بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال رحمه الله تعالى في منظومته:
وفاقدُ ذا لا شكَّ قدْ ماتَ قلبُه*** أوِ اعتلَّ بالأمراضِ كالرَّينِ والعَمَى
وآية سُقمٍ في الجوارحِ منعها***منافعها أوْ نقصُ ذلكَ مثْلما
وصحتها تُدَرى بإتيانِ نَفْعِهَا***كنطقٍ وبطشٍ والتصرف والنَّما
وعينُ امتراضِ القلب فَقْدُ الذي له***أُرِيدَ من الإخلاصِ والحُبِّ فاعْلَما
ومعرفةُ الشوقِ إليه إنابة***بإيثارِ ذا دونَ المحباتِ فاحْكُمَا
ومؤثرُ محبوبٍ سوى اللهِ قلبُه***مريضٌ على جرف من الموتِ والعَمى
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فكنا قد وقفنا على قوله رحمه الله:
وفاقدُ ذا لا شكَّ قدْ ماتَ قلبُه... والبيت الذي قبله قال فيه المؤلف:
فعنوان إسعادِ الفتى في حياتِهِ***معَ اللهِ إقبالًا عليه مُعَظِّما
بعد هذا قال:"وفاقدُ ذا" فاقد أي: الذي عدم الشيء, فالفقد هو: عدم الشيء بعد وجوده, وبه نعلم أن الفقد أخص من العدم؛ لأن العدم هو عدم الشيء, أما الفقد فهو عدم بعد وجود([1]).
وقوله: "وفاقد ذا" ذا: اسم إشارة, وهو يشير بهذا إلى ماذا؟ إلى الإقبال المصاحب للتعظيم؛ الذي هو عنوان السعادة؛ فمن فقد تعظيم الله تعالى مات قلبه. والتعظيم هل كان موجودًا وفقده الإنسان؟ نعم, التعظيم فطر الله القلوب عليه؛ {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}([2]) لخلق الله أي: لدينه([3])، وهو ما ركزه في الفطر من عبوديته جل وعلا؛ يشهد لهذا ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ»([4])، والفطرة هي الإسلام([5])، وكذلك أوضح منه في الدلالة ما رواه الإمام مسلم من حديث عياض بن حمار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يرويه عن ربه تعالى: «خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِم» أي: صرفتهم عن الهدى والحق، «وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ»([6]), وهذا يدل على أن الأصل في الناس في الفطرة وفي القلب المحبة والتعظيم لرب العالمين؛ ولهذا عبَّر عنه المؤلف بالفقد لأنه غياب بعد وجود وعدم بعد أن كان.
"وفاقدُ ذا لا شكَّ قدْ ماتَ قلبُه"أي: لا ريب ولا امتراء؛ فالشك هو الارتياب والتردد([7])، "قدْ ماتَ قلبُه***أوِ اعتلَّ" أو هنا ليست للشك، إنما هي للتقسيم([8])، فمن فقد التعظيم أصيب بأحد أمرين: إما موت القلب وإما مرضه؛ ولذلك يقول:
..... قدْ ماتَ قلبُه***أوِ اعتلّبالأمراضِ كالرَّينِ والعَمَى
وموت القلب هو: تعطله عما فيه النفع والخير؛ لأن الموت هو ذهاب قوة الشيء في الأصل، هذا معناه في اللغة، فالميم والواو والتاء أصل يدل على ذهاب القوة من الشيء([9]), وهو يضاف إلى أشياء كثيرة وبمعان عديدة، فيضاف إلى الأرض كما قال الله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}([10]), ويضاف إلى البلد: {فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ}([11]), ويضاف إلى أشياء متنوعة، وله معانٍ مختلفة، وعليه فنفهم أن موت القلب ليس معناه عدم حركته ونبضه، بل موت القلب هو تعطله عما فيه نفعه وخلوه مما خلق لأجله، هذا موت القلب؛ تعطله عما فيه نفعه، وخلوه مما خلق من أجله، وهو قد خلق للعبودية: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}([12])، فإذا خلا القلب من هذا المعنى مات؛ ولذلك جاء في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ»([13]) والذكر حياة القلب([14])؛ لأنه يزيد من محبة الله تعالى وتعظيمه، فإذا قلَّ النصيب وغفل القلب عن ذكر الله كان ذلك من أسباب موته، حتى إذا نسي ذكر الله بالكلية هلك؛ {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ}([15]).
وهل نَسَبَ الله تعالى الموت للقلب في كتابه؟
الجواب: لا, ذكر الله تعالى مرض القلب، وذكر قسوته، وذكر أوصافًا كثيرة للقلب، لكنه لم يذكر موته في كتاب الله, إنما جاء ذكر موت القلب في كتاب الله تعالى بالإشارة وليس بالتصريح؛ وذلك في قول الله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}([16]) ثم قال بعد أن ذكر هذه الآية التي عاتب فيها المؤمنين على تأخرهم في حصول الخشية والخشوع لله جل وعلا: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}([17])، وفي هذا كما قال ابن كثير وجماعة من أهل التفسير إشارة إلى أن الله تعالى يحيي القلوب بعد قسوتها وموتها كما يحيي الأرض بعد موتها وجدبها([18])؛ فهذا إشارة إلى موت القلب وليس نصًّا. وذكر جماعة من أهل العلم أن الله لم ينسب الموت للقلب في كتابه؛ لأنه جل وعلا فتح الباب لعباده أن يعودوا إليه ويرجعوا؛ إذْ لو وُصف القلب بالموت لأيس صاحبه من الحياة، ولكن الله تعالى وصفه بالقسوة والمرض ولم ينسب إليه الموت؛ حثًّا لعباده أن يعتنوا بقلوبهم وأن يصلحوها.
قال المؤلف رحمه الله:
قدْ ماتَ قلبُه***أوِ اعتلّ ... اعتل أي: مرض من العلة، والمرض ضد الصحة، وهو العلة، والأصل في العلل إطلاقها على ما يصيب البدن مما يخرجه عن صحته, لكن أيضًا المرض يضاف إلى القلب، وهو أن يصيبه ما يخرجه عن كماله واستقامته, فالمرض القلبي هو ما يخرج به القلب عن الصحة والاستقامة والسلامة, وقد ذكر الله تعالى مرض القلب في كتابه في مواضع، وهو على أنواع، فذكر الشك ووصفه بالمرض؛ يعني أطلق مرض القلب على الشك؛ قال الله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا}([19]) في المنافقين، وهذا مرض الشك والريبة. وذكر مرض القلب أيضًا في مرض الشهوة والفجور فقال تعالى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}([20]) عُلم من هذا أن أمراض القلوب أنواع وأشكال وهي في الجملة تنقسم إلى قسمين: أمراض شهوات، وأمراض شبهات([21])؛ وأيهما أخطر وأفتك؟ لا شك أنه ما يتعلق بمرض الشبهة؛ لأن أثره أعظم من مرض الشهوة، وكلاهما خطر على القلب.
ثم بعد أن بيَّن المؤلف أن فَقْدَ تعظيم الله تعالى سبب لموت القلب أو سبب لمرضه؛ ذكر أنواعًا من البلايا التي تصيب القلب؛ فذكر الرين والعمى؛ فقال: "كالرين والعمى", والرين مأخوذ من قول الله جل وعلا: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)} ثم قال: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}([22]) وأتيت بالآيات من أولها لبيان أن الرين موت للقلب؛ لأن الله نسبه إلى أهل الكفر المكذبين، فهو من أغلظ الطبقات التي تغشى القلب، والطبقات التي تغشى القلب طبقات أشدها الرين الذي نسبه الله تعالى للكافرين, لكن هناك طبقات تغشى قلوب المؤمنين منها؛ الغَيْن الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح الإمام مسلم: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ، فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ»([23]), وهذا يدل على أنه تصيب قلب المؤمن طبقة تحجب عنه كمال الاطمئنان والانشراح والسعادة؛ وهي طبقة الغين؛ وهي أرق الطبقات التي تغشى القلب, الغين أرق الطبقات التي تغشى القلب, والرين أغلظ الطبقات التي تغشى القلب؛ وبينهما طباق, وما الذي يكوِّن هذه الطبقات؟ المعاصي بشتى صنوفها؛ ترك الواجبات وفعل المحرمات والغفلة، وهي أعظم ما يصيب القلب بالطبقات التي تحجب عنه الخير والبر والسلامة والحياة.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله صورةً أخرى من صور الأمراض التي تصيب القلب (العمى) وقد أضاف الله تعالى العمى إلى القلب فقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}([24]) فأضاف العمى إلى القلب بعد أن نفى أن يكون العمى هو عمى البصر, يعني العمى الذي تحصل به المضرة الفادحة والكارثة الكبرى هو عمى القلوب لا عمى الأبصار.
يقول رحمه الله:"أوِ اعتلّ بالأمراضِ كالرَّينِ والعَمَى" وفيه أن ترك التعظيم سبب للهلاك، فبقدر ما ينقص تعظيمك لله تعالى بقدر ما ينقص إجلالك لله سبحانه وبحمده ينطمس قلبك ويُبلى بموت أو مرض، وذكر المؤلف نماذج من الأمراض ولم يستوعب.
ثم قال رحمه الله في بيان مرض القلب؛ كيف يكون القلب مريضًا؟ مثَّل في تعريف المرض بما يدركه الإنسان في الأشياء المشاهدة, مرض القلب مرض حسي أو معنوي؟ مرض معنوي, إدراك المعاني أو الأمور المعنوية من المناسب في تقريبها للذهن أن تمثَّل بما يشبهها من المعاني الحسية, أمراض الأبدان كل الناس يعرفونها؛ فالمشلول يشاهد، من فيه حرارة يشاهد، من فيه مرض في جلده أو في بدنه يشاهد؛ ولذلك قال المؤلف في تعريف مرض القلب وتقريبه:
وآية سُقمٍ في الجوارحِ منعها*** منافعها أوْ نقصُ ذلكَ مثلما
"وآية"يعني علامة "سُقمٍ" السقم يعني المرض "في الجوارح" يعني في البدن "منعها" وهو على صورتين: "منعها منافعها" هذه الصورة الأولى، وهو أعلى ما يكون من الأمراض أن تتعطل الجارحة عن النفع, فمثلًا إذا أصاب اليد شلل هذا مرض أو ليس مرضًا؟ هذا المرض يمنعها منافعها بالكلية أو ينقص؟ يمنعها بالكلية، لا تتحرك، مشلولة، لكن لو أن اليد كسرت مثلًا من المرفق وأصبحت حركتها ضعيفة، ولا يستطيع أن ينتفع بها انتفاعًا كاملًا؛هنا المنفعة نقصت أو زالت؟ نقصت, هذا مرض أو ليس مرضًا؟ هذا مرض، إذًا آية الأمراض في الأبدان هي أن تتعطل منافعها أو أن تنقص، كذلك أمراض القلوب؛ ولذلك يقول المؤلف:
وآية سُقمٍ في الجوارحِ منعها***منافعها أوْ نقصُ ذلكَ مثْلما
أي: مثلما تمنع؛ فـ"مثلما" يعني مثل الذي تقدم في المنع.
ثم لما ذكر المرض ذكر علامة الصحة فقال:
"وصحتها تُدَرى بإتيانِ نَفْعِهَا"أي: تُعلم صحة الأبدان بتحقق المنفعة منها؛ فصحة اللسان ماذا؟ النطق؛ ولذلك قال:
"كنطقٍ وبطشٍ والتصرف والنَّما"؛ النطق للسان، والبطش أي: الحركة والذهاب والإياب، ليس المقصود بالبطش الغشم والظلم، لا، المقصود بالبطش الحركة والانتفاع بسائر صنوفها.
"كنطقٍ وبطشٍ والتصرف"أي: عمل ما يشاء الإنسان بهذه الجوارح.
قال: "والنَّما" يعني : الزيادة؛ فإن هذا علامة نفعها وعلامة صحتها؛ أن تأتي بمنافعها.
ثم رجع المؤلف إلى مقصوده، وهو ذكر ما هي أمراض القلوب؟ ما حقيقة مرض القلب؟
قال رحمه الله:"وعينُ امتراضِ القلب" بعد أن ذكر المثال المشاهد والأمر الحسي انتقل إلى بيان المعنى المعنوي؛ وهو مرض القلب؛ قال رحمه الله:
وعينُ امتراضِ القلب فَقْدُ الذي له***أُرِيدَ من الإخلاصِ والحُبِّ فاعْلَما
هذا تعريف المؤلف لأمراض القلوب، هذا تعريف جامع؛ فمرض القلب هو فقده لما خلق من أجله، وهو قد خُلق لأجل تحقيق العبودية لله تعالى، وهذا كله استطراد في السبب الثاني من أسباب حياة القلب, ما هو السبب الثاني من أسباب حياة القلب الذي ذكره المؤلف؟ تعظيم الله جل وعلا.
المؤلف ذكر سببين:
- السبب الأول: تدبر الكتاب والسنة.
- والسبب الثاني: الإقبال على الله تعالى بالتعظيم.
ثم ذكر آثار فقد التعظيم من الموت والمرض، ثم بعد ذلك عرَّف المرض وبين هذا المرض حتى يدركه الإنسان؛ لأن الواحد قد يقول: ما معنى مرض القلب؟ هذا قلبه قوي كقول بعض الكافرين في بعض ما حرم عليهم: أنا أشرب الخمر وآكل الخنزير وبدني أقوى من أبدانكم. قاله بعضهم، لكن هذا غفل عن ماذا؟ عما تسببه تلك الآفات من مرض أعظم من مرض البدن وهو مرض القلب.
ثم بعد هذا ذكر المؤلف رحمه الله السبب الثالث من أسباب حياة القلب وصلاحه، وهو محبة الله تعالى فقال:
ومعرفةُ الشوقِ إليه إنابة ***بإيثارِ ذا دونَ المحباتِ فاحْكُمَا
ومؤثرُ محبوبٍ سوى اللهِ قلبُه *** مريضٌ على جرف من الموتِ والعَمى
هذا هو السبب الثالث من أسباب حياة القلب الذي ذكره المؤلف رحمه الله في هذا النظم، وهو محبة الله تعالى, ومحبة الله تعالى لها شأن عظيم ومنزلة كبرى، وهي سر العبودية، الله جل وعلا ذكر فيما ذكر من صور الشرك في أول صورة المحبة؛ قال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}([25]) فمحبة الله تعالى هي مفتاح العبودية، بقدر ما مع العبد من محبة الله بقدر ما يكون معه من العبودية، زاد في المحبة زاد في تحقيق العبودية، نقص في المحبة نقص في تحقيق العبودية؛ ولأجل أن تتأكد من هذا المعنى استمع إلى ما في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ» ذاق طعمه، هذا الطعم لا يذاق باللسان، لكنه يذاق بالقلب؛ انشراح وطمأنينة ولذة وبهجة؛ «أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا» هذه الخصلة الأولى من الثلاث، الثانية: «أَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّه» هذا فرع عن الأول؛ لأنك تحب الله فتحب من يحبهم الله، الثالثة: «أَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ، بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ، مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّار»([26]) وهذا من تمام المحبة؛ أن تكره ما يكرهه الله، فدارت هذه الخصال كلها على رحا واحدة؛ وهي محبة الله جل وعلا، وبه يتبين شريف هذا المقام وعلو هذه المنزلة، وأنها منزلة عليا كبرى لمن تحققت له.
نسأل الله أن يرزقنا محبته، وأن يحشرنا في زمرة أوليائه، وأن يملأ قلوبنا بمحبته وتعظيمه.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.