×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis
الدرس(6) أسباب حياة القلوب
00:00:01

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. قال رحمه الله تعالى في منظومته: وآية ذا هون القبائح عنده*** ولولاه أضحى نادما متألما فجامع أمراض القلوب اتباعها ***هواها فخالفها تصح وتسلما ومن شؤمه ترك اغتذاء بنافع *** وترك الدوا الشافي وعجز كلاهما إذا صح قلب العبد بان ارتحاله***إلى داره الأخرى فراح مسلما ومن ذاك إحساس المحب لقلبه ***بضرب وتحريك إلى الله دائما إلى أن يهنا بالإنابة مخبتا ***فيسكن في ذا مطمئنا منعما وفيها دوام الذكر في كل حالة *** يرى الأنس بالطاعات لله مغنما ويصحب حرا دله في طريقه ***وكان معينا ناصحا متيمما ومنها إذا ما فاته الورد مرة      ***       تراه كئيبا نادما متألما الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فكنا قد وقفنا على قول المؤلف رحمه الله: "وآية ذا هون القبائح عنده"هذا البيت متصل بالبيت الذي قبله؛ فالبيت الذي قبله قال فيه: وأعظم محذور خفى موت قلبه ***عليه تشغل عن دواه بضد ما "تشغل عن دواه"أي: عن علاجه"بضد ما" أي: بضد ذلك، وهو بالآفات المهلكة. بعد أن فرغ من بيان عظيم خطر موت القلب، ذكر جملة من العلامات الدالة على موته فقال رحمه الله: "وآية ذا" أي: علامة هذا الموت فذا المشار إليه من موت القلب في البيت السابق، اسم الإشارة يعود إلى الموت في البيت السابق. "هون القبائح عنده" هونمأخوذ من الاستهانة من هان الشيء، وهو يدور على معنى السهولة([1])؛ أي: تسهل عنده القبائح, والقبائح جمع قبيحة وهي كل ما يعاب ويكره سواء كان ذلك في الصورة أو الفعل؛ فالقبح يطلق على الصورة، ويطلق على الفعل([2])، فإذا هان على العبد القبائح وسهلت عليه المعاصي والذنوب كان هذا دليلا على موت قلبه؛ لأن القلب إذا مات أصبح غير منفعل لما يصيبه من المهلكات كما قال الشاعر: ...*** وما لجرح بميت إيلام([3]) فالميت مهما توالت عليه النصال وتعاقبت عليه الجروح لا تؤثر فيه ألما، فكذلك القلب الميت؛ إذا مات هانت عليه المعاصي وسهلت وأصبحت لا تؤثر فيه ولا يحس لها ألما؛ ولذلك يقول: وآية ذا هون القبائح عنده*** ولولاه... يعني لولا موت القلب "أضحى" يعني صار، "نادما متألما" أي: نادما، والندم: هو التحسر على ما فاته مما يحب ويفرح به([4])، "متألما" أي: متوجعا، فهذه حال القلب الحي: الألم والتوجع والندم إذا ألم بمعصية ووقع في مخالفة، فإذا مات القلب انعدم إحساسه، وأصبحت الذنوب تتوالى عليه وتتعاقب دون أن تؤثر فيه ألما أو ندما. وهذه من العلامات التي يجب أن يفتش عنها الإنسان في نفسه، فإذا كان يأتي الذنب تلو الذنب ويأخذ بالسيئة تلو السيئة ولا يجد لذلك ألما في قلبه ولا أثرا في عمله؛ فليعلم أنه على خطر عظيم، ويوشك أن يهلك. قال رحمه الله: فجامع أمراض القلوب اتباعها ***... بعد أن ذكر الموت عاد لبيان المرض؛ وذلك لأن المرض هو ثاني أقسام أحوال القلب؛ فالقلب إما أن يكون ميتا قاسيا يابسا غير منفعل، وإما أن يكون مريضا أصابته العلل، فما هو جماع أمراض القلوب؟ يعني ما الذي يختصر لك أسباب المرض في القلب؟ يقول رحمه الله: فجامع أمراض القلوب اتباعها *** هواها... فاتباع الهوى أعظم الآفات التي تصيب القلب، والهوى في اللغة يدل على معنى الخلو أو السقوط، يدور على هذين المعنيين، فإذا خلى الشيء يوصف بأنه هوى؛ ولذلك يسمى ما بين السموات والأرض هواء لخلوه، وقال الله تعالى: {وأفئدتهم هواء}([5]) أي: خالية فارغة. ويأتي بمعنى السقوط، وهو الخرور من علو إلى سفل([6]). ومقصود المؤلف بالهوى هنا هو: ميل النفس إلى ما يضرها، وليس مطلق الميل، إنما هو ميل النفس إلى ما فيه ضررها([7])، وقد جاء التحذير من اتباع الهوى في القرآن الكريم في مواضع عديدة؛ فقال جل وعلا: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله}([8])، وقال سبحانه وتعالى: {فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا}([9])، ونفى عن رسوله الهوى فقال: {وما ينطق عن الهوى} ([10])، وجعل سبيل الكفار اتباع الهوى فقال: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس}([11])، بل رتب الله تعالى على مخالفة الهوى الأجر العظيم والثواب الكبير والفوز بالجنة؛ فقال سبحانه وتعالى: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى (40) فإن الجنة هي المأوى}([12])؛ إذ "الهوى هو الشارع الأكبر إلى النار" كذا قال ابن القيم؛ الهوى هو الشارع يعني الطريق الأكبر الموصل إلى النار، "ومخالفة الهوى هو الشارع الأعظم إلى الجنة" وهذا من كلام ابن القيم في روضة المحبين رحمه الله([13])، وبه يتبين خطورة اتباع الإنسان لهواه؛ فإنه إذا اتبع هواه كان ذلك مؤذنا بموت قبله؛ ولذلك قال: فجامع أمراض القلوب اتباعها ***هواها.. ثم قال: فخالفها خالف ماذا؟ خالف هواها تصح وتسلما أي: تصح من الأمراض وتسلم من الآفات. وإذا أفاق القلب واندمل الهوى *** رأت القلوب ولم تر الأبصار([14]) "إذا أفاق القلب واندمل الهوى" أي: انزاح وزال، "رأت القلوب" أبصرت القلوب، "ولم تر الأبصار" يعني أصبحت الرؤية للقلب لا للبصر، ورؤية القلب هي التي يميز بها الإنسان الحق من الباطل، ويرى بها الهدى من الضلال؛ يقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا}([15])، وهذا الفرقان نتاج صلاح القلب واستقامته وبعده عن الهوى ومخالفته. وأعظم ما يفسد الأديان اتباع الأهواء؛ ولهذا اختصر المؤلف رحمه الله الأمر في مرض القلب بأنه اتباع هواها، والله تعالى قد بين عاقبة اتباع الهوى فقال جل وعلا: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله}، وليس هناك إلا حق أو هوى, الحق ما جاءت به الرسل والهوى ما خالف الكتاب والسنة. ثم قال رحمه الله: "ومن شؤمه" الضمير يعود إلى ماذا؟ إلى اتباع الهوى. ومن شؤمه ترك اغتذاء بنافع ***وترك الدوا الشافي وعجز كلاهما من شؤم الهوى أن يحول بينك وبين ما ينفعك من صلاح قلبك واستقامته، فكل مما هو غذاء للقلب مما ينفع ويصلح يحول بينك وبينه الهوى، هذا من شؤمه، والحيلولة تكون بسببين؛ يعني منع الهوى الإنسان مما يصلح قلبه من طريقين:  أولا: أن يحجز بينه وبين ما يصلح قلبه؛ وذلك بمنعه من كل ما يطيب به القلب من الأعمال الصالحة، هذا هو الأمر الأول. الأمر الثاني: أن الهوى قيد إذا استحكم منع الإنسان من السير، فكان الإنسان عاجزا عن بلوغ ما يريد ويصبو إليه من الخير. إذا الهوى يحول بينك وبين ما يصلح قلبك من الأعمال الصالحة, وأيضا توالي الهوى واستحكامه يصيبك بالعجز عن إدراك ما تؤمل من الخير؛ لأن الناس يقعدون عن الخيرات إما لقصور أو تقصير؛ إما أن يكون هناك قصور، والقصور هذا كسبي أو خارج عن كسب الإنسان؟ هذا في الأصل أنه خارج عن كسب الإنسان، ليس في قدرته أن يبلغ ما يريد، تقصر قدرته عن أن يدرك ما يؤمل. والثاني: تقصير وهو أن يقعد عما يستطيع من الخير؛ ولذلك جاء الاستعاذة بالله تعالى من العجز والكسل([16])، العجز قصور والكسل تقصير، والهوى يصيب الإنسان بالآفتين؛ يصيبه بالكسل ويصيبه بالعجز؛ بالكسل فيمنعه مما يغذي قلبه؛ فيجد في نفسه ضعفا عن أن يقوم بما فيه الخير والصلاح، وأما العجز فهو يقعده ويحجزه حجزا تاما عن أن يدرك الخير؛ ولذلك قال: "ومن شؤمه" أي: ومن سوء عاقبته وسوء نتيجته: ترك اغتذاء بنافع ***وترك الدوا الشافي وعجز كلاهما أي العجز عن الاغتذاء بالنافع والأخذ بالدواء الشافي، والقلب يحتاج إلى هذين الأمرين, يحتاج إلى ما يطهره، ويحتاج إلى ما يقويه وينشطه؛ فالغذاء هو الأعمال الصالحة بشتى صنوفها وألوانها، والدواء هو الاستغفار والتوبة إلى العزيز الغفار؛ فإنها أعظم ما يداوى به القلب ويطهر من الأرجاس والأنجاس والأقذار التي تعلق به أن يتوب وأن يستغفر. يقول رحمه الله بعد هذا: إذا صح قلب العبد... هذا القسم الثالث من أقسام القلوب وهو القلب الصحيح الذي نسأل الله أن يمن علينا به وأن يرزقنا إياه، وهو القلب السليم الذي إذا قدم به العبد على الله تعالى كان من الفائزين.  إذا صح قلب العبد بان ارتحاله ***... الآن يذكر المؤلف جملة من علامات القلب الصحيح السليم، وصحة القلب هي استقامته على ما يحب الله تعالى ويرضاه؛ هذا هو القلب الصحيح السليم؛ أن يكون مستقيما على ما يحبه الله تعالى ويرضاه, وهذه الاستقامة تثمر ثمارا ظاهرة وباطنة، ولها آثار ظاهرة وباطنة، المؤلف يذكر جملة من علامات القلب الصحيح؛ يقول: إذا صح قلب العبد بان ارتحاله***إلى داره الأخرى فراح مسلما إذا أول دلائل صحة القلب وسلامته أن يكون مرتحلا إلى الله تعالى متعلقا بالدار الآخرة، هذه أول علامات صحة القلب؛ فالقلب الذي ارتحل عن هذه الدنيا وزخرفها وتعلق بالآخرة؛ فكان همه ما يسعده ويبيض وجهه بين يدي الله تعالى فهو القلب الصحيح, والارتحال إلى الدار الآخرة لا يعني أن ينقطع الإنسان عن مصالح الدنيا، إنما المقصود أن يكون همه الآخرة؛ فإنه من كان همه الآخرة جمع الله تعالى عليه أمره وأتته الدنيا وهي راغمة، وقد تكون الدنيا على عظيم ما فيها في يد الإنسان، وهذا لا ينافي أن يكون همه الآخرة، فلا يتعارض بين تيسر الدنيا في يد الإنسان وبين أن يكون قلبه معلقا بالآخرة. وقوله رحمه الله:"إلى داره الأخرى.." المقصود به الدار التي تكون بعد الموت، وهي اليوم الآخر، فاليوم الآخر يبتدئ من موت الإنسان، فيشمل دار البرزخ ودار الآخرة يوم القيامة. يقول: "فراح مسلما" أي: معرضا عن الدنيا غير متعلق بها. ثم ذكر علامة أخرى فقال: "ومن ذاك" أي: ومن علامة صحة قلبه ذاك إشارة إلى علامات صحة القلب.  ومن ذاك إحساس المحب لقلبه ***بضرب وتحريك إلى الله دائما "من ذاك" أي: من علامات صحة القلب أن يحس من قلبه انجذابا هذا معنى قوله:"بضرب وتحريك إلى الله دائما" أي: انجذاب إلى الله تعالى لا ينقطع، بل هو منجذب إلى الله جل وعلا ليلا ونهارا يسعى في مراضيه، ويطلب محابه، يجتهد في اجتناب كل ما يبغضه ويسخطه, ثم قال رحمه الله: "إلى أن يهنا بالإنابة مخبتا" أي: هذا عمله، وهو انجذاب قلبه إلى ربه إلى أن يفوز بهاتين الصفتين، "إلى أن يهنا" أي: يفوز ويظفر وتجيئه التهنئة ليهنأ بأمرين؛ ما هما الأمران؟ الإنابة والإخبات؛ فهل هما شيء واحد؟ الجواب: لا، بل هما شيئان, الإنابة حقيقتها عكوف القلب على المحبوب([17])، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا فيما مضى، أن يلزم القلب محاب الله تعالى. والإخبات بينه الله تعالى في قوله: {وبشر المخبتين (34) الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون}([18])؛ فذكر الله تعالى أربع علامات للإخبات، وهو الخضوع والخشوع والذل لله جل وعلا؛ {الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} خافت([19])، الوجل هو الخوف المقرون بالهيبة والتعظيم، {وجلت قلوبهم  والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} وهذه الصفات فيها تمام الخضوع والانقياد، وهو يدل على أن الإنابة عمل قلبي والإخبات ثمرته، فهو جماع لعمل القلب وعمل الجوارح؛ إذ إنه مبني على الخوف والمحبة لله تعالى والإقبال على مراضيه جل وعلا والإحسان إلى الخلق؛ هذه الأربعة أمور هي التي يتحقق بها الإخبات؛ ولذلك يقول المؤلف: إلى أن يهنا بالإنابة مخبتا  ***فيسكن في ذا مطمئنا منعما "يسكن في ذا"أي: يستقر "في ذا" إشارة إلى ماذا؟ إلى هذه الدنيا فيما يظهر, "في ذا" إما أن يكون هذا اسم إشارة إلى أنه يستقر على هذه الحال، وإما أن يكون هذا إشارة إلى الدنيا؛ أي أنه يكون في هذه الدنيا على هذه الحال، "مطمئنا منعما"مطمئن القلب منشرح الصدر و"منعما" أي: ذائقا نعيما لا يدركه أحد من أهل الدنيا إلا من سلك هذا الطريق، فتكون هذه جنة الدنيا التي هي مفتاح جنة الآخرة؛ ولذلك قال جماعة من السلف: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة"([20]) هذه الجنة هي نعيم القلب وسروره وابتهاجه ولذته وطمأنينته وسكونه لله جل وعلا. يقول المؤلف رحمه الله: ومنها دوام الذكر في كل حالة ***... "ومنها" أي: من علامات صحة القلب؛ عاد إلى ذكر العلامات، الآن كم ذكر من علامات؟ ذكر علامتين؛ الارتحال إلى الدار الآخرة، والثانية: المحبة، والثالثة: دوام الذكر:  ومنها دوام الذكر في كل حالة ***يرى الأنس بالطاعات لله مغنما أي: من علامات صحة القلب أن يشتغل الإنسان بذكر الله تعالى، والذكر هو من أجل العبادات وأرفع القربات، يشمل ذكر القلب واللسان والجوارح؛ فالذكر ليس فقط أن يتمتم اللسان بأشياء غاب قلبه عنها وتعطلت جوارحه منها، بل الذكر التام الكامل هو ما وافق فيه القلب اللسان، ووافقت الجوارح فيه القلب. وقوله:"ومنها دوام الذكر في كل حالة" وهذا لا يمكن أن يكون إلا إذا اجتمعت الأنواع الثلاثة، يعني لا يتحقق للإنسان أنه ذاكر لله تعالى في كل حال إلا إذا كان ذاكرا بقلبه وبلسانه وبجوارحه، وهذه الصفة هي صفة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ففي الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه»([21])، والذكر له تأثير على القلب عظيم، فهو من أعظم ما يزكي القلب ويطهره؛ ولذلك بين الله تعالى أثره فقال: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}([22])، وقال جل وعلا في عقوبة المعرضين عن ذكره وبيان أثر هذا على القلب: {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله}([23]) فبين أثره من حيث التطييب وأثر الذكر من حيث التعذيب: {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله}. قال رحمه الله: "يرى الأنس بالطاعات لله مغنما" هذا الذي كان على هذه الحال من صحة القلب، يرى أن الغنيمة هي الانشراح بطاعة الله؛"يرى الأنس بالطاعات" أي: الانشراح بها "مغنما" أي: مربحا يغنم ويربح ويستفاد؛ فالمغنم هو ما استفيد من المال من دون كسب سابق. ثم قال: ويصحب حرا دله في طريقه ***وكان معينا ناصحا متيمما أيضا من علامة سلامة القلب الصحبة الصالحة. والمؤلف قد أعطى ضابطا للصاحب الصالح الذي ينتخب ليسلم القلب من آفات الصحبة السيئة؛"ويصحب حرا" الحر هنا المقصود به المتحرر من السوء والشر، وليس المقصود به ضد القن، لكن الحرية دليل الكمال، والمقصود به المخلص كقولك: ذهب حر أي: مخلص من الغش، فصاحب حر أي: أنه مخلص من الغش كامل النصح، "ويصحب حرا دله في طريقه" أي: أعانه في الدلالة على الله تعالى، دله دلالة إرشاد، و"طريقه" أي: في طريقه الذي يسير فيه إلى الله تعالى، "وكان معينا ناصحا متيمما" فجمع هذه الأوصاف أنه يدله في طريقه إلى الخير، ثم هو يعينه على هذا الخير، وهذه الإعانة قد بذل فيها جهده؛ ولذلك قال: "ناصحا" والنصح هنا غير النصح السابق؛ فالنصح السابق في الدلالة والنصح الذي ذكره لاحقا في الإعانة؛ فكمل نصحه في الدلالة والإعانة، فمن الناس من يدلك ناصحا؛ يقول لك: الطريق من هذا السبيل. تذهب يمينا يسارا بتفصيل دقيق، لكن لو أنه صاحبك ورافقك في طريقك وقال لك: يمين.. يسار.. توقف.. انتبه.. كان هذا دلالة وإعانة، كان هذا نصحا في الدلالة ونصحا في الإعانة، والمؤلف جمع بينهما فقال: ويصحب حرا  دله في طريقه*** وكان معينا ناصحا متيمما أي: غير مشتغل ببنيات الطريق، أي: سالكا الطريق من غير اشتغال بالتوافه والشواغل؛ وذلك أن الشواغل التي تعترض الناس في طريقهم إلى الله كثيرة، ولو أن الإنسان وقف عند كل مشغل من هذه الشواغل واشتغل به أعاقه هذا عن سيره إلى الله تعالى؛ فلذلك من تمام سلامة السير أن تصحب من يكون قاصدا في سيره، غير متوان ولا ملتفت يمنة ويسرة. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

المشاهدات:3575

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

قال رحمه الله تعالى في منظومته:

وآية ذا هونُ القبائحِ عندَه*** ولولاه أضْحى نادمًا متألما
فجامعُ أمراضِ القلوبِ اتباعُها ***هواها فخالِفْها تصحّ وتسْلَمَا
ومن شؤمهِ تركُ اغتذاءٍ بنافعٍ
 *** وترك الدوا الشافي وعجز كلاهما
إذا صحَّ قلبُ العبدِ بانَ ارتحالُه***إلى دارهِ الأخرى فراحَ مُسَلِّما
ومِنْ ذاك إحساسُ المحبِّ لقلبهِ
 ***بضربٍ وتحريكٍ إلى اللهِ دائما
إلى أن يُهنَّا بالإنابةِ مُخبتا ***فيسكن في ذا مطمئنا منعَّما
وفيها دوامُ الذكرِ في كلِّ حالةٍ *** يَرَى الأنسَ بالطاعاتِ لله مغْنما
ويصحبُ حرًّا دلَّه في طريقِهِ ***وكانَ مُعينًا ناصحًا متيمّما
ومـنها إذا ما فـاتَه الـوِرْدُ مـرةً      ***       تَـرَاهُ كئيـبًا نادمـًا متألمــــــــــــا

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فكنا قد وقفنا على قول المؤلف رحمه الله:

"وآية ذا هونُ القبائحِ عندَه"هذا البيت متصل بالبيت الذي قبله؛ فالبيت الذي قبله قال فيه:

وأعظم محذورٍ خَفَى موتُ قلبه ***عليه تَشغَّل عن دواه بضدِّ ما
"تَشغَّل عن دواه"
أي: عن علاجه"بضدِّ ما" أي: بضد ذلك، وهو بالآفات المهلكة.

بعد أن فرغ من بيان عظيم خطر موت القلب، ذكر جملة من العلامات الدالة على موته فقال رحمه الله: "وآية ذا" أي: علامة هذا الموت فذا المشار إليه من موت القلب في البيت السابق، اسم الإشارة يعود إلى الموت في البيت السابق.

"هونُ القبائحِ عندَه" هونمأخوذ من الاستهانة من هان الشيء، وهو يدور على معنى السهولة([1])؛ أي: تَسْهُل عنده القبائح, والقبائح جمع قبيحة وهي كل ما يعاب ويكره سواء كان ذلك في الصورة أو الفعل؛ فالقبح يطلق على الصورة، ويطلق على الفعل([2])، فإذا هان على العبد القبائح وسهلت عليه المعاصي والذنوب كان هذا دليلًا على موت قلبه؛ لأن القلب إذا مات أصبح غير منفعل لما يصيبه من المهلكات كما قال الشاعر:

...*** وما لجرح بميت إيلام([3])

فالميت مهما توالت عليه النصال وتعاقبت عليه الجروح لا تؤثر فيه ألمًا، فكذلك القلب الميت؛ إذا مات هانت عليه المعاصي وسهلت وأصبحت لا تؤثر فيه ولا يحس لها ألمًا؛ ولذلك يقول:

وآية ذا هونُ القبائحِ عندَه*** ولولاه...

يعني لولا موت القلب "أضْحى" يعني صار، "نادمًا متألمًا" أي: نادمًا، والندم: هو التحسر على ما فاته مما يحب ويفرح به([4])، "متألمًا" أي: متوجعًا، فهذه حال القلب الحي: الألم والتوجع والندم إذا ألمَّ بمعصية ووقع في مخالفة، فإذا مات القلب انعدم إحساسه، وأصبحت الذنوب تتوالى عليه وتتعاقب دون أن تؤثر فيه ألمًا أو ندمًا. وهذه من العلامات التي يجب أن يفتش عنها الإنسان في نفسه، فإذا كان يأتي الذنب تلو الذنب ويأخذ بالسيئة تلو السيئة ولا يجد لذلك ألمًا في قلبه ولا أثرًا في عمله؛ فليعلم أنه على خطر عظيم، ويوشك أن يهلك.

قال رحمه الله:

فجامعُ أمراضِ القلوبِ اتباعُها ***...

بعد أن ذكر الموت عاد لبيان المرض؛ وذلك لأن المرض هو ثاني أقسام أحوال القلب؛ فالقلب إما أن يكون ميتًا قاسيًا يابسًا غير منفعل، وإما أن يكون مريضًا أصابته العلل، فما هو جماع أمراض القلوب؟ يعني ما الذي يختصر لك أسباب المرض في القلب؟

يقول رحمه الله:

فجامعُ أمراضِ القلوبِ اتباعُها *** هواها...

فاتباع الهوى أعظم الآفات التي تصيب القلب، والهوى في اللغة يدل على معنى الخلو أو السقوط، يدور على هذين المعنيين، فإذا خلى الشيء يوصف بأنه هوى؛ ولذلك يسمى ما بين السموات والأرض هواء لخلوه، وقال الله تعالى: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ}([5]) أي: خالية فارغة. ويأتي بمعنى السقوط، وهو الخرور من علو إلى سفل([6]). ومقصود المؤلف بالهوى هنا هو: ميل النفس إلى ما يضرها، وليس مطلق الميل، إنما هو ميل النفس إلى ما فيه ضررها([7])، وقد جاء التحذير من اتباع الهوى في القرآن الكريم في مواضع عديدة؛ فقال جل وعلا: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}([8])، وقال سبحانه وتعالى: {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا}([9])، ونفى عن رسوله الهوى فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} ([10])، وجعل سبيل الكفار اتباع الهوى فقال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ}([11])، بل رتب الله تعالى على مخالفة الهوى الأجر العظيم والثواب الكبير والفوز بالجنة؛ فقال سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}([12])؛ إذ "الهوى هو الشارع الأكبر إلى النار" كذا قال ابن القيم؛ الهوى هو الشارع يعني الطريق الأكبر الموصل إلى النار، "ومخالفة الهوى هو الشارع الأعظم إلى الجنة" وهذا من كلام ابن القيم في روضة المحبين رحمه الله([13])، وبه يتبين خطورة اتباع الإنسان لهواه؛ فإنه إذا اتبع هواه كان ذلك مؤذنًا بموت قبله؛ ولذلك قال:

فجامعُ أمراضِ القلوبِ اتباعُها ***هواها..

ثم قال: فخالِفْها خالف ماذا؟ خالف هواها تصحّ وتسْلَمَا أي: تصح من الأمراض وتسلم من الآفات.

وَإِذَا أَفَاقَ الْقَلْبُ وَانْدَمَلَ الْهَوَى *** رَأَتِ الْقُلُوبُ وَلَمْ تَرَ الْأَبْصَارُ([14])
"إذا أفاق القلب واندمل الهوى" أي: انزاح وزال، "رأت القلوب" أبصرت القلوب، "ولم تر الأبصار" يعني أصبحت الرؤية للقلب لا للبصر، ورؤية القلب هي التي يميز بها الإنسان الحق من الباطل، ويرى بها الهدى من الضلال؛ يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}([15])، وهذا الفرقان نتاج صلاح القلب واستقامته وبُعْده عن الهوى ومخالفته. وأعظم ما يفسد الأديان اتباع الأهواء؛ ولهذا اختصر المؤلف رحمه الله الأمر في مرض القلب بأنه اتباع هواها، والله تعالى قد بيَّن عاقبة اتباع الهوى فقال جل وعلا: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّك عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، وليس هناك إلا حق أو هوى, الحق ما جاءت به الرسل والهوى ما خالف الكتاب والسنة.

ثم قال رحمه الله: "ومن شؤمهِ" الضمير يعود إلى ماذا؟ إلى اتباع الهوى.

ومن شؤمهِ تركُ اغتذاءٍ بنافعٍ ***وترك الدوا الشافي وعجز كلاهما
من شؤم الهوى أن يحول بينك وبين ما ينفعك من صلاح قلبك واستقامته، فكل مما هو غذاء للقلب مما ينفع ويصلح يحول بينك وبينه الهوى، هذا من شؤمه، والحيلولة تكون بسببين؛ يعني منع الهوى الإنسانَ مما يصلح قلبه من طريقين:

 أولًا: أن يحجز بينه وبين ما يصلح قلبه؛ وذلك بمنعه من كل ما يطيب به القلب من الأعمال الصالحة، هذا هو الأمر الأول.

الأمر الثاني: أن الهوى قيدٌ إذا استحكم منع الإنسان من السير، فكان الإنسان عاجزًا عن بلوغ ما يريد ويصبو إليه من الخير. إذًا الهوى يحول بينك وبين ما يصلح قلبك من الأعمال الصالحة, وأيضًا توالي الهوى واستحكامه يصيبك بالعجز عن إدراك ما تُؤمِّل من الخير؛ لأن الناس يقعدون عن الخيرات إما لقصور أو تقصير؛ إما أن يكون هناك قصور، والقصور هذا كسبي أو خارج عن كسب الإنسان؟ هذا في الأصل أنه خارج عن كسب الإنسان، ليس في قدرته أن يبلغ ما يريد، تقصر قدرته عن أن يدرك ما يؤمل. والثاني: تقصير وهو أن يقعد عما يستطيع من الخير؛ ولذلك جاء الاستعاذة بالله تعالى من العجز والكسل([16])، العجز قصور والكسل تقصير، والهوى يصيب الإنسان بالآفتين؛ يصيبه بالكسل ويصيبه بالعجز؛ بالكسل فيمنعه مما يغذي قلبه؛ فيجد في نفسه ضعفًا عن أن يقوم بما فيه الخير والصلاح، وأما العجز فهو يقعده ويحجزه حجزًا تامًّا عن أن يدرك الخير؛ ولذلك قال: "ومن شؤمه" أي: ومن سوء عاقبته وسوء نتيجته:

تركُ اغتذاءٍ بنافعٍ ***وترك الدوا الشافي وعجز كلاهما

أي العجز عن الاغتذاء بالنافع والأخذ بالدواء الشافي، والقلب يحتاج إلى هذين الأمرين, يحتاج إلى ما يطهره، ويحتاج إلى ما يقويه وينشطه؛ فالغذاء هو الأعمال الصالحة بشتى صنوفها وألوانها، والدواء هو الاستغفار والتوبة إلى العزيز الغفار؛ فإنها أعظم ما يداوى به القلب ويطهر من الأرجاس والأنجاس والأقذار التي تعلق به أن يتوب وأن يستغفر.

يقول رحمه الله بعد هذا:

إذا صحَّ قلبُ العبدِ...

هذا القسم الثالث من أقسام القلوب وهو القلب الصحيح الذي نسأل الله أن يمن علينا به وأن يرزقنا إياه، وهو القلب السليم الذي إذا قدم به العبد على الله تعالى كان من الفائزين.

 إذا صحَّ قلبُ العبدِ بانَ ارتحالُه ***...

الآن يذكر المؤلف جملة من علامات القلب الصحيح السليم، وصحة القلب هي استقامته على ما يحب الله تعالى ويرضاه؛ هذا هو القلب الصحيح السليم؛ أن يكون مستقيمًا على ما يحبه الله تعالى ويرضاه, وهذه الاستقامة تثمر ثمارًا ظاهرة وباطنة، ولها آثار ظاهرة وباطنة، المؤلف يذكر جملة من علامات القلب الصحيح؛ يقول:

إذا صحَّ قلبُ العبدِ بانَ ارتحالُه***إلى دارهِ الأخرى فراحَ مُسَلِّما
إذًا أول دلائل صحة القلب وسلامته أن يكون مرتحلًا إلى الله تعالى متعلقًا بالدار الآخرة، هذه أول علامات صحة القلب؛ فالقلب الذي ارتحل عن هذه الدنيا وزخرفها وتعلق بالآخرة؛ فكان همه ما يسعده ويبيض وجهه بين يدي الله تعالى فهو القلب الصحيح, والارتحال إلى الدار الآخرة لا يعني أن ينقطع الإنسان عن مصالح الدنيا، إنما المقصود أن يكون همه الآخرة؛ فإنه من كان همه الآخرة جمع الله تعالى عليه أمره وأتته الدنيا وهي راغمة، وقد تكون الدنيا على عظيم ما فيها في يد الإنسان، وهذا لا ينافي أن يكون همه الآخرة، فلا يتعارض بين تيسُّر الدنيا في يد الإنسان وبين أن يكون قلبه معلقًا بالآخرة.

وقوله رحمه الله:"إلى دارهِ الأخرى.." المقصود به الدار التي تكون بعد الموت، وهي اليوم الآخر، فاليوم الآخر يبتدئ من موت الإنسان، فيشمل دار البرزخ ودار الآخرة يوم القيامة.

يقول: "فراحَ مُسَلِّما" أي: معرضًا عن الدنيا غير متعلق بها.

ثم ذكر علامة أخرى فقال: "ومِنْ ذاك" أي: ومن علامة صحة قلبه ذاك إشارة إلى علامات صحة القلب.

 ومِنْ ذاك إحساسُ المحبِّ لقلبهِ ***بضربٍ وتحريكٍ إلى اللهِ دائما
"من ذاك"
أي: من علامات صحة القلب أن يحس من قلبه انجذابًا هذا معنى قوله:"بضربٍ وتحريكٍ إلى اللهِ دائما" أي: انجذاب إلى الله تعالى لا ينقطع، بل هو منجذب إلى الله جل وعلا ليلًا ونهارًا يسعى في مراضيه، ويطلب محابه، يجتهد في اجتناب كل ما يبغضه ويسخطه, ثم قال رحمه الله:

"إلى أن يُهنَّا بالإنابةِ مُخبتا" أي: هذا عمله، وهو انجذاب قلبه إلى ربه إلى أن يفوز بهاتين الصفتين، "إلى أن يُهَنَّا" أي: يفوز ويظفر وتجيئه التهنئة ليهنأ بأمرين؛ ما هما الأمران؟ الإنابة والإخبات؛ فهل هما شيء واحد؟ الجواب: لا، بل هما شيئان, الإنابة حقيقتها عكوف القلب على المحبوب([17])، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا فيما مضى، أن يلزم القلب محاب الله تعالى. والإخبات بيَّنه الله تعالى في قوله: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}([18])؛ فذكر الله تعالى أربع علامات للإخبات، وهو الخضوع والخشوع والذل لله جل وعلا؛ {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} خافت([19])، الوجل هو الخوف المقرون بالهيبة والتعظيم، {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ  وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وهذه الصفات فيها تمام الخضوع والانقياد، وهو يدل على أن الإنابة عمل قلبي والإخبات ثمرته، فهو جماع لعمل القلب وعمل الجوارح؛ إذ إنه مبني على الخوف والمحبة لله تعالى والإقبال على مراضيه جل وعلا والإحسان إلى الخلق؛ هذه الأربعة أمور هي التي يتحقق بها الإخبات؛ ولذلك يقول المؤلف:

إلى أن يُهنَّا بالإنابةِ مُخبتا  ***فيسكن في ذا مطمئنا منعَّما

"يسكن في ذا"أي: يستقر "في ذا" إشارة إلى ماذا؟ إلى هذه الدنيا فيما يظهر, "في ذا" إما أن يكون هذا اسم إشارة إلى أنه يستقر على هذه الحال، وإما أن يكون هذا إشارة إلى الدنيا؛ أي أنه يكون في هذه الدنيا على هذه الحال، "مطمئنا منعَّما"مطمئن القلب منشرح الصدر و"منعما" أي: ذائقًا نعيمًا لا يدركه أحد من أهل الدنيا إلا من سلك هذا الطريق، فتكون هذه جنة الدنيا التي هي مفتاح جنة الآخرة؛ ولذلك قال جماعة من السلف: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة"([20]) هذه الجنة هي نعيم القلب وسروره وابتهاجه ولذته وطمأنينته وسكونه لله جل وعلا.

يقول المؤلف رحمه الله:

ومنها دوامُ الذكرِ في كلِّ حالةٍ ***...

"ومنها" أي: من علامات صحة القلب؛ عاد إلى ذكر العلامات، الآن كم ذكر من علامات؟ ذكر علامتين؛ الارتحال إلى الدار الآخرة، والثانية: المحبة، والثالثة: دوام الذكر:

 ومنها دوامُ الذكرِ في كلِّ حالةٍ ***يَرَى الأنسَ بالطاعاتِ لله مغْنما
أي: من علامات صحة القلب أن يشتغل الإنسان بذكر الله تعالى، والذكر هو من أجلِّ العبادات وأرفع القربات، يشمل ذكر القلب واللسان والجوارح؛ فالذكر ليس فقط أن يتمتم اللسان بأشياء غاب قلبه عنها وتعطلت جوارحه منها، بل الذكر التام الكامل هو ما وافق فيه القلب اللسان، ووافقت الجوارح فيه القلب.

وقوله:"ومنها دوامُ الذكرِ في كلِّ حالةٍ" وهذا لا يمكن أن يكون إلا إذا اجتمعت الأنواع الثلاثة، يعني لا يتحقق للإنسان أنه ذاكر لله تعالى في كل حال إلا إذا كان ذاكرًا بقلبه وبلسانه وبجوارحه، وهذه الصفة هي صفة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ففي الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ»([21])، والذكر له تأثير على القلب عظيم، فهو من أعظم ما يزكي القلب ويطهره؛ ولذلك بيَّن الله تعالى أثره فقال: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}([22])، وقال جل وعلا في عقوبة المعرضين عن ذكره وبيان أثر هذا على القلب: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ}([23]) فبيَّن أثره من حيث التطييب وأثر الذكر من حيث التعذيب: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ}.

قال رحمه الله: "يَرَى الأنسَ بالطاعاتِ لله مغْنما" هذا الذي كان على هذه الحال من صحة القلب، يرى أن الغنيمة هي الانشراح بطاعة الله؛"يَرَى الأنسَ بالطاعاتِ" أي: الانشراح بها "مغْنما" أي: مربحًا يُغنم ويُربح ويُستفاد؛ فالمغنم هو ما استفيد من المال من دون كسب سابق.

ثم قال:

ويصحبُ حرًّا دلَّه في طريقِهِ ***وكانَ مُعينًا ناصحًا متيمّما
أيضًا من علامة سلامة القلب الصحبة الصالحة. والمؤلف قد أعطى ضابطًا للصاحب الصالح الذي ينتخب ليسلم القلب من آفات الصحبة السيئة؛"ويصحبُ حرًّا" الحر هنا المقصود به المتحرر من السوء والشر، وليس المقصود به ضد القن، لكن الحرية دليل الكمال، والمقصود به المخلَّص كقولك: ذهبٌ حرٌّ أي: مخلَّص من الغش، فصاحب حرٌّ أي: أنه مخلَّص من الغش كامل النصح، "ويصحبُ حرًّا دلَّه في طريقِهِ" أي: أعانه في الدلالة على الله تعالى، دله دلالة إرشاد، و"طريقه" أي: في طريقه الذي يسير فيه إلى الله تعالى، "وكانَ مُعينًا ناصحًا متيمِّما" فجمع هذه الأوصاف أنه يدله في طريقه إلى الخير، ثم هو يعينه على هذا الخير، وهذه الإعانة قد بذل فيها جهده؛ ولذلك قال: "ناصحًا" والنصح هنا غير النصح السابق؛ فالنصح السابق في الدلالة والنصح الذي ذكره لاحقًا في الإعانة؛ فكمل نصحه في الدلالة والإعانة، فمن الناس من يدلك ناصحًا؛ يقول لك: الطريق من هذا السبيل. تذهب يمينًا يسارًا بتفصيل دقيق، لكن لو أنه صاحبك ورافقك في طريقك وقال لك: يمين.. يسار.. توقف.. انتبه.. كان هذا دلالة وإعانة، كان هذا نصحًا في الدلالة ونصحًا في الإعانة، والمؤلف جمع بينهما فقال:

ويصحبُ حرًّا  دلَّه في طريقِهِ*** وكانَ مُعينًا ناصحًا متيمِّما
أي: غير مشتغل ببنيات الطريق، أي: سالكًا الطريق من غير اشتغال بالتوافه والشواغل؛ وذلك أن الشواغل التي تعترض الناس في طريقهم إلى الله كثيرة، ولو أن الإنسان وقف عند كل مشغل من هذه الشواغل واشتغل به أعاقه هذا عن سيره إلى الله تعالى؛ فلذلك من تمام سلامة السير أن تصحب من يكون قاصدًا في سيره، غير متوان ولا ملتفت يمنة ويسرة.

والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الاكثر مشاهدة

1. خطبة : فابتغوا عند الله الرزق ( عدد المشاهدات18661 )
4. خطبة: يسألونك عن الخمر ( عدد المشاهدات11982 )
8. خطبة : عجبا لأمر المؤمن ( عدد المشاهدات9169 )
12. الاجتهاد في الطاعة ( عدد المشاهدات8030 )

مواد تم زيارتها

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف