والميزان عقد أهل السنة والجماعة في أنه ميزان يزن الله تعالى به الأعمال يوم القيامة .
كما قال الله تعالى ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ سورة الأنبياء:47..
﴿ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ ﴾، يعنى العدل ، ﴿ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾،أي لأجل يوم القيامة.
وقيل في يوم القيامة.
وقيل عند يوم القيام.
ثلاثة أقوال لأهل العلم في اللام في قوله ﴿ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾، إما للتعليل وإما أنها للظرفية وإما أنها للوقت أي لوقت يوم القيامة .
ووضع الموازين ﴿ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾، في وقت يوم القيامة، لأن الله تعالى يحاسب الخلق، وحسابهم يتبين بالميزان، ولذلك قال الله تعالى ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا﴾، ثم قال :﴿ وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾.
فالميزان مما يتعلق بالحساب، ولذلك اختلف العلماء رحمهم الله في وقت الوزن: هل هو قبل الحساب أو بعده.
والذي يظهر أنه في الحساب، ومما يكمل به الحساب، لأن الحساب العد، وذلك أن الله تعالى يحصي الحسنات، ويحصي السيئات عدداً، ثم تحصى وزناً، فإن رجحت الحسنات سار إلى الجنة، وإن رجحت السيئات استحق النار، فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له .
فالميزان مما يرتبط بالحساب، وهو ميزان حقيقي لله تعالى فيه حكمة:
من حِكَمِه أن الله تعالى يظهر به العدل.
ومن حكمه أن الله تعالى يقيم به الحجة على الخلق.
فإن الله تعالى يظهر رجحان الموازين حتى يراها الناس فيكون جل وعلا قد أظهر عدله، وأقام الحجة على الإنسان من جهة عمله، ومن جهة يبصرها ويدركها، وهو رجحان الحسنات والسيئات.
واختلف العلماء رحمهم الله في الميزان هل هو واحد أم متعدد؟.
فذهب جمهور أهل العلم إلى أنه ميزان واحد.
وقال جماعة من أهل العلم إنها موازين وليست ميزاناً واحداً.
وذلك أن الله تعالى ذكر في كتابه الموازين ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ ﴾، ﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾، ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ﴾، فذكر الموازين بصيغة الجمع.
ولا يمنع أن يكون هناك موازيناً متعددة، وهذا التعدد إما باعتبار العمل، فلكل عمل ميزان.
وإما باعتبار العمال فلكل عامل ميزان .
وإما بغير هذا من الاعتبارات التي قضاها الله تعالى وحكم بها .
فعندنا في العدد قولان وهذا القول الأخير "أن الموازين متعددة"، هو ما مال إليه الشنقيطي رحمه الله فيما يظهر من كلامه حيث قال :" وقد جاء الميزان مجموعاً في كتاب الله تعالى والأصل بقاء اللفظ على ظاهره ما لم يدل دليل على خلاف ذلك" انظر "أضواء البيان" (4/159)..
فظاهر قوله رحمه الله في التفسير أنه يميل أنها موازين ، والمسألة في هذا قريبة لكن الذي يجب اعتقاده أنه ميزان قسط.
ويمكن أن يقال إن التعدد باعتبار الموازين وباختلاف الأعمال كما ذكرنا فلا إشكال في التعدد ، هذا على قول الجمهور .
وعلى القول الثاني على القول إنها موازين متعددة لا إشكال في الجمع والإفراد يكون باعتبار ذكر الجنس.
إذاً: عندنا في عدد الموازين اختلف فيه العلماء على القولين ، الجمهور على أنه واحد ، والتعدد إما باعتبار العمل أو باعتبار العمال أو بغير ذلك من اعتبارات.
والقول الثاني أن الموازين متعدد وأن تعددها إما باعتبار الخلق فلكل ميزان، أو باعتبار الأعمال فلكل عمل ميزان أو بغير ذلك من الاعتبارات لكن نؤمن أنها موازين.
وما جاء في الأحاديث أنه ميزان واحد فهو باعتبار الجنس من ذلك ما في "الصحيحين" من حديث عَنْ عُمَارَةَ ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيم» "صحيح البخاري"(6406)، ومسلم (2694)..
وفي حديث أبي مالك الأشعري في "صحيح الإمام مسلم" قال النبي صلى الله عليه وسلم:«وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ»"صحيح مسلم"(223)..
فجاءت مفردة في السُّنة فيحمل هذا الإفراد على أن المذكور هو الجنس، ولأن المذكور عمل واحد فأفرد أن المذكور عمل واحد وهو الذكر أفرد ذكر الميزان ، والمسألة في هذا كما ذكرنا قريبة.
طيب هذه مسألة من المسائل التي وقع فيها الاختلاف بين أهل العلم فيما يتعلق بالميزان.
المسألة الثانية فيما يتعلق بالموزون:
فمنهم من قال أن الوزن للعمل.
ومنهم من قال أن الوزن لصحائف الأعمال.
ومنهم من قال أن الوزن للعمال.
ومنهم من قال أن الوزن للجميع.
وهذا هو الذي دلت عليه النصوص، وبه تجتمع الأقوال.
فالوزن يكون للعمل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم « ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ»، وكما قال «وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ»، فهذا وزن للعمل.
وأما دلالة القرآن قال الله تعالى في ذكر الوزن للأعمال ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا﴾، وهذا فيه أن الوزن لشيء ويتفاوت هذا الشيء ثقلاً وصغراً ودقة، لقوله تعالى:﴿وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا﴾.
أيضاً الوزن يكون للعامل لقول الله تعالى في لكافر ﴿ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾ سورة الكهف:105..
وجاء في "الصحيحين" من طريق أبى الزناد عن طريق أبي الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: « إِنَّه لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ وَقَالَ: اقْرَؤُوا ﴿فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾»"صحيح البخاري"(4729)، ومسلم(2785)..
وهذا يدل على أن الوزن للعامل.
ويشهد لهذا ما روى الإمام أحمد من حديث زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّهُ كَانَ يَجْتَنِي سِوَاكًا مِنَ الأَرَاكِ ، وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ ، فَجَعَلَتِ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ ، فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «مِمَّ تَضْحَكُونَ؟» قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ، فَقَالَ:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ»"المسند"(1/420)..
وهذا يدل على أن العامل يوزن والحديث إسناده جيد قال عنه ابن عبد البر :"حسن"، وكذلك قال عنه الحافظ بن حجر في "الإصابة".
وهذا يدل على أن الوزن للعامل .
بقي الوزن للسجلات ودليل ذلك ما رواه الترمذي وغيره من حديث « عَنْ أَبِى عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَعَافِرِىِّ ثُمَّ الْحُبُلِىِّ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِى عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلاًّ كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَقُولُ أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا أَظَلَمَكَ كَتَبَتِى الْحَافِظُونَ فَيَقُولُ لاَ يَا رَبِّ. فَيَقُولُ أَفَلَكَ عُذْرٌ فَيَقُولُ لاَ يَا رَبِّ. فَيَقُولُ بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً فَإِنَّهُ لاَ ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُولُ احْضُرْ وَزْنَكَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلاَّتِ فَقَالَ إِنَّكَ لاَ تُظْلَمُ. قَالَ فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ فَطَاشَتِ السِّجِلاَّتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ فَلاَ يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ »"سنن الترمذي"(2850)، وأحمد(2/213)..
موضع الشاهد من هذا الحديث السجلات، سجلات السيئات وبطاقة العمل الصالح، وأنهما يوزنان.
هذا ما دل عليه حديث عبد الله بن عمرو، وهذه البطاقة من رحمة الله أنها لكل مسلم لكن ليس كل مسلم معه من ثقل هذه البطاقة ما أخبر النبي به في حديث عبد الله بن عمرو فهذا متفاوت بقدر تفاوت ما في القلوب من الصدق والإيمان واليقين .
هذه الأحاديث التي تتعلق بالموزون هل هو العمل أو العامل أو سجلات العمل.
وأَشكل على القول بأنه يوزن العمل أن الأعمال أعراض، فكيف تكون أجراماً يوم القيامة.
لأن الصلاة ليست جرماً يوضع في الميزان، وهذا مما شغب به المعتزلة وأشباههم على مثل هذه الأحاديث.
فالجواب أن يقال: إن الأدلة دالة على أن العمل يوزن من ذلك ما تقدم في حديثي أبي هريرة وحديث أبي مالك الأشعري.
وكذلك « أَثْقَلَ شَيْءٍ فِي الْمِيزَانِ ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْخُلُقُ الْحَسَنُ»"المسند"(6/451)..
وهذا عند أحمد وغيره من حديث أم الدرداء عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أَثْقَلَ شَيْءٍ فِي الْمِيزَانِ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْخُلُقُ الْحَسَنُ».
حسن الخلق أمر معنوي عرض ليس جُرماً أو جسماً .
فالجواب على هذا الإشكال أن يقال: إن الله تعالى يحولها إلى أعيان والله على كل شيء قدير.
ولهذا شاهد يبطل هذا الاحتجاج وهو ما في "صحيح الإمام مسلم" من حديث « مُعَاوِيَةُ - يَعْنِى ابْنَ سَلاَّمٍ - عَنْ زَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلاَّمٍ يَقُولُ حَدَّثَني أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ « اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ - الشاهد - فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا...» "صحيح مسلم"(804)..
وهذا يدل على أن البقرة وآل عمران وهي عمل يأتي ثوابه يوم القيامة على هذه الصورة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فدل هذا على أن الأعمال يقلبها الله تعالى يوم القيامة إلى أعيان.
ويوضح هذا أيضاً ما في "المسند" من قول النبي صلى الله عليه وسلم «كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ»"المسند"(4/147)..
فالصدقة تتحول إلى ظل يستظل به الإنسان، والصدقة هنا تشمل كل إحسان عيني أو معنوي.
فالتبسم في وجه أخيك صدقة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه الترمذي (1956)..
فيكون كذلك فالإحسان لا يقتصر على الإحسان العيني فقط بل يدخل فيه أيضاً الإحسان العملي.
هذه المسائل التي تتعلق بالميزان في قول المؤلف رحمه الله:
وأُقِرُ بـالْمِيـزَانِ وَالْحَوضِ الَّذِي *** أَرجُـو بأَنِّي مِنْـهُ رَيّاً أَنْهَـلُ
المعتزلة ذهبوا إلى أن الميزان هو العدل، وليس هناك ميزان له كفتان ولسان يوزن به العمل.
وقد شن عليهم أهل الإسلام إذ إن هذا القول قد أجمع العلماء على رده وإبطاله.
وبعض المعتزلة استمسك بما جاء عن مجاهد من أنه قال "الميزان العدل " لكن هذا ليس فيه حجة فإن الميزان لاشك أنه من العدل ولذلك قال الله تعالى ﴿وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ سورة الأنبياء:47. حاسبين عدلاً، وحاسبين إحصاءاً، وحاسبين عداً ، لكن لا يعنى هذا أن يلغى ما دلت عليه النصوص من أن الميزان حقيقي.
مما يتعلق بالميزان موضع الوزن متى يكون؟.
فمن العلماء يقول: إن الوزن يكون في أرض المحشر.
ومنهم من يقول أن الوزن يكون قبل الحوض.
ومنهم من يقول أن الحوض أول ما يكون من أحوال ذلك اليوم إذا ارتفع الكرب، وزالت الشدة .
فنجعل هذه المسألة فيما يتعلق بمسائل الحوض.
هذا ما يتعلق بالمسائل في الميزان.
ثم قال:
وأُقِرُ بـالْمِيـزَانِ وَالْحَوضِ الَّذِي *** أَرجُـو بأَنِّي مِنْـهُ ريّاً أَنْهَـلُ
الحوض أصله مَجْمع الماء ولذلك يقال حوض النخلة، و حوض الشجر وما أشبه ذلك.
فكل مكان سواء كان معداً بفعل الإنسان أو أنه بطبيعته اجتمع فيه الماء يسمى حوضاً.
فالحوض هو مجمع الماء والحوض مما بشر الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في كتابه، ومما دلت عليه السنة، وأجمع عليه أهل الإسلام، وأنه من مناقب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وخصائصه.
أما دليله في الكتاب قول الله تعالى:﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ سورة الكوثر:1.، والكوثر نهر في الجنة كما جاء ذلك في "الصحيح" ولكن الحوض من هذا النهر يمد ، كما جاء ذلك في حديث أبي هريرة وحديث أبي ذر.
فإن فيه ميزابان يشخبان أي يصبان من الجنة أي في الحوض، وهو من نهر الكوثر، فيدخل في قول الله تعالى﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾.
وقد استدل بذلك أهل العلم على إثبات الحوض، استدل العلماء على إثبات الحوض بإعطاء الله تعالى الكوثر لأن الكوثر هو الخير الكبير في الدنيا والآخرة ومن ذلك ما يكون في أرض المحشر.
وأما ما جاء في السنة ففي أحاديث بلغت حد التواتر أخبر فيها النبي عن حوضه وأنه فرط إلى الحوض، وأنه على الصفات التي سيأتي بيانها وتوضيحها فالسنة مليئة بذكر ذلك على وجه بلغ حد التواتر.
والحوض أصله في أرض المحشر، لكنهم اختلفوا في موضعه هل هو قبل عبور الصراط أو بعده ؟.
والذي يظهر من صنيع البخاري أن الحوض يكون بعد الصراط، واستدلوا لذلك بأن النبي قال «وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أَبَدًا »"صحيح البخاري"(7051)..
ومعلوم أن المار على الصراط الذي يصيبه من عذابها بقدر سيئاته يظمأ، وأشار البخاري إلى هذا حيث جعل باب الحوض بعد باب الصراط فجعل كلامه على الحوض بعد فراغه عما يتعلق بالصراط ونحوه مما يكون في أرض المحشر.
والمسألة في هذا قريبة لكن فيما يظهر أن الحوض يكون في أرض المحشر قبل الصراط.
هذا الظاهر ولا تعارض لأنه قد ينتفي عنه الظمأ من يعذب بالنار بسبب سيئاته في مروره على الصراط ينتفي عنه الظمأ لكن يعذب بعذاب آخر، لأن عذاب النار لا يقتصر على الظمأ، بل قد يكون هناك ألوان من العذاب أخرى ليس الظمأ منها.
فلا تعارض بين قوله صلى الله عليه وسلم«وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أَبَدًا».
الحوض ورد في وصفه أحاديث عديدة منها ما في "الصحيحين" من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فإنه ذكر صفة الحوض عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال :« حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ مَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلاَ يَظْمَأُ أَبَدًا» أخرجه البخاري (6579)، ومسلم (2292)..
هذا ما جاء في "الصحيحين" من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.
وفيه بيان شيء من أوصاف الحوض وبيان سعة هذا الحوض .
وجاء في "مسلم" من حديث أبى ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن طوله وعرضه سواء "صحيح مسلم" (2292)..
وفي رواية عبد الله بن عمرو في "الصحيح" قال النبي صلى الله عليه وسلم «وَزَوَايَاهُ سَوَاءٌ»"صحيح مسلم" (2292)..
وكل هذه الأوصاف لهذا الحوض العظيم الذي يكرم الله تعالى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويكرم به الأمة فإن الناس يريدونه أشد ما يكونون حاجة إلى الماء.
ولذلك قال الناظم رحمه الله " أَرجُـو بأَنِّي مِنْـهُ ريّاً أَنْهَـلُ" أرجو أي أطمع وأأمل " بأَنِّي مِنْـهُ ريّاً أَنْهَـلُ " أي أشرب منه شرباً يحصل لي به الري ، والري ضد الظمأ وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم « مَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلاَ يَظْمَأُ أَبَدًا».
جاء ذلك في عدة أحاديث منها ما في "الصحيحين" من حديث نافع بن عمر، عن ابن أبي مليكة، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه وفي آخر الحديث قال :« مَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلاَ يَظْمَأُ أَبَدًا» تقدم تخريجه..
والحوض قد جعله الله تعالى لهذه الأمة خاصة من حيث سعته وكثرة من يرد إليه.
أما بالنسبة لسائر الأنبياء فقد جاء في حديث سمرة عند الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « ولكل نبي حوض» أخرجه عبد بن حميد (904) ، وأبو يعلى (2/303) ح(1028)، وابن أبي شيبة(6/309 )، ح(31681) ومن طريقه ابن أبى عاصم في "السنة" (2/335)ح(723) ، وابن ماجة (4301) قال البوصيرى (4/259) :" هذا إسناد فيه عطية وهو عطية العوفي وهو ضعيف"..
ولكن الذي ثبت بالتواتر أن ذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم ولا يمنع أن يكون مثله لغيره من الأنبياء.
قال " وكذا الصراط على جهنم مده " وعندك في النسخة " وَكَذَا الصِّراطُ يُمَدُّ فَوْقَ جَهَنَّمٍ".
الصراط فعال بمعنى مفعول، أي الصراط بمعنى مصروط، وأصل الصراط من صرط وهو المرور بسرعة ، المرور في الشيء بسرعة.
فالصراط هذا أصل من حيث اللغة لا من حيث الاشتقاق، ولا من حيث المعنى.
أما من حيث معناه في كلام الله تعالى وكلام رسوله فالصراط المقصود به الصراط المضروب على متن جهنم على ظهرها هو الجسر المضر المضروب على متن جهنم.
وهو الذي يمر الناس عليه حسب أعمالهم.
وقد جاء الخبر عنه في أحاديث عديدة كلها تدل على ثبوت هذا الصراط، وأشار إليه قول الله تعالى:﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا﴾ سورة مريم:71..
والورود هو المرور على الصراط كما في قول جماعة من المفسرين من الصحابة ومن بعدهم.
فالصراط دل عليه كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وأجمعت عليه الأمة.
وهو مضروب على متن جهنم يعنى على ظهرها.
وهو جسر جاء الخبر عنه في أحاديث عديدة في صفته فقيل في صفته : إنه «دَحْضٌ مَزِلَّةٌ»، كما في "الصحيحين" في حديث أبى سعيد رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر عن الجسر قالوا: وما الجسر؟ قال:«دَحْضٌ مَزِلَّةٌ»، هكذا قال في رواية مسلم "صحيح مسلم"(183)..
وفي رواية البخاري «مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ»"صحيح البخاري"(7439).، والمعنيان واحد.
والدحض والمزلة معناهما واحد وهما الطريق الزلق الذي لا تثبت فيه قدم ولا يستقر فيه سائر.
فوصفه النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بهذا الوصف لكون السير عليه من أشق ما يكون والسير عليه إنما هو سير الأعمال فهي الركائب التي يسير عليها الناس في ذلك اليوم، فليس السير بالقوة والحول – بقوة الإنسان وحوله - إنما بما يسره الله تعالى من العمل.
والناس يتفاوتون في سيرهم فمنهم من يكون سيره كاللمح كلمح الطرف ، ومنهم من يكون سيره كالبرق، ومنهم من يكون سيره كالريح، ومنهم من يكون سيره كأجاود الخيل، ومنهم من يكون سيره كأجاويد الركاب، ومنهم من يكون سيره دون ذلك، فمنهم من يعدو، ومنهم من يمشى، ومنهم يزحف، ومنهم من يحبو، هكذا مراتب الناس، ومنهم من تعيقه ويعلق في الخطاطيف والكلاليب التي على الجسر .
وجاء في بعض الآثار أنه أدق من الشعر وأحد من السيف، وذلك في رواية مسلم فيما رواه أبو سعيد رضي الله عنه قال في آخر الحديث الذي ساق فيه أحوال القيامة وأحوال الموقف قال «بَلَغَنِي أَنَّ الْجِسْرَ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ»"صحيح مسلم"(183)..
قال الحافظ ابن حجر"لم يثبت في ذلك إسناد يصح أو إسناد يعتمد عليه " "فتح الباري"(11/454)..
فليس في ذلك إثبات واضح لهذا الوصف من جهة النبي صلى الله عليه وسلم والذي جاء في السنة وصفه بالدحض والمذلة ، ومقتضى دلالة ذلك – مقتضى دلالة الاسم – اسم الصراط أن الطريق واسع أنه طريق واسع لكنه طريق لا تثبت فيه الأقدام إلا بتثبيت الله جل وعلا.
والناس في سيرهم على مراحل وعلى مراتب أعلاها كلمح البصر وأدناها من تخطفه الكلاليب.
ثم الناس ينقسمون إلى قسمين يقول:"فمسلم ناج وآخر مهمل"، هذا باعتبار الغاية والمنتهي التقسيم هذا باعتبار الغاية والمنتهي لا باعتبار صفة السي، إنما باعتبار ما يؤول إليه حال من يمر على هذا الصراط وهذا الصراط يمر عليه الناس فمنهم من يسلم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبى سعيد وحديث أبى هريرة وغيرهما:«فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ وَمَكْدُوسٌ»"صحيح البخاري"(7439)،ومسلم (183).، والمكدوس هو المتراكم الواقع وفي بعض الروايات "منكوس" أخرجها أحمد(3/11).، وكل هذا يدل على أنه يناله من العذاب ما يناله بسبب بطء سيره.
لكن الجميع يمرون على هذا الصراط ما من أحد من أهل الإيمان إلا يمر على هذا الصراط كما دل عليه قول الله تعالى ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا﴾ سورة مريم:71..
وجاء في "الصحيحين" من حديث أبى هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :« لاَ يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلاَثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَيَلِجَ النَّارَ إِلاَّ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ»"صحيح البخاري"(1251)، ومسلم(2632)..
وتحلة القسم قيل إن الإشارة في القسم هنا إلى قوله ﴿ حَتْمًا مَقْضِيًّا﴾، وهذا فسره بعض أهل العلم قسماً واجباً.
ومن أهل العلم من قال إن قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إن تحلة القسم المقصود به يعنى إلا أقل القليل ، وهو وروده الذي يحصل به النجاة.
ويقال هذا في كلام العرب على القليل قال لم يبقى فيها إلا تحلة القسم أو لم يقر إلا تحلة القسم، إشارة إلى قلة المقام وقل الزمن الذي يمضه الإنسان في العمل أو في المقام أو ما إلى ذلك.
المقصود أن الكل يردون النار لكن ذلك على تفاوت بَيِّن واضح في نصيبهم منها.
وهذا الورود لا يعارض ما جاءت به الأخبار من السلامة والنجاة من النار لأهل التقوى والإيمان.
فإن ذلك ورود لا يلحقهم به أذى وإن كان الموقف مهولاً عظيماً حيث إن الأنبياء على عظيم مكانتهم ليس لهم قول عند اجتياز الصراط إلا قولهم "اللهم سلم سلم" أخرجه البخاري (806)، ومسلم(182)..