فإني وإنْ بَلَّغتُ قولَ محققٍ *** أُقرُّ بتقصيري وجهلي لعلم ما
ماذا أراد المؤلف بهذا القول؟ بيان مصدر ما ذكره من علم في هذه المنظومة، مصادر المنظومة، فهذا أشبه ما يكون بسبك المصادر في المؤلفات الحديثة؛ فقوله:"فإني وإنْ بَلَّغتُ قولَ محققٍ" هذا فيه ذكر أن المؤلف استفاد هذه القواعد وانتفع من أقوال المحققين من أهل العلم في هذه الأصول, ومن أبرز المحققين في هذا الباب ما كتبه الإمام الغزالي رحمه الله، وما كتبه أيضًا ابن قدامة في جملة من مؤلفاته كمنهاج القاصدين ونحو ذلك.
وأيضًا ممن له تحرير وباع متميز في علم القلوب وما يتصل بها ابن القيم رحمه الله في مؤلفاته عمومًا وفي مدارك السالكين خصوصًا, ومفتاح دار السعادة, وطريق الهجرتين؛ هذه المؤلفات الثلاثة لابن القيم تضمنت علمًا غزيرًا فيما يتعلق بعلم القلوب.
الثالث أو الرابع من العلماء الذين يعدون محققين في هذا الباب الإمام ابن رجب رحمه الله؛ فإن ابن رجب له من المؤلفات التي تعتني بتفصيل وتقريب وتوضيح ما يتصل بالقلب تميز بها عن غيره من أهل العلم.
هؤلاء هم من أبرز مَن كتب فيما يتعلق بعلم القلوب.
هناك أقوال منثورة ونقولات عديدة فيما يتصل بعلم القلب وأسباب حياته وسلامته وصحته وأسباب موته ومرضه وعلامات كل من الأقسام الثلاثة في كتاب حلية الأولياء لأبي نعيم رحمه الله؛ ففي الحلية من النقولات عن العُبَّاد والعلماء وعن أهل السلوك ما يفيد ويثري في هذا الجانب.
يقول رحمه الله:
فإني وإنْ بَلَّغتُ قولَ محققٍ ** * أُقرُّ بتقصيري وجهلي لعلم ما
أي: لعلم ما ذكرته وعلم ما قررت فهو رحمه الله أقر بالتقصير والقصور في هذا العلم، وهذا من تواضعه رحمه الله، ولئلا يتوهم المتوهم أنَّ نقله وبيانه يدل على أنه قد حاز تلك المراتب؛ فكم من الأشياء التي يصفها الإنسان بلسانه ويوضحها بقوله لكنه لا يجدها في عمله، وهذا لا شك أنه من أسباب القصور، والمؤلف قال ذلك على وجه التواضع وعلى وجه بيان الحقيقة، نسأل الله تعالى أن يعفو عنا وعنه، وأن يغفر لنا وله.
يقول رحمه الله:"ولمَّا أتى مثلي إلى الجوِّ خاليا" يعني هو يعتذر لماذا كتبت هذه المنظومة؟ والعلماء نهوا عن التصدر وعن الكتابة فيما لم يتأهل الإنسان أو لم يطابق فيه قوله عمله؛ ولهذا ذكر هذه القضية بعد الإقرار بتقصيره؛ يعني لقائل أن يقول: فإذا كنت مقصرًا فلماذا تكتب؟ إذا كنت لم تبلغ العلم في هذا الجانب فلماذا تكتب؟ فالمؤلف بعد أن أقر بالتقصير أبان سبب الكتابة فقال رحمه الله: "ولمَّا أتى مثلي إلى الجوِّ خاليا" إلى الدنيا وإلى المحل الذي هو فيه خاليًا من العلم يعني لم يكن فيه من أهل العلم والرسوخ والتحقيق والدراية بالكتاب والسنة ما يؤهله أن يتكلم ويكتب ويؤلف ويوضح ويبين؛ يقول:
ولمَّا أتى مثلي إلى الجوِّ خاليًا ***من العلمِ أضْحى مُعْلنًا مُتكلِّما
ما قال معلمًا، وإنما "معلنًا" أي: مظهرًا مزجًى بضاعته ضعيفٌ قوله، ما تلقاه من الكتب على ضعف في علمه وضعف في حاله، وهذا من تواضعه رحمه الله، وأذكر أن الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله قدَّم له بعض المقدمين في محاضرة وأثنى على الشيخ بما هو أهله إن شاء الله تعالى، نسأل الله أن يرفع درجته في المهديين وأن يغفر له وأن يرحمه، وأن يبارك في عقبه لما قدم بتلك المقدمة قال الشيخ كأنه معتذر لما يقول:
ولكنَّ البلاد إذا اقشعرَّت *** وصَوَّح نبتها رُعِي الهشيم([1])
يقول: إن الأرض لما خوت "وصوَّح نبتها" وليس فيها من النبت ما يُرعى، "رُعي الهشيم" فيقول: كأني أنا من الهشيم الذي يُرعى، وهو ليس من النبت الثابت الصالح الذي يُقصد ويُطلب، وهذا من أئمة العصر ومن علماء أهل السنة في هذا الوقت رحمه الله, وهذا نظير ما ذكره المؤلف هنا؛ يقول:
ولمَّا أتى مثلي إلى الجوِّ خاليًا *** من العلمِ أضْحى مُعْلنًا مُتكلِّما
ثم نظَّر حاله بحال من يأتي إلى الغابة فقال:"كغابٍ خلا مِنْ أُسدِهِ فتواثبتْ"، "غاب" أي: الغابة، والغابة يُعرف ويُشتهر عند الناس أنَّ سيدها وملكها والمقدم فيها هو الأسد، لكن لما جاء إلى غابة ليس فيها أُسْد قال:
كغابٍ خلا مِنْ أُسدِهِ فتواثبت *** ثعالبُ ما كانتْ تطأ في فِنَا الحِمَى
أي: أنه لما غاب الأسد تقدمت الثعالب التي لم يكن في يوم من الأيام "تطا" أي: تطأ أقدامها في حمى هذه الغابة لما كان سيدها وسلطانها قائمًا، وهذا من تواضعه رحمه الله.
بعد هذا كله يقول المؤلف رحمه الله:"فيا سامع النَّجوى ويا عالم الخفا" عاد متضرعًا إلى الله جل وعلا ومعتذرًا إليه سبحانه وبحمده، وقدم ذلك بالتوسل بهذين الوصفين اللذين يشملان إحاطة الله تعالى بما غاب وما خفي مما يكون من الإنسان؛ لأن الإنسان يكون منه أمران في الخفاء: إما قول أو عمل، فقال: "فيا سامع النَّجوى" وهو ما يسر به الإنسان من الأقوال([2]). "ويا عالم الخفا" يعني الغيب وما استتر عن أعين الناس "سَألتُكَ غُفْرَانًا يكونُ معمَّما" أي: أتوسل إليك بأنك لا تخفى عليك خافية فتعلم خفي القول ومستور العمل، أتوسل إليك بعلمك أن تغفر ما كان مما تعلمه ولا يعلمه غيرك؛ ولذلك قال: "سَألتُكَ غُفْرَانًا" أي: مغفرةً، والمغفرة تتضمن أمرين: الستر، والعفو الذي هو التجاوز؛ فإنَّ المغفرة هي الستر في أصل اللغة من المِغفر الذي يوضع على الرأس ويستر به الرأس في وقت القتال؛ فالمغفرة هي الستر([3])، ولكنه يُضاف إلى الستر في معنى المغفرة المسؤولة المنشودة ماذا؟ التجاوز والصفح، وهو أن لا يؤاخذ الله تعالى العبد على ذنبه، وبهما تكمل النعمة؛ ولذلك قال: "سَألتُكَ غُفْرَانًا يكونُ معمَّما" أي عامًّا للدقيق والجليل والصغير والكبير والغيب والشهادة والأول والآخر والجد والهزل؛ كل هذا يدخل في قوله:"معممًا" أي: عامًّا لكل سيئة وخطيئة.
ثم قال رحمه الله:"فما جرَّني" هو يعتذر رحمه الله عن هذا التقدُّم، والسؤال هو طلب للعفو على التقدُّم بالكلام في العلم والكلام في هذا المقام الرفيع الذي لم يتحقق فيه أكثر الناس، فيقول: كلامي فيما تقدم أستغفر منه وأتوب منه؛ ولذلك أعاد الاعتذار مرة ثانية عن تقدمه رحمه الله بهذا الكلام ونظمه لهذا العلم قال:"فما جرَّني إلا اضطرارٌ رأيته"،"فما جرني" أي: إلى التكلم والإعلان والنظم والتعليم في هذا الشأن وفي غيره "إلا اضطرار رأيته" أي: أبصرته والاضطرار هنا شدة الحاجة والفاقة إلى ضئيل العلم؛ ولذلك قال:"تَخوَّفت كوني إنْ توقفتُ كاتمًا" وهذا فقه دقيق من المؤلف رحمه الله، وهو يُعلم طلبة العلم أنه لا يلزم للتعليم أن تبلغ أعلى ما يكون من الشأو والمنزلة والمكانة حتى تفيد غيرك، بل إن النبي صلى الله قال لأصحابه كما في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً»([4])، فينبغي للإنسان أن يُبلِّغ ما علمه من العلم وأن يجتهد في ذلك؛ فإن الحاجة إلى العلوم ماسة؛ ولذلك المؤلف يقول:"فما جرَّني إلا اضطرارٌ رأيته" أي: ضرورة الناس إلى هذه العلوم على ضحالتها عندي وعلى كوني لم أترسمها في سلوكي وعملي، لكن الضرورة لها أحكامها؛ ولذلك قال: "تَخوَّفت" يعني عند رؤيتي لهذه الضرورة وكوني عندي شيء من المعرفة التي يمكن أن أفيد فيها غيري،"تخوفت كوني إنْ توقفت" يعني عن التعليم والبذل، "كاتمًا" أي: أدخل فيما جاء به الوعيد في حق من كتم العلم ولم يُبِنْه([5]). ونكمل ما بقي من هذا النظم في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.