×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

مرئيات المصلح / دروس المصلح / دروس منوعة / كشف الكربة / الدرس(7)والأخير "وأهل هذا الشأن هم الغرباء، وغربتهم أعز الغربة"

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله :"وأهل هذا الشأن هم الغرباء، وغربتهم أعز الغربة، فإن الغربة عند أهل الطريقة غربتان: ظاهرة وباطنة. فالظاهرة: غربة أهل الصلاح بين الفساق، وغربة الصادقين بين أهل الرياء والنفاق، وغربة العلماء بين أهل الجهل وسوء الأخلاق، وغربة علماء الآخرة بين علماء الدنيا الذين سلبوا الخشية والإشفاق، وغربة الزاهدين بين الراغبين فيما ينفد وليس بباق. وأما الغربة الباطنة: فغربة الهمة، وهي غربة العارفين بين الخلق كلهم حتى العلماء، والعباد، والزهاد؛ فإن أولئك واقفون مع علمهم، وعبادتهم، وزهدهم، وهؤلاء واقفون مع معبودهم لا يعرجون بقلوبهم عنه. فكان أبو سليمان الداراني يقول في صفتهم:"وهمتهم غير همة الناس، وإرادتهم الآخرة غير إرادة الناس، ودعاؤهم غير دعاء الناس". وسئل عن أفضل الأعمال، فبكى وقال: "أن يطلع على قلبك فلا يراك تريد من الدنيا والآخرة غيره". وقال يحيى بن معاذ:"الزاهد غريب الدنيا، والعارف غريب الآخرة". يشير إلى أن الزاهد غريب بين أهل الدنيا، والعارف غريب بين أهل الآخرة، لا يعرفه العباد ولا الزهاد، وإنما يعرفه من هو مثله وهمته كهمته. وربما اجتمعت للعارف هذه الغربات كلها أو كثير منها أو بعضها فلا يسأل عن غربته حينئذ، فالعارفون ظاهرون لأهل الدنيا والآخرة. قال يحيى بن معاذ:"العابد مشهور والعارف مستور". وربما خفي حال العارف على نفسه لخفاء حالته وإساءة الظن بنفسه. قال إبراهيم بن أدهم:"ما أرى هذا ألأمر إلا في رجل لا يعرف ذلك من نفسه ولا يعرفه الناس". الحمد لله رب العلمين , وأصلي وأسلم نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين . أما بعد :- هذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله بين فيه درجات الغربة , وأن الغربة أقسام ودرجات ومراتب وليس على منزلة واحدة , بل هي متفاوتة بتفاوت أحوال الناس ,ولذلك قال رحمه الله :"إن الغربة عند أهل الطريقة غربتان : ظاهرة , وباطنة". "ظاهرة" يعني يشهدها الناس بأبصارهم , "وباطنة" وهي ما يتصل بأعمال القلوب وأحوالها, وهي شأن لا يوقف له على حقيقة في التفاوت بين الناس, التفاوت فيه عظيم , بل وصفه ابن القيم رحمه الله قال: هذا بينهما كما بين السما   *** والأرض في فضل وفي رجحان هذا التفاوت بين قلوب الناس في تحقيق العبودية بين أيضا ما يترتب على ذلك من الإثابة والأجر كما بين السماء والأرض في فضل وفي رجحان . يقول رحمه الله:"فالظاهرة غربة أهل الصلاح بين الفساق, وغربة الصادقين بين أهل الرياء والنفاق, وغربة العلماء بين أهل الجهل وسوء الأخلاق, وغربة علماء الآخرة بين علماء الدنيا الذين سلبوا الخشية والإشفاق, وغربة الزاهدين بين الراغبين فيما ينفد وليس بباق، وأما الغربة الباطنة" وهي غربة أعمال القلوب"فغربة الهمة وهي غربة العارفين بين الخلق كلهم حتى العلماء والعباد والزهاد"، يقول:"فإن أولئك واقفون مع علمهم وعبادهم وزهدهم". "أولئك": أي العباد والزهاد والعلماء "واقفون مع علمهم", لكن العارفين يقول :"وهؤلاء واقفون مع معبودهم", وهذه المعرفة منزلة عالية كبيرة وهي غاية العلم ومنتهاه .  يعني هي المقصود من المعارف والعلوم , أن يرى الإنسان الأمور على حقائقها , وأن تجلو عن عينه الغشاوة والحواجب والكدر الذي يمنعه من الرؤيا. يقول رحمه الله :" فكان أبو سليمان الداراني في صفاتهم وهمتهم غير همة الناس, وإرادتهم الآخرة غير إرادة الناس, ودعاؤهم غير دعاء الناس"، وذلك ليس في الصورة إنما في الحقيقة وما يكون في قلوبهم. قال رحمه الله: سئل عن أفضل الأعمال, قال : فبكى وقال : أن يطلع على قلبك"، أي الله جل وعلا "أن يطلع على قلبك فلا يراك تريد من الدنيا والآخرة غيره "، وهذه هي مرتبة الإخلاص التي قال الله تعالى فيها ﴿إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار (46) وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار﴾+++ سورة القصص.---، نسأل الله أن يبلغنا على هذه المنازل . يقول :" وقال يحي بن معاذ : الزاهد غريب الدنيا , والعارف غريب الآخرة". " غريب الآخرة"، لآن أمثاله قلة , فمقصوده من الآخرة غير مقصود غيره, وإن كان يقصد الجنة وعملها, لكن طمحه ونظره إلى ما هو أعلى ما يكون في الجنة من النعيم, وهو النظر إلى رب العالمين جل في علاه. يقول :"فالعارفون ظاهرون إليه في الدنيا والآخرة , قال يحي : العابد مشهور , والعارف مستور , وربما خفي حال العارف على نفسه لخفاء حالته وإساءة الظن به".  وهذا معنى كلام إبراهيم بن أدهم :"ما أرى هذا الأمر"، يعني يبلغ منزلة المعرفة التامة بالله تعالى "إلا في رجل لا يعرف ذلك من نفسه", يعني ذاب في قلبه النظر إلى عمله وأصبح لا يرى لعمله شيء, ولا له منزلة , ولا له مكانة , "ولا يعرفه الناس"، والناس لا يعرفونه فهو خفي عنهم , لا يظهر لهم عمله, بل يستره عنهم, كما يستر عنهم سيئاته, وهذه الواحد إذا تدبرها قال:"يا رب عفوك" , ونسألك يا رب أن تسلمنا من الرياء", فالواحد منا إذا فعل العمل صالحا ظل يقول سويت ورحت وجيت وعملت وصليت وصمت , ولكن إذا قلت له تعالى: ماذا عملت من السيئات؟ ما يمكن يقول لك ولا شيء. فينبغي أن يكون حرصنا على إخفاء أعمالنا إذا لم تكن مصلحة كحرصنا على إخفاء سيئاتنا.  إذا بلغنا هذه المنزلة بلغنا منزلة كبرى في الإخلاص لله جل وعلا , نأسأل الله أن يبلغا صدق معرفته , وعظيم الإخلاص له . يقول رحمه الله : "وفي حديث سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب العبد الخفي التقي»+++ أخرجه مسلم (2965)، وأحمد (1441)، (1529).---. وفي حديث معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الله يحب من عباده الأخفياء الأتقياء الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفقدوا، أولئك أئمة الهدى ومصابيح العلم»+++ أخرجه ابن ماجه رقم (3989) بلفظ مقارب. قال البوصيري في الزوائد: في إسناده عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف.---. وعن علي بن أبي طالب  رضي الله عنه  قال: «طوبى لكل عبد لم يعرف الناس، ولم تعرفه الناس وعرفه الله منه برضوان، أولئك مصابيح الهدى تجلى عنهم كل فتنة مظلمة». وقال ابن مسعود رضي الله عنه : «كونوا جدد القلوب، خلقان الثياب، مصابيح الظلام، تخفون على أهل الأرض، وتعرفون في أهل السماء». فهؤلاء أخص أهل الغربة، ومن ظهر منهم للناس فهو بينهم ببدنه، وقلبه معلق بالنظر الأعلى" " يعني "ومن ظهر منهم" أي من اضطر إلى الظهور لتحقيق مصلحة وإدراك منفعة شرعية, فإنه لا يعنيه هذا الظهور عن أن يكون معلق بالقلب بالله تعالى , لا يرقب من الناس نفعا ولا ضرا , وما أصدق قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الأعرابي الذي جاء  فقال له: يا محمد اعطني إن مدحي زين وذمي شين, يعني إذا مدحت يطير مدحي في الآفاق, وإذا ذممت ذمي يشين من أذمه , فماذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال :« ذاك هو الله »، يعني الذين مدحه يزين وذمه يشين هو الله , وأما الخلق فمدحهم لا يزين وذمهم لا يشين . قال رحمه الله:" كما قال أمير المؤمنين رضي الله عنه  في وصفهم: جسمي معي غير أن الروح عندكم *** فالجسم في غربة والروح في وطن وكانت رابعة العدوية رحمها الله تعالى تنشد في هذا المعنى: ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي  ***وأبحت جسمي من أراد جلوسي   فالجسم مني للحبيب مؤانس***وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي وأكثرهم لا يقوى على مخالطة الخلق، فهو يفر إلى الخلوة ليستأنس بحبيبه؛ ولهذا كان أكثرهم يطيل الوحدة. «وقيل لبعضهم: ألا تستوحش؟ قال: كيف أستوحش وهو يقول: أنا جليس من ذكرني». وقال آخر:«وهل يستوحش مع الله أحد؟». وعن بعضهم:«من استوحش من وحدته فذلك لقلة أنسه بربه». وكان يحيى بن معاذ كثير العزلة والانفراد، فعاتبه أخوه فقال له: إن كنت من الناس فلابد لك من الناس.  فقال يحيى: إن كنت من الناس فلابد لك من الله.  وقيل له: إذا هجرت الخلق فمع من تعيش؟ قال: مع من هجرتهم له. هجرت الخلق طرا في هواكا*** وأيتمت العيال لكي أراكا فلو قطعتني في الحب إربا  *** لما حن الفؤاد إلى سواكا وعوتب ابن غزوان على خلوته فقال:«إني أصبت راحة قلبي في مجالسة من لديه حاجتي». ولغربتهم من الناس ربما نسب بعضهم إلى الجنون لبعد حاله من أحوال الناس كما كان أويس يقال ذلك عنه". أويس القرني الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم (يأتيكم في أمداد أهل اليمن، وقال لعمر إذا لقيته فسأله أن يستغفر لك، فلما جاءه عرف عمر قال أكتب لك إلى أمير الكوفة لأنه كان متوجه إلى الكوفة، قال أكون في غبراء الناس أحب إلي.  فهو يشير إليه رحمه الله ورضي عنه , وهو خير التابعين , قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم«خير التابعين». والعمل الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ما هو ؟ كان له أم هو بها بر فهذا كان عمله الذي بلغ به تلك المنزلة العليا , نسأل الله من فضله . قال رحمه الله :" وكان أبو مسلم الخولاني كثير اللهج بالذكر لا يفتر لسانه، فقال رجل لجلسائه: أمجنون صاحبكم؟ قال أبو مسلم: يا ابن أخي! لكن هذا دواء الجنون".  يعني دواء الجنون هو ذكر الله, كما قال الله تبارك وتعالى ﴿ألا بذكر الله تطمئن القلوب﴾+++ سورة الرعد:28.---.  قال رحمه الله :" وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : «اذكروا الله حتى يقولوا: مجنون»+++ أخرجه أحمد (11653) وابن السني (4)، والحاكم (1/499)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، وهو حديث ضعيف. انظر الأحاديث الضعيفة (517).---. هذا الحديث لا يصح، ضعيف .  "وقال الحسن في وصفهم:«إذا نظر إليهم الجاهل حسبهم مرضى وما بالقوم من مرض». ويقول: «قد خولطوا وقد خالط القوم أمر عظيم هيهات، والله مشغول عن دنياكم». وفي هذا المعنى قال: وحرمة الود ما لي عنكم عوض  *** وليس لي في سواكم سادتي غرض وقد شرطت على قوم صحبتهم ***بأن قلبي لكم من دونهم فرضوا ومن حديثي بهم قالوا: به مرض *** فقلت: لا زال عني ذلك المرض   وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم  أوصى إلى رجل فقال: «استح من الله كما تستحي من رجلين من صالحي عشيرتك لا يفارقانك»+++ أخرجه ابن عدي (53/2، 203/1) عن صفدي بن سنان: ثنا جعفر ابن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة مرفوعا. وهو حديث ضعيف جدا. انظر الأحاديث الضعيف (1500).---. وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم  قال:«أفضل الأعمال أن تعلم أن الله معك حيثما كنت»+++ أخرجه الطبراني في الكبير، وأبو نعيم في الحلية، من حديث عبادة ابن الصامت رضي الله عنه، وهو حديث ضعيف. انظر الأحاديث الضعيفة (2589).---. وفي حديث آخر أنه سئل صلى الله عليه وسلم : ما تزكية المرء نفسه؟ قال: «أن يعلم أن الله معه حيث كان». وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة في ظل الله يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلى ظله». فذكر منهم: «رجلا حيث توجه علم أن الله معه»+++ أخرجه الطبراني في الكبير من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وهو حديث ضعيف جدا. انظر الأحاديث الضعيفة (2444).---. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الإحسان فقال:«أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»+++ أخرجه البخاري (50)، (4777)، ومسلم (9، 10).---. ولأبي عبادة في هذا المعنى أبيات حسنة أساء نقولها في مخلوق وقد أصلحت منها أبياتا حتى استقامت على الطريقة: كأن رقيبا منك يرعى خواطري  *** وآخر يرعى ناظري ولساني فما بصرت عيناي بعدك منظرا  *** يسوؤك إلا قلت قد رمقاني ولا بدرت من في بعدك لفظة  *** لغيرك إلا قلت قد سمعاني ولا خطرت من ذكر غيرك خطرة *** على القلب إلى عرجا بعناني إذا ما تسلى القاعدون على الهوى *** بذكر فلان أو كلام فلان وجدت الذي يسلي سواي يشوقني*** إلى قربكم حتى أمل مكاني  وإخوان صدق قد سئمت لقاءهم *** وأغضيت طرفي عنهم ولساني وما الغض أسلى عنهم غير أنني *** أراك كما كل الجهات تراني   وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين". هذا آخر ما ذكر المؤلف رحمه الله في هذا الكتاب المبارك "كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة".  ويلاحظ أن الشيخ رحمه الله ذكر جملة من الأحاديث التي لا تصح من حيث الإسناد لكنهم يذكرونها إسنادا إلى نقل العلماء لها وأنها تصلح في الاستشهاد والاعتضاد لا أنها أحاديث تثبت أحكام لها شواهد تعضدها. والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .

المشاهدات:4180
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله :"وأهل هذا الشأن هم الغرباء، وغربتهم أعز الغربة، فإن الغربة عند أهل الطريقة غربتان: ظاهرة وباطنة.
فالظاهرة: غربة أهل الصلاح بين الفسَّاق، وغربة الصادقين بين أهل الرياء والنفاق، وغربة العلماء بين أهل الجهل وسوء الأخلاق، وغربة علماء الآخرة بين علماء الدنيا الذين سُلِبوا الخشية والإشفاق، وغربة الزاهدين بين الراغبين فيما ينفد وليس بباق.
وأما الغربة الباطنة: فغربة الهمة، وهي غربة العارفين بين الخلق كلهم حتى العلماء، والعباد، والزهاد؛ فإن أولئك واقفون مع علمهم، وعبادتهم، وزهدهم، وهؤلاء واقفون مع معبودهم لا يعرجون بقلوبهم عنه.
فكان أبو سليمان الداراني يقول في صفتهم:"وهِمَّتهم غير همة الناس، وإرادتهم الآخرة غير إرادة الناس، ودعاؤهم غير دعاء الناس".
وسئل عن أفضل الأعمال، فبكى وقال: "أن يطلع على قلبك فلا يراك تريد من الدنيا والآخرة غيره".
وقال يحيى بن معاذ:"الزاهد غريب الدنيا، والعارف غريب الآخرة".
يشير إلى أن الزاهد غريب بين أهل الدنيا، والعارف غريب بين أهل الآخرة، لا يعرفه العباد ولا الزهاد، وإنما يعرفه من هو مثله وهمته كهمته.
وربما اجتمعت للعارف هذه الغربات كلها أو كثير منها أو بعضها فلا يسأل عن غربته حينئذ، فالعارفون ظاهرون لأهل الدنيا والآخرة.
قال يحيى بن معاذ:"العابد مشهور والعارف مستور".
وربما خفي حال العارف على نفسه لخفاء حالته وإساءة الظن بنفسه.
قال إبراهيم بن أدهم:"ما أرى هذا ألأمر إلا في رجل لا يعرف ذلك من نفسه ولا يعرفه الناس".
الحمد لله رب العلمين , وأصلي وأسلم نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
أما بعد :-
هذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله بين فيه درجات الغربة , وأن الغربة أقسام ودرجات ومراتب وليس على منزلة واحدة , بل هي متفاوتة بتفاوت أحوال الناس ,ولذلك قال رحمه الله :"إن الغربة عند أهل الطريقة غربتان : ظاهرة , وباطنة".
"ظاهرة" يعني يشهدها الناس بأبصارهم , "وباطنة" وهي ما يتصل بأعمال القلوب وأحوالها, وهي شأن لا يوقف له على حقيقة في التفاوت بين الناس, التفاوت فيه عظيم , بل وصفه ابن القيم رحمه الله قال:
هذا بينهما كما بين السما   *** والأرض في فضل وفي رجحان
هذا التفاوت بين قلوب الناس في تحقيق العبودية بين أيضًا ما يترتب على ذلك من الإثابة والأجر كما بين السماء والأرض في فضلٍ وفي رجحان .
يقول رحمه الله:"فالظاهرة غربة أهل الصلاح بين الفساق, وغربة الصادقين بين أهل الرياء والنفاق, وغربة العلماء بين أهل الجهل وسوء الأخلاق, وغربة علماء الآخرة بين علماء الدنيا الذين سلبوا الخشية والإشفاق, وغربة الزاهدين بين الراغبين فيما ينفد وليس بباق،
وأما الغربة الباطنة" وهي غربة أعمال القلوب"فغربة الهمة وهي غربة العارفين بين الخلق كلهم حتى العلماء والعبَاد والزُّهاد"، يقول:"فإن أولئك واقفون مع علمهم وعبادهم وزهدهم".
"أولئك": أي العباد والزهاد والعلماء "واقفون مع علمهم", لكنَّ العارفين يقول :"وهؤلاء واقفون مع معبودهم", وهذه المعرفة منزلة عالية كبيرة وهي غاية العلم ومنتهاه . 
يعني هي المقصود من المعارف والعلوم , أن يرى الإنسان الأمور على حقائقها , وأن تجلو عن عينه الغشاوة والحواجب والكدر الذي يمنعه من الرؤيا.
يقول رحمه الله :" فكان أبو سليمان الداراني في صفاتهم وهمتهم غير همة الناس, وإرادتهم الآخرة غير إرادة الناس, ودعاؤهم غير دعاء الناس"، وذلك ليس في الصورة إنما في الحقيقة وما يكون في قلوبهم.
قال رحمه الله: سئل عن أفضل الأعمال, قال : فبكى وقال : أن يطلع على قلبك"، أي الله جل وعلا "أن يطلع على قلبك فلا يراك تريد من الدنيا والآخرة غيره "، وهذه هي مرتبة الإخلاص التي قال الله تعالى فيها ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ﴾ سورة القصص.، نسأل الله أن يبلغنا على هذه المنازل .
يقول :" وقال يحي بن معاذ : الزاهد غريب الدنيا , والعارف غريب الآخرة".
" غريب الآخرة"، لآن أمثاله قلة , فمقصوده من الآخرة غير مقصود غيره, وإن كان يقصد الجنة وعملها, لكن طمحه ونظره إلى ما هو أعلى ما يكون في الجنة من النعيم, وهو النظر إلى رب العالمين جل في علاه.
يقول :"فالعارفون ظاهرون إليه في الدنيا والآخرة , قال يحي : العابد مشهور , والعارف مستور , وربما خفي حال العارف على نفسه لخفاء حالته وإساءة الظن به". 
وهذا معنى كلام إبراهيم بن أدهم :"ما أرى هذا الأمر"، يعني يبلغ منزلة المعرفة التامة بالله تعالى "إلا في رجل لا يعرف ذلك من نفسه", يعني ذاب في قلبه النظر إلى عمله وأصبح لا يرى لعمله شيء, ولا له منزلة , ولا له مكانة , "ولا يعرفه الناس"، والناس لا يعرفونه فهو خفي عنهم , لا يظهر لهم عمله, بل يستره عنهم, كما يستر عنهم سيئاته, وهذه الواحد إذا تدبرها قال:"يا رب عفوك" , ونسألك يا رب أن تسلمنا من الرياء", فالواحد منا إذا فعل العمل صالحًا ظل يقول سويت ورحت وجيت وعملت وصليت وصمت , ولكن إذا قلت له تعالى: ماذا عملت من السيئات؟ ما يمكن يقول لك ولا شيء.
فينبغي أن يكون حرصنا على إخفاء أعمالنا إذا لم تكن مصلحة كحرصنا على إخفاء سيئاتنا.
 إذا بلغنا هذه المنزلة بلغنا منزلة كبرى في الإخلاص لله جل وعلا , نأسأل الله أن يبلغا صدق معرفته , وعظيم الإخلاص له .
يقول رحمه الله : "وفي حديث سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب العبد الخفي التقي» أخرجه مسلم (2965)، وأحمد (1441)، (1529)..
وفي حديث معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الله يحب من عباده الأخفياء الأتقياء الذين إذا حضروا لم يُعرفوا، وإذا غابوا لم يُفقدوا، أولئك أئمة الهدى ومصابيح العلم» أخرجه ابن ماجه رقم (3989) بلفظ مقارب. قال البوصيري في الزوائد: في إسناده عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف..
وعن علي بن أبي طالب  رضي الله عنه  قال: «طوبى لكل عبدٍ لم يعرف الناس، ولم تعرفه الناس وعرفه الله منه برضوان، أولئك مصابيح الهدى تُجلى عنهم كل فتنة مظلمة».
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : «كونوا جدد القلوب، خلقان الثياب، مصابيح الظلام، تَخفون على أهل الأرض، وتُعرفون في أهل السماء».
فهؤلاء أخص أهل الغربة، ومن ظهر منهم للناس فهو بينهم ببدنه، وقلبه معلق بالنظر الأعلى"
" يعني "ومن ظهر منهم" أي من اضطر إلى الظهور لتحقيق مصلحة وإدراك منفعة شرعية, فإنه لا يعنيه هذا الظهور عن أن يكون معلق بالقلب بالله تعالى , لا يرقب من الناس نفعًا ولا ضرًا , وما أصدق قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الأعرابي الذي جاء  فقال له: يا محمد اعطني إن مدحي زين وذمي شين, يعني إذا مدحت يطير مدحي في الآفاق, وإذا ذممت ذمي يشين من أذمه , فماذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال :« ذاك هو الله »، يعني الذين مدحه يزين وذمه يشين هو الله , وأما الخلق فمدحهم لا يزين وذمهم لا يشين .
قال رحمه الله:" كما قال أمير المؤمنين رضي الله عنه  في وصفهم:
جسمي معي غَيْرَ أَنَّ الروحَ عِنْدَكُمُ *** فالجسمُ في غُرْبةٍ والرُّوحُ في وَطَنِ
وكانت رابعة العدوية رحمها الله تعالى تنشد في هذا المعنى:
ولقد جعلْتُكَ في الفؤادِ محدثي  ***وأبحتُ جِسْمِي مَنْ أراد جلوسي 
 فالجسمُ مني للحبيب مؤانس***وحبيبُ قلبي في الفؤادِ أنيسي
وأكثرهم لا يقوى على مخالطة الخلق، فهو يفر إلى الخلوة ليستأنس بحبيبه؛ ولهذا كان أكثرهم يطيل الوحدة.
«وقيل لبعضهم: ألا تستوحش؟ قال: كيف أستوحش وهو يقول: أنا جليس من ذكرني».
وقال آخر:«وهل يستوحش مع الله أحد؟».
وعن بعضهم:«من استوحش من وحدته فذلك لقلة أنسه بربه».
وكان يحيى بن معاذ كثير العزلة والانفراد، فعاتبه أخوه فقال له: إن كنت من الناس فلابد لك من الناس.
 فقال يحيى: إن كنت من الناس فلابد لك من الله.
 وقيل له: إذا هجرت الخلق فمع مَن تعيش؟ قال: مع مَن هجرتُهم له.
هجرتُ الخلق طُرًّا في هواكا*** وأَيْتَمَتُ العيال لكي أراكا
فلو قَطَّعْتَني في الحبِّ إربًا  *** لما حنَّ الفؤادُ إلى سِواكا
وعوتب ابن غزوان على خلوته فقال:«إني أصبت راحة قلبي في مجالسة مَن لديه حاجتي».
ولغربتهم من الناس ربما نُسب بعضهم إلى الجنون لبعد حاله من أحوال الناس كما كان أويس يقال ذلك عنه".
أويس القرني الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم (يأتيكم في أمداد أهل اليمن، وقال لعمر إذا لقيته فسأله أن يستغفر لك، فلما جاءه عرف عمر قال أكتب لك إلى أمير الكوفة لأنه كان متوجه إلى الكوفة، قال أكون في غبراء الناس أحب إليَّ.
 فهو يشير إليه رحمه الله ورضي عنه , وهو خير التابعين , قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم«خير التابعين».
والعمل الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ما هو ؟ كان له أمٌّ هو بها بَر فهذا كان عمله الذي بلغ به تلك المنزلة العليا , نسأل الله من فضله .
قال رحمه الله :" وكان أبو مسلم الخولاني كثير اللهج بالذكر لا يَفْتُر لسانه، فقال رجل لجلسائه: أمجنون صاحبكم؟ قال أبو مسلم: يا ابن أخي! لكن هذا دواء الجنون". 
يعني دواء الجنون هو ذكر الله, كما قال الله تبارك وتعالى ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ سورة الرعد:28.
قال رحمه الله :" وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : «اذكروا الله حتى يقولوا: مجنون» أخرجه أحمد (11653) وابن السني (4)، والحاكم (1/499)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، وهو حديث ضعيف. انظر الأحاديث الضعيفة (517)..
هذا الحديث لا يصح، ضعيف . 
"وقال الحسن في وصفهم:«إذا نظر إليهم الجاهل حسبهم مرضى وما بالقوم من مرض». ويقول: «قد خولطوا وقد خالط القوم أمر عظيم هيهات، والله مشغول عن دنياكم».
وفي هذا المعنى قال:
وحرمة الودِّ ما لي عنكم عوضُ  *** وليس لي في سواكم سادتي غرضُ
وقد شرطتُ على قوم صَحِبْتُهُم ***بأنَّ قلبي لكم مِن دونهم فَرَضُوا
ومن حديثي بهم قالوا: به مرضُ *** فقلتُ: لا زال عني ذلك المرضُ
 
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم  أوصى إلى رجل فقال: «استح من الله كما تستحي من رجلين من صالحي عشيرتك لا يفارقانك» أخرجه ابن عدي (53/2، 203/1) عن صفدي بن سنان: ثنا جعفر ابن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة مرفوعًا. وهو حديث ضعيف جدًا. انظر الأحاديث الضعيف (1500)..
وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم  قال:«أفضل الأعمال أن تعلم أن الله معك حيثما كنت» أخرجه الطبراني في الكبير، وأبو نعيم في الحلية، من حديث عبادة ابن الصامت رضي الله عنه، وهو حديث ضعيف. انظر الأحاديث الضعيفة (2589)..
وفي حديث آخر أنه سئل صلى الله عليه وسلم : ما تزكية المرء نفسه؟ قال: «أن يعلم أن الله معه حيث كان».
وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة في ظل الله يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلى ظله». فذكر منهم: «رجلاً حيث توجه علم أن الله معه» أخرجه الطبراني في الكبير من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وهو حديث ضعيف جدًا. انظر الأحاديث الضعيفة (2444)..
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الإحسان فقال:«أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» أخرجه البخاري (50)، (4777)، ومسلم (9، 10)..
ولأبي عبادة في هذا المعنى أبيات حسنة أساء نُقُولها في مخلوق وقد أصلحت منها أبياتًا حتى استقامت على الطريقة:
كأن رقيبًا منك يرعى خواطري  *** وآخر يرعى ناظري ولساني
فما بَصرَتْ عيناي بعدك منظرًا  *** يسوؤك إلا قلت قد رمقاني
ولا بدرت من فِيَّ بعدك لفظة  *** لغيرك إلا قلت قد سمعاني
ولا خطرت من ذكر غيرك خطرة *** على القلب إلى عرَّجا بعناني
إذا ما تسلَّى القاعدون على الهوى *** بذكر فلانٍ أو كلام فلان
وجدت الذي يُسلي سواي يشوقني*** إلى قربكم حتى أملَّ مكاني 
وإخوان صدق قد سئمت لقاءهم *** وأغضيت طرفي عنهُمُ ولساني
وما الغض أَسْلى عنهُمُ غير أنني *** أراك كما كل الجهات تراني
 
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين".
هذا آخر ما ذكر المؤلف رحمه الله في هذا الكتاب المبارك "كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة".
 ويلاحظ أن الشيخ رحمه الله ذكر جملة من الأحاديث التي لا تصح من حيث الإسناد لكنهم يذكرونها إسنادًا إلى نقل العلماء لها وأنها تصلح في الاستشهاد والاعتضاد لا أنها أحاديث تثبت أحكام لها شواهد تعضدها.
والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .

الاكثر مشاهدة

4. لبس الحذاء أثناء العمرة ( عدد المشاهدات94030 )
6. كيف تعرف نتيجة الاستخارة؟ ( عدد المشاهدات89944 )

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف