قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ: عَنْ أَبِي خَالِدٍ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: «البَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقا وَبيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا».صحيح البخاري(2079) وصحيح مسلم (1532)
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
فهذا الحديث حديث حكيم بن حزام ـ رضي الله تعالى عنه ـ في فضيلة الصدق فيه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «البَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» أي البائع والمشتري لهما الاختيار بين إمضاء العقد أو إبطاله ماداما مجتمعين في مكان البيع لم يتفرقا هذا معنى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «البَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» أي لهما فهما بين إمضاء أو إبطال كل واحد منهما له حق أن يمضي العقد أو أن يبطله مادام في مجلس البيع، ولو لم يكن ذلك لسبب واضح بل هو اختيار مطلق له أن يختار الإمضاء وله أن يختار الإبطال.
ثم قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «فَإِنْ صَدَقا» أي صدق البائع والمشتري «وَبيَّنَا» وضحا وأسفرا عن حقيقة العقد والمعقود عليه وجميع ما يتعلق بهذه الصفقة إن جمع هذين الوصفين:ِ
الصدق: وهو الإخبار بالواقع.
والبيان: وهو الإسفار والإيضاح والكشف عما يمكن أن يكون خفيًا فيما يتعلق بالمعقود عليه.
«بورك لهما في بيعهما»[صحيح البخاري (2079)، ومسلم (1532)]: كان جزاء هذا العاجل جزاءه القريب، جزاءه الدنيوي أن يطرح الله ـ تعالى ـ البركة في بيعهما بورك لهما في بيعهما؛ أي بورك لهما في هذه الصفقة والمباركة في الصفقة والمباركة في البيع هو أن يدرك الإنسان ثمرة هذا البيع وأن يدرك خيره وأن يحصل منافعه فكم من إنسان يشتري أشياء ثم تبقى عنده لا نفع فيها ولا بركة فيها، إما لصرفه عنها وإما لكثرة ما يعتريها من أعطال وإما لغير ذلك من الأسباب التي تزول بها منافع المبيع وتذهب بها بركته.
كذلك منافع الثمن وتذهب بها بركته، فقوله: «بورك لهما في بيعهما» أي بورك للبائع في الثمن وللمشتري في السلعة التي اشتراها وهذا غير ما رتبه الله ـ تعالى ـ من الأجر الأخروي الذي أثبته للصادقين فإن الصدق والبيان مما يؤجر عليه الإنسان عند الله –عز وجل-: «لا يؤمنُ أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسِه» [صحيح البخاري (13)]
للصدق منافع في الدنيا والآخرة:
«والصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة» صحيح البخاري (6094)، لكن فيما يتعلق بعاجل المنفعة هو ما يدركه في هذه الدنيا من البركة في هذا البيع، بورك لهما في بيعهما, فالبيع ليس فقط لأحد الطرفين، بل لهما جميعًا ينتفع المشتري من العقد، وينتفع البائع من العقد, "وإن كذبا وكتما" هذه الحالة الثانية وهي ضد الحالة الأولى، الكذب هو الإخبار بخلاف الواقع, وكتم هنا لا يخبر بخلاف الواقع، لكنه يسكت عما يجب بيانه, فيكون في السلعة مثلا عيب ولا يبينه، أو يكون في السلعة نقص ولا يبنيه, لا يقول إن السلعة كاملة، ولا يخبر بخلاف الواقع؛ لكن يسكت عن عيوب موجودة, أو نقص موجود أو عما يزهد في السلعة, كما على سبيل المثال تاريخ صلاحية السلع إذا كانت من الأغذية والأطعمة تجده يسكت عن أنه باقي عليه شهر مثلًا مع أنه يزهد المشتري فيها وترغب النفوس عن الشراء في هذه الحال إلا بثمن أنقص، فتجده يسكت عن هذا ولا يبين.
ففي هذا الوعيد المذكور في الحديث، "فإن كذبا وكتما" محقت بركة بيعهما محقت أي أفنيت وأزيلت وذهبت بركة بيعهما أي النفع الحاصل من هذا البيع، وذلك إما بأن لا يدرك المصالح أو أن تصيبه آفة في هذا البيع أو غير ذلك، يعني لم يحدد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجه المحق الذي ينال هذا العقد لكنه يشمل كلما تذهب منفعة هذا العقد، فلا يدرك البائع المقصود في حال الكتمان والكذب, وكذلك لا يدرك المشتري المقصود في حال الكتمان والكذب، فإن كان أحدهما صادقًا والآخر كاذبًا من صدق وبين أدرك البركة ومن كذب وكتم محقت في حقه البركة، فلا تزر وزارة وزر أخرى كله يناله ما ناله من خير عمله وشؤم معصيته.
حديث جم الفوائد:
خيار المجلس:
هذا الحديث فيه جملة من الفوائد:
من فوائده:إثبات الخيار للمتابعين, وهذا الخيار يسميه العلماء خيار المجلس، وهو ثابت مادام المتعاقدان في مجلس العقد سواء كان المجلس مكاني بأن كان في محل واحد أو كان مجلس حكمي كأن يكون البيع عبر وسائل الاتصال إما هاتف، وإما عن طريق الأجهزة المعاصرة المقصود أن كلا المتبايعان مادام في المجلس حقيقة أو حكمًا فله خيار الإمضاء أو الفسخ في العقد ولو لم يبين سببًا.
من فوائده:سبب بركة الصدق والبيان وأن المطلوب في البيع الصدق وأيضًا البيان، والبيان أمر زائد على الصدق، فالصدق هو الإخبار بالواقع, وأما البيان فهو إيضاح كشف وإسفار عما يرغب في السلعة أو يزهد فيها، وفيه أن الطاعة يدرك الإنسان أجرها ومثوبتها في الدنيا قبل الآخرة بورك لهما في بيعهما, وهذه البركة أمر لا يتعلق بالعد، إنما يتعلق بالمنافع وإدراك الخير في البركة هي الخير، لا يلزم أن تزيد الأرصدة بالبركة لكن هذه الأرصدة ولو كانت قليلة يدرك من خيرها ومنافعها ما لا يدركه بالأرصدة العالية, ولذلك تجد من الناس من يقول مثلا أنا راتبي عشرين ألف، ثلاثين ألف ثم تجد أنه في نهاية الشهر لا يجد من هذا الراتب العالي شيئًا، وهناك من راتبه لا يتجاوز الخمسة أو العاشرة أو ما هو دون من ذلك وتجد في بركة ماله ما يحقق مقاصده ويدرك مآربه دون عناء ولا مشقة.
المقصود أن من بركة من منافع الطاعة أن يدرك بركتها في الدنيا، وكذلك من شؤم المعصية ما يدركه في الدنيا, فلذلك قال:"وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما".
نسأل الله ـ تعالى ـ أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يشرح صدرونا البر وأن يرزقنا الصدق في القول والعمل في معاملة الخالق وفي معاملة الخلق وصلى الله وسلم على نبينا محمد.