قال المؤلف رحمه الله :" وروى ابن المبارك عن الفضيل عن الحسن أنه ذَكَر الغني المترَف الذي له سلطانٌ يأخذ المال ويدعي أنه لا عقاب فيه، وذكر المبتدع الضال الذي خرج بسيفه على المسلمين وتأول ما أنزل الله في الكفار على المسلمين.
ثم قال: «سنتكم – والذي لا إله إلا هو – بينهما: بين الغالي، والجافي، والمترف، والجاهل، فاصبروا عليها؛ فإن أهل السنة كانوا أقل الناس الذين لم يأخذوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في أهوائهم، وصبروا على سنتهم حتى أتوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا».
ثم قال: «والله لو أن رجلاً أدرك هذه المنكرات يقول هذا: هلم إليَّ، فيقول: لا أريد إلا سُنَّة محمد صلى الله عليه وسلم يطلبها ويسأل عنها، إن هذا ليعرض له أجر عظيم، فكذلك كونوا إن شاء الله تعالى»".
ووعده بالأجر هنا وجهها هو شدة الداعي إلى الخروج على الصراط المستقيم، ولهذا من يعرض له فتنة ويصبر عليها له من الأجر والثواب ما ليس لذاك الذي لم تعرض عليه الفتنة، ويعاني ويكابد أضرارها وأثرها.
فلذلك الامتناع مثلاً عن الزنا هذا مما يؤجر عليه الإنسان، يقول الله تعالى:﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ سورة الإسراء:32..
لكن أيهما أعظم أجراً، الذي عرض له الزنا وتيسر له وقال له هذا الفعل القبيح "هيت لك"، أو ذاك الذي لم يتعرض لهذه الفتنة؟.
لا شك أن كلاهما مأجور، ذاك مأجور على التزام النهي والعزم عليه، وهذا مأجور على الالتزام والعزم وعلى الصبر على الداعي الذي دعاه.
ولهذا كان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: "إني أخاف الله " الحديث أخرجه البخاري (660)، ومسلم(1031)، من حديث أبي هريرة.، وامتنع، هذا بيان لكون الإنسان عندما تحيط به دواعي السقوط، دواعي الفتنة ويصبر عليها هو أعظم أجراً من الذي سلم منها.
وهذا وجه مضاعفة أجور المتأخرين على المتقدمين من الأمة.
ومضاعفة أجور المتأخرين من الأمة وكونها تصل كما في بعض الأحاديث " كأجر خمسين من الصحابة " أخرجه أبو داود(4341)، والترمذي(3058)، وقال :" حسن غريب"، وقال الألباني :" ضعيف لكن فقرة أيام الصبر ثابتة" رضي الله عنهم إنما هو لعظم ما يكابده هؤلاء من الصوارخ والدواعي التي تدعو إلى الخروج عن الحق والمواقعة للشر والفساد سواء كان ذلك في العقائد والأعمال والآراء.
أو كان ذلك في المسالك والأعمال، لا فرق بين هذا وذاك في كون كل فتنة تدعو الإنسان لخروج عن الصراط المستقيم أعظم من أجر من لم تعرض له فتنة ويكابد ردها.
قال رحمه الله :" ومن هذا المعنى ما رواه أبو نعيم وغيره عن كميل بن زياد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق».
ثم ذكر كلامًا في فضل العلم إلى أن قال: «إن ها هنا لعلمًا جمًا – وأشار بيده إلى صدره – لو أصبت له حَمَلَة، بل أصيب لَقِنا غير مأمون عليه مستعملاً آلة الدين للدنيا، ومستظهرًا بنعم الله على عباده وبحججه على أوليائه".
قال :" أصيب لَقِنا"، أي يأخذ العلم ويتلقاه، " غير مأمون عليه"، يعني هذا الذي أجده ممن يحمل عني العلم.
" بل أصيب لَقِنا غير مأمون عليه مستعملاً آلة الدين للدنيا"، هذا كلام مَنْ؟ علي بن أبي طالب رضي الله عنه في وصف مَنْ لقيهم ممن يأخذون عنه، الله المستعان.
قال رحمه الله :"بل أصيب لَقِنا غير مأمون عليه مستعملاً آلة الدين للدنيا، ومستظهرًا بنعم الله على عباده وبحججه على أوليائه، أو منقادًا لحملة الحق لا بصيرة في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه لأول عارض من شبهة، ألا لا ذا ولا ذلك، أو منهومًا باللذة سلس القياد للشهوة، أو مغرمًا بالجمع والادخار، ليس من رعاة الدين في شيء، أقرب شبهًا بهما الأنعام السائمة، كذلك يموت العلم بموت حامليه. اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم بحجة، إما ظاهرًا مشهورًا أو خائفًا مغمورًا لئلا تبطل حجج الله وبيِّناته. وكم ذا وأين أولئك؟ والله الأقلون عددًا والأعظمون عند الله قدرًا، يحفظ الله بهم حججه وبيِّناته حتى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، وأَنِسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدانٍ أرواحها متعلقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه، والدعاة إلى دينه، آه... آه شوقًا إلى رؤيتهم، انصرف إذا شئت!» الحلية 1/79-80.".
الله أكبر.. كلمات من نور ، وهي توصيف دقيق لحال الناس في حمل العلم وأثر العلم عليهم.
سيعلق ابن رجب رحمه الله تعليقاً ماتعاً على كلام الإمام علي رضي الله عنه الخليفة الراشد، يقول :" ومن هذا المعنى ما رواه أبو نعيم وغيره عن كميل بن زياد"، وهو من أصحاب الإمام علي رضي الله عنه.
" عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «الناس ثلاثة"، وهذا التقسيم إجمالي لأحوال الناس ، وقد يكون هذا ليس في كل الأحوال، وقد يكون في حال دون حال.
" عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق". إذاً هم ثلاثة.
إما " عالم رباني"، وهذا في أعلى المنازل والمراتب.
" ومتعلم على سبيل نجاة"، يرجى له النجاة والسلامة ما دام مشتغلاً بالتعلم.
" وهمج رعاع أتباع كل ناعق"، يقول :"يميلون مع كل صائح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق".
ثم يقول بعد ذلك في وصف المتلقين الآخذين للعلوم في زمانه رضي الله عنه، يقول :" إن ها هنا لعلمًا جمًا"، يشير إلى ما حواه صدره من العلم الذي تلقاه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وهو من أعلم الناس بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عن الجميع.
فهو من علماء الصحابة الأبرار، ومن أصحاب النظر والبصر منذ نعومة أظفاره نشأ بين يدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا عجب أن يقول ما قاله، وهذا ليس من تزكية النفس، فلا يدخل في قول الله تعالى ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ﴾ سورة النجم:32.، بل هذا من بيان ما يحمله الإنسان حثاً للناس على أخذه ، كما قال يوسف عليه السلام للملك ﴿ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ سورة يوسف:55..
هذا ليس من التزكية المنهي عنها.
التزكية المنهي عنها هي التي يطلب بها العلو والشرف والارتفاع ، وأما التزكية التي تبين الحق وتوضحه ، وتدل عليه فهذه مما يطلب وقد يكون واجباً في بعض الأحيان إذا كان الحق لا يقوم إلا بالبيان.
يقول رضي الله عنه:"بل أصيب لَقِنا غير مأمون"، يعني ما يوجد حملة اقتنع بهم رضي الله عنه.
" بل أصيب لَقِنا غير مأمون عليه مستعملاً آلة الدين للدنيا"،أنا ما أقول يا - أخي - طبق هذا على الناس ، ترى نحن دائماً نهتم بالآخرين قبل أن نهتم بأنفسنا، أقول ينبغي لكل واحد منا أن يطبق هذا الكلام على نفسه ، هل هذه الخصال موجوده فيه، هل هو لقن غير مأمون، هل هو يستعمل آلة الدين للدنيا يتكسب به ويدرك بها شرفاً في الدنيا.
" ومستظهرًا بنعم الله على عباده"، مستظهراً أي يطلب الظهور، بنعم الله من العلم والمعرفة والدراية والفهم على عباده.
يقول:"وبحججه على أوليائه، أو منقادًا لحملة الحق"، هذا القسم الثاني الذي لا اشتغال له بالعلم عنده، فهو منقاد يتبع أهل العلم، وهذا معنى قوله "منقادًا لحملة الحق"، لكن على غير بصيرة ، ليس له بصيرة، بمعنى أنه منقاد دون نظر وفكر وتأمل وبصيرة فيما يأتي ويذر.
يقول :" لا بصيرة في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه لأول عارض من شبهة"، فليس هناك رسوخ إنما هو تقليد لا معنى له.
يقول :" ألا لا ذا ولا ذلك"، يعني لا هذا ممدوح، ولا ذاك ممدوح.
" أو منهومًا باللذة سلس القياد للشهوة"، يعني هناك من سلم مما تقدم، لكنه مشتغل بشهوات نفسه.
"سلس القياد للشهوة"، كلما عرض له بارق من بوارق الشهوة انقاد إليه.
" أو مغرمًا بالجمع والادخار، ليس من رعاة الدين في شيء، أقرب شبهًا بهما الأنعام السائمة، كذلك يموت العلم بموت حامليه. اللهم بلى"، وهذه "بلى" للإضراب عما تقدم من كلام، "لا تخلو الأرض من قائم بحجة"، يعني هذا الكلام الذي ذكره متقدماً في وصف حال نقلة العلم رضي الله عنه لا يعني أنه ما هناك من هم أهل بصيرة يدخلون في قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله » تقدم تخريجه..
القائم بحجة نوعان: " إما ظاهرًا مشهورًا أو خائفًا مغمورًا لئلا تبطل حجج الله وبيِّناته"، يعني هؤلاء محفوظون باقون؛ " لئلا تبطل حجج الله وبيِّناته"، كيف تبطل "حجج الله وبيِّناته "؟، لأنه لو مات حملة الشريعة الثقات، ما الذي يبقى؟ يبقى النص، والنص إنما يحفظ بحملته الذي حوته صدورهم وعقلته قلوبهم.
فقول الله تعالى ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ سورة الحجر:9..
هذا فيه بشارة لهذه الأمة بأن الله سيحفظ من أهل العلم من يحفظ بهم العلم، لأن حفظ القرآن حفظ أمرين:
حفظ ألفاظه: وهذا ما زال، ولذلك ما تزال ألفاظ القرآن وحروفه لا يختلف فيها المسلمون منذ أن جمعه عثمان رضي الله عنه وأجمع على ذلك الصحابة إلى يومنا هذا القرآن متفق لفظه بين المسلمين، لا ينقصون منه حرف، لو رحت إلى أقاصي الدنيا شرقاً أو أقاصيها غرباً وقرأت ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ سورة الفاتحة.، وأسقطت ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، لرد عليك الصغير قبل الكبير، أليس كذلك؟ هذا من حفظ ألفاظه.
لكن أيضاً هناك حفظ آخر لا يتم حفظ الكتاب إلا به، وهو حفظ معانيه.
وحفظ معانيه إنما يكون بحفظ حملته الذين يفقهون ويعرفون ما فيه من الأسرار والحكم، وهذا هو الذي أشار إليه الإمام الخليفة علي رضي الله عنه حيث قال:"اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم بحجة، إما ظاهرًا مشهورًا أو خائفًا مغمورًا لئلا تبطل حجج الله وبيِّناته. وكم ذا وأين أولئك؟ والله الأقلون عددًا، والأعظمون عند الله قدرًا، يحفظ الله بهم حججه وبيِّناته حتى يودعوها نظراءهم"، «يَحْمِلُ هَذَا العِلْم مِنْ كُلِّ خَلَفٍ - أي من كل طبقة من طبقات الأمة - «يَحْمِلُ هَذَا العِلْم مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُه » أخرجه البيهقي (10/209 )ح( 20700) ، وابن عساكر (7/38) والعقيلي (4/256 ، ترجمة 1854 معان ابن رفاعة السلامي) ،وقال الهيثمي (1/168):"رواه البزار وفيه عمرو بن خالد القرشي كذبه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل ونسبه إلى الوضع".، يعني أمثل من في هذا العصر.
لذلك العلماء هم أمثل أهل العصر في كل طبقة من طبقات الزمان.
مرة من المرات شيخنا عبد الله البسام، يقول :" صليت عند إمام يخطب ، ضعيف في اللغة، يقول :" يحمل هذا العلم من كل خلف عدو له"، هذا قلب المعنى.
هنا جعل الذين يحملون العلم هم أعداؤه.
والصحيح في الحديث « يَحْمِلُ هَذَا العِلْم مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُه»، يعني أمثل من فيه ، وأطيب أهله.
وهذا ما أشار إليه علي رضي الله عنه حيث قال:" والله الأقلون عددًا والأعظمون عند الله قدرًا، يحفظ الله بهم حججه وبيِّناته حتى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة".
" هجم"، يعني أوقعهم ، وأدخلهم على "حقيقة البصيرة"، والبصيرة هي إدراك حقائق ما أخبر الله تعالى به ورسوله.
" البصيرة"، نور يقذفه الله في القلب يبصر به الإنسان الطريق الموصل إلى الله دون غبش ولا إلتواء.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم على بصيرة.
قال :" وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون"، المترفون هم أهل الدنيا الذين أسرفوا في الأخذ منها، ويقابلهم "وأَنِسوا بما استوحش منه الجاهلون"، وهم أهل الشبهات، " وصحبوا الدنيا بأبدانٍ أرواحها متعلقة بالمحل الأعلى"، يعني بالآخرة، فهم في الدنيا لكن قلوبهم نافذة إلى ما عند الله "أولئك خلفاء الله في أرضه، والدعاة إلى دينه"، نسأل الله أن يجعلنا منهم ، وأن يمن علينا بسلوك طريقهم.
يقول :" آه. آه شوقًا إلى رؤيتهم، انصرف إذا شئت"، هذا كلامه لمن؟ لزياد بن كميل.
بارك الله فيكم نقف على هذا، ونكمل غداً إن شاء الله تعالى.