الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه "كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة"
" بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، تسليمًا.
خرَّج مسلم في "صحيحه" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ غريبًا، فطوبى للغرباء» مسلم (145)، وابن ماجه (3986)..
وخرجه الإمام أحمد وابن ماجه من حديث ابن مسعود بزيادة في آخره وهي: قيل: يا رسول الله، ومن الغرباء؟ قال:«النُزَّاع من القبائل» أخرجه أحمد 1/398 وابن ماجه 3988..
وخرَّجه أبو بكر الآجري وعنده، قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: «الذين يُصْلحون إذا فسد الناس» أخرجه أبو بكر الآجري رقم (1)..
وخرَّجه غيره وعنده قال: «الذين يفرون بدينهم من الفتن».
وخرَّجه الترمذي من حديث كثير بن عبد الله المزني، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الدين بدأ غريبًا، وسيرجع غريبًا، فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي» أخرجه الترمذي (2631)..
وخرَّجه الطبراني من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي حديثه: قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال:«الذين يصلحون حين فساد الناس» قال الهيثمي في المجمع (7/278): رواه الطبراني في الأوسط..
وخرَّجه أيضًا من حديث سهل بن سعد بنحوه قال الهيثمي في المجمع (7/278): رواه الطبراني في الثلاثة من حديث سهل بن سعد..
وخرجه الإمام أحمد من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حديثه:«فطوبى يومئذٍ للغرباء إذا فسد الناس» أحمد (1604)، وأبو يعلى (756)..
وخرّج الإمام أحمد والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي قال:«طوبى للغرباء»، قلنا: ومن الغرباء؟ قال:«قومٌ قليلٌ في ناس سوءٍ كثيرٍ، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم» أحمد (6661)، (7094)، قال الهيثمي في المجمع (7/278): رواه أحمد والطبراني في (الأوسط)..
وروي عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا وموقوفًا في هذا الحديث: قيل: ومن الغرباء؟ قال: «الفرَّارون بدينهم يبعثهم الله تعالى مع عيسى ابن مريم عليه السلام » أخرجه أحمد في الزهد، ص77، والآجري في الغرباء رقم (37).".
الحمد لله رب العالمين، أحمده جل في علاه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فهذا هو المجلس الأول في قراءة هذه الرسالة اللطيفة المباركة للحافظ الجليل العالم الفقيه المحدِّث الأصولي عبد الرحمن بن رجب رحمه الله تعالى، المتوفى سنة خمس وتسعين وسبعمئة للهجرة .
والإمام ابن رجب رحمه الله من أئمة الدين المشهورين الذين لهم قدم صدق ونفع ولهم مؤلفات نافعة، وكتابات جليلة.
وقد جمع الله تعالى لهذا الإمام صنوفاً من العلم، يسرها له تميَّز بها، فهو رحمه الله فقيه محقق، ومحدث مبرِّز ، وأصولي نحرير، كما أنه من أبرز العلماء عناية بعلوم القلوب والوعظ والتذكير.
فجمع الله تعالى له هذه الخصال، له مؤلفات جليلة ، ورسائل ماتعة نافعة في علوم شتَّى، فهو صاحب القواعد المشهورة في "القواعد الفقهية".
وله كتاب "العلل الكبير" في التعليق على جامع الترمذي، وله أيضاً شرح على صحيح البخاري فيه من العلوم والكنوز ما تأسف على ما فات منه ما لم يصل.
وله رسائل عديدة كثيرة ومنها هذه الرسالة المباركة التي بين أيدينا والتي سنقرأها ونعلق على بعض ما جاء فيها.
وسمها رحمه الله بهذا الاسم " كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة".
الكشف: هو الإزالة والبيان والإيضاح، هذا من حيث اللغة، والمقصود هنا هو الإزالة والرفع.
فكشف الكربة: أي رفعها وإزالتها.
والكربة: تطلق على الشدة، والمحنة، والنازلة الثقيلة على النفس، وسميت كربة لأنها تكرب الإنسان فتشده وتعصره.
وتسمية هذه الرسالة بهذا الاسم هو لكشف كربة علمية اختلف العلماء في تحديدها وبيانها وإيضاحها، وهي " أوصاف أهل الغربة".
فمن الكتاب نفهم أن هذه الرسالة اعتنت ببيان صفات أهل الغربة الذين جاء الثناء عليهم والمدح لهم في قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فطوبى للغرباء».6.50
هذه الرسالة المختصرة ابتدأها المؤلف رحمه الله بذكر الحديث، فهي أشبه ما تكون رسالة شرح فيها وأوضح حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي رواه مسلم في "صحيحه" من طريق زيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "«بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ غريبًا، فطوبى للغرباء»".
ابتدأ المؤلف هذه الرسالة بذكر الحديث ورواياته، وهذه فائدة تستفيدها من هذا العالم الجليل في مسألة التخريج، فإن التخريج المفيد الذي ينبغي أن يعتنى به هو التخريج الذي يفيد الحديث قوة باختلاف طرقه، فإذا كان الحديث صحيحاً فإنك تحتاج التخريج في بيان ألفاظ الحديث التي يكمل بها المعنى .
المؤلف رحمه الله ذكر تخريج الحديث ليس للتزيد كما هو شأن كثير من الباحثين المعاصرين، تجد المتن كلمة، والحاشية في التخريج صفحات، وهذا ليس مذموماً على كل الأحوال، لكن في الغالب أنه يكون تزيداً وغير مفيد في أكثر الأحيان.
لكن على كل الأحوال المقصود بالتخريج الذي ينبغي أن يعتنى به هو التخريج الذي يعتنى فيه بما يزيد الحديث إيضاحاً وبياناً، أو ثبوتاً وقوة.
إيضاحاً وبياناً وهذا يتعلق بالمعنى، وثبوتاً وقوة هذا يتعلق بالإسناد.
هذا الذي ينبغي أن يكون هم الباحث في تخريج الأحاديث منصباً عليه، تقوية لحديثه من حيث ثبوته وإسناده، أو من حيث معناه وجلاءه ووضوحه.
فإذا كانت العناية بالتخريج محققة لهذين الغرضين فحيهلا بها، وإن كانت تزيّد وذكر غرائب الكتب، وطوال الأسانيد دون فائدة يتحقق بها قوة الإسناد أو يتحقق بها وضوح المتن، فهذا مما ينبغي أن ينصرف عنه طالب العلم إلى ما هو أنفع .
فالعلم إن طلبته كثير، والعمر في تحصيله قصير، فابدأ منه بالأهم فالمهم.
افتتح هذه الرسالة رحمه الله بالبسملة، كسائر أهل العلم في مؤلفاتهم وكتاباتهم تأسياً بكتاب الله تعالى، واقتداء بسنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجرياً على هدي علماء الأمة الأبرار في مؤلفاتهم وكتاباتهم.
ثم عطف على ذلك حمد الله والثناء عليه، وهذا زيادة في الخير، وإلا فالبسملة تُغني وتكفي، وغالب كتب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقتصر على البسملة، دون ذكر الحمد، لكن إذا ذكر الحمد فقد اقتدى بكلام الله تعالى الذي افتتح كلامه جل في علاه بحمده ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ سورة الفاتحة:2..
يقول المؤلف:"الحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، تسليمًا".
بعد ذلك قال رحمه الله :" خرَّج مسلم"، ظني -والله أعلم- أن هذه المقدمة قد تكون منقوصة فإن العادة الجارية في كلام أهل العلم أن يذكروا بين المقدمة والمقصود كلمة "أما بعد".
النسخة التي بين يدي ليس فيها كلمة" أما بعد"، فلعلها سقطت، أو أن هذه أجزاء من أحاديث تكلم عليها المؤلف رحمه الله واجتهد النساخ في جمعها وجعلها رسائل مفرقة أو ما أشبه ذلك.
المراد أن المؤلف رحمه الله ابتدأ مباشرة في ذكر الحديث.
قال رحمه الله :"خرَّج مسلم في صحيحه"، مسلم هو الإمام مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح المشهور، المتوفى سنة أربع ومئتين.
يقول رحمه الله:" خرَّج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ غريبًا، فطوبى للغرباء»".
هذا الحديث هو محل البحث ، هو موضوع الرسالة .
فالرسالة تدور على بيان وتفصيل وإيضاح معنى هذا الحديث.
الرسالة مضمونها أيش يا إخواني ؟ كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة.
إذاً: الآن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول «فطوبى للغرباء»"، فمن هم الغرباء؟ جاء بيانهم في أحاديث أخرى.
لنحصي هذه الصفات من خلال ما ذكره من التخريج، لأنه سيعود عليه رحمه الله ذكراً بعدما أفرغ من التخريج.
يقول :"وخرجه الإمام أحمد"، خرَّجه ورواه كلاهما لفظ واحد يؤدي إلى معنى واحد، بعضهم يفرق بين التخريج والرواية فيقول :" خرَّج تختلف عن روى"،لكن الذي عليه عامة أهل الشأن من المحدثين أنه لا فرق بين الرواية والتخريج ، فيقولون روى، ويقولون خرَّج.
يقول :" وخرجه الإمام أحمد وابن ماجه من حديث ابن مسعود بزيادة"، أي أن هذا الحديث رواه ابن مسعود، فابن مسعود ذكر هذا الحديث " بزيادة في آخره وهي: قيل: يا رسول الله، ومن الغرباء؟"، هذا شروع في بيان الأوصاف، " قال:«النُزَّاع من القبائل»"، هذا أول الأوصاف التي ذكرها المؤلف رحمه الله لحال أهل الغربة أنهم " النُزَّاع من القبائل".
وسيأتي الكلام على هذا فيما نستقبل.
يقول:" وخرَّجه أبو بكر الآجري وعنده"، أي خرَّج هذا الحديث، عن ابن مسعود.
" الآجري وعنده، قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: «الذين يُصْلحون- أو يُصلحون- إذا فسد الناس»"، يصلح الوجهان .
يَصلحون في أنفسهم، أو يُصلحون ، أي يصلحون غيرهم.
وأيهما أكمل في المعنى؟ إن قلنا يُصلحون فهو يصلح، وإن قلنا يَصلحون فهو يصلح.
«يُصلحون إذا فسد الناس»، هنا صلحوا في أنفسهم ، وأصلحوا غيرهم، هذا الغالب مع أنه قد يشتغل الناس بإصلاح الناس ولا يصلح نفسه ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ سورة البقرة:44..
ويَصلحون في أنفسهم ولا يكمل صلاحهم في أنفسهم إلا إذا أصلحوا غيرهم.
فكلا اللفظين له مرجِّح ، لكن نحن نقول كلاهما يصلح، هذا أو ذاك كلاهما صالح .
فلو قرأها إنسان «يَصلحون»، قراءته صحيحة، ولو قرأها «يُصلحون»، قراءته صحيحة.
يقول:" «الذين يُصْلحون إذا فسد الناس»".
قال :"وخرَّجه غيره وعنده قال:«الذين يفرون بدينهم من الفتن»"، هذا الوصف الثالث، وهذا يُرجِّح أي المعنيين؟ يُصلحون أو يَصلحون؟ يَصلحون.
" وخرَّجه الترمذي من حديث كثير بن عبد الله المزني، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن الدين بدأ غريبًا، وسيرجع غريبًا، فطوبى للغرباء الذين يُصلحون ما أفسد الناس من سنتي»"، يُصلحون، هذا الوصف الرابع، وهذا يرجح أي المعنيين؟ يُصلحون.
" وخرَّجه الطبراني من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حديثه: قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال:«الذين يَصلحون حين فساد الناس»"، أو «يُصلحون حين فساد الناس»".
" وخرَّجه أيضًا"، هذا راجع لأي شيء؟ للحديث السابق.
" وخرَّجه أيضًا من حديث سهل بن سعد بنحوه ، وخرجه الإمام أحمد من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حديثه: «فطوبى يومئذٍ للغرباء إذا فسد الناس»".
إلى الآن ليس في وصف جديد.
نحن الآن ذكرنا كم وصف؟ أربعة .
" وخرّج الإمام أحمد والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «طوبى للغرباء»، قلنا: ومن الغرباء؟ قال: «قومٌ قليلٌ في ناس سوءٍ كثيرٍ، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم»"، هذا وصف زائد، أنهم قليل، وهذا من مناسبة وصفهم بالغربة كما سيأتي.
إذاً هم قليل، ومن يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ، هذا الوصف الخامس.
" وروي عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا وموقوفًا في هذا الحديث: قيل: ومن الغرباء؟ قال: «الفرَّارون بدينهم يبعثهم الله تعالى مع عيسى ابن مريم عليه السلام »".
في هذا الحديث قيل :" ومن الغرباء؟ قال: «الفرَّارون بدينهم يبعثهم الله تعالى مع عيسى ابن مريم عليه السلام »".
" الفرَّارون"، هذا ليس فيه وصف زائد إنما فيه تأكيد لمعنى قوله في رواية عبد الله بن مسعود :" «الذين يفرون بدينهم من الفتن»".
هذه الروايات عن الصحابة رضي الله عنهم ، بهذه الألفاظ أفادتنا فائدتين:
الفائدة الأولى :قوة ثبوت هذا الحديث لتعدد مخارجه فقد جاء عن جماعة من الصحابة، جاء عن أبي هريرة، وجاء عن عبد الله بن مسعود، وجاء عن المزني، وجاء عن سعد بن أبي وقاص، وعن جابر، وجاء عن عبد الله بن عمر.
وأما من حيث الصفات فقد جمعنا من خلال قراءتنا في أوصاف أهل الغربة خمس صفات.
يقول المؤلف رحمه الله، يشرع الآن في بيان المعنى.
" قوله: «بدأ الإسلام غريبًا» يريد به أن الناس كانوا قبل مبعثه على ضلالة عامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عياض بن حمار الذي أخرجه مسلم: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب» أخرجه مسلم (2865)..
فلما بُعِثَ النبي صلى الله عليه وسلم ودعا إلى الإسلام لم يستجب له في أول الأمر إلا الواحد بعد الواحد من كل قبيلة.
وكان المستجيب له خائفًا من عشيرته وقبيلته يُؤذى غاية الأذى، ويُنال منه وهو صابر على ذلك في الله عز وجل.
وكان المسلمون إذ ذاك مستضعفين يشردون كل مشرد ويهربون بدينهم إلى البلاد النائية كما هاجروا إلى الحبشة مرتين، ثم هاجروا إلى المدينة. وكان منهم من يعذب في الله ومنهم من يقتل، فكان الداخلون في الإسلام حينئذ غرباء، ثم ظهر الإسلام بعد الهجرة إلى المدينة وعزَّ، وصار أهله ظاهرين كل الظهور، ودخل الناس بعد ذلك في دين الله أفواجًا، وأكمل الله لهم الدين وأتم عليهم النعمة وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك.
وأهل الإسلام على غاية من الاستقامة في دينهم وهم متعاضدون متناصرون، وكانوا على ذلك زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم أعمل الشيطان مكائده على المسلمين وألقى بأسهم بينهم، وأفشى فيهم فتنة الشبهات والشهوات.
ولم تزل هاتان الفتنتان تتزايدان شيئًا فشيئًا حتى استحكمت مكيدة الشيطان وأطاعه أكثر الخلق، فمنهم من دخل في طاعته في فتنة الشبهات، ومنهم من دخل في فتنة الشهوات، ومنهم من جمع بينهما، وكل ذلك مما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعه".
بيَّن لنا المؤلف رحمه الله في هذا المقطع وجه كون الإسلام بدأ غريباً، ووجه كونه يعود غريباً.
فغربته في أول الأمر من حيث قلة أنصاره، ومن حيث ضعفهم، وكذلك في آخر الزمان.
وهذا استعراض موجز مختصر لحال أول الإسلام ، وحال آخره.
يقول رحمه الله :" قوله:«بدأ الإسلام غريبًا» يريد به أن الناس كانوا قبل مبعثه على ضلالة عامة"، أي على ضلالة لا تخص أحد دون أحد، العرب والعجم، هذا معنى العامة.
أهل الكتاب وغيرهم كانوا على ضلالة عامة، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث عياض بن حمار الذي أخرجه مسلم:«إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، - كرههم وغضب عليهم - عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب»، فهم نفرٌ قليل لا يذكرون.
" فلما بُعِثَ النبي صلى الله عليه وسلم ودعا إلى الإسلام لم يستجب له في أول الأمر إلا الواحد بعد الواحد من كل قبيلة"، فهم نزَّاع من القبائل، وهم قلة من حيث العدد.
إذاً: عندنا الآن تحقق وصفان، مما ذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأحاديث التي مضت، القلة وأنهم نزَّاع.
والنزَّاع جمع نزيع، وهو المقتطع من الشيء، المستخلص من غيره، نزَّاع من القبائل.
ثم قال:"وكان المستجيب له خائفًا من عشيرته وقبيلته يُؤذى غاية الأذى"، أي نهاية الأذى،"ويُنال منه وهو صابر على ذلك في الله عز وجل، وكان المسلمون إذ ذاك مستضعفين يشردون كل مشرد "، أي مطاردون كل مطرد وينال منهم الأذى من كل وجه.
قال:"ويهربون بدينهم إلى البلاد النائية كما هاجروا إلى الحبشة مرتين، ثم هاجروا إلى المدينة.
وكان منهم من يعذب في الله ومنهم من يقتل"، يقول:"فكان الداخلون في الإسلام حينئذ غرباء"، وهذا وجه غربتهم ، قلة عددهم وضعفهم وتسلط أعدائهم عليهم، هذا وجه غربتهم في أول الإسلام، وهذا ظاهر بيِّن .
يقول:"ثم ظهر الإسلام بعد الهجرة إلى المدينة وعزَّ، وصار أهله ظاهرين كل الظهور"، فتحقق قول الحق جل وعلا: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ سورة التوبة:33..
فظهر الإسلام على كل دين، حتى خلصت الجزيرة من كل عبادة سوى الله جل في علاه، وكان من آخر ما أوصى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به « أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ»"صحيح البخاري"(3053)،ومسلم(1551).، وهذا لظهور الإسلام وقوته، فلا يقبل له منازع في جزيرة العرب.
يقول رحمه الله :"ودخل الناس بعد ذلك في دين الله أفواجًا "، كما قال تعالى ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا﴾ سورة النصر..
" وأكمل الله لهم الدين وأتم عليهم النعمة"، ﴿ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ سورة المائدة:3..
قال:"وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك"، على هذه الحال ، كمال في الدين ، وظهور في الإسلام.
قال :"وأهل الإسلام على غاية"، أي نهاية "من الاستقامة في دينهم"، «خير الناس قرني»، كما في حديث عمران بن حصين، « خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» أخرجه البخاري (2652)، ومسلم (2533).، كما يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قال:" وهم متعاضدون متناصرون، وكانوا على ذلك"، أي على هذا السيرة، في "زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما".