بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحابته ومن سار على نهجهم واقتفى آثارهم إلى يوم الدين, قال رحمه الله تعالى في منظومته:
فعنوان إسعادِ الفتى في حياتِهِ***معَ اللهِ إقبالاً عليه مُعَظِّما
وفاقدُ ذا لا شكَّ قدْ ماتَ قلبُه ***أوِ اعتلّ بالأمراضِ كالرَّينِ والعَمَى
وآية سُقمٍ في الجوارحِ منعها***منافعها أوْ نقصُ ذلكَ مثلما
وصحتها تُدَرى بإتيانِ نَفْعِهَا***كنطقٍ وبطشٍ والتصرف والنما
وعينُ امتراضِ القلب فَقْدُ الذي له***أُرِيدَ من الإخلاصِ والحُبِّ فاعْلَما
ومعرفةُ الشوقِ إليه إنابة***بإيثارِ ذا دونَ المحباتِ فاحْكُمَا
ومُؤْثرُ محبوبٍ سوى اللهِ قلبُه***مريضٌ على جرف من الموتِ والعَمى
الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على البشير النذير والسراج المنير والمبعوث رحمة للعالمين؛ نبينا محمد وعلى آله وأصحابه؛ ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
يقول الناظم رحمه الله في الأسباب التي بها حياة القلب:
فعنوان إسعادِ الفتى في حياتِهِ***معَ اللهِ إقبالاً عليه مُعَظِّما
"عنوان إسعادِ الفتى" المقصود بالعنوان هنا أي: ملخص ومختصر، وجملة ما تحصل به السعادة للعبد في صلته بالله تعالى ما ذكره من الإقبال على الله تعالى بالتعظيم، فالعنوان المقصود به المختصر الذي يبين الشيء ويفسره ويوضحه ويجمله.
"فعنوان إسعاد الفتى في حياته"والإسعاد أي: حصول السعادة. وقوله:"في حياتِهِ" المقصود بالحياة هنا الحياة في جميع أطباقها؛ قال الله جل وعلا: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ}([1]) أي: لتركبن طورًا أيها الناس بعد طور([2])، والأطوار التي يمر بها الخلق ثلاثة: حياة، فموت، فبعث ونشور, فقوله رحمه الله تعالى:"فعنوان إسعادِ الفتى في حياتِهِ..." أي: في كل حياته في جميع أطواره وأطباقه؛ في دنياه وفي برزخه وفي أخراه؛"إقباله على الله تعالى معظمًا" ويمكن أن يقال: إن المقصود بالحياة هنا: الحياة الدنيا؛ لأنها محل العمل، وقد ذكر بعد ذلك عملًا, لكن الذي يظهر أن المقصود بذلك الثمرة للعمل بغضِّ النظر عن وقت العمل, فثمرة العمل هي السعادة، ووقته هو في الدنيا دار الابتلاء والامتحان؛ {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ}([3])، فإذا حقق العبد هذه الغاية في دنياه فاز بالسعادة في دنياه وفي برزخه وفي أخراه؛ يقول الله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ}([4]) وهذا يشمل الدور الثلاثة، ليس فقط في الدار الآخرة،فالنعيم المذكور في قوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} أي: في دنياهم؛ قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}([5])، وفي البرزخ؛ لأنه رهين عمله، وقرينه عمله في قبره، وفي البعث والنشور أيضًا تظهر السعادة على وجه الكمال، به ينكشف الغطاء ويبدو المكنون في الأفئدة والضمائر؛ {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}([6]) تختبر فتكشف وتظهر([7])، فالسعادة في الدور الثلاثة ليست في الدار الدنيا فقط هي فيما قال رحمه الله.
وقوله: "الفتى" هنا المقصود به العامل من ذكر أو أنثى من الإنس والجن، وإنما ذكر الفتى على وجه التجوز، والمقصود به المكلف.
وقوله: "إسعاد الفتى في حياته مع الله" أي: فيما يتعلق بشأن الله وحقه سبحانه وبحمده. وحق الله أعظم الحقوق؛ لذلك كان أصل الإيمان أن تؤمن بالله"إقبالاً عليه مُعَظِّما" إقبالًا؛ الإقبال يكون بأمرين أو على نوعين:
- إقبال القلب وهو الأصل والمقصود بكلام المؤلف.
- والثاني إقبال الجوارح؛ وذلك بانقيادها لله تعالى؛
يقول الله جل وعلا: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}([8]) فذكر الله تعالى أحسن الأديان، وذكر في حسن الدين سلامة الباطن أولًا، {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ} أي: قصده وغايته ومطلوبه([9])، {للَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي: قد حقق الإحسان في العبودية لرب العالمين {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} أي: أتبع ذلك بإقبال الجوارح والعمل.
فقوله رحمه الله:
فعنوان إسعادِ الفتى في حياتِهِ***معَ اللهِ إقبالاً...
المقصود به إقبال القلب وإن كان الإقبال يكون بالقلب والجوارح، لماذا قلنا المقصود به هنا إقبال القلب؟ لأنه ذكر التعظيم؛ ولذلك قال: "إقبالاً عليه مُعَظِّما" وأصل التعظيم عمل قلبي وإن كان التعظيم يظهر على الجوارح، لكن أصله من أعمال القلوب, والتعظيم أحد ركني العبادة, لا تقوم العبادة ولا تتحقق العبودية لأحد إلا بالتعظيم الذي هو كمال الذل، فالتعظيم يقوم في القلب ويثمر كمال الذل في القلب والجوارح؛ الذل لمن؟ لله, والله تعالى قد رفع شأن تعظيمه جل وعلا، وطلب من العباد أن يعظموه، بل أنكر على المعرضين عن تعظيمه فقال جل وعلا: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}([10]) أي: تعظيمًا([11])، وقوله: {تَرْجون} أي: تخافون وتطمعون؛ لأن الرجاء هنا من الأضداد الذي يراد به المعنى وما يقابله([12]), {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} أي: ما لكم لا تخافون عظمته؟ وما لكم لا تطمعون في تعظيمه؟ وقد قال جل وعلا في بيان ما يجب من التعظيم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}([13]) سبحانه وبحمده، جل في علاه, العبد إذا امتلأ قلبه بتعظيم ربه تحققت له العبودية؛ لأن هذا التعظيم سيثمر الذل، والذل هو مفتاح العبودية؛ ولذلك جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ»([14])، وهذا تهديد ووعيد شديد يوجب أن يخلص العبد قلبه من كل علو وارتفاع وزهو، وأن يذل لله، وهذا هو السر في تواضع النبي صلى الله عليه وسلم في أعلى المواقف لما فتحت مكة وأظهره الله على خصومه الذين أخرجوه وقاتلوه وعذبوه وفعلوا به ما فعلوا كيف دخل مكة صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ دخل وقد حنى ظهره حتى إن صدره يمس ظهر راحلته ذلًّا لله وتعظيمًا في المقام الذي قد يلقي على القلب شيئًا من النشوة والارتفاع؛ فإن النصر له نشوة تكسب شيئًا من العلو والارتفاع، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بنقيض هذه الحال من الذل والخضوع لله جل وعلا حتى ينفي عن قلبه كل علو وارتفاع أو عجب وتعظيم؛ ولذلك يا إخواني هذا الأمر يجب على المؤمن أن يعتني به؛ مَن أراد سعادة قلبه وسعادته في حياته فليشتغل بزيادة تعظيم الله في قلبه، وأعظم ما يلقي في قلب العبد التعظيم أن يتأمل ما لله من الكمالات سبحانه وبحمده؛ فإن له من الكمالات ما يبهر العقول ويدهشها، له في كل شيء آية سبحانه وبحمده.
وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد([15])
والعبد إذا جال فكره في آيات الله تعالى الشرعية وما له من الكمالات في أسمائه وأفعاله وصفاته سبحانه وبحمده؛ فينبهر عقله ويندهش لبه لعظمة هذا الرب الجليل، ويعرف أنه مهما كان له من عمل ومهما كان له من بذل فهو لا يوفي الله حقه، فمهما كان من جودة العمل وإتقانه وضبطه وكثرته فإنه لا يوفي الله جل وعلا حقه؛ ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله: لو أن العبد قدم يوم القيامة على الله بأعمال الثقلين الصالحة، واحد جاء يوم القيامة وقد عمل ما عمله الخلق كلهم من الجن والإنس من الأعمال الصالحة؛ فإنه لا يفي الله تعالى حقه([16])، وهذا يبين أنه لا سبيل إلى توفية حق الله تعالى، إنما هي دلالات على صدق الإقبال على الله جل وعلا، فأعظم ما يحصل به تعظيم الله تعالى في قلب العبد أن ينظر ما لله من كمالات, والله ملأ كتابه بذكر الكمالات الموجبة لتعظيمه سبحانه وبحمده؛ من أسمائه وصفاته وأفعاله والخبر عنه، ثم بعد ذلك النظر في آياته الآفاقية والأرضية {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}([17])، يقول الله تعالى ذامًّا من أعرض عن هذه الآيات: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}([18])، وهذا الإعراض هو سبب قسوة القلوب وغفلتها وضعف التعظيم، ذكرنا الآن سببين من أسباب التعظيم:
- معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته وما له من الكمالات.
- السبب الثاني: المشاهدة والنظر في الآيات الخلقية الكونية الدالة على عظيم فضل الرب جل وعلا.
السبب الثالث: الإقبال على الله بالطاعات؛ فإن الطاعة تثمر تعظيم الرب وذلك بالقيام بالواجبات والمسارعة في الخيرات.
هذه كلها مما يلقي في قلب العبد تعظيم الرب جل وعلا، وقد ذكرت قبل قليل أن التعظيم أحد ركني العبادة؛ أليس كذلك؟ وما هو الركن الثاني؟ الركن الثاني: المحبة, فالعبادة تقوم على هذين الركنين..
وعبادة الرحمن غاية حبه... يعني منتهى الحب له جل وعلا، الغاية هنا المنتهى:
وَعِبَادةُ الرَّحْمَن غَايةُ حُبِّه *** مَعَ ذُلِّ عَابِدِه هُمَا قُطْبَانِ([19])
الذل ثمرة ماذا يا إخواني؟ عن ماذا ينشأ الذل؟ عن التعظيم, لا يكون الذل إلا للعظيم سبحانه وبحمده؛ ولذلك ينبغي أن يشتغل العبد إذا أراد السعادة بتحقيق هذين الركنين؛ لأن بهما تتحقق العبودية.
بعد هذا بيَّن المؤلف الحال المقابلة لحال السعداء وهي حال الأشقياء فقال:
وفاقدُ ذا لا شكَّ قدْ ماتَ قلبُه ***أوِ اعتلَّ بالأمراضِ كالرَّينِ والعَمَى
وهذا ما سيكون في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.