الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على البشير النذير والسراج المنير؛ نبينا محمد وعلى آله وأصحابه؛ ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فكنا قد تكلمنا في الدرس السابق على قول المؤلف في منظومته:
حَمدْتُ الَّذي أَغْنَى وَأَقْنَى وَعَلَّمَا *** وَصَيَّر شُكْرَ الْعَبْدِ لِلْخَيْرِ سُلَّمَا
وَأُهْدِي صَلَاةً تَسْتَمِرُّ عَلَى الرِّضَا ***
هذا الذي فرغنا منه من كلام المؤلف رحمه الله.
قال: "وأصحابه والآلِ جمعًا مُسَلِّما", "وأصحابه" جمع صحابي وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ والصحابي هو من لقي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مؤمنًا به ومات على ذلك([1]), أما قوله: "والآل" فهم قرابات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهم من يتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم نسبًا, وهم: آل علي وآل جعفر وآل العباس وآل عقيل, هؤلاء هم آل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويدخل في آله أزواجه، وهذا بنص القرآن قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}([2]) ذكر ذلك بعد أن وجَّه الخطاب إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم أمرًا ونهيًا وتوجيهًا, فآله صلى الله عليه وسلم هم قراباته الذين يتصلون به نسبًا، ويدخل في ذلك أزواجه أيضًا([3]).
قوله رحمه الله : "جمعًا" أي : لا أخص أحدًا منهم بالصلاة دون الآخر, بل أصلي على الجميع.
ثم قال: "مسلِّما" أي مستصحبًا التسليم عليهم؛ على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه؛ فإنَّ الله أمر بالصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم. والسلام هو سؤال الله تعالى السلامة للنبي صلى الله عليه وسلم من كل آفة؛ دينية ودنيوية, فكل مَن سلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم أو سلَّم على غيره فإنه يدعو رب العالمين أن يسلِّم المسلَّم عليه, فتحية الإسلام (السلام عليكم) هي دعاءٌ من العبد لله تعالى أن يسلم من ألقيت عليه هذه التحية([4]).
ثم قال رحمه الله:
كَمَا دَلَّنا فِي الوَحْي وَالسُّننِ الَّتِي***أَتَانا بِهَا نَحْوَ الرَّشادِ وعَلَّما
"كما دلنا"؛ "كما" هنا بمعنى: لأجل ما، فكما هنا تعليلية, أي: "وأهدي صلاة تستمر على الرضا كما دلنا"؛ هذا تعليل للصلاة المستمرة والتسليم المستمر على النبي صلى الله عليه وسلم, و"كما" تأتي للتعليل([5]) كما في قول الله جل وعلا: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ}([6]) أي: واذكروه لأجل أنه هداكم، فهو استحق الذكر جل وعلا والثناء والتعظيم لأجل هدايته الخلق والعباد.
"كما دلَّنا في الوحي والسننِ التي ...""دلنا" الدلالة هي الإرشاد والإخبار بالطريق الموصل إلى الغاية والمقصود؛ فقوله:"دلَّنا في الوحي والسننِ" أي: أرشدنا فيما جاء به من القرآن الكريم وهو المراد بالوحي في قوله: "في الوحي".
"والسنن"أي: ما جاء به من سنته التي هي تفسير وبيان وشرح وإيضاح للقرآن العظيم.
قال رحمه الله: "التي أتانا بها" أي: أتانا بتلك السنن من رب العالمين, كما قال صلى الله عليه وسلم فيما راوه أحمد وغيره بإسناد لا بأس به: «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ»([7]) والذي آتاه ذلك هو رب العالمين.
وقوله رحمه الله: "نحوَ الرَّ شادِ وعَلَّما" هذا بيَّن به النهاية التي يصل بها من التزم هذه الدلالة؛ فالنهاية لهذه الدلالة هو الرشاد, والرشاد ضد الغي([8])؛ وهو العمل بالحق على بصيرة وهدى؛ قال الله جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}([9]) فالرشاد إصابة الحق على بصيرة وهدى, وهو ضد الغي الذي يتضمن المخالفة للحق بعلم وإدراك([10]).
وقوله: "وعَلَّما" أي: علَّم العباد ما فيه خير دينهم وخير دنياهم؛ ما فيه خير المعاش وخير المعاد؛ فالتعليم هنا شمل النوعين؛ وذلك أن الشريعة جاءت بإصلاح المعاش والمعاد, وهذا لابد من التنبيه إليه والتذكير به؛ فإن مِن الناس مَن يظن أن الشريعة إنما جاءت فقط لإقامة الأديان, وهذا غلط، الشريعة جاءت لإقامة الدين والدنيا, لا يمكن أن يقوم دين بلا دنيا, ولا يمكن أن تقوم دنيا بلا دين, فإقامة الدين يلزم منه إقامة الدنيا، وإقامة الدنيا لا تكون إلا بإقامة الدين؛ ولذلك الأمم التي نقص دينها حصل في دنياها من النقص بقدر ما حصل من نقص دينها, والأمم التي أقامت الدين لا يمكن أن يُشهد لها بإقامة الدين إلا إذا أقامت دنياها, يقول الله جل وعلا: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}([11]) فالنصيب من الدنيا هو مما جاءت الشريعة آمرةً باستحضاره وأخذه.
ثم قال رحمه الله:"أزالَ بها الأغلافَ.." الإزالة هي النقل([12]), فقوله:"أزال بها" أي: أذهب ونقل، "الأغلاف" جمع غِلاف؛ وهو ما يحيط بالقلب مما يمنع عنه الإدراك([13]), وقد ذَمَّ الله تعالى حال القلوب التي غشاها وعلاها الغلاف؛ فقال في قول الكفار: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ}([14]) أي: مغلَّفة([15])، وفي الآية الأخرى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ}([16]) وهذا فيه نفس المعنى؛ أكنة أي: تستتر به وتكتن به عن أن يصل إليها ما تدعونا إليه وترشدنا إليه([17]), فقوله: "أزالَ بها الأغلافَ عن قلبِ حائرٍ" أي: أزال بها هذه الطبقة التي تعلو القلوب فتحجب عنها الأنوار، وتحول بينها وبين إدراك الخيرات, فتعمى البصيرة؛ لأن الإنسان له عينان: عين يدرك بها المبصرات الحسية، وعين يدرك بها الأمور المعنوية، وهي البصيرة، وهي عين القلب؛ قال الله جل وعلا: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}([18]) فالقلوب تبصر وتدرك, ولا يمكن أن تدرك إلا بعين باصرة, لكن هذه العين ليست في كل قلب, فالقلب الكافر قلب انطمست بصيرته فلا يرى رشدًا ولا يدرك خيرًا, كما أن أبصار الناس تتفاوت في إدراك المبصرات؛ فمنهم حديد البصر الذي يدرك الخفي والبعيد، ومنهم كليله الذي لا يدرك القريب ولا يبصر الواضح، حتى يعمى في ردعة النهار عن إدراك المرئيات؛ فكذلك بصيرة القلب هي متفاوتة تفاوتًا أعظم من تفاوت الناس في حدة أبصارهم وإدراك أعينهم.
فقوله رحمه الله: "أزالَ بها الأغلافَ" أي: أزال بها الحجب التي تحيط بالقلب فتمنع منه الإدراك.
قال رحمه الله:"أزال بها الأغلاف عن قلبِ حائرٍ" الحائر هو: المتردد في الشيء, وهو مأخوذ من حيرة أو حار، وهذه الكلمة تدور على التردد بين شيئين([19])؛ وذلك أن القلب الخالي من نور القرآن وهدي السنة؛ قلبٌ في شك وفي تردد, يقول الله تعالى فيما أخبر به عن حال المشركين: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ}([20]) أي: في أمر متردِّد مضطرب([21]), وكل قلب عري عن نور البصيرة وعن الحق والهدى فهو في أمر مريج، فهو حائر؛ ولذلك يقول المؤلف:
أَزَالَ بِهَا الأَغْلَافَعَنْ قَلْبِ حَائِرٍ *** وَفَتَّحَ آذَانًا أُصِمَّتْ وأَحْكَمَا
"وفتّح" والتفتيح مقتضاه الانتفاع بما وهب الله تعالى به العبد من المكنة في سمعه وبصره, فهو قد ذكر أن القلب أزيل عنه الغلاف, وإذا أزيل الغلاف عن القلب فهو قد تهيأ واستعد لاستقبال ماذا؟ لاستقبال المعلومات واستقبال الأنوار التي بها يحيا.
ثم ذكر الطريق الموثوق أو الطريق الأعظم في حياة القلوب وهو السمع؛ ولذلك قال:"وفتَّحَ آذانًا أُصمَّتْ وأَحْكَمَا" وذكر الآذان لأنها أبلغ في التأثير من البصر، وهي أيضًا أوسع في التأثير؛ إذ إن السمع يدرك به الإنسان ما يشاهده وما لا يشاهده، يدرك به الحاضر والغائب سواء كان غائبًا فيما مضى أو غائبًا فيما يستقبل؛ ولذلك ذكر هذا الطريق لأنه الطريق الذي يسترشد به الإنسان الخير ويدرك به البر؛ وذلك أن الرسل جاءت تخبر عن الله تعالى، وتبين ما له من الحقوق، وتبين وجوب الإيمان به والإيمان باليوم الآخر وسائر ما جاءت به الرسل من أمور الإيمان؛ ذلك يدرك عن طريق ماذا؟ عن طريق السمع؛ ولذلك الأدلة نوعان: أدلة سمعية؛ وهي ما يدرك بالسمع من الكتاب والسنة، وأدلة نظرية وهي التي تدرك بالعقل والفكر. والأدلة البصرية ألا تنفع؟ بلى تنفع، لكنه لم يحط المؤلف رحمه الله بكل الأدلة والطرق التي يحصل بها حياة القلب، إنما ذكر آكدها وأعظمها تأثيرًا، وهو السمع.
يقول: "وفتَّحَ آذانًا أُصمَّتْ"يعني مُنعت من السمع،"وأَحْكَمَا" يعني وأحكم في إزالة هذه الأغلاف وفتح هذه الآذان التي أغلقت فكان متقنًا في فتحه متقنًا في إزالته؛ فقوله: "وأحكما"من الحكمة وهي الإتقان للصنعة([22])، والتكميل في إنشائها وإدراك الغاية.
يقول رحمه الله بعد هذه المقدمة:"فيا أيها الباغي استنارةَ قلبِهِ" هذا مبدأ النظم فيما نظم المؤلف رحمه الله من أسباب حياة القلب, كل ما تقدم هو حمد وثناء على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وبيانٌ لسبب الصلاة المستمرة في هذين البيتين:
كما دلَّنا في الوحي والسننِ التي***أتانا بها نحوَ الرَّشادِ وعَلَّما
أزالَ بها الأغلافَ عن قلبِ حائرٍ ***وفتَّحَ آذانًا أُصمَّتْ وأَحْكَمَا
يقول رحمه الله:"فيا أيها الباغي" وابتدأ النظم بالنداء، ونادى كل من طلب ورغب في نجاة نفسه؛ قال: "فيا أيها الباغي" أي: الطالب([23])"استنارةَ قلبِهِ" الاستنارة هي طلب النور, واستنارة القلب هي الغاية التي يحصل بها للإنسان كمال السعادة في الدنيا والآخرة؛ ولذلك قال المؤلف: "فيا أيها الباغي استنارةَ قلبِه" لم يقل: يا أيها المؤمن أو يا أيها المسلم أو يا أيها المجتهد، إنما دعاهم بما يحقق الغاية التي من أجلها يعملون؛ وهي استنارة القلب, واستنارة القلب مقصد لكل الخلق، لكنهم يختلفون في إصابة هذا المقصد؛ فمنهم من يسلك الأسباب المادية لاستنارة قلبه وانشراحه وسعادته, ومنهم من يطلب طرقًا منحرفة دينية, ومنهم من يهدى إلى الصراط المستقيم والنور المبين الذي جاء به خير النبيين صلى الله عليه وسلم؛ فيُهدى إلى أعظم الأنوار وأعظم ما طرق الدنيا من نور؛ وهو نور النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء به في كتاب ربه وفي سنته صلى الله عليه وسلم.
يقول المؤلف رحمه الله:
فَيَا أَيُّهَا البَاغِي اسْتِنَارَةَ قَلْبِه ***تَدَّبرْ كِلا الوَحْيَينِ وَانقدْ وسَلِّما
وهذا ذكر أول الأسباب التي بها تستنير القلوب, أول الأسباب وأعظمها هو تدبر القرآن والسنة, ولا غرو ولا عجب في أن يكون أعظم الأسباب وأولها مما يحصل به نور القلب وحياته تدبُّر القرآن؛ فإن الله تعالى سمى كتابه نورًا في مواضع عديدة من محكم التنزيل, فمن ذلك قوله جل وعلا: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}([24]), {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ}([25]) وهو القرآن العظيم، وكذلك قال جل وعلا: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}([26]) فوصف الله تعالى هذا الكتاب الحكيم بأنه نور، كما أنه وصفه بأنه روح، والروح بها حياة الأبدان فمن ذلك هذه الآية التي ذكرناها: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} وقال جل وعلا: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}([27])، وقال جل وعلا: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}([28]) فسمى القرآن روحًا وسماه نورًا، وبهما تكمل استنارة القلوب؛ لأن حياتها بالروح وقوتها بالنور, والله تعالى سمى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم نورًا وضرب له مثلًا في كتابه الحكيم فقال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ}([29]) هذه الإضاءة الذاتية هي إضاءة الفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}([30]) هذه الفطرة إذا انضاف إليها نور الوحي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أشرق القلب, يقول ربنا جل وعلا: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} نور الوحي على نور الفطرة، وتكمل بذلك الأنوار، وتكمل بذلك السعادات {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}([31]) هذا ما ضربه الله تعالى في كتابه الحكيم مثلًا لنور القرآن وتأثيره في القلوب.
إذًا قوله رحمه الله:"فيا أيها الباغي استنارةَ قلبِه ***تدَّبرْ كلا الوحيين.."بدأ بالوحيين القرآن والسنة لأنهما مبعث كل هداية, وهما النور والروح الذي تحيا به الأبدان وتستنير به القلوب, وهما مصدر التقوى فلا يمكن أن تتحقق التقوى لأحد إلا بماذا؟ إلا بالكتاب والسنة, والتقوى هي الفرقان الذي يفرق به العبد بين الحق والباطل, يقول الله تعالى في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}([32]) وهذا الفرقان يحصل به التمييز بين الخير والشر بين الحق والضلال، بين الهدى والزيغ, هذا لا يكون إلا بنور؛ إنه نور القرآن.
كذلك يقول جل وعلا فيما يكون في قلب العبد من الهداية في هذا القرآن وفي هذا الوحي: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}([33]) أقوم في العمل وأقوم في الاعتقاد، أقوم في الدين وأقوم في الدنيا, لكن هذه الأنوار التي في الكتاب والسنة ما وسيلة وطريقة الحصول عليها؟ هل هو قراءة القرآن؟ هل هو حفظه؟ هل هو قراءة تفسيره؟ كل ذلك وأهمه التدبر؛ ولذلك قال:"تدَّبرْ كلا الوحيين" والتدبر معناه التفهُّم والتأمُّل وإعادة النظر في الشيء مرة تلو مرة, فإنه لا يوصف الإنسان بأنه متدبر إلا إذا أعمل ذهنه في تفهم النصوص وإدراك معانيها والنظر فيما احتوته واشتملت عليه من المعاني([34])، "تدَّبرْ كلا الوحيين" والتدبر مفتاح خير كثير للعبد, يقول ابن القيم: "التدبر مفتاح حياة القلوب"([35]), وهذه كلمة عظيمة من هذا الإمام الجليل "التدبر مفتاح" يفتح به الإنسان القلوب المغلقة، وتنفتح له حياة هذه القلوب من طريق التدبر؛ ولذلك أمر الله جل وعلا بالتدبر، بل عاب على من أعرض عنه وجعله من أعمال المعرضين الكافرين؛ يقول الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}([36]) فذكر الله تعالى هذا الكتاب أنه أنزله، ووصفه بأنه مبارك أي فيه خير كثير, فالبركة والمبارك هو الذي شمل خيرًا كثيرًا([37]), ثم ذكر الطريق الذي تدرك به هذه البركة فقال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} فالتدبر هو الطريق الذي تستخلص به بركات هذا القرآن العظيم، وقال جل وعلا: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}([38]) فالتدبر والتفهم للكتاب هو أعظم ما يدرك به الإنسان الخير؛ ولذلك أمر الله تعالى به وعاب على تركه, التدبر فهم، والفهم يتبعه عمل وعقد؛ عمل في الأحكام وعقد في العقائد والأخبار؛ ولذلك قال المؤلف رحمه الله: "تدَّبرْ كلا الوحيين" ثم أتى بالثمرة التي تنتج على هذا التدبر فقال: "وانقدْ وسَلِّما"الانقياد يكون للأحكام والتسليم يكون للأخبار, وهذا شطر مختصر، لكن اختصر لك طريقًا طويلًا تُمضى فيه الأعمار وتقضى فيه الأزمان ويبلغ فيه العبد أعلى الدرجات في الدنيا والآخرة: "تدَّبرْ كلا الوحيين وانقدْ وسَلِّما" وهذا من بديع نظم المؤلف وقوة إبداعه في هذا النظم رحمه الله؛ حيث اختصر هذا المشروع الذي هو مشروع حياة لا يقتصر على موقف أو ليلة أو يوم إنما هو مشروع عمر يكون في هذا العمل الذي حواه هذا الشطر من هذا البيت: "تدَّبرْ كلا الوحيين وانقدْ وسَلِّما" الانقياد مقابل ماذا؟ مقابل الأحكام والتسليم مقابل الأخبار