوم الآخر.
كل هذا لبيان عظيم منزلته وشريف موقعه، وهو من جملة الإيمان بالغيب لأن اليوم الآخر لا ندركه فليس هو شهادة إنما هو غيب، فيدخل في قول الله تعالى ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ سورة البقرة:3..
اليوم الآخر هو ما يكون بعد الموت ولذلك الإيمان باليوم الآخر هو الإيمان بما أخبر الله تعالى به أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت فيشمل هذا ما يكون في البرزخ، ويشمل هذا ما يكون في المحشر، ويشمل هذا ما يكون في المستقر في الجنة أو النار.
كل هذا من الإيمان باليوم الآخر، ويشمل أيضاً العلامات التي جعلها الله تعالى دالة على اليوم الآخر، ومؤذنة بقربه، فإنها من جملة الإيمان باليوم الآخر، لأن هذا مما يتصف به.
وإن كان وقوع هذه العلامات في الدنيا لكنها من مقدمات اليوم الآخر ومن دلائله وعلاماته .
إذاً: الإيمان باليوم الآخر هو الإيمان بكل ما أخبر به الله تعالى وأخبر به الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم مما يكون بعد الموت.
والمؤلف رحمه الله ذكر طائفة من المسائل التي تتعلق بالإيمان باليوم الآخر منها ما يتعلق بالبرزخ، ومنها ما يتعلق بالمحشر، ومنها ما يتعلق بالمستقر.
فالبرزخ في قوله رحمه الله:
ولِكُلِّ حَيٍّ عَاقِـلٍ في قَبْـرِهِ *** عَمَلٌ يُقارِنُـهُ هُنَـاكَ وَيُسْـأَلُ
هذا يشير إلى ما يتعلق بالحياة البرزخية.
وما يتعلق بالمحشر قوله رحمه الله :
وأُقِرُ بـالْمِيـزَانِ وَ الْحَوضِ الَّذِي *** أَرجُـو بأَنِّي مِنْـهُ رَيّاً أَنْهَـلُ
وَكَذَا الصِّراطُ يُمَدُّ فَوْقَ جَهَنَّمٍ *** فَمُسَلَّمٌ نَـاجٍ وَآخَـرَ مُهْمَـلُ
وأما ما يتعلق بالمستقر في الجنة أو في النار فذلك في قوله رحمه الله :
و النَّارُ يَصْلاَهَا الشَّقِيُّ بِحِكْمَةٍ *** وَكَذَا التَّقِيُّ إِلى الجِنَانِ سَيَدْخُلُ
وكذلك قوله:
وَالمؤْمِنُونَ يَـرَوْنَ حَقّـاً ربَّهُمْ *** وَإلَى السَّمَـاءِ بِغَيْرِ كَيْفٍ يَنْزِلُ
وهذه المسائل كلها مما يتعلق باليوم الآخر إلا الشطر الذي ذكر فيه المؤلف رحمه الله نزول الله جل وعلا إلى السماء الدنيا في قوله "وإلى السماء بغير كيف ينزل" وهذا قد يكون النزول الذي في أرض المحشر لكنه لما قال إلى السماء دل ذلك أنه النزول الذي يكون في الدنيا وليس النزول الذي يكون في القيامة لفصل القضاء.
لأن السماء عند ذلك تنشق وتزول فلا يبقى سماء.
إذاً: ما بقي من هذه المنظومة غالبه إلا هذا الشطر مما يقرر فيه المؤلف رحمه الله ما يجب اعتقاده في اليوم الآخر.
ابتدع على حسب الترتيب الذي في النظم عندي بقوله
وأُقِرُ بـالْمِيـزَانِ وَ الْحَوضِ الَّذِي *** أَرجُـو بأَنِّي مِنْـهُ رَيّاً أَنْهَـلُ
أقر أي أؤمن.
قوله رحمه الله "وأقر" أي أؤمن وفي بعض النسخ "وأقول" والقول هنا بمعنى الاعتقاد كما تقدم في قوله:
وَأَقُولُ قَالَ اللهُ جَلَّ جَلاَلُهُ *** وَالْمُصْطَفَى الْهَادِي وَلاَ أَتَأَوَّلُ
فالقول كما تقدم يذكر ويراد به التكلم والتلفظ بالشيء، ويذكر ويراد به الاعتقاد ولو لم يتكلم به الإنسان لأنه لو سأل لأبان عما عقد عليه قلبه.
فقوله رحمه الله " وأقر" أي أؤمن، فالإيمان هو الإقرار المستلزم للإذعان والقبول، فهنا يقر أي يقبل ويثبت ويؤمن ما جاءت به النصوص من الخبر عن الميزان، ومن الخبر عن الحوض، ومن الخبر عن الصراط.
أما الميزان فقد جاء ذكره في كتاب الله تعالى في مواضع عديدة لكنه ذكر في كلام الله تعالى مجموعاً ولم يذكر على وجه الإفراد وإنما جاء إفراده في السنة النبوية .
أما ما في الكتاب فهو على صيغة الجمع قال الله تعالى ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ سورة الأنبياء:47..
قال تعالى ﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ﴾ سورة القارعة..
وإذا نظرت بقية ما ذكر الله تعالى من الآيات وجدت أنها سائرة على هذا النحو يذكر فيها الميزان مجموعاً .
والميزان عقد أهل السنة والجماعة في أنه ميزان يزن الله تعالى به الأعمال يوم القيامة .