بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد.
"سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ وَفَّقَهُمْ اللَّهُ لِطَاعَتِهِ فِيمَنْ يَقُولُ : لَا يُسْتَغَاثُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ هَذَا الْقَوْلُ وَهَلْ هُوَ كُفْرٌ أَمْ لَا ؟ وَإِنْ اسْتَدَلَّ بِآيَاتِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَأَحَادِيثِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ يَنْفَعُهُ دَلِيلُهُ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا قَامَ الدَّلِيلُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ يُخَالِفُ ذَلِكَ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ.
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ بَلْ الْمُتَوَاتِرَةِ وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ : أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّافِعُ الْمُشَفَّعُ وَأَنَّهُ يُشَفَّعُ فِي الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنَّ النَّاسَ يَسْتَشْفِعُونَ بِهِ يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ إلَى رَبِّهِمْ وَأَنَّهُ يَشْفَعُ لَهُمْ".
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
فهذا السؤال عن قول من يقول "لا يستغاث برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما حكم هذا القول؟ وهل قائله يكفر؟، وهل هناك ما يدل على هذا القول؟ وما الواجب على من قام لديه الدليل من الكتاب والسنة في هذه المسألة وغيرها؟
هذه مسائل كلها تدور على حكم هذا القول وما يتصل به من أدلة وأحكام وما يترتب على هذا القول من أحكام.
افتتح المؤلف رحمه الله الجواب على هذا السؤال بحمد الله تعالى ثم قال:"قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ بَلْ الْمُتَوَاتِرَةِ وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ : أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّافِعُ الْمُشَفَّعُ وَأَنَّهُ يُشَفَّعُ فِي الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ..."إلى آخر ما قال.
وهو يشير بهذا إلى الشفاعة العظمى التي خص الله بها رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه الشفاعة، الشفاعة العظمى التي يشفع فيها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند الله سبحانه وتعالى أن يقضي بين الناس، لا خلاف بين أهل الإسلام في إثباتها، فلم يخالف في إثبات هذا النوع من الشفاعة أحد من الفرق، بل هذه الشفاعة ثابتة، وأدلتها ظاهرة في كتاب الله تعالى، وفي سنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد اتفق عليها أهل الإسلام، ولذلك قال:"قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ بَلْ الْمُتَوَاتِرَةِ وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ: أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّافِعُ الْمُشَفَّعُ".
"الشَّافِعُ"، الذي يطلب الشفاعة، و"الْمُشَفَّعُ" الذي يعطاها.
"وَأَنَّهُ يُشَفَّعُ فِي الْخَلَائِقِ"، هذا بسط بيان لهذه الشفاعة أنه يشفع في الخلائق يوم القيامة.
"فِي الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، أي في الفصل بينهم والقضاء وفي راحتهم من هول الموقف وشدته وعنائه.
"وَأَنَّ النَّاسَ يَسْتَشْفِعُونَ بِهِ يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ إلَى رَبِّهِمْ وَأَنَّهُ يَشْفَعُ لَهُمْ"، وهذا النوع من الشفاعة متفق عليه.
بعد ذلك انتقل المؤلف رحمه الله إلى النوع الثاني من أنواع الشفاعة.
المؤلف رحمه الله قدَّم في هذا الجواب على هذا السؤال بهذا التقديم وهو ذكر ما يتعلق بالشفاعة لأن الشفاعة نوع إغاثة، لو قال قائل " ما دخل ما ذكره المؤلف رحمه الله من الشفاعة فيما سئل عنه من الاستغاثة بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقول القائل : لا يستغاث برسول الله"؟ فالجواب أن يقال : إن الشفاعة نوع إغاثة، لأن الشفاعة هي التوسط في جلب الخير أو دفع الضر، ولا شك أن الضر متفاوت منه ما هو شديد، منه ما هو نازل، منه ما هو متوقع، والشفاعة التي تكون في أرض المحشر في فصل القضاء شفاعة في أمر نزل بالناس بلغ بهم من الشدة والضيق والكرب والهول مبلغا عظيماً.
فشفاعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم وطلبهم الشفاعة منه هو من نوع الاستغاثة التي تجوز، وهي ثابتة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليست استغاثة شركية.
فالمؤلف قدَّم بهذه المقدمة كالتمهيد للجواب وسيأتي التفصيل فيما يجوز وما لا يجوز من الاستغاثة.نعم.
بعد هذا قال:"ثُمَّ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّهُ يُشَفَّعُ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَأَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ أَحَدٌ . وَأَمَّا الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ فَأَنْكَرُوا شَفَاعَتَهُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ وَلَمْ يُنْكِرُوا شَفَاعَتَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ ؛ وَهَؤُلَاءِ مُبْتَدِعَةٌ ضُلَّالٌ وَفِي تَكْفِيرِهِمْ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ .
وَأَمَّا مَنْ أَنْكَرَ مَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ وَالْإِجْمَاعِ فَهُوَ كَافِرٌ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ وَسَوَاءٌ سَمَّى هَذَا الْمَعْنَى اسْتِغَاثَةً أَوْ لَمْ يُسَمِّهِ .
وَأَمَّا مَنْ أَقَرَّ بِشَفَاعَتِهِ وَأَنْكَرَ مَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَهُ مِنْ التَّوَسُّلِ بِهِ وَالِاسْتِشْفَاعِ بِهِ ؛ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ" عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ .
وَفِي "سُنَنِ أَبِي دَاوُد" وَغَيْرِهِ " أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَهَدَتْ الْأَنْفُسُ وَجَاعَ الْعِيَالُ وَهَلَكَ الْمَالُ فَادْعُ اللَّهَ لَنَا فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ وَنَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك، فَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ وَقَالَ : وَيْحَك إنَّ اللَّهَ لَا يُسْتَشْفَعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ " وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ فَأَنْكَرَ قَوْلَهُ"نَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك" وَلَمْ يُنْكِرْ قَوْلَهُ "نَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ" بَلْ أَقَرَّهُ عَلَيْهِ فَعُلِمَ جَوَازُهُ فَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا فَهُوَ ضَالٌّ مُخْطِئٌ مُبْتَدِعٌ ؛ وَفِي تَكْفِيرِهِ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ".
يقول رحمه الله :" ثُمَّ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّهُ يُشَفَّعُ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ"، هذا أيضاً في صلة المقدمة للجواب وأنه أيضاً يستشفع بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمور، ومنها ما ثبت أنه يشفع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أهل الكبائر من أهل التوحيد الذين استحقوا النار بذنوبهم أو دخلوا النار بذنوبهم، فيشفع في أهل الكبائر.
يقول :"وَأَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ أَحَدٌ"،وهذا النوع من الشفاعة ثابت بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة ولم يخالف فيه إلا أهل البدع من الخوارج والمعتزلة، وإلا فإن الأدلة دالة متضافرة على إثبات هذا النوع من الشفاعة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
يقول رحمه الله :" وَأَمَّا الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ "، وهم المخلفون لأهل السنة "فَأَنْكَرُوا شَفَاعَتَهُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ"، لم يثبتوها وعطلوا النصوص الواردة في ذلك .
قال :" وَلَمْ يُنْكِرُوا شَفَاعَتَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ"، أي في رفع درجاتهم ودخولهم الجنة، لكنهم أنكروا شفاعته لأهل الكبائر في إخراجهم من النار وتخفيف العذاب عنهم ، " وَهَؤُلَاءِ "، أي الخوارج والمعتزلة، " مُبْتَدِعَةٌ ضُلَّالٌ وَفِي تَكْفِيرِهِمْ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ".
" مُبْتَدِعَةٌ ضُلَّالٌ "، هذان وصفان قد لا يكونان متلازمين، فقد يكون الضال غير مبتدع، لكنه خارج عن الحق، لأن الضال هو الذاهب عن الشيء.
وأما المبتدع فهو المحدث الذي اخترع قولا أو عملاً لم يكن عليه عمل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو قوله.
يقول رحمه الله :" وَفِي تَكْفِيرِهِمْ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ"، لما كان المؤلف رحمه الله ليس شأنه في هذا الجواب بيان حكم المعتزلة والخوارج، أو حكم أقوالهم، وإنما ساق هذا مساق التقدمة وبيان ما يستغاث به، وما لا يستغاث به، قال "وَفِي تَكْفِيرِهِمْ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ"، فمن أهل العلم من كفرهم، ومن أهل العلم من لم يكفرهم والمسألة فيها تفصيل وبسط لا يحتمله هذا الجواب المختصر .
ثم قال رحمه الله:"وَأَمَّا مَنْ أَنْكَرَ مَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ وَالْإِجْمَاعِ فَهُوَ كَافِرٌ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ"، هذا كالجواب على إشكال : كيف يقع نزاع وتفصيل في تكفير من أنكر شيئاً مما جاءت به النصوص واتفق عليه سلف الأمة؟
قال :" وَأَمَّا مَنْ أَنْكَرَ مَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ وَالْإِجْمَاعِ فَهُوَ كَافِرٌ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ".
إذاً: التكفير لابد فيه من إقامة الحجة، ولكن الذي يكفر به هو إنكار ما تواترت النصوص عليه، وما أجمع عليه سلف الأمة، فإذا أنكر مثل هذا، وتوافرت فيه الشروط وانتفت عنه الموانع، فإنه يحكم بكفره.
يقول :"وَسَوَاءٌ سَمَّى هَذَا الْمَعْنَى اسْتِغَاثَةً أَوْ لَمْ يُسَمِّهِ"، يعني لا فرق في الحكم بين التسمية إذا أنكر ما دلت عليه النصوص من شفاعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الموقف، ومن شفاعته لأهل الكبائر فإنه بعد قيام الحجة يكفر، ولا فرق في هذا أن يقول :" إن ذلك استغاثة أو لا"، لأن العبرة بالمعاني وإثبات ما أثبته الله وإثبات ما أثبته رسوله، فإن التسميات فيها نوع اتساع .
إذاً: يقول المؤلف رحمه الله : من أنكر هذا النوع بعد قيام الحجة عليه فإنه كافر سواء سمى هذا استغاثة أو لا، وهذا كالتفصيل والبسط في الحكم كالقول " لا يستغاث برسول الله" كأن يقول " إن هذه الجملة فيها إجمال"، ما مقصوده بقول " لا يستغاث برسول الله؟"، إن كان يقصد بهذا القول أنه لا يشفع لأحد من أهل الموقف، ويقصد بذلك نفي الشفاعة عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأهل الكبائر، وقامت عليه الحجة بالبيان والتوضيح وانتفت عنه الموانع فإنه يكفر بذلك.
فهذا حكم بيان شيء من الحال التي يكفر بها من قال " لا يستغاث برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
يقول :"وَأَمَّا مَنْ أَقَرَّ بِشَفَاعَتِهِ وَأَنْكَرَ مَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَهُ مِنْ التَّوَسُّلِ بِهِ وَالِاسْتِشْفَاعِ بِهِ ؛ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ" عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إذَا قَحَطُوا "، أي انقطع عنهم المطر، " اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ"، وأيضاً بما ثبت في قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للرجل وإقراره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قول الرجل "نَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ"، وهذا نوع استغاثة جاء تسميته بأنه طلب شفاعة، فهذا النوع من أنكره يقول المؤلف رحمه الله :" فَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا فَهُوَ ضَالٌّ مُخْطِئٌ مُبْتَدِعٌ؛ وَفِي تَكْفِيرِهِ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ ".
من أنكر هذا النوع من الاستغاثة فهو ضال، وقال:"مُخْطِئٌ مُبْتَدِعٌ"، أي محدث في الدين ما ليس منه.
"وَفِي تَكْفِيرِهِ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ"، ولم يجزم رحمه الله بالحكم عليه كما جزم في القسم الأول، لأن المسألة تحتاج إلى شيء من البسط في الحكم على الأقوال والقائلين، وهذا يدل على أنه ينبغي أن لا يطلق ولا يتسرع الإنسان في الحكم بالكفر على الأشياء - على الأقوال والأعمال - ما لم تكن هناك حجة واضحة تواتر وإجماع على ما أُنكر من قول أو فعل مع قيام الحجة، فعند ذلك يحكم بالكفر، وأما ما عدا ذلك فإنه ينبغي أن يستبصر وأن يستفصل وأن ينظر في الشروط، وأن ينظر في انتفاء الموانع، حتى ينزَّل الحكم على الأقوال، أو الحكم على الأفعال، ثم من بعدها ينزل ذلك على الأشخاص، فالحكم على الأقوال والأفعال يحتاج إلى العلم بالشرع، وهل هذا مأخذه واضح دليله بيِّن، ثم إذا تبين أن القول أو الفعل كفر يبقى المرحلة الثانية وهي تنزيل هذا الحكم على القائل والفاعل، وهذا يحتاج إلى النظر في حال الرجل، أو حال الفاعل، هل قامت فيه الشروط، وانتفت عنه الموانع أو لا، فلابد من الاستبصار في هذا الأمر.
والحديث الذي ذكره المؤلف رحمه الله، يقول:"وَفِي "سُنَنِ أَبِي دَاوُد" وَغَيْرِهِ " أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ ..."،هذا الحديث أخرجه أبو داود أخرجه أبو داود (4726)، وابن خزيمة في "التوحيد" (103-104) والطبراني (رقم 1547)، وضعفه الألباني في "الضعيفة" (6/145).، وغيره من طريق جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده، أن رجلا أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:"جَهَدَتْ الْأَنْفُسُ وَجَاعَ الْعِيَالُ وَهَلَكَ الْمَالُ فَادْعُ اللَّهَ لَنَا فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ"، أي نطلب شفاعتك عند الله تعالى " وَنَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك "، أي نطلب من الله جل وعلا أن يشفع لنا عندك، فماذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو فماذا جرى من النبي؟ قال :"فَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، سبَّح أي قال "سبحان الله"، والتسبيح تنزيه، والتنزيه إنما يكون لتخلية الله تعالى عما ألحقه به الجاهلون من النقص، ولذلك نزه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه جلا وعلا من قول هذا الرجل في قوله"وَنَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك"، أي نطلب من الله أن يتوسط لنا عندك، فماذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وَيْحَك "، هذه كلمة عتاب، ولكنها كلمة فيها إشفاق ورحمة بخلاف كلمة "ويل" فإنها للعقوبة، "وَيْحَك"، ولعل ذلك لجهل الرجل:"إنَّ اللَّهَ لَا يُسْتَشْفَعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ"، أي لا تطلب شفاعته عند أحد، فشأن الله تعالى أعظم، ولذلك قال "شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ"، فبيده جل وعلا مقاليد السموات والأرض، وإليه يرجع الأمر كله، هو الغني الحميد، كل الخلق فقراء إليه وهو الغني الحميد سبحانه وبحمده، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} سورة فاطر :15..
ومن كان هذا وصفه فإنه يقضي الحوائج وليس به حاجة أن يشفع عند أحد، بل يقضي الحوائج من نفسه جل وعلا ابتداءً فهو الصمد الذي يصمد إليه في قضاء كل حاجة في الدنيا والآخرة، كل دقيق وجليل، فالاعتصام به والتوكل عليه ينال به كل مطلوب من المطالب سهلها وصعبها .
يقول رحمه الله، وذكر تمام الحديث في تعظيم الله جل وعلا وبيان وصفه فإنه ذكر في تتمة هذا الحديث علو الله تعالى على خلقه.
وقال الشيخ رحمه الله معقباً على هذا الحديث " فَأَنْكَرَ قَوْلَهُ"نَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك" وَلَمْ يُنْكِرْ قَوْلَهُ "نَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ"، فدل هذا على جواز الاستغاثة بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو الاستشفاع بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تحصيل الخير وفي دفع الشر.
قال رحمه الله:"بَلْ أَقَرَّهُ عَلَيْهِ فَعُلِمَ جَوَازُهُ"،أي علم أنه يستغاث بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويستشفع به في أمور، وأنكر قوله "نَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك"، لأنه نزول بقدر الله تعالى.
وفيه عدم إيفائه حقه سبحانه وتعالى،"فَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا فَهُوَ ضَالٌّ مُخْطِئٌ مُبْتَدِعٌ؛ وَفِي تَكْفِيرِهِ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ".