ننتهي من النظم الليلة إن شاء الله تعالى؛ "نظم الأسباب التي بها حياة القلوب" للعلامة الشيخ حمد بن علي بن عتيق رحمه الله.
وقفنا على قوله:
فما جرَّني إلا اضطرارٌ رأيته*** تَخوَّفت كوني إنْ توقفتُ كاتما
هذا الاعتذار في النظم، يعتذر عن هذا النظم أو عن عمله في هذا النظم، مع قلة بضاعته يقول:
فما جرَّني إلا اضطرارٌ رأيته*** تَخوَّفت كوني إنْ توقفتُ
أي: عن البيان وعن النظم وعن التعليم "كاتما" والكتمان لا شك أنه من الآثام الكبار لمن كان عالمًا؛ لأن الله تعالى قد أخذ على أهل العلم الميثاق بالبيان فقال الله جل وعلا: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ}([1]) فأخذ عليهم ميثاقين؛ ميثاق البيان وعدم الكتمان, والبيان مقتضاه الإيضاح؛ وعدم الكتمان مقتضاه المبالغة في بيان الحق على وجه يزول به الالتباس, ولا يبقى للناس عذر في عدم العلم.
يقول رحمه الله:"فأبْديْتُ" أي: فأظهرت "مِن جرَّاه" أي: بسببه ولأجله، "مُزْجا بضاعتي"المزجى: هو الشيء القليل الذي تزهد فيه النفوس([2]), فقوله:"فأبْديْتُ من جرَّاه" أي: من هذا التخوف أن أكون كاتمًا إن لم أُعلِم وأُبيِّن"مزجا بضاعتي" أي: البضاعة الزهيدة، وهذا من المؤلف رحمه الله إقرار بضعف البضاعة، والإنسان مهما بلغ من العلم والقوة في ذلك العلم لا يخرج عن قول الله جل وعلا: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}([3]) فالعلم عند أعلم العلماء في علم الله جل وعلا هو قليل مزجا ليس بشيء, ولكن العلماء بالنظر إلى ما بينهم من التفاوت في العلوم يتفاوتون؛ فمنهم من هو قوي العلم، ومنهم من هو ضعيف العلم، ومنهم من هو متوسط, وهذا التفاوت في مراتب العلم لا يؤثر على الأصل من أن الجميع يشتركون في كون علمهم مزجى، في كون علمهم قليلًا بالنسبة لعلم الله جل وعلا.
يقول رحمه الله:
فأبْديْتُ من جرَّاه مزجا بضاعتي *** وأمَّلَّتُ عفوًا مِنْ إلهي ومَرْحما
"أمَّلت" أي: رجوت, والرجاء من الكريم أعظم ما يدرك به كرمه ونواله ويدرك به عطاؤه سبحانه وبحمده. وقوله: "عفوًا" أي: تجاوزا وصفحًا "مِنْ إلهي" وهذا توسل إلى الله تعالى بهذه الصفة؛ وهي صفة الألوهية التي مدارها على عظيم الحب وكبير الذل من العبد لربه جل وعلا؛ فإنَّ تحقيق الألوهية يكون بكمال الذل مع كمال الحب قال:"وأمَّلَّتُ عفوًا مِنْ إلهي ومَرْحما"العفو يحصل به الوقاية من المكروهات والرحمة يحصل بها ماذا؟ النيل للمحبوبات؛ ولذلك يقرن هذين الاسمين أو هذين الوصفين الله تعالى كثيرًا {غَفُورٌ رَحِيمٌ}؛ فالمغفرة يحصل بها الأمن مما يخشى الإنسان ويكره، والرحمة يحصل بها إدراك ما يحب ويرجو.
قال:
فما خَابَ عبدٌ يستجير بربِّه *** ألحَّ وأمْسَى طاهر القلب مُسْلِما
"ما خاب"أي: ما رجع خاسرًا؛ فالخيبة هي الخسارة([4]), وقوله:"ما خاب عبد"؛ عبد نكرة في سياق النفي فيعم كل عبد؛ فإنَّ من استجار بالله تعالى أجاره؛ ولذلك يجير الله تعالى الكفار كما قال سبحانه وتعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}([5]) والمضطر هنا يشمل كل صاحب ضرورة مسلمًا كان أو كافرًا, وقد ذكر الله جل وعلا شواهد ذلك في كتابه في إجابته لدعاء من دعاه واستغاثة من استغاث به من المشركين؛ كما قال الله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ} النجاة حصلت إجابةً للدعاء، وهذا معنى قوله رحمه الله: "فما خَابَ عبدٌ يستجير بربِّه"،"يستجير" أي: يطلب الجوار, الاستجارة هي طلب الجوار, والجوار هي الحماية والعصمة والصيانة: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} وإجابته بإعطائه ما يؤمِّل؛ فإذا كان المأمول هو الاستجارة فإنه يجيره سبحانه وتعالى, والله جل وعلا جواره أمكن الجوار سبحانه وبحمده؛ لأنه يجير ولا يجار عليه سبحانه وبحمده؛ كما قال جل وعلا: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ}([6])؛ انظر كيف بدأ أولًا بذكر المُلْك فلا يخرج شيء عن ملكه سبحانه وبحمده، وهذا يقتضي كمال التصرف؛ لأن التصرف فرع عن الملك، فالله تعالى أخبر أولًا في الآية عن تمام مُلكه وعظمة مُلكه، فهو مالك ما في السموات وما في الأرض؛ ثم ذكر ثمرة من ثمار هذا الملك؛ وهو حمايته وجواره سبحانه وبحمده؛ وأنه لا يجار عليه أي: لا أحد يمكن أن يحمي أحدًا من الله جل وعلا يقول سبحانه وبحمده: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ}، {يُجِيرُ} أي: يحمي ويعصم، {وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} أي: لا عاصم من دون الله تعالى([7])؛ كما قال نوح عليه السلام لابنه لما قال: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}([8])؛ فالعبد إذا استجار بالله تعالى دخل في أمكن جوار وأعظم حِمى؛ حمى الله سبحانه وبحمده، ومن كان الله معه فقد أمن من كل شيء؛ ولذلك يقول:"فما خَابَ عبدٌ يستجير بربِّه".
ثم ذكر السبيل الذي يحصَّل به جواب الدعاء, جواب المأمول من الإجارة"ألحَّ وأمْسَى طاهر القلب مُسْلِما" "ألح" أي: كرَّر في الطلب؛ فالإلحاح هو التكرار في الطلب, فإذا كرر العبد الطلب من الله تعالى وأعاد وأبدى في السؤال؛ فإنَّ ذلك من موجبات الجواب وحصول المأمول للعبد, والله يحب الملحين في الدعاء, ولذلك كان الاستحسار عن الدعاء والاستبطاء للإجابة من أسباب الحرمان؛ ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي»([9])، وهذا من صور موانع الدعاء أن يستحسر الإنسان فيترك الإلحاح والتكرار في سؤال لله تعالى ودعائه "ألحَّ وأمْسَى طاهر القلب مُسْلِما" وهذا من بديع ختم المؤلف لهذا النظم؛ نظمه يبحث في أي شيء؟ في حياة القلوب وسلامتها وصحتها ووقايتها من أسباب المرض والموت؛ فلذلك قال في أسباب حصول الجواب وإجارة الله تعالى للعبد: "وأمسى طاهر القلب" أي: نقيًّا، وطهار القلب بأن يكون: نقيًّا من الشرك، نقيًّا من المعصية، نقيًّا من البدعة, بهذا تكون طهارة القلب, وبقدر ما يحصل للإنسان من فوات هذه الأوصاف بقدر ما يتعلق بقلبه من الأوزار والأنجاس والأكدار, الناس كلهم - أنا وأنتم - لو أن أحدنا وقع على ثوبه بقعة؛ فإنه يذهب ليزيلها بكل مزيل يستطيعه حتى يطيب مظهره وينقي ثوبه؛ القلب أولى بالعناية من ثيابنا؛ نحن نستحي أن نخرج إلى الناس بثياب فيها أثر الوسخ؛ من بقع أو نحوها, فكيف بالقلوب مع أن هذه العوالق في الثياب قد تكون طاهرة؛ لون قلم، لون طعام، طِيب؛ حتى الطيب إذا أثَّر في الثوب تذهب لمسحه مع كونه طِيبًا وطَيِّبَ الرائحة، لكن لكونه يظهر بمظهر غير مقبول عند الناس تسعى لإزالته, فكيف بما يعلق في القلب وهو من الأكدار والأنجاس؛ وليس فقط تغير لونه بأمر مقبول, وإنما هو تغير لونه بما يسوء ويعمي القلب ويؤثر عليه ضعفًا قد يؤول به إلى الموت؛ ولذلك ينبغي تطهير القلب من هذا كله، وإذا طهر العبد قلبه كان ذلك من دواعي إجابة الدعاء واستجابة السؤال من الله تعالى, فإنَّ العبد طاهر القلب قريب من الله جل وعلا؛ لأنه لا يمكن أن يطهر القلب وهو بعيد, والعبد إذا قرب من الله كان ذلك من دواعي ماذا؟ الإجابة؛ ولذلك ذكر الله تعالى الدعاء في مواطن القُرْب؛ ففي آيات الصيام يقول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}([10])، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ»([11])، وهذا يدل على أن العبد إذا كان قريبًا من الله جل وعلا في حال العبودية كان ذلك من أسباب إجابة الدعاء, ومن أقرب المواطن أو الأحوال التي يكون العبد فيها متعرضًا إلى رحمة الله قريبًا من بره وإحسانه وإجابته أن يكون طاهر القلب.
"وأمسى" والمقصود بأمسى أي: صار، وليس المقصود به المساء، لكن ذكر المساء لأنه نهاية السعي, فنهاية النهار المساء, فلذلك يقول: اسعَ حتى تمسي, كما أن العامل يعمل ثم يمسي غانمًا من عمله في آخر النهار, فكذلك السعي إلى الله تعالى ينبغي أن يكون على هذا الوجه, أن تكون نهايته طهارة القلوب؛ "وأمسى طاهر القلب مُسْلِما".
ثم بعد ذلك ختم النظم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قال:"وصلُّوا على خير الأنام محمد" صلى الله عليه وسلم,"صلوا" أي: اذكروه بالصلاة عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما أمر الله تعالى بذلك, والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من أسباب زكاء القلب وصلاحه, وكثير من الناس يغفل عن هذا الجانب ويظن أن الصلاة فقط هي مما تحصل به الأجور والثواب في الآخرة, كل عمل صالح لا سيما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من أسباب زكاء القلوب وصلاحها؛ فلذلك ينبغي للمؤمن أن يكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليطيب قلبه ويصلح، صلى الله عليه وسلم, "وصلَّوا على خير الأنام" الأنام هم الناس والخلق. "محمد كذا" أي: وأشركوا في الصلاة عليه مَن أمركم بالصلاة عليهم وهم آله:"كذا الآل والأصحاب ما دامت السما" أي: صلوا على الآل والأصحاب, الآل هم آل النبي صلى الله عليه وسلم قراباته من أهل بيته, والأصحاب جمع صاحب, وهم صحابته، وهم كل من لقيه صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به ومات على ذلك؛ كما تقدم في أول النظم.
قوله:"ما دامت السما" أي: على الدوام؛ فإن هذا التعبير يطلق ويراد به الاستمرار والدوام على هذه الحالة, وفيه بيان أهمية هذا العمل في صلاح القلوب وزكائها؛ ولهذا ختم المؤلف رحمه الله هذا النظم بذكر هذا العمل ليجتهد فيه المجتهدون, ووجه ذلك أن الصلاة من الله تعالى على عبده خير كثير, فإذا قلت: اللهم صلِّ على محمد دعوت الله للنبي صلى الله عليه وسلم بالخير الكثير, ثم لك بكل صلاة من الله جل وعلا عشرٌ؛ والحسنات تضاعف إلى عشر أمثالها، وهذا يدل على الخير الكثير الذي تدعو به لنفسك؛ إذا صليت على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وبهذا يكون قد انتهى هذا النظم الماتع المفيد الذي أسأل الله تعالى أن ينفعنا به، وأن يغفر لناظمه، وأن يعلي درجته في المهديين, وأن يعيننا وإياكم على ما تضمنه من العلوم النافعة المباركة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.