قال المؤلف رحمه الله :" وهم في آخر الزمان الغرباء المذكورون في هذه الأحاديث، الذي يصلُحون إذا فسد الناس، وهم الذين يُصلِحون ما أفسد الناس من السنة، وهم الذين يفرون بدينهم من الفتن، وهم النُزَّاع من القبائل، لأنهم قلوا، فلا يوجد في كل قبيلة منهم إلا الواحد والاثنان، وقد لا يوجد في بعض القبائل منهم أحدٌ كما كان الداخلون إلى الإسلام في أول الأمر كذلك، وبهذا فسر الأئمة هذا الحديث.
قال الأوزاعي في قوله :«بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ».
أَمَا إنه ما يذهب الإسلام، ولكن يذهب أهل السنة حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل واحد، ولهذا المعنى يوجد في كلام السلف كثيرًا مدح السنة ووصفها بالغربة ووصف أهلها بالقلة".
الآن المؤلف رحمه الله بعد أن فرغ من ذكر حال الأمة، ووجه كون الإسلام يبدأ غريباً وينتهي غريباً «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ»، بيَّن بأنه كان في الأول العدد قليل، والناصر قليل، وبعد ذلك حصل ظهور الإسلام، ثم بعد ذلك ظهرت الفتن، فتن الشبهات والشهوات، فعاد الحال كما كان.
لكن هذه الغربة التي ذكرها المؤلف غربة نسبية، بمعنى أنها ليست في كل مكان وفي كل زمان.
فلا تطلق الغربة على الدنيا كلها، بمعنى أنه لا يزول الحق، بل يبقى طائفة وفرقة متميزين بالحق وعاملين به ، يظهرون في زمان وتقوى شوكتهم ويقلون في زمان، ويضعف سلطانهم، لكن لا يزال هذا الدين ظاهراً كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» تقدم تخريجه..
ثم بعد هذا البيان لكون الإسلام بدأ غريباً، وكشف كيف عاد غريباً كما كان في حاله أول الأمر .
قال :"وهم في آخر الزمان الغرباء المذكورون في هذه الأحاديث"، ذكر صفاتهم، وهي ما علمناه قبل:
1- الذين يُصلحون إذا فسد الناس.
2- وهم الذين يُصلحون ما أفسد الناس من السنة.
3- وهم الذين يفرون بدينهم من الفتن.
4- وهم النزاع من القبائل، وبيَّن ذلك بقوله " فلا يوجد في كل قبيلة منهم إلا الواحد والاثنان، وقد لا يوجد في بعض القبائل منهم أحدٌ كما كان الداخلون إلى الإسلام في أول الأمر كذلك".
إذاً: ذكر المؤلف أربع صفات للغرباء في آخر الزمان.
وهذه الصفات مستفادة من مجموع الروايات التي قدَّم بها في رسالته رحمه الله.
ثم بعد ذلك يقول:"وبهذا فسر الأئمة هذا الحديث"، أي بهذه المعاني فسَّر الأئمة هذا الحديث.
الآن ينقل ما يعزز ما ذهب إليه من الرأي، والآن قال: إن غربة الإسلام في آخره هي بكثرة الفتن، فتن الشبهات والشهوات، ينقل عن العلماء شيئاً يؤكد هذا المعنى فيقول:"قال الأوزاعي"، وهذا تعزيز لقوله :"وبهذا فسر الأئمة هذا الحديث".
من الأئمة ذكر في تفسير الحديث على نحو ما ذكر من أن غربة الإسلام في آخره هو تأثر أكثر الناس بفتن الشبهات والشهوات، قال:"قال الأوزاعي في قوله:«بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ»، أَمَا إنه ما يذهب الإسلام"، يعني لا يرتفع الإسلام بالكلية، ولا يغيب اسمه، الآن المسلمون ربع العالم تقريباً أو ثلث العالم على اختلاف الإحصاءات.
هذا عدد قليل أو كثير؟ هل هذا غربة بالنظر إلى هذه الكثرة ؟ لا , ليس غربة فالإسلام لم يذهب، اسمه باقٍ، وهو ظاهر من حيث أتباعه كثرة ووفرة.
"ولكن يذهب أهل السنة"، وهم الذين يلتزمون ما كان عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما كان عليه أصحابه عقداً وعملاً، وهذا أمر مهم يغفل عنه كثير من الناس.
العمل يلزمون ما كان عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عقداً وعملاً في العقيدة وفي العمل، وهؤلاء لا شك أنهم قلة، أندر من النادر.
يقول رحمه الله:"ولكن يذهب أهل السنة حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل واحد، ولهذا المعنى يوجد في كلام السلف كثيرًا مدح السنة ووصفها بالغربة ووصف أهلها بالقلّة"، يذكر مثالاً لذلك فيقول :"فكان الحسن رحمه الله تعالى يقول لأصحابه"، من هو الحسن؟ الحسن البصري.
في أي زمان عاش؟ في زمن التابعين، وهو ممن أدرك الصحابة رضي الله عنهم.
" يا أهل السنة ترَّفقوا رحمكم الله فإنكم من أقل الناس"، وهذا في خير القرون، «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ » أخرجه البخاري (2652)، ومسلم (2533)..
فإذا كان في القرون المفضلة بهذا الحجم، وهذه القلة، فلا شك أنهم قليلون في كل زمان ومكان .
ثم قال رحمه الله :"وقال يونس بن عبيد: «ليس شيء أغرب من السنة، وأغرب منها من يعرفها». وروي عنه أنه قال: «أصبح من إذا عرف بالسنة فعرفها غريبًا، وأغرب منه من يعرفها!».
وعن سفيان الثوري قال: «استوصوا بأهل السنة فإنهم غرباء».
ومراد هؤلاء الأئمة بالسنة: طريقة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان عليها هو وأصحابه؛ السالمة من الشبهات والشهوات".
وهذا مهم "السالمة من الشبهات والشهوات"، كثير من الناس في عصرنا يتصور أن السُّنة تقتصر فقط على جانب الاعتقاد دون جانب العمل، وهذا غلط، فهناك غربة في الاعتقاد وهناك غربة في العمل.
فإذا قلَّ عمل الناس عما كان عليه عمل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما كان عليه عمل أصحابه فهذا نوع من الغربة العملية.
وإذا اختلط على الناس عقدهم وخرجوا عما كان عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه من صفاء الاعتقاد وسلامة الإيمان فإنه نوع آخر من الغربة.
فالغربة تكون في الاعتقاد وتكون في العمل، وسيعزز هذا بشيء من النقل بعد قليل.
يقول رحمه الله:"ولهذا كان الفضيل بن عياض يقول:«أهل السنة من عرف ما يدخل في بطنه من حلال»"، وهذه كلمة تتعلق بالاعتقاد أو العمل؟ تتعلق بالعمل، يعني الذي يتوقى أكل الحرام هو من أهل السنة، ومن يأتي في باله مثل هذا المعنى؟
أكثر الناس يغيب عن بالها هذا المعنى، لا ينظر إلى مسألة المسلك والعمل وأنها مما يحكم به على الإنسان هل هو من أهل السنة أو لا.
لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:«من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» تقدم تخريجه.، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان على عقيدة وعمل، أو على عقيدة فقط؟ على عقيدة وعمل.
﴿ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، هذا عقيدة ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ سورة البقرة:25..
فلابد من الجمع بين الأمرين، وبه يتحقق للإنسان النجاة والسلامة ، ولهذا انظر لهذه الكلمة من عياض رحمه الله فإنها تبين أن أهل السُّنة ليسوا هم أولئك الذين يبينون العقائد الصحيحة، بل لابد أن ينضاف إلى هذا أن يكون العمل أيضاً على منهاج النبوة، على طريق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
"أهل السنة من عرف ما يدخل في بطنه من حلال"، وعلى هذا الذين يسرفون على أنفسهم بالمشتبهات وأكل المحرمات، هؤلاء ينقص من وصف السُّنة في مسلكهم بقدر خروجهم عما كان عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من النقاء في مكسبه وماله.
قال رحمه الله :"وذلك لأن أكل الحلال من أعظم خصال السنة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ثم صار في عرف كثير من العلماء المتأخرين من أهل الحديث وغيرهم السنة عبارة عما سَلِمَ من الشبهات في الاعتقادات خاصةً في مسائل الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر. وكذلك في مسائل القدر، وفضائل الصحابة.
وصنفوا في هذا العلم تصانيف وسموها كتب السُّنة".
هذا بيان مصدر الإشكال في فهم بعض الناس أن السنة تختص بالاعتقاد، هو أن العلماء اصطلحوا على إطلاق السنة على العقائد، فأورث هذا نوعاً من الاشتباه حتى ظن بعض الناس أن السنة لا صلة لها بالعمل.
يقول رحمه الله :"وإنما خصوا هذا العلم باسم السنة؛ لأن خطره عظيم والمخالف فيه على شفا هلكة!
وأما السنة الكاملة فهي الطريق السالمة من الشبهات والشهوات كما قال الحسن، ويونس بن عبيد، وسفيان والفضيل، وغيرهم.
ولهذا وُصف أهلها بالغربة في آخر الزمان لقلتهم وغربتهم فيه؛ ولهذا ورد في بعض الروايات كما سبق في تفسير الغرباء:«قومٌ صالحون قليل في قوم سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم».
وفي هذا إشارة إلى قلة عددهم وقلة المستجيبين لهم والقابلين منهم وكثرة المخالفين لهم والعاصين لهم؛ ولهذا جاء في أحاديث متعددة مدح المتمسك بدينه في آخر الزمان وأنه كالقابض على الجمر، وأن للعامل منهم أجر خمسين ممن قبلهم، لأنهم لا يجدون أعوانًا في الخير أخرج أبو داود (4341)، والترمذي (3060)، وابن ماجه (4014).".
هذه الأوصاف التي ذكرها المؤلف رحمه الله للغربة، هي أوصاف حالية لكن ينبغي أن يعلم أن هذا الحال قد يحصل للإنسان ولا يكون من أهل الغربة التي جاء الثناء على أهلها في قوله «فطوبى للغرباء» .
يقول :" ولهذا وُصف أهلها بالغربة في آخر الزمان لقلتهم"، وهذه من أوصافهم الحقيقية "وغربتهم فيه؛ ولهذا ورد في بعض الروايات كما سبق في تفسير الغرباء:«قومٌ صالحون قليل في قوم سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم»، وفي هذا إشارة إلى قلة عددهم وقلة المستجيبين لهم والقابلين منهم وكثرة المخالفين لهم والعاصين لهم"، هذه الصفات يا إخواني ليست هي سبب وصفهم بالغربة فقط، يعني قد توجد هذه الصفات، يكون الإنسان في مكان لا يطيعه الكثير، وفي مكان يقل المستجيب له، وفي مكان يكثر المخالف له، وذكر مثل هذه الصفات، لكن هذا لا يكون غربة صحيحة.
لأن ذاك الرجل الذي جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محلوق الرأس بين عينيه أثر السجود، يقول : يا محمد اتق الله واعدل أخرجه البخاري (3344)، ومسلم( 1064)..
هذا غريب، ولا ما هو غريب؟ هذا غريب في زمن الصحابة، ولذلك جاء بشيء لم يأبه به أحد، يأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعدل .
وأنا أشير إلى ملحظ وأنه ينبغي أن لا نأخذ هذه الصفات ونطبقها على أنفسنا دون النظر إلى صحة ما ندعو إليه.
الإشكالية في بعض الأحيان ليست فر رفض الناس لما تدعو، الإشكالية بعض الأحيان أن ما تدعو إليه غير صحيح.واحد.
أو أن ما تدعو إليه لا يقدم بأسلوب مناسب وصحيح.
وبالتالي لا يسوغ لك الاستمرار على الخطأ بحجة أنك غريب ، والله هذه طوبى للغرباء"، هؤلاء الذين يفجرون في بلاد المسلمين هؤلاء يرون أنهم غرباء، ومن يعصيهم أكثر ممن يطيعهم، وأنهم قوم يُصلحون، يعني يطبقون هذه الأوصاف على حالهم، لكن الكلام ليس في انطباق الأوصاف على حال الشخص، إنما الكلام هل ما عندك صحيح أو لا، هل ما تدعو إليه موافق لما عليه النبي أو لا.
فقد يأتي إنسان يدعو إلى ضلالة ويكون على هذه الأوصاف التي ذكرها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وهذه لا تدخله في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فطوبى للغرباء».
وهذه إشكالية إنما نبهت إليها لأن بعض الناس يلتبس عنده الأمر ويظن أن رد الناس لما يدعو إليه أن هذا تزكية له، " طوبى للغرباء"، والله ما سمعوا.
طيب . يا أخي أنت هل راجعت ما تدعو إليه هل هو صحيح أو لا، هل راجعت طريق عرضك للحق صحيح أو لا.
هذه المسائل لابد من البحث فيها، ثم إذا كان ما عندك حق مثل الشمس واضح وصريح ولا التباس فيه ولا اشتباه، وطرقت كل سبيل مناسب لتبليغ الحق ورفض عند ذلك أبشر "فطوبى للغرباء" لا يضرك أن لا يطيعك الناس.
ولهذا لابد من النظر في المضمون الذي يدعو إليه الإنسان، النظر إلى المسلك والمنهج الذي يحمله الإنسان حتى يكون حقيقاً بهذه الصفات التي ذكرها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله:«فطوبى للغرباء».
المؤلف الآن يبين لنا أقسام أهل الغربة، يقول رحمه الله :"وهؤلاء الغرباء قسمان:
أحدهما: من يصلح نفسه عند فساد الناس، والثاني: من يصلح ما أفسد الناس من السنة وهو الأعلى القسمين، وهو أفضلهما.
وقد خرَّج الطبراني وغيره بإسناد فيه نظرٌ من حديث أبي أمامة عن النبي : «إن لكل شيء إقبالاً وإدبارًا، وإن من إقبال هذا الدين ما كنتم عليه من العمى والجهالة وما بعثني الله به، وإن من إقبال هذا الدين أن تفقه القبيلة بأسرها حتى لا يوجد فيها إلا الفاسق والفاسقان فهما مقهوران ذليلان، إن تكلما قُمعا وقهرا واضطهدا.
وإنَّ من إدبار هذا الدين أن تجفوا القبيلة بأسرها حتى لا يُرى فيها إلا الفقيه والفقيهان فهما مقهوران ذليلان، إن تكلما فأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر قُمعا وقهرا واضطهدا، فهما مقهوران ذليلان لا يجدان على ذلك أعوانًا ولا أنصارًا» قال الهيثمي في المجمع (7/262): «رواه الطبراني وفيه علي بن يزيد وهو متروك».!.
فوصف في هذا الحديث المؤمن العالم بالسنة الفقيه في الدين بأنه سيكون في آخر الزمان عند فساده مقهورًا ذليلاً لا يجد أعوانًا ولا أنصارًا".
هنا الآن أقسام الغرباء قسمان:
من يُصلح نفسه عند فساد الناس، وصلاح النفس بماذا يا إخواني؟ يكون بصلاح الباطن والظاهر.
بأن يأتي بما يمكنه وما يستطيعه من صلاح قلبه، واستقامة عمله ﴿الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ سورة فصلت:30..
﴿رَبُّنَا اللَّهُ﴾، قالوه بقلوبهم وبصحة عقائدهم، و﴿ اسْتَقَامُوا﴾، على الشريعة ما استطاعوا.
هذا صلاح الإنسان في نفسه، أن يصلح قلبه وأن يصلح عمله ما استطاعه.
وصلاح العمل بأن يأتي بما يستطيع من الواجبات ، وبما يقدر عليه من التكاليف، ويترك ما نهاه الله تعالى عنه حسب طاقته لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» أخرجه البخاري (7288)، ومسلم(1337)..
الحال الثانية: أن يُصلح ما أفسد الناس من السُّنة، فهو يجتهد في إصلاح ما أفسده الناس من شريعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
والفساد هنا لا يلزم الفساد الاعتقادي، بل الفساد الاعتقادي والعملي.
فيُصلح ما أفسده الناس في العقائد، ويصلح ما أفسده الناس أيضاً في الأعمال.
وما ذكره من حديث أبي أمامة عند الطبراني بيَّن المؤلف رحمه الله أن إسناده فيه نظر وهو حديث ضعيف، «إن لكل شيء إقبالاً وإدبارًا، وإن من إقبال هذا الدين ما كنتم عليه من العمى والجهالة وما بعثني الله به»، يعني من الحق والهدى والنور، «وإن من إقبال هذا الدين أن تفقه القبيلة بأسرها»، إطلاق الفقه على صلاح الأعمال، وليس المقصود بالفقه هنا العلم، إنما الفقه هنا هو العمل الصحيح الموافق لما كان عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك جعل في مقابل الفقه الفسق، حيث قال:«أن تفقه القبيلة بأسرها حتى لا يوجد فيها إلا الفاسق والفاسقان»، وهذا يبن أن الفقه المقصود به صلاح العلم والعمل .
وهذا غاية الفقه، إنما يطلق على الإنسان أنه فقيه إذا كمل علمه وعمله، أما من كمل علمه دون عمله فهذا ليس فقيه، وما علمه حجة عليه.
قال:"فوصف في هذا الحديث المؤمن العالم بالسنة الفقيه في الدين بأنه سيكون في آخر الزمان عند فساده مقهورًا ذليلاً لا يجد أعوانًا ولا أنصارًا".
ثم قال رحمه الله:"وخرَّج الطبراني أيضًا بإسناد فيه ضعف عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل في ذكر أشراط الساعة قال:«وإن من أشراطها أن يكون المؤمن في القبيلة أذل من النقد» أخرجه الطبراني في "الكبير" (10/228)ح(10556)، وفي "الأوسط "(5/127 )ح(4861)، وقال الهيثمي (7/323) : "فيه سيف بن مسكين وهو ضعيف".، والنقد: هم الغنم الصغار"، والذي يعرف الغنم الصغار يعرف أنها في القطيع ذليلة، لا تجد ناصراً وكلٌّ يتعرض لها، وهي أول من يصيبه الذئب إذا عدا على الغنم، فهكذا وصف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حال المؤمن في القبيلة في آخر الزمان.
قال رحمه الله :"وفي مسند الإمام أحمد المسند (4/125، 126). عن عبادة بن الصامت أنه قال لرجل من أصحابه: «يوشك إن طالت بك الحياة أن ترى الرجل قد قرأ القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فأعاده وأبداه وأحل حلاله وحرم حرامه ونزل عند منازله لا يجوز فيكم إلا كما يجوز الحمار الميت».
ومثله قول ابن مسعود: «يأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه أذل من الأمة» أخرجه نعيم بن حماد (1/188)ح(501) ، وأخرجه من حديث علي رضي الله عنه هناد في "الفتن" (1/191)ح(516) ، والديلمي (5/439)(8672) ..
وإنما ذَلَّ المؤمن آخر الزمان لغربته بين أهل الفساد من أهل الشبهات والشهوات، فكلهم يكرهه ويؤذيه لمخالفة طريقته لطريقتهم، ومقصوده لمقصودهم، ومباينته لما هم عليه"، لكن هذا لا يعني منافاة ما أخبر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين» تقدم تخريجه.، والظهور يقتضي القوة والعزة والارتفاع.
فهذا الذل هو بالنسبة لقبول القول، ومضائه لا بالنسبة لحال الشخص وما يكون عليه من ظهور قوله، فرق بين هذا وذاك، فهما وصفات لحالين مختلفين، وليس لأمرين مختلفين في ما يتعلق بتمسكهم بالحق وقيامهم به هم كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهري».
أما هذا الذل الذي جاءت به الأخبار في حال أهل الإيمان ووصف حال أهل الغربة هو في عدم قبول ما جاءوا به ، وعدم إقبال الناس على ما جاءوا به وما عملوا به من الهدى والحق.
قال :" ولما مات داود الطائي قال ابن السَّمَّاك: «إن داود نظر بقلبه إلى ما بين يديه فأعشى بقلبه بصر العيون، فكأنه لم ينظر إلى ما أنتم إليه تنظرون وكأنكم لا تنظرون إلى ما إليه ينظر، فأنتم منه تعجبون، وهو منكم يعجب، استوحش منكم أنه كان حّيًا وسط الموتى".
ومقصوده أنه نفذ ببصره من النظر إلى الدنيا وحالها إلى الآخرة وما فيها من نعيم وما فيها من عقاب.
وهذا هو النظر الذي ينفع الإنسان ويزكي الأعمال، ويصلح به القلب وتستقيم به الحال، أن ينفذ الإنسان ببصره من ساعته الحاضرة إلى داره الآخرة.
وبالتالي فإنه يعمل لدار يستقبلها لا يهمه ما يصيبه في هذه الدنيا، وهذا ما أراده ابن السَّمَّاك في كلامه عن داود "إن داود نظر بقلبه إلى ما بين يديه"، مما جاءت به الأخبار من حال الآخرة، "فأعشى بقلبه بصر العيون"، بصر قلبه يشير إلى البصيرة التي لا حد لقوة إدراكها، ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ سورة الحج:46..
فالقلب له عين، هذه العين تبصر وترى، وبقدر قوة بصرها ورؤيتها، بقدر ما تدرك من الحق ويستقيم العمل،، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم قلوباً باصرة.