قال المؤلف رحمه الله :"ثم ظهر الإسلام بعد الهجرة إلى المدينة وعزَّ، وصار أهله ظاهرين كل الظهور، ودخل الناس بعد ذلك في دين الله أفواجًا، وأكمل الله لهم الدين وأتم عليهم النعمة، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، وأهل الإسلام على غاية من الاستقامة في دينهم وهم متعاضدون متناصرون، وكانوا على ذلك زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
ثم أعمل الشيطان مكائده على المسلمين وألقى بأسهم بينهم، وأفشى فيهم فتنة الشبهات والشهوات.
ولم تزل هاتان الفتنتان تتزايدان شيئًا فشيئًا حتى استحكمت مكيدة الشيطان وأطاعه أكثر الخلق، فمنهم من دخل في طاعته في فتنة الشبهات، ومنهم من دخل في فتنة الشهوات، ومنهم من جمع بينهما، وكل ذلك مما أخبر النبي بوقوعه".
في هذا المقطع من قول المؤلف رحمه الله من قوله:"بدأ الإسلام غريباً" إلى حيث وقفنا ، يبين وجه غربة الإسلام.
غربة الإسلام في أوله ذكرنا أنها كما أفاد المؤلف بقلة أتباعه ، وبضعفهم، وظهور الكفار والمعاندين لهم.
هذا أبرز ما اتسمت به الغربة في أول الوقت ، وحصل ما حصل من ظهور الإسلام فانتشر وظهر حتى كما قال المؤلف رحمه الله :"وأتم عليهم النعمة، وتوفي رسول الله والأمر على ذلك، وأهل الإسلام على غاية من الاستقامة في دينهم وهم متعاضدون متناصرون، وكانوا على ذلك زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، "يقول:" ثم أعمل الشيطان مكائده على المسلمين وألقى بأسهم بينهم"، وذلك بعد مقتل عمر رضي الله عنه، حيث فتحت أبواب الفتن.
قال :" وأفشى فيهم فتنة الشبهات والشهوات"، وهاتان الفتنتان مصدر كل بلاء وشر، فما من فساد في الدنيا ولا شر إلا وسببه إما شبهة أو شهوة.
وقوله رحمه الله:"فتنة الشبهات والشهوات"، هو من باب إضافة الشيء إلى سببه، الفتنة التي سببها الشبهة، الفتنة التي سببها الشهوة.
" الشبهات"، جمع شبهة، والشبهة هي حائل يمنع من رؤية الحق، هذا تعريف الشبهة.
وأما"الشهوات"، فجمع شهوة، والشهوة هي ميل النفس إلى معصية الله.
ويمكن أن تعرف بتعاريف أخرى: فالشهوة مخالفة أمر الله ورسوله، لكن هذا أجود ما يقال في تعريف الشهوة أنها "ميل النفس إلى مخالفة أمر الله، أو إلى معصية الله".
والمعصية قد تكون بترك واجب أو انتهاك محرم.
هذا مختصر ما يقع من فساد في حال الناس، إما بسبب شبهة وهي ما يعرض لقلوبهم من عوارض تمنعهم من رؤية الحق ومعرفته.
وإما أن تغلبهم نفوسهم فتحملهم على مخالفة أمر الله ورسوله.
فكلاهما يؤدي إلى نتيجة واحدة وهو الخروج على الصراط المستقيم، لكن سبب الخروج مختلف، فمن الخروج ما يكون بسبب عدم الوضوح، ومن الخروج ما يكون بسبب عدم القدرة على الثبات، عدم الاستمرار على الهدى والعمل به.
فالنتيجة في كلا الأمرين، أو في كلا السببين واحد، وهو الخروج عن الصراط المستقيم.
والشيطان لا يبالي ما أصاب من الإنسان، أصاب منه شهوة أو أصاب منه شبهة.
لأن غرضه الصد عن سبيل الله، فكيف ما حصل هذا الصد تحقق غرضه المقصود .
لكن من حيث خطورة، ومراتب الخطورة في الشبهة أو الشهوة، الشبهة أخطر من الشهوة وكلاهما خطير، لكن نتكلم عن جنس الشبهة، وليس كل شبهة أخطر من كل شهوة.
إنما جنس الشبهات أخطر من جنس الشهوات.
يعني فتنة الشبهات في الجملة أخطر من فتنة الشهوات، لأن الشهوات يعرف الإنسان من نفسه المخالفة فقد يرجع.
ولكن الشبهة لا يعرف المخالفة ، بل يظن أنه على حق، ولهذا في ميزان البدعة والمعصية أيهما أشد خطورة؟ البدعة أشد خطورة، لماذا؟ لأنها تتصل بالشبهات؟
أما المعصية ، والمقصود بالمعصية جنس المعصية، أقل خطورة من الشبهة، لأن صاحبها يعرف أنه مخالف، ويعرف أنه عاص وخارج عند حدود الشريعة، فأوبته ورجعته قريبة بخلاف صاحب الشبهة فإنه زيِّن له سوء عمله.
قال الله تعالى:﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾ سورة فاطر:8.، وإذا كان يرى أن عمله حسناً، فإنه قلَّ أن ينزع أو أن يرجع عنه.
يقول المؤلف رحمه الله :"وأفشى فيهم فتنة الشبهات والشهوات"، والمقصود أنه ابتدأ فشوها وظهورها، وبذر أسبابها، " ولم تزل هاتان الفتنتان تتزايدان شيئًا فشيئًا حتى استحكمت مكيدة الشيطان"، أي تمكنت، فالاستحكام هو التمكن من الشيء، "وأطاعه أكثر الخلق، فمنهم من دخل في طاعته في فتنة الشبهات، ومنهم من دخل في فتنة الشهوات، ومنهم من جمع بينهما" شبهة وشهوة "وكل ذلك مما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعه"،
الآن يفصِّل أين أخبر بوقوع الشهوات، وأين أخبر بوقوع الشبهات.
يقول:"فأما فتنة الشبهات: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أن أمته ستفترق على أزيد من سبعين فرقة على اختلاف الروايات في عدد الزيادات على السبعين، وأن جميع تلك الفرق في النار إلا فرقة واحدة وهي ما كانت على ما هو عليه وأصحابه رضي الله عنهم انظر السلسلة الصحيحة حديث رقم 203 و 304..
وأما فتنة الشهوات: ففي "صحيح مسلم"، عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كيف أنتم إذا فُتحت عليكم خزائن فارس والروم، أي قوم أنتم؟» قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : نقول كما أمرنا الله، قال: «أوَ غَير ذلك تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون»"صحيح مسلم" (2962)..
وفي صحيح البخاري عن عمرو بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تُبْسطَ عليكم الدنيا كما بُسِطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم»" صحيح البخاري" (3158)، (4015)، ومسلم (2961)..
وفي "الصحيحين" من حديث عقبة بن عامر عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه أيضًا".
إذاً: هذا هو خبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن فتنة الشهوات وفتنة الشبهات.
وابتدأ المؤلف رحمه الله بذكر فتنة الشبهات لكونها أخطر ، ولكون الوعيد فيها أكبر، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:«كلها في النار إلا واحدة ».
وأما في فتنة الشهوات فإنه أخبر عن فساد حال الناس بذكر أعمالهم، ولم يذكر الحكم على تلك الأعمال بالنص.
يقول:"فأما فتنة الشبهات: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه"، أي من طرق كثيرة، من حديث أبي هريرة، ومن حديث عبد الله بن عمرو، ومن حديث معاوية، ومن حديث أنس، ومن حديث عوف بن مالك، ومن أحاديث عدة وطرق كثيرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورد عنه خبر افتراق الأمة ، فقال :" أن أمته ستفترق على أزيد من سبعين فرقة على اختلاف الروايات"، على إحدى وسبعين، أكثر أو أقل ، " في عدد الزيادات على السبعين، وأن جميع تلك الفرق في النار"، لكونها خالفت ما عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، " إلا فرقة واحدة وهي ما كانت على ما هو عليه وأصحابه صلى الله عليه وسلم"، كما جاء ذلك في ما رواه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن الفرقة الناجية، فقال :« من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» أخرجه بهذا اللفظ الحاكم في "المستدرك"(1/219)، ح(444)،والطبراني في "الأوسط" (5/137)ح(4886) ، وأخرجه أيضًا : في "الصغير" (2/29)ح(724) ، قال الهيثمي (1/189) : فيه عبد الله بن سفيان . قال العقيلي: لا يتابع على حديثه هذا وقد ذكره ابن حبان في "الثقات"..
والحديث في إسناده مقال إلا أنه جاء من طرق تقويه وتعضده وترقيه إلى درجة القبول، هذا من جهة.
ومن جهة المعنى ، المعنى لا إشكال في صحته أنه لا نجاة إلا بما كان عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، دل على هذا أحاديث كثيرة، «تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي، الثقلين أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي»" المسند"(3/59)، وأخرجه البيهقي (10/114)، ح(20124) . وأخرجه أيضًا : اللالكائي (1/80 )، ح(90)، بلفظ « إني قد خلفت فيكم ما لن تضلوا بعدهما ما أخذتم بهما أو عملتم بهما كتاب الله وسنتي ولن يفترقا حتى يَرِدَا علىَّ الحوضَ» .، كما في مسند الإمام أحمد.
وهذا يدل على أن التمسك بكتاب الله تعالى وبسنته وبعمله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحصل النجاة.
يقول :" وأما فتنة الشهوات: ففي "صحيح مسلم"، عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كيف أنتم إذا فُتحت عليكم خزائن فارس والروم، أي قوم أنتم؟»"، يعني كيف تكون حالكم إذا فُتحت عليكم الخزائن وكثرت عندكم الأموال.
" قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : نقول كما أمرنا الله"، أي نعمل ونلتزم ونحكم " كما أمرنا الله"، تعالى وهذا من الفأل الحسن والظن الحسن.
فبيَّن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الأمر غير ذلك ، أطلعه الله على علم لم يطلع عليه غيره.
" قال: «أوَ غَير ذلك- يعني يكون الأمر على غير هذه الحال- تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون»"، وذكر هنا تسلسل الإشكال، تسلسل البلاء، يبتدأ بالتنافس، والتنافس هو التزاحم على الشيء والتسابق إليه.
فإذا تسابقوا وتزاحموا النتيجة أن يسبق بعضهم بعضاً، أليس كذلك، فإذا سبق بعضهم بعضاً حصل التحاسد، حسد بعضهم بعضاً.
والحسد بلاء إذا دبَّ إلى القلب فإما أن يكتمه الإنسان ويستعيذ بالله تعالى منه وهنا لا يضره.
وإما أن يترجمه قولاً أو عملاً، فإذا ترجمه قولاً أو عملاً كان من نتائجه التدابر.
والتدابر: هو كناية عن التفرق ، لأنه إذا تدابر الشخصان فقد تيمما جهتين ، أليس كذلك، أنا الآن أعطيت ظهري للجدار، فإذا كان شخص في مقابلي في الجهة الأخرى كان التدابر، كل أعطى دبره ، وجهته الخلفية إلى الآخر، فكان هذا تفرقاً، فلا يلتقيان.
ولهذا من النكت التي تقال : الرجل والمرأة وجهان لعملة واحدة، هذا مدح أو ذم؟ هذا قد يتبادر للذهن أنه مدح هذا، وجهان لعملة واحدة هذا يعني أنهم متصافيان جميعا.
لكن له وجه آخر وهو أنه لا يمكن أن يتقابلان ، صح أم لا؟ وجه العملة الذي هنا لا يمكن أن يقابل وجه العملة الذي هنا، فكل منها قد تيمم جهة أخرى.
المقصود أن التدابر هو كناية عن التفرق والاختلاف في الأمة.
والتدابر ليس فقط بالأبدان، بل يكون بالأفعال، ويكون الأقوال، ويكون بغلظ القلوب.
فالتدابر له مظاهر عديدة، وهو أن يدبر الإنسان عن أخيه، وخلافه الحال الذي وصف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التضام والاجتماع والتعاطف.
والتعاطف ضد التدابر،«تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ» أخرجه البخاري (6011). ، والتعاطف هو نوع من الالتحام بين أفراد الأمة، بخلاف التدابر الذي هو نوع من التفرق والاختلاف.
ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "«أوَ غَير ذلك تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون».
وفي "صحيح البخاري" عن عمرو بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تُبْسطَ عليكم الدنيا كما بُسِطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم»".
ثم قال المؤلف ترجمة - أي بيان وإيضاح لما وقع لما أخبر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:"ولما فتحت كنوز كسرى على عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكى فقال: «إن هذا لم يُفتح على قوم قط إلا جعل الله بأسهم بينهم». أو كما قال".
يقصد بقوله :"إن هذا"، يعني الدنيا والمال، "لم يُفتح على قوم قط إلا جعل الله بأسهم بينهم".
يقول رحمه الله:"وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى على أمته هاتين الفتنتين كما في "مسند الإمام أحمد" عن أبي برزة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إنما أخشى عليكم الشهوات التي في بطونكم وفروجكم ومضلات الفتن». وفي رواية «ومضلات الهوى» أخرجه أحمد رقم (19793، 19794)، (19809)..
فلما دخل أكثر الناس في هاتين الفتنتين أو إحداهما أصبحوا متقاطعين متباغضين بعد أن كانوا إخوانًا متحابين متواصلين.
فإن فتنة الشهوات عمَّت غالب الخلق ففُتنوا بالدنيا وزهرتها، وصارت غاية قصدهم، لها يطلبون، وبها يرضون، ولها يغضبون، ولها يوالون، وعليها يعادون، فقطعوا لذلك أرحامهم، وسفكوا دماءهم، وارتكبوا معاصي الله بسبب ذلك!.
وأما فتنة الشبهات والأهواء المضلة فبسببها تفرق أهل القبلة وصاروا شيعًا، وكفَّر بعضهم بعضًا، وأصبحوا أعداءً وفرقًا وأحزابًا بعد أن كانوا إخوانًا، قلوبهم على قلب رجلٍ واحدٍ، فلم ينج من هذه الفرق كلها إلا الفرقة الواحدة الناجية وهم المذكورون في
قوله : «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» أخرجه البخاري (71) ومسلم (1037) من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما.".
يقول رحمه الله :"ولما فتحت كنوز كسرى"، ذكر ما قاله عمر رضي الله عنه، وذكر تحذير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الفتنتين.
يقول في الحديث الذي استدل به على تحذير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الفتنتين:«إنما أخشى عليكم الشهوات التي في بطونكم وفروجكم».
وهذا من الشهوات الظاهرة، لكن الشهوات لا تقتصر على هذا، هذا نوع من أنواع الشهوات ، وهو إنما ذكر للتمثيل لأبرز أنواع الشهوات.
وإلا هناك شهوة حب الجاه والمنصب والعلو والارتفاع عن الناس، هذا من الشهوات لكنه لا يتعلق بالبطن ولا يتعلق بالفرج.
فذكر البطون والفروج لأنه محل غالب فتنة الناس ، وليس قصراً للشهوات على هاتين، إنما هو من باب ذكر شيء من الأمثلة على الشهوات التي خافها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أمته.
ثم قال :«ومضلات الفتن» مضلات الفتن هي الشبهات، وفي الرواية الأخرى قال :«ومضلات الهوى»، ومضلات الهوى أي الضلالات الناشئة عن الهوى.
والهوى مثل اسمه يهوي بأصحابه، ويسقط بهم في مرادي الضلال، ومواطن الشر والفساد.
بعد أن ذكر رحمه الله تحقق ما تنبئ به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من انفتاح الشهوات على الناس، ذكر الشبهات في قوله:" وأما فتنة الشبهات والأهواء المضلة فبسببها تفرق أهل القبلة".
من أهل القبلة؟ هم كل من استقبل القبلة في صلاته، إلى أي طائفة انتسب، وعلى أي اعتقاد كان، فأهل القبلة يطلق على كل من استقبل القبلة من أهل الإسلام، سواء كان من أهل السنة أو من غيرهم .
ولذلك يسمون بأهل القبلة، ويسمون بالمصلين.
والسبب في ذكر القبلة لأنه أمر لم يختلف عليه أهل الإسلام على اختلاف مذاهبهم واختلاف عقائدهم إلا أنهم متفقون على استقبال القبلة.
فلذلك كانت سمة مميزة لأهل الإسلام عن غيرهم.
فإذا أطلق أهل القبلة كان المراد أهل الإسلام على أي اعتقاد كانوا.
ولهذا يقول:"وأما فتنة الشبهات والأهواء المضلة فبسببها تفرق أهل القبلة"، يعني تفرق المصلون.
ونسب أهل الإسلام إلى القبلة لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه البخاري وغيره من حديث أنس:«مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَصَلَّى صَلاَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَهُوَ الْمُسْلِمُ لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِ ، وَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ»"صحيح البخاري"(393)..
قال :"وصاروا شيعًا"، أي فرقاً، "وكفَّر بعضهم بعضًا، وأصبحوا أعداءً وفرقًا وأحزابًا بعد أن كانوا إخوانًا، قلوبهم على قلب رجلٍ واحدٍ، فلم ينج من هذه الفرق كلها"، يعني هذا التحزب، وهذا التفرق ، وهذا الاختلاف، " إلا الفرقة الواحدة الناجية"، الناجية من النار، في الآخرة، وهذا أعظم ما يكون من النجاة.
ولكن هذا النجاة في الآخرة ثمرة نجاة في الدنيا وهي النجاة من الضلالات والبدع، فلما نجو من البدع والضلالات في الدنيا كان جزاؤهم النجاة في الآخرة، فتوصف الفرقة الناجية بهذا الوصف لأمرين:
لنجاتها من البدعة والضلالة في الدنيا، ولنجاتها من النار في الآخرة.
يقول المؤلف رحمه الله:"إلا الفرقة الواحدة الناجية وهم المذكورون في قوله : «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق"، والظهور يقتضي العلو والارتفاع كما قال تعالى : ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ سورة التوبة : 33..
" ظاهرين على الحق"، ظاهرين وهم على الحق، يدل على ثباتهم وتمكنهم من الحق الذي يعتقدون، "لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك"، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا منهم وأن يميتنا على ذلك .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.