والنَّارُ يَصْلاَهَا الشَّقِيُّ بِحِكْمَةٍ *** وَكَذَا التَّقِيُّ إِلى الجِنَانِ سَيَدْخُلُ
ذكر المؤلف رحمه الله بعد انقسام الناس في مرورهم على الصراط، انقسام الناس في المآل والمرجع.
فالناس يوم القيامة ينقسمون إلى قسمين: قسم في الجنة، وقسم في النار، كما قال الله تعالى:﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴾ سورة الشورى:7..
ليس هناك قسم ثالث، إنما هما قسمان وهذا أكثر ما ذكره الله تعالى في كتابه أن الناس ينقسمون باعتبار المآل والمنتهي إلى هذين القسمين.
وأشار المؤلف رحمه الله إلى ذلك فقال:"والنَّارُ يَصْلاَهَا الشَّقِيُّ"، يصلاها أي يلازمها من الصلي وهو الملازمة والدوام .
فقوله:"يَصْلاَهَا "، أي يلازمها ويقيم فيها إقامة دائمة.
"والنَّارُ يَصْلاَهَا الشَّقِيُّ بِحِكْمَةٍ"، الباء هنا للسببية أو للمعية، وأن هذه الملازمة ليست ظلماً، إنما هي لحكمة الله تعالى، ومن حكمته أن لا يعذب من لا يستحق العقوبة .
وهذا يدل على أن هذه العقوبة وهذه الملازمة من مقتضى حكمته وعدله جل وعلا .
فلا يدخل النار ولا يصلاها إلا من استحقها، وأقيم عليه من الشهود ما تنقطع به كل حجة، وتضمحل به كل شبهة، وتزول به كل علقة يتعلق بها أصحاب النار للنجاة.
فإنهم يدخلون وهم مقرون باستحقاقهم للعذاب.
ثم قال:"وَكَذَا " أي ومثل ذا "التَّقِيُّ إِلى الجِنَانِ سَيَدْخُلُ"، مثل ذا في بيان المنتهي، وإلا فرق شتان بين أهل النار وأهل الجنة .
والنار هي الدار التي أعدها الله تعالى للكافرين كما هو معلوم.
وهي في الأصل للذين كفروا لكن قد يدخلها من يدخلها من أهل التوحيد لتمحيصه وتخليصه ثم يؤول وينتهي به الأمر إلى الجنة.
قال:"وَكَذَا التَّقِيُّ"، التقي هو القائم بما أمر الله تعالى به، المنتهي عن ما نهي الله تعالى عنه، رغبة ورهبة.
وذلك مأخوذ من تعريف التقوى فالتقوى هي قيام العبد بما أمر الله تعالى به، تركه ما نهاه عنه رغبة ورهبة، خوفاً وطمعاً .
فقوله :"التَّقِيُّ"، يعني القائم بما أمر الله تعالى المنتهي عما نهي عنه جل وعلا رغبة فيما عنده ورهبة من عذابه.
قال :" إلى الجنان" الجنان جمع جنة، والجنة هي اسم لدار النعيم الكامل التام، التي أعدها الله تعالى لعباده المتقين.
وجمع المؤلف رحمه الله الجنان أتى بذكر الجنة على صيغة الجمع، وذلك أن الجنان متفاوتة ومتنوعة وليست واحدة كما قص ذلك وبينه جل وعلا في سورة الرحمن قال الله تعالى:﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ سورة الرحمن:46..
ثم بعد ذلك بعد أن قص ما فيهما قال:﴿وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾ سورة الرحمن:62.، فبيَّن الله جل وعلا تعدد الجنان.
وذكر الله تعالى الجنة مجموعة في مواضع عديدة من كلامه سبحانه وبحمده، فالمقصود أن الجنان الجمع باعتبار التعدد، وأنها جنان متعددة، وليست واحدة لكن إذا أفردت فالمقصود الجنس، جنس الجنة .
قال رحمه الله:"وكذا التقى إلى الجنان سيدخل"، أي سيؤول وينتهي أمره إلى الجنة.
والناس متفاوتون في دخولهم الجنة فمنهم من يبادر إليها.
ومنهم من يحبس عنها.
ومنهم من يناله العذاب قبل أن يدخلها.
فدخول الجنة ليس على درجة واحدة إنما يتفاوت في ذلك الناس تفاوتاً عظيماً على حسب ما معهم من الأعمال.
ثم قال المؤلف رحمه الله بعد ذكر أقسام الناس فيما يتعلق بالمآل والمصير: "والمؤمنون يرون حقاً ربهم"، المؤمنون جمع مؤمن، وهم كل من أقر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره .
فمن حقق الإيمان هذا الوصف.
والإيمان هو الإقرار المستلزم للإذعان والقبول، فمن أقر إقراراً مستلزماً للإذعان والقبول فإنه مؤمن .
قال :"والمؤمنون يرون حقاً ربهم "، وهذا فيه إثبات الرؤية، وتأكيد ذلك وأن الرؤية رؤية حقيقية ليست مؤولة ولا متوهمة، بل هي رؤية حقيقية لله تعالى، فقوله"حقاً"، هذا إثبات للرؤية حقيقة، وأنها رؤية لا يدخلها شك، ولا يدخلها صرف للفظ عن ظاهره كما يفعله من ينكر الرؤية من أهل البدع .
فالمؤمنون يرون الله تعالى كما دلت على ذلك الآثار قال تعالى:﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ سورة يونس:26..
وقد جاء تفسير الزيادة بأنها النظر إلى الله تعالى كما جاء ذلك فيما رواه مسلم من حديث صهيب رضي الله عنه في رؤية المؤمنين الله تعالى حيث قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ - قَالَ - يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ فَيَقُولُونَ أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ - قَالَ- فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ » "صحيح مسلم"(181)..
فيكون أعظم نعيمهم رؤية الله جل وعلا.
ويدل لذلك أصرح آية في الدلالة على رؤية الله تعالى رؤية المؤمنين لربهم جل وعلا قوله جل وعلا:﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ سورة القيامة..
وكذلك الآية التي تقدمت:﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾، وكذلك قول الله تعالى:﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ سورة المطففين:15.، وهذه أيضاً مما استدل بها الأئمة على رؤية المؤمنين لربهم.
لأن الله تعالى ذكر في جملة عقاب أهل الكفر أنهم يحجبون عن الله تعالى، فدل ذلك على أن من الناس من لا يحجب وهم أهل الإيمان .
والأدلة على هذا كثيرة جاءت من حديث جرير بن عبد الله من حديث أبي هريرة، وحديث أبى سعيد، وحديث أنس، وحديث صهيب، وحديث أبى سعيد، كل هذه أحاديث في إثبات رؤية المؤمنين لربهم جل وعلا.
ولذلك أجمع أهل الإسلام على إثبات هذه الصفة، وهذه الميزة، ، وهذه المنحة والمنة من رب العالمين لأهل الإيمان.
وقد ضل في هذا طوائف كالمعتزلة والجهمية فإنهم أنكروا الرؤية، وقالوا: إن الرؤية هي رؤية النعيم، ورؤية الثواب وما إلى ذلك من التأويل الذي صرفوا به اللفظ عن ظاهره.
وضل في ذلك أيضاً الأشاعرة فقالوا: إنه يُرى من غير مواجهه، وهذا قول باطل يخالف النصوص ويخالف العقل.
ولذلك عُد هذا القول من المضحكات لأنه لابد في الرؤية من مواجهة ولابد أن يكون المرئي في جهة.
وقد رد أهل السنة وأهل العلم على هذا القول وفندوه.
وعلى كل حال مسألة الرؤية ثابتة لا إشكال فيها، وما استدل به النافون للرؤية من قوله تعالى:﴿ لَنْ تَرَانِي﴾ سورة الأعراف:143..
وقوله تعالى﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ﴾ سورة الأنعام:103.، فهذا استدلال في غير محله.
فإن قوله جل وعلا ﴿ لَنْ تَرَانِي﴾،هذا في الدنيا .
وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في "الصحيح":«تَعَلَّمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَمُوتَ» "صحيح مسلم"(169). في ذكر فتنة الدجال.
أما قوله تعالى ﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ﴾، فهذا حقيق وصحيح فنحن نثبت الرؤية لكن ننفي الإدراك، ومعنى الإدراك الإحاطة، والله تعالى لا يحاط به علما كما أنه لا يحاط به بصراً ، فالأبصار لا تدركه ولا تحيط به.
وأنت ترى الشيء وتنظر إليه ومع ذلك لا تدركه فكلنا يرى النجوم لكن لا ندركها إدراكاً تاماً، كلنا يرى القمر ليلة البدر واضحاً جلياً لكن لا يدركه ويعرف تفاصيله ودقائق تحيط به إحاطة تامة .
ففرق بين نفي الإدراك الذي يستلزم الإحاطة وبين إثبات الرؤية، فالذي أثبتته النصوص هو الرؤية، والذي نفته هو الإدراك الذي هو الإحاطة.
قال رحمه الله:"والمؤمنون يرون حقاً ربهم"، هذا يفيد بأن الرؤية خاصة بالمؤمنين فلا يرى الله جل وعلا غير المؤمنين.
واختلف أهل العلم في رؤية الكفار والمنافقين لله تعالى في أرض المحشر بعد اتفاقهم على أنه لا يراه في الجنة إلا المؤمنون لأنه لا يدخلها إلا أهل الإيمان.
والرؤية نوعان:
رؤية تكون في عرصات يوم القيامة.
ورؤية تكون بعد دخول الجنة التي بها النعيم وإكمال الفضل والإحسان هي التي تكون في الجنة.
وأما الرؤية التي في أرض المحشر فهي رؤية تعريف، وليست رؤية تنعيم تام كامل لأن التنعيم التام الكامل لا يكون إلا في الجنة، وأما قبل ذلك فهو نوع نعيم لكنه فرق وشتان بينه وبين ما يكون في الجنة.
ولذلك إذا رأوه في الجنة تكون رؤياهم لله تعالى أعظم من كل نعيم ينعمون به ويجزون به.
أما في أرض المحشر فقد اختلف العلماء رحمهم الله في رؤية الكافرين لله عز وجل :
فذهب الجماعة أنه لا يراه الكفار فلا يراه في أرض المحشر إلا المؤمنين.
وذهب الجماعة إلى أنه يراه المؤمنون والمنافقون دون الكفار.
وذهبت جماعة من أهل العلم إلى أنه يراه كل أهل المحشر مع تفاوتهم في الرؤية، فمنهم من يراه رؤية تنعيم، ومنهم من يرى رؤية تعذيب وتحسير ، كرؤية الكافرين فإنهم يرونه ثم يحتجب عنهم كما دل عليه قوله تعالى:﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴾، والحجب يقتضى عدمه قبل ذلك.
والذي يجب استحضاره: أن الإجماع منعقد أنه لا يرى الكفار الله تعالى رؤية تنعيم.
فالذين قالوا: بأن الكفار يرون الله تعالى فلا يقولوا أنهم يرونه رؤية تنعيم إنما يقولون يرونه لكنها رؤية تحسير وتعذيب وتبكيت وتوبيخ، فهي عليهم حسرة ليست عليهم مِنَّة ومِنحة، سواء كان في الكفر الظاهر أو في النفاق.
المقصود هذا خلاف أهل العلم رحمهم الله في مسألة الرؤية.
فينبغي استحضار أن هذه الرؤية التي تثبت الكفار على قول من يقول بها ليست رؤية تنعيم.
الجهة الثانية التي ينبغي استحضارها في هذه المسألة أنه لا يجوز إطلاق رؤية الكفار لله تعالى.
يعنى لا يجوز أن يقول القائل: الكفار يرون ربهم، لأن هذا أولاً يوحي بالتنعيم، ولأن هذا لم يأت به نص، فكون الإطلاق يوهم التنعيم ويوهم الإكرام فينبغي منعه.
ثم إنه ليس هناك نص فيه إطلاق هذه الرؤية بل لابد من تقييد أنها رؤية تحسير وتعذيب وتوبيخ وندامة وحسرة ليست رؤية تنعيم.
وهذا الأمر الثاني يجب التنبه له في هذه المسألة.
ثم قال رحمه الله :"وإلى السماء بغير كيف ينزل"، المقصود بالسماء السقف المحفوظ وليس المقصود به مطلق العلو لأنه جل وعلا العلي العظيم، فهو القاهر فوق عباده على كل حال.
إنما المقصود بالسماء هنا السقف المحفوظ .
قال:" وإلى السماء بغير كيف"، أي دون تكييف "ينزل" أي ينزل رب العالمين وقد جاء الخبر بذلك عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ»"صحيح البخاري"(1145)، ومسلم (758)..
وهذا النزول يثبته أهل السنة والجماعة بلا كيف كما قال المؤلف رحمه الله، ولا يستلزم أي نوع من النقص الذي يتوهمه أو يشغب به المعارضون.
ولذلك كما قال الأئمة:" إذا قال الجهمي أنا أؤمن برب لا يتحول عن مكانه فقل أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء".
فالله تعالى قد أخبر أنه فعال لما يريد فمن حجر على الله تعالى، وقال أنه يستلزم الحركة والحركة تستلزم وتستلزم من اللوازم الباطلة التي يخترعها والتي منشأها التخيل والتكييف، وقع ويقع في ضلالات عديدة .
فينبغي أن يُعلم أن النزول الذي يثبته أهل السنة والجماعة بلا كيف كما قال أهل السنة والجماعة "وإلى السماء بغير كيف ينزل".
وهذا لا يختص مسألة النزول بل يعم كل صفات الله جل وعلا، فكل صفات الله سبحانه وتعالى يقر بها أهل السنة والجماعة من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل.
وقد تقدم في كلام المؤلف رحمه الله ما يدل على هذا المعنى في قوله :
وأَرُدُّ عُهْدَتَها إِلَى نُقَّالِهَـِاُ *** وَأَصُونُها عـَنْ كُلِّ مَا يُتَخَيَّلُ
وتقدم بيان أن نفي التخيل يتضمن نفي التمثيل ونفي التكييف.
فقوله رحمه الله :" وَإلَى السَّمَـاءِ بِغَيْرِ كَيْفٍ يَنْزِلُ" نفي التكييف هنا للتأكيد على هذا الضابط وهذه القاعدة.
ونزول الله تعالى ثابت في أحاديث عديدة هذا منها، وكذلك نزوله إلى السماء يوم عرفة لأهل الموقف خاصة فالنزول عام وخاص.
عام كنزوله سبحانه وتعالى في الثلث الأخير من الليل وذلك كل ليلة.
والنزول الخاص كنزوله سبحانه وتعالى في يوم عرفة لأهل الموقف إلى السماء الدنيا.
ثم قال رحمه الله :
ولِكُلِّ حَيٍّ عَامِـلٍ في قَبْـرِهِ *** عَمَلٌ يُقارِنُـهُ هُنَـاكَ وَيُسْـأَلُ
وذكر المؤلف رحمه الله في هذا البيت ما يتعلق في الإيمان بالبرزخ.
والبرزخ هو مما جاء به الخبر مما يكون بعد الموت إلى أن يقوم الناس من قبورهم لرب العالمين.
فكل هذا يسمى برزخاً وهو الحياة البرزخية من موت الإنسان إلى قيامه لرب العالمين.
وهذه الدار الأصل فيها أنها تكون في القبور، ولذلك يضاف العذاب والنعيم إلى القبر لكونه محل هذه الدار.
هذه الدار محلها القبور كما أن محل الحياة الدنيا الأرض، فكذلك محل الحياة البرزخية القبور.
فهذا الحديث يثبت ما أثبتته النصوص يدل على إثبات ما أثبتته النصوص مما يتعلق بعذاب القبر ونعيمه.
وقد دلت على ذلك الأدلة وتواردت عليه النصوص وأجمعت عليه الأمة ولا خلاف بينهم في إثباته، فنعيم القبر وعذابه جاء ذكره في كتاب الله تعالى ففي كتاب الله تعالى الإشارة إلى عذاب القبر في مواضع عديدة:
منها قول الله تعالى:﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ سورة غافر:46..
فهذا العرض في الغدو والعشي على النار إنما هو متى؟ في البرزخ ولا بعد البعث؟ في البرزخ لأنه قال ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾.
وكذلك قال الله تعالى:﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ سورة السجدة:21..
والعذاب الأدنى هو ما يكون في القبر كما قال ذلك جماعة من أهل التفسير.
وكذلك قوله تعالى:﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ سورة طه:122..
قال جماعة من أهل التفسير المعيشة الضنك هي ما يكون في البرزخ من عذاب وسوء حال.
وكذلك في قوله تعالى في قصة نوح في إهلاكهم:﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً ﴾ سورة نوح:25..
﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ ﴾، يعني بسبب ذنوبهم﴿ أُغْرِقُوا ﴾، هذا إخبار بحصول الغرق ثم قال:﴿ فَأُدْخِلُوا نَاراً ﴾، والفاء تقتضى التعقيب القريب، وذلك بما يلقونه في القبور من العذاب.
المقصود أن القرآن دل في مواضع عديدة على عذاب القبر.
وأما السنة فذلك من أحاديث لا يمكن إحصاؤها وحصرها يكفي في ذلك ما في "الصحيحين" من حديث عائشة "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاَةِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ ،وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ،...»"صحيح البخاري"(832)، ومسلم(589)..
وكذلك أمره صلى الله عليه وسلم في حديث أبى هريرة في "الصحيحين" في الاستعاذة من عذاب القبر"صحيح البخاري"(1377)، ومسلم(588).، وكذلك زيد بن أرقم وكذلك في حديث ابن عباس وزيد بن ثابت والأحاديث في هذا كثيرة وحديث البراء بن عازب الطويل.
وفيه ما أشار المؤلف رحمه الله إليه من اقتران الإنسان بعمله فحديث البراء الطويل مشهور الذي فيه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم «أنه إذا كان العبد المؤمن في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة » وذكر ما ذكر مما يكون ثم قال :« ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب طيب الريح، فيقول أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت فوجهك الوجه يجئ بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح» أخرجه أحمد(4/287). .
وهذا ما أشار رحمه الله في قوله:" ولكل حي عامل في قبره عمل يقارنه" أي يلازمه ويصاحبه ولا يفارقه.
وأما الكافر فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «وأما الكافر فإذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة » ثم ذكر «ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوءك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول: من أنت فوجهك الوجه يجئ بالشر فيقول أنا عملك الخبيث» تقدم تخريجه..
وهذا ما أشار إليه من اقتران الإنسان بعمله.
والعمل يلازم الإنسان كما جاء ذلك في "الصحيحين" من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاَثَةٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ»"صحيح البخاري"(6514)، ومسلم(2960)..
ومعنى بقاء العمل أي أنه يلازمه ويقارنه في قبره.
وهذا يدل أيضاً على ما ذكره المؤلف رحمه الله من أن :" لكل حي عامل في قبره" في مكان دفنه "عمل يقارنه هناك" قال "ويسأل" أي يسأل عن عمله وذلك في الفتنة التي تكون في القبر .
وقد دلت عليها الأدلة وذلك أن المقبور يأتيه ملكان فيقعدانه فيسألانه عن ربه ودينه ورسوله.
وينقسم الناس في الجواب إلى قسمين، وهذا الحديث في "الصحيحين""صحيح البخاري"(1374)، ومسلم(2870). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وجاء الخبر عن هذه الفتنة في حديث عائشة وفي حديث غيرها وهي ثابتة ثبوتاً لا يمتري فيه أهل الإيمان.
فهذا البيت تضمن ذكر فتنة القبر وعذابه ونعيمه.
فتنة القبر في قوله "ويسأل ".
وعذابه ونعيمه في قوله "ولكل حي عامل في قبره عمل يقارنه"، فإن كان من أهل السعادة فالذي يقارنه يسعد به ويسر .
وإن كان من أهل الشقاء فيكون الذي يقارنه عذاب وشقاء وهو عمله الذي يأتيه في صورة الرجل القبيح ذو المنظر القبيح والرائحة النتنة .
بعد أن فرغ المؤلف رحمه الله من ذكر مجمل ما أراد بيانه للسائل من مسائل الاعتقاد قال رحمه الله :
هذا اعْتِقَـادُ الشَّافِعيِّ و مَالِكٍ *** وَأَبِي حَنِيفَـَةَ ثُمَّ أَحْـمَدَ يُنْقَـلُ
بين المؤلف رحمه الله أن ما تقدم من الاعتقاد المنظوم في هذه القصيدة ليس من قبل نفسه، وليس مما توصل إليه، بل هو مما كان عليه سلف الأمة وأئمتها.
قال رحمه الله "هذا" إشارة إلى ما تقدم من مسائل الاعتقاد في الصحابة وكذلك في القرآن، وكذلك في الأسماء والصفات، وكذلك في الميزان، وما يتعلق باليوم الآخر والقبر قال :
هذا اعْتِقَـادُ الشَّافِعيِّ و مَالِكٍ *** وَأَبِي حَنِيفَـَةَ ثُمَّ أَحْـمَدَ يُنْقَـلُ
وذكر هؤلاء لأنهم أصحاب المذاهب المتبوعة فهم الأئمة الذين تتبعهم الأمة فالمذاهب ترجع إلى هؤلاء.
وهم الذين اشتهرت أقوالهم وانتشرت، وكتب لهم القبول، فكان النص عليهم أدعى لقبول ما تضمنه هذه العقيدة فالمنتسب للشافعي إذا علم أن هذه عقيدة الشافعي كان ذلك حاملاً له على أن يعتقد ما اعتقده.
كذلك مالك وكذلك أبي حنيفة .
قال :"ثم أحمد ينقل" يعنى هذا هو المنقول عنه المعروف المشهور.
ثم قال رحمه الله
فَإِنِ اتَّبَعْــتَ سَبِيلَهُــم فَمُوَفَّـــقٌ *** وَإِنِ ابْتَدَعْتَ فَمَــا عَلَيْــكَ مُعَـــوَّلُ
ذكر المؤلف رحمه الله في ختم هذه المنظومة أن إتباع سبيل السلف الصالح سبب للتوفيق.
والتوفيق هو إصابة الصواب وإدراك المطلوب فالموفق هو من أصاب غرضه وأدرك مطلوبه ثم قال:"وَإِنِ ابْتَدَعْتَ فَمَــا عَلَيْــكَ مُعَـــوَّلُ".
" وَإِنِ ابْتَدَعْتَ" أي أتيت ببدعة وقول لم تسبق إليه وعقد لم يتقدم نظيره أو قوله في قول من تقدم " فَمَــا عَلَيْــكَ مُعَـــوَّلُ"، أي ليس عليك اعتماد ولا إليك نظر.
وهذا يدل على إهمال كل ما حدث من الأقوال بعد أقوال أولئك فإن أولئك قد بينوا عقدهم وعقد السلف ووضحوه من الكتاب والسنة فكل ما جد بعد ذلك فهو من المحدثات.
قد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه " من كان مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة " "حلية الأولياء"(1/136)..
وهذا الذي تقدم هو شيء من عقد الفرقة الناجية المنصور إلى يوم القيامة، والتي عقدها وعملها عليه محور النجاة، فمن استمسك به هدى، ومن حاد عنه حصل معه من الضلال والبعد بقدر ما حصل منه من الحيدة.
وبهذا يكون قد انتهي هذا النظم المبارك المختصر فيما يتعلق بلامية شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من المباركين وأن ينفعنا بما سمعنا وأن يجعلنا ممن إذا سمع القول اتبع أحسنه.