إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق
المذيع: موضوع حلقتنا في هذا اليوم نابعٌ من حديث المصطفى –صلى الله عليه وسلم-:
))إنما بُعِثت لأُتَمِّم صالحَ الأخلاق)) [ابن أبي شيبة في مصنفه:31773، وأحمد في مسنده:8952 . وقال الحاكم:صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. ووافقه الذهبي]، هذا الموضوع المهم الذي يهمُّ الأمةَ جميعاً أن تتخلَّق بهذه الأخلاق التي جاء بها النبي –صلى الله عليه وسلم- وربَّانا عليها –صلى الله عليه وسلم-، ونقلها لنا واقعاً ملموساً صحابته -رضوان الله عليهم-، وأيضاً تلاهم في ذلك التابعون لهم بإحسان، ما أجمل أن يتخلَّق الإنسان بهذه الأخلاق الجميلة والصالحة، أيضاً في هذا الوقت الذي تَدلَهِمُّ فيه الخطوبُ والكروب على الأمة المسلمة لن تكون في أي وقتٍ، أو في أي حالٍ، أو في أي ظرفٍ أحوجَ من هذا الظرف إلى هذه الأخلاق الصالحة.
أيضاً مستمعينا الكرام في هذه الحلقة وفي هذا البرنامج، ضيفنا الدائم هو صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور خالد بن عبد الله المصلح عضو الإفتاء وأستاذ الفقه بجامعة القصيم، باسمي واسمكم أرحِّب بفضيلته، فالسلام عليكم ورحمة الله صاحب الفضيلة.
الشيخ: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أهلا وسهلاً ومرحباً بك وحيَّا الله الإخوة والأخوات.
المذيع: بارك الله فيكم، طبعاً في هذه الحلقة كما نوَّهنا صاحبَ الفضيلة حديثنا عن قول المصطفى –صلى الله عليه وسلم-: ((إنما بعثت لأتمم صالحَ الأخلاق))، وكذلك أيضاً ننوِّه إلى مستمعينا بأرقام التواصل التي من خلالها يتفاعلون معنا ويتواصلون للمشاركة فيما يتعلَّق بموضوع حلقتنا لهذا اليوم، مستمعينا الكرام يمكنكم أن تتواصلوا معنا عبر الرقم 012647717 أو الرقم الآخر 0126493028 أو من خلال الواتساب على الرقم 0556111315 أو عبر الوسم أو الهاشتاج برنامج الدين والحياة.
إذاً بسم الله نبدأ حلقتنا وبعد هذا الفاصل.
المذيع: حياكم الله مستمعينا الكرام إلى برنامجكم "الدين والحياة"، وأيضاً أرحب مرةً أخرى بضيفي وضيفِكم صاحب الفضيلة الشيخ خالد المصلح عضوِ الإفتاء، وأستاذ الفقه بجامعة القصيم، حديثنا في هذه الحلقة كما نوَّهنا في بداية حلقتنا، قول المصطفى –صلى الله عليه وسلم-: ((إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق))، صاحب الفضيلة كيف يمكن أن نفهم هذا الحديثَ الشريف؟
الشيخ: أولاً السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حيا الله الإخوة والأخوات من المستمعين والمستمعات، وأسأل الله أن يجدوا في لقائنا هذا وفي سائر لقاءاتنا ما يُفيد وينفع، حديثنا هذا اليوم في ضوء ما أخبر به النبي –صلى الله عليه وسلم- فيما جاء في مسند الإمام أحمد في حديث أبي هريرة أنه قال: ((إنما بُعِثت لأتمم صالحَ الأخلاق))، وفي روايةٍ عند الحاكم لهذا الحديث وهي الأشهر والأكثر انتشاراً: ((إنما بُعِثت لأتمم مكارم الأخلاق)).[البزار في مسنده8949، والبيهقي في الكبرى:20782، وقال الهيثمي(ح14188): رجاله رجال الصحيح]
والناظر فيما جاء به النبي –صلى الله عليه وسلم- يدرِك حقيقةَ اهتمامه وتفسيره لذلك الهدى والنور الذي جاء به النبي –صلى الله عليه وسلم-، فالله تعالى جاء بالنبي –صلى الله عليه وسلم-، بعَثَه بهذا النور المبين ليُخرج الناس من الظلمات إلى النور، هذا لعموم الناس، فالله تعالى يُخرج عمومَ الناس من الظلمات إلى النور باتباع النبي –صلى الله عليه وسلم-، لكن أسعدُ الناس بتحقيق هذا هم الذين آمنوا بالنبي –صلى الله عليه وسلم- وقَبِلوا ما جاء به، قال الله تعالى: {رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}[الطلاق:11]، فنَصيبُ المؤمنين والعاملين بالصالحات من النور أعظم من نصيب غيرهم، وعلى قدر ما يكون مع الإنسان من الإيمان والعمل الصالح، يكون له من النور والخروج من الظلمة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية: {لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}[الطلاق:11].
والظُلمة لا تقتصر على جانبٍ من جوانب الحياة، بل الظلمة تكون في كل جوانب الحياة، الظُلمة في القلب والظُلمة في العمل، والظُلمة في المعاملة، والظلمة في سائر مناحي وشؤون الإنسان، لذلك المؤمن يخرج من كل ظلمة إلى النور، ومبدأ ذلك ما يغشى قلبَه من الهدى، ودين الحق الذي به يستثعر مواقعَ الهداية والرشد في معاملة الله عزَّ وجلَّ، وفي معاملة الخلق؛ لأن ثمة ارتباطاً وثيقاً بين هذين الجانبين، بين معاملة الخالق وبين معاملة الخلق، فإنه من أحسن في معاملة الخالق ينعكس ذلك على معاملة الخلق، ومن كان حَسَن المعاملةِ مع الخلق فإنه يَبعُد ألا يكون حسنَ المعاملة مع الخالق، ثمة ارتباطٌ بينهما وتكامل؛ لأنه من قصَّر في حق الله انعكس ذلك على معاملة الناس سواءً في الظاهر أو في الباطن، ومن قصَّر في معاملة الخلق فإن ذلك ينعكس على معاملة الخالق جلَّ في علاه، ولهذا جاء في الحديث الصحيح عند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: ((من لا يَشكرِ الناسَ لا يشكر الله)).[أبوداود في سننه:4811، والترمذي في سننه1954. وقال الترمذي: حديث صحيح]
حتى نفهم الرسالة التي جاء بها النبي –صلى الله عليه وسلم- جاءت نفهم حديث ((إنما بُعِثت لأتمم مكارمَ الأخلاق)) أو ((لأتمِّم صالحَ الأخلاق))، نحتاج أن نعرف ما الذي جاء به النبي –صلى الله عليه وسلم- جاء بإصلاح ما بين الإنسان وخالقه، وما بين الإنسان والخلقِ على وجه العموم.
وهذا إذا صلح فإنه تستقيم حياة الإنسان، وتصلح شؤونه، ويطيب سلوكُه في الحياة بأنه يتفق مع هذا الكون، فيوافق مقصودَ الخالق من الوجود، كما أنه يجعل كلَّ ما في الوجود وفق هذه الرؤية أنه إنما وُجِد لعبادة الله فهو يُطيع الله تعالى، يسير على ما أمر، يقتفي ما جاء به الهدى من القرآن الكريم، وما جاء من الهدى في السنة النبوية، فيكون على أكمل ما يكون بالاتساق مع هذا الكون الذي يسبح لله -عزَّ وجلَّ- كما قال تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}[الحشر:24] فالله تعالى يحقِّق العبوديةَ له قَدَراً وشرعاً كلُّ من في السماوات ومن في الأرض، والذي ميَّز الثقلين الإنسَ والجن أن العبادة الصادرةَ منهما عبادةٌ شرعية اختيارية، فمنهم من يستقيم على شرع الله -عزَّ وجلَّ- ويأخذ بهداه، ومنهم من يُعرض عن ذلك ويتنكَّر سبيل الهدى إلى طرق الضلالة.
النبي –صلى الله عليه وسلم- لما جاء إلى قومه، جاء إلى قومه والبشرية وليس فقط للعرب، البشرية في ظَلماء لا نورَ فيها إلا ما يكون من نذرٍ قليلٍ في نفرٍ محدود كانوا على أنوار وهدى الكتب السابقة، ولذلك جاء في صحيح الإمام مسلم -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: قال رسول –صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله نَظَر إلى أهلِ الأرض، أي قبل بعثة النبي–صلى الله عليه وسلم-، فمَقَتَهم))[مسلم:2865/63]، أي كره ما هم عليه كُرهاً شديداً، سبب هذه النظرة من الله - عزَّ وجلَّ- لحال الخلق وحال الناس قبل مبعث النبي –صلى الله عليه وسلم-، وما كانوا عليه من ظلمات فيما يتعلق بحقه جلَّ في علاه، وفيما يتعلق بالصِّلات بين الناس، فكانت في غاية السوء والشر والفساد والانحراف والانحلال، بعث الله هذا الهدى ليخرج الناس من تلك الظلمات إلى النور، فكان النبي –صلى الله عليه وسلم- يدعوهم أولَ ما يدعوهم إلى إحسان الصلة بالله، أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، وإلى هذا دعت الرسل والأنبياء، فجميعهم كانوا يدعون الناس إلى إصلاح ما بين الإنسان وما بين الله عزَّ وجلَّ.
فلا يمكن يا أخي ويا أختي ويا أيها الكرام لا يمكن هذا بأن يُصلح الإنسان ما بينه وبين الله إلا بأن يقيم التوحيد له، أن يعبده وحده لا شريك له، أن يُقرَّ له بالكمال في أسمائه، في صفاته، في إلهيته، في ربوبيته، وبهذا يتحقق للإنسان حسنُ الصلة بالله عزَّ وجلَّ، فيُفرده بالعبادة، ويفرده بالربوبية، ويفردُه بكمال الأسماء والصفات، وبهذا يتحقق حسن الصلة بالله.
فالذي يُشرك بالله عزَّ وجلَّ، يشرك بالعبادة لغيره لم يُحقِّق حسنَ الصلة به؛ لأن حسن الصلة به تقتضي ألا تعبد إلا الله، وألا تعبده إلا بما شرع، لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، هذا هو معناها، معناها لا نعبد إلا اللهَ ولا نعبده إلا بما جاء به في كتابه، وما جاء على لسان رسوله –صلى الله عليه وسلم- في سنته، ما عداه فإنه خرج عن الهدى.
هذا ما يتعلق بالجزئية الأولى التي جاء بها النبي –صلى الله عليه وسلم- والتي تُحقِّق مكارم الأخلاق، وتحقق صالح الأخلاق، أن يكون الإنسان حَسَن الصلةِ بالله، جميلَ العلاقة به، حسنَ المعاملة له جلَّ في علاه، وذلك بعبادته وحده لا شريك له.
أماً القسم الثاني الذي جاء به النبي –صلى الله عليه وسلم-: فهو جاء بحسن الكلام وبصلة الأرحام، بإكرام الضيف، بإنصاف المظلوم، بإغاثة الملهوف، بسائر أوجه مكارم الأخلاق التي كانت مُهملةً في حال الناس ذلك اليوم.
ولهذا في أوائل بعثة النبي –صلى الله عليه وسلم- لما بَعثَ أبو ذر -رضي الله تعالى عنه- أخاه ليستعلم خَبَرَ النبي –صلى الله عليه وسلم-، وكان النبي –صلى الله عليه وسلم- قد جَهَر بالدعوة ودعا الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، حاربَه قومه لكن بَقِيَ خبره ينتشر على رغم التشويه وشدةِ الحملةِ الإعلامية التي شَنَّها المشركون عليه لتشويه ما جاء به وتضليله، وَصَفوه بأنه مجنون، بأنه كذَّاب، بأنه ساحر، بأنه في ضلالٍ مبين، وسائر ما وصفوه به من الكذب والزور الذي كذَّبه رب العالمين، إلا أن حقيقة ما كان يدعو إليه -صلى الله عليه وسلم- كان يكتسح كل تلك الدعاية المضلِّلة، يكتسح كلَّ ذلك الكذب الصراح الذي روَّجه أولئك عن دعوته –صلى الله عليه وسلم-، أبو ذر سَمِع بخبر النبي –صلى الله عليه وسلم- وهو في بلاده فلم يتمكَّن من المجيء، بعث أخاه ليَستَعلِم نبأ النبي –صلى الله عليه وسلم-، يستخبر ويستفهم حال هذا الرجل الذي دعا الناس إلى عبادة الله وحده، وينظر ما الذي جاء به محمدٌ –صلى الله عليه وسلم-، فرجع أخو أبي ذر –رضي الله تعالى عنه-، رجع أخوه فقال له لما سأله عن خبر النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "رَأيته يأمر بمكارمِ الأخلاق".[البخاري:3861، مسلم:2474/133] هذه الجملة المختصرة "رأيته يأمر بمكارم الأخلاق" تختصر لنا كلَّ تلك المعاني الكريمة، والمعاني الشريفة التي كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يدعو قومه إليها ويأمرهم بها، ويترجِم أن قوله –صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أحمد وغيره من حديث أبي هريرة بإسنادٍ جيد: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) و ((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)) في الرواية الأخرى، يبين لنا أنه حقًّا هذا الذي كان يدعو إليه، وهذا الذي فهمه قومُه، هذا أخو أبي ذر رجلٌ عارِض، يعني ليس مُقيماً في مكة يرصُد أحوال النبي –صلى الله عليه وسلم-، إنما جاء يَستَعلِم ويستخبر وينظر ما الذي عند النبي –صلى الله عليه وسلم-، وبماذا يأمر؟ وبماذا ينهى؟ فهو رجل طارئ لكن استعلم سألهم، ماذا يقول؟ وبماذا يأمر؟ وأي شيءٍ يريد؟ وما إلى ذلك من المسائل التي سأله عنها، ثم بعد ذلك انصرف بهذا الخبر إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- ليخبِرَ بما اختصر دعوته –صلى الله عليه وسلم- في هذه الكلمة الموجزة التي قال فيها: "رأيته يأمر بمكارم الأخلاق".
ويوضح هذا أيضاً ما جاء في صحيح الإمام البخاري في قصة أبي سفيان بن حرب[البخاري:7، ومسلم:1773/74] لما أخبر هرقل عن النبي –صلى الله عليه وسلم- حيث أن النبي –صلى الله عليه وسلم- بعث كتاباً إلى هرقل ملكِ الروم يدعوه إلى الإسلام فلما وصله كتاب النبي –صلى الله عليه وسلم- دعا قومه وطلب من حَضَر في الشام من قريش، فجيء بأبي سفيان ورهطٍ معه من قريش كانوا قد جاءوا إلى الشام، ووافقوا وصولَ كتاب النبي –صلى الله عليه وسلم-.
فدعاهم هرقل وقال لهم: أيُّكم أقربُ نسباً بهذا الرجل الذي يزعم بأنه نبي، فقال أبو سفيان: أنا فقلت: أنا أقربهم نسباً، فقال: أدنوه، فاقترب من هرقل وجعل أصحابَه وراء ظهره، يعني جعل بقيةَ من كان من قريش وراء ظهر أبي سفيان، وقال لهم: إني سائلٌ هذا الرجل عن مسائل فإذا كذَبني فكذِّبوه، فيقول أبو سفيان وهو خَصمٌ مشرك لم يكن موافِقاً للنبي –صلى الله عليه وسلم-، لكن امتنع من أن يكذب في خبره عن النبي –صلى الله عليه وسلم- حياءً من أن يُؤثَر عليه الكذب.
فيقول: فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذِباً لكذبت عنه، لأنه ما سيُبِيِّنه من حال النبي –صلى الله عليه وسلم- هو دعاية له –صلى الله عليه وسلم-، وبيان لما كان عليه من الخير والبر والفضل والإحسان والتقدم على خصومه، وفي خبره صدق دعوته.
المقصود أنه سأله جملة من الأسئلة، فكان مما سأل هرقل أبا سفيان، قال له: ماذا يأمركم؟ يعني بأي شيءٍ يأمركم هذا الرسول الذي يدَّعي أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: يأمرنا ويقول لِنعبد اللهَ وحده ولا تشركوا به شيئا، وهذه هي الجزئية الأولى التي ذكرت قبل قليل أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يدعوهم إلى إحسان الصلة بالله، صلة أحد بالله وهو يشرك به، وهو يدعو غيره، ويتوجَّه إلى سواه، وهو قد امتلأ قلبُه بمحبة غير الله جلَّ في علاه، أو التعظيم لغير الله عزَّ وجلَّ، هذا لا يتحقق إلا بالتوحيد.
ولذلك يقول أبو سفيان في بيان دعوة النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه كان لما أجاب هرقل قال: يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقوله أباؤكم، ثم ذكر جملةً من الأعمال التي اشتهر بها النبي –صلى الله عليه وسلم-، والآن المتحدِّث من يا أخي عبد الله؟ المتحدث أبو سفيان خصمٌ مقاتل للنبي –صلى الله عليه وسلم- ولا يوافقه على دينه، قال: ويأمُرنا بالصلاة، ثم انظر، والصدق والعفاف والصلة، كل هذه هي الترجمة العَمَلية لمحاسن الأخلاق، لصالح الأخلاق، لمكارم الأخلاق التي بُعِثَ النبي –صلى الله عليه وسلم-، إنها إصلاح ما بين العبد والله، ما بين العبد وخالقه، ما بين العبد وربِّه، وما بين الناس فيما بينهم، فالصدق والعفاف والصلة كلها فضائل تتفق النفوس على مكانتها، وعلوِّ منزلتها، وكبير شأنها، فكان ذلك صدق رسالته، حتى أن هرقل لما فرغ من أسئلته عاد إلى كل مسألة واستدلَّ بجواب أبي سفيان على صدق دعوة النبي –صلى الله عليه وسلم-، وهذا من أكبر الدلائل على عظيم ما جاء به، أن ما جاء به هو بُرهان صحةِ ما يدعو إليه.
يقول هرقل: وسألتُك بما يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدقة والعفاف، يقول: فإن كان ما تقول حقًّا، هذه شهادة هرقل، خصمِ رسول الله الذي لم يؤمن به، إن كان ما تقوله حقًّا فسيملِك موضع قدميَّ هاتين.
وهذا يبين لنا أن الذي جاء به النبي –صلى الله عليه وسلم- في ما يدعو إليه ليس مقتصراً على جانب من جوانب السلوك والأخلاق، ولا على خصلة من خصال الفضل والإحسان، بل هي منظومة مكتملة تتعلق بإصلاح ما بين الخالق والخلق، وما بين الخلق عموماً حتى الجماد حتى الحيوان، الشريعة جاءت ببيان كيف يتعامل الإنسانُ معها، هذه الشريعة منظومة مُكتملة بطيب الأخلاق وجميل الخصال، وهي ترجمة في كل ما جاءت به لقول الله -جلَّ وعلا-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107]، بهذا يتبين على وجهٍ لا التباس فيه معنى قوله –صلى الله عليه وسلم-: ((إنما بُعِثتُ لأتمم صالح الأخلاق)).
ولترجمة هذا على وجهٍ تفصيلي يمكن أن نذكر شواهد هذا فيما جاءت به الشريعة من حسن الخلق والندب إليه، وما إلى ذلك مما نتحدث عنه بعد قليل، لكن الخلاصة أرجو أن يكون الفكرة الآن الرئيسة هي أن قوله –صلى الله عليه وسلم-: ((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق))، لا ينحصر في خصلة من خصال الأخلاق الجميلة أو فضيلة من فضائل الخصال الحسنة في معاملة الناس من الصدق أو العفاف أو الكرم، أو ما أشبه ذلك، بل هي أوسع من ذلك، دائرةٌ واسعة تنتظم كلَّ التشريع، تنتظم كلَّ الديانة بعقائدها وأعمالها، بأصولها وفروعها، فكلها محقِّقةٌ لحسن الخلق.
المذيع: جميل، صاحب الفضيلة إذا ما تحدثنا عن هذا الجانب، ونعلم أن الكثيرين مثل المجتمعات الكثيرة التي دخلت في دين الله أفواجا إنما دخلوا بحسن الخلق، وبما جاء به النبي –صلى الله عليه وسلم- من حسن الخلق، إذا ما تحدثنا أيضاً عن هذا الجانب يبرُز لدينا موضوع مهمٌّ ألا وهو أن حسن الخلق مما يقرِّب الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى ويرفع درجتَه، وهناك كثيرٌ من الأحاديث التي تأتي في جانب حسن الخلق، وتحفِّز على هذا الأمر وأيضاً تحثُّ على حسن الخلق، لعلنا ربما نستعرض هذا الأمر قبل أن ندلف إلى المحاور التي يمكن أن تندرج تحت موضوعنا هذا عن حسن الخلق.
الشيخ: نعم، هو ما ذكرت يا أخي وهو تحت عنوان أن ثمة ارتباطاً وثيقاً بين حسن الخلق وبين صلاح الدين، ثمة ارتباط وثيقٌ، وعُرى ثابتة، وصلةٌ راسخة بين حسن الخلق وبين الديانة، وأيُّ أحدٍ يحاول أن يفصل بينهما فإنه يفصل بين قرينين، فإنه بقدر ما مع الإنسان من طيبِ الأخلاق يعلو ويسمو دينه، ولهذا يقول ابن القيم –رحمه الله- كلمة جميلة يقول رحمه الله: "من زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين"[مدارج السالكين:2/294]، هذه قاعدة لو حفظناها واستحضرناها علِمنا مدى الارتباط الوثيق بين الديانة وبين حسن الخلق.
المذيع: أيضاً الحديث ((إذا جاءكم من تَرضَون دينَه وخُلَقه))[الترمذي في سننه:1085، وحسَّنه] الربط في هذا الجانب أيضاً يؤكد أيضاً ما تقولونه.
الشيخ: نعم، هذا أحد الشواهد التي تقرِّر هذه الحقيقة، وهي أن ثمة ارتباطاً وثيقاً وصلة لا تنفصل عُراها بين حسن الخلق وبين الديانة، وأن من حاول الفصل فإنه يفصل بين قرينين، النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول فيما رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو: ((إن من خياركِم أحاسنَكم أخلاقا))[البخاري:3559، مسلم:2321/68]، إن ما خياركم يعني من خيار أهل الإسلام، ومن أفضل أهل الإيمان، ومن أعلاهم منزلةً من اتصف بحسن الخلق، ((إن من خياركم أحاسنَكم أخلاقا))، فبقدر ما معك من الأخلاق الكريمة، بقدر ما معك من الخصال الحسنة يعلو قدرُك في التدين الصحيح، فالدين كلُّه خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين.
ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: ((أكملُ المؤمنين إيماناً أحسنُهم خُلُقا))[أبو داود في سننه:4682، الترمذي1162. وقال: حسن صحيح]، فبقدر ما معك من محاسن الأخلاق تحقِّق كمالَ الديانة، قال الفضيل -رحمه الله-: "من ساء خلقُه ساء دينُه"[تاريخ دمشق48/414]، فدين المرء منقوصٌ وإيمانه غير مكتمل حتى يكمِّل محاسنَ الأخلاق، وحتى يستقيم مع الخلق في معاملته، بل حتى يستقيم مع الكون في معاملته.
لمَّا نقول الخلق لا نقصد فقط حسنن معاملة البشر، فإن المعاملة الحسنة لا تقتصر فقط مع الموافق للجنس من الناس، إنما يكون حتى مع الحيوان، حتى مع الجماد، حتى مع المكان، حتى مع البيئة، كلُّ هذا يندرج في هذا المعنى في أنه يعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، ويبذل الإحسان لغيره ما استطاع، ومما يدل على ارتباط ذلك بالباطن، وليس فقط بالحُسن الظاهر كما يتصور بعض الناس، أنه محاسن الأخلاق في ابتسامة هي كلمة طيبة فقط، لا، وراء ذلك كله قلبٌ ينبض بالحب للناس.
جاء في الصحيح من حديث أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يؤمِن أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه)) [البخاري:13، مسلم:45/17]، حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، حتى ولو لم تعرفه، حتى ولو لم تلقه، حتى ولو لم تعامله معاملةً مباشرة، لا يؤمن أحدكم، الإيمان منقوص حتى يطيب الجوهر ويطيب القلب بمحبة الخير لغيرك من الناس، من أخوانك المسلمين، ومحبة الخير لا تقتصر فقط على المسلمين بل حتى على غيرهم يحب الإنسان الخير لهؤلاء، ولذلك كانت هذه الأمة من أنفع الأمم للناس حيث أنها تدلُّهم على الخير، تأمرهم بالإيمان تبين لهم دلائلَ صحة هذا الدين حتى يتنعَّم بهذه الرحمة المهداة التي جاءت بها هذه الشريعة، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107].
المذيع: جميل، شيخ خالد فيما يتعلق أيضاً بهذه الأحاديث الشريفة التي حثَّت على حسن الخلق، وعلى أن يترقيَ الإنسان في الدرجات العليا في هذا الجانب، حديث النبي –صلى الله عليه وسلم-: ((أن الرجل ليبلغُ درجةَ الصائم القائم بحسن خلقه)) [سنن أبي داود:ح4798، وصححه ابن حبان]، هذا مما يُحفِّز أيضاً على حسن الخلق، وأن يكون المؤمن حريصاً على إكمال خلقه، وأن يتأسَّى بالنبي –صلى الله عليه وسلم-، لعلنا نتحدث في هذا الجانب فيما يتعلق أيضاً بالتطبيقات التي كانت في سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام.
الشيخ: هو النبي –صلى الله عليه وسلم- كان مترجِماً للقرآن، مبيِّناً لأحكامه، عاملاً بشرائعه، ولذلك لما سُئِلَت عائشة -رضي الله تعالى عنها- عن خلقه قالت باختصار وإيجاز: (كان خُلُقُه القرآن) [أحمد في مسنده24601، والطبراني في الأوسط. قال محقق المسند: صحيح]، هذا الاختصار الموجَز الذي يبيِّن ما عليه النبي –صلى الله عليه وسلم- من طيب الأخلاق وكماله هو ترجمة للقرآن العظيم، ترجمة قوليةً، ترجمةً عمليةً، ترجمة إيمانية.
ولذلك ينبغي أن يُعرَف أن الإيمان الذي جاء به النبي –صلى الله عليه وسلم-، والإسلام الذي جاء به بيانه في سُنته وفي هديه وفي عمله، فبقدر أخذ الإنسان لذلك يفوز بإدراك ما كان عليه النبي –صلى الله عليه وسلم- ويفهم الإسلام بكلِّه، وبما جاء فيه من الهدى ودين الحق، النبي –صلى الله عليه وسلم- شهد الله تعالى له بكمال الخلق، فقال -جلَّ وعلا-: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:4]، قال ابن عباس: "وإنك لعلى دينٍ عظيم"[تفسير الطبري:23/925]، وهذا يبين الارتباطَ الوثيق، والتواصل المتمكِّن بين هذين الجانبين، بين محاسن الأخلاق بقدر ما يكون معه من حسن الخلق يكون معه من الديانة.
والحديث الذي ذَكرت هو بيان أن حسن الخلق في معاملة الخلق ليس خارجاً عن أبواب التعبُّد والتقرب إلى الله عزَّ وجلَّ، فإن المؤمن يبلغ بحسن خلقه هذه المنزلةَ الرفيعة للمشتغل بالعبادة التي لا نفع فيها للناس، العبادة الخاصَّة القاصرة، كثيرٌ من العباد يظن أن العبادة القاصرة هي الغاية والدرجةَ الرفيعةَ التي يسمو بها إلى أعلى المنازل، ويدرك بها رضا الله جلَّ وعلا، وهذا لا شك أنه طريق من طرق الفوز برضوان الله عزَّ وجلَّ، لكن ثمة طريقٌ قد يغفل عنه الناس وهو حسن المعاملة، هذا الحديث الذي رواه أصحاب السنن وكذلك ابن حبان في صحيحه: ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم))[سبق] يبين لنا عظيمَ ما يدركه الإنسان من الأجور والثواب بحسن الخلق؛ لأنه يدرك بحسن خلقه، بجميل معاملته للخلق درجة الصائم القائم، الصائم الذي لا يفطر، والقائم الذي لا ينام عن طاعة الله عزَّ وجلَّ وقيام الليل.
ولهذا نظائر في بيان عظيم فضل حسن الخلق، أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كما في السنن أنه قال –صلى الله عليه وسلم-: ((أثقَلُ شيءٍ في الميزان حسنُ الخلق)) [أبو داود4799، الترمذي:2003، وأحمد في مسنده:27496.قال محقق المسند: إسناده صحيح]، يعني أثقل ما يدركه الإنسان من الأجور يوم القيامة في الأعمال حسن خلقه، فبقدر ما يكون مع الإنسان من حسن الخلق يدرِك هذه الفضائل العظيمة التي ينال بها هذه المنازلَ العالية.
المذيع: الشيخ خالد أستأذنكم في عرض طرق التواصل معنا، وطرق التواصل لمستمعينا الكرام التي من خلالها يستطيعون أن يطرحوا ما لديهم من أسئلة أو مداخلات حول موضوع حلقتنا لهذا اليوم عن قول المصطفى -عليه الصلاة والسلام-: ((إنما بُعِثتَ لأتمم صالح الأخلاق))، التليفون أو الرقم الأول هو 0126477117 الرقم الآخر هو 0126493028، أما مشاركات الواتساب فيمكنكم أن ترسلوها عبر الرقم 0556111315.
أستأذنكم صاحبَ الفضيلة في هذا الاتصال من المستمع عبد العزيز الشريف، إلى أن يجهز الاتصال، أتحدث عن جانب مهمٍّ صاحب الفضيلة ألا وهو مسألة أن الإنسان ينبغي عليه أن يتعامل بحسن خلقه مع الأقربين قبل أن يكون ذلك مع الأبعدين فيما يتعلق بالأقارب وخاصةً الوالدين في هذا الجانب لو تتحدث عنه صاحب الفضيلة؟
الشيخ: سنتحدث عن هذا لكن حوارُنا السابق هناك حديث يترجم عظيم منزلةِ حسن الخلق عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: ((أنا زعيمٌ ببيتٍ في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)) [أبو داود في سننه:4800. وحسنه الألباني]، وكان قد قال: ((أنا زعيمٌ ببيتٍ في ربض الجنة لمن ترك المراء ولو كان مُحقًّا)) ((وأنا زعيمٌ ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب ولو كان مازحاً))، ثم جاء ليجمع جميع خصال الخير والبرِّ والمنزلة العادلة التي ينالها الإنسان بهذا الضمان النبوي أنا زعيم يعني أنا ضامن، ((أنا زعيمٌ بِبَيتٍ في أعلى الجنة لمن حَسُن خلقه))، وهذا يبين أن حسن الخلق أعلى المراتب وأشرف المنازل للمؤمن أن يحرصَ عليها، وأن يجتهد في بلوغها ليدرك فضل الله عزَّ وجل وحسن عطاياه.
ما أشرت إليه فيما يتعلق بالصحبة لا شك أن حسن الخلق منظومة مكتملة، إذا تخلَّق بها الإنسان فإنه سيكون على هذه السجيَّة في معاملتهم للقريب والبعيد، والموافِق والمخالف، ومن يحبُّ ومن يكره؛ لأن حسن الخلق ليس خاصًّا بمن تحبهم، ولا لمن يروق لك التعامل معهم، ولا بمن يحسن إليك، لا شكَّ أن هؤلاء لهم حقوقٌ قد تزيد، لكن ثمة أصلٌ وقاعدة مشتركة، وقاعدة تنتظم التعامل مع الناس، هو الإحسان إليهم، كفُّ الأذى عنهم، بذل الحقوق المشتركة لأهل الإسلام، ((حقُّ المسلم على المسلم خمسٌ)) [البخاري:1240، مسلم2162/4]، كفُّ الأذى عن كل أحدٍ من أهل الإسلام، وعن من له حق من غيرهم، هذا هو الحدُّ الأدنى الذي يتحقق للجميع.
ثم بعد ذلك هناك موجباتٌ للزيادة في حسن الخلق والمعاملة وهو يختلف باختلاف حال الناس، لكن أعلى الناس نصيباً من محاسن الأخلاق هم أقربهم صِلةً وأعظمهم حقًّا عليك، فأعظم الصِّلاتِ استحقاقًا لحسن الصحبة صلة الإنسان بأمِّه، فإن النبي –صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ من أحق الناس بحسن صحابتي، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: ((أُمُّك))، قال الرجل: ثم من يا رسول الله؟ قال: قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)). [البخاري:5971]
ففي ثلاث مرات بيَّن النبي –صلى الله عليه وسلم- أن أحقَّ الناس بحسن الصحبة وجميل العشرة وكريم المعاملة هي الأم، ثم بعد ذلك يَنتَقل الحق في مراتب، أولى الناس بحسن الصحبة بعد الأم الأب؛ لأنه المشارك في سبب الوجود، وبعد ذلك قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: ((أُختك وأخاك، ثم أدناك فأدناك)) [أحمد في مسنده:7105، وابن حبان في صحيحه3341، وصححه الحاكم]، لما سُئِلَ –صلى الله عليه وسلم- من أبرُّ؟ قال: ((أختَك وأخاك، ثم أدناك فأدناك))، أي الأقرب فالأقرب، فكلما توطَّدت الصلة، وزادت القرابة، وكانت العلاقة أوثقَ كانت حسن الصحبة مطلوبة.
المذيع: جميل، أستأذنكم صاحب الفضيلة فقط في هذا الاتصال من المستمع عبد العزيز الشريف، أخي عبد العزيز تفضل؟
المتصل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المذيع: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
المتصل: أسعد الله مساءكم بكل خير.
المذيع: ومساءكم.
المتصل: حيا الله الشيخ خالد.
الشيخ: الله يحييك.
المتصل: روى القرطبي في تفسيره أن أنس –رضي الله عنه- قال: أن فتًى من الأنصار يصلِّي مع النبي –صلى الله عليه وسلم- ولا يدع شيئًا من الفواحش والسرقة إلا رَكِبها، فذُكِرَ ذلك للنبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: ((إنَّ الصلاة تنهاه))[سيأتي تخريجه قريبا] فلا يلبس أن تاب وصلحت حاله، فقال رسول الله ألم أقل لكم علاقة الصلاة بحسن الخلق بارك الله فيكم.
والأمر الثاني: يقول بِشْرٌ الحافي-رحمه الله-: رُبَّ قارىء للقرآن والقرآن يلعنه، هل معنى ذلك أن بعض الناس يقرأ ولا يتخلَّق بأخلاق القرآن مع أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان خلقه القرآن؟
الأمر الثالث: أخلاق الرجل في بيته مع أهله وزوجه، حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- يأتِي إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- ويقول: "إن في لساني ذَرَباً على أهلي، قال –صلى الله عليه وسلم-: ((فعليك بالاستغفار)) [ابن ماجه في سننه:3817، أحمد في مسنده:23340. وإسناده ضعيف] حذيفة بن اليماني يريد أن يكون مع أولاده طيبَ اللسان، طيب الكلام، حلوَ المنطق، فكيف نكون مع أهالينا ونحسن أخلاقنا بارك الله فيكم؟
المذيع: شكراً لك أخ عبد العزيز، يا شيخ خالد الأخ عبد العزيز طرح ثلاث نقاط مهمة، ولعلنا نبدأ في الجانب الأول فيما يتعلق بحسن الخلق الذي كان متركزاً في الجانب العبادي في الصلاة خصوصاً؟
الشيخ: بالتأكيد أن الصلاة هي من أعظم ما يقيم الأخلاق على الجادَّة، ولذلك أمر الله تعالى بها في أول ما أمر من الشرائع، فأمر بها في مكة في أوائل بعثة النبي –صلى الله عليه وسلم- {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}[المزمل:1- 5]، فأمر الله -عزَّ وجلَّ- والرسول بالصلاة في أول الوقت يدلُّ على عظيم تأثيرها في إقامة الأخلاق، وإصلاحِ مسيرة الإنسان على وجه العموم في صلته بالله عزَّ وجلَّ ، وفي صلته بالناس، وقد جاء النص على ذلك في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}[العنكبوت:45].
وهذا يدل على أن الصلاة لها تأثيرٌ في إقامة الإنسان على الجادة في عاداته ، في تقويم سلوكه، لكن أيُّ صلاةٍ هي التي يتحقق بها هذا؟ هي الصلاة التي يكون الإنسان فيها حاضرَ القلب خاشعاً مُقبلاً على الله عزَّ وجلَّ، راغباً فيما عنده، مكمِّلاً لشروطها وأركانها وواجباتها وسائر مستحقاتها، هذه الصلاة هي التي تنتج هذه الثمرة، لكن كل صلاةٍ يصليها الإنسان إذا كانت صلاته صحيحة فلابد أن تَزيد فيه خيراً، لابد أن تزيد فيه استقامةً في سلوكه ومعاملته، لكن يتفاوت هذا بقدر تفاوت ما مع الناس من الأخلاق وطيب الأعمال وصلاحها واستقامتها.
وما ذكره الأخ من قصة الرجل الذي يصلي الخمس مع النبي –صلى الله عليه وسلم- ثم لا يدع شيئاً من الفواحش إلا ارتكبه، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم- تلك المقولة قال –صلى الله عليه وسلم- ((صلاته تنهاه))[أحمد في مسنده9778، والبزار في مسنده9217، وابن حبان2560. وصححه الألباني في الضعيفة1/58]، الحقيقة أن الحديث من حيث إسناده لا يخلو من مقال، لكن من حيث معناه صحيح فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذلك عاقبة المصلي إذا حافظ على صلاته، وأقامها على الوجه الذي يرضى الله تعالى عنه أن تستقيم أحواله وأن يقيم ما أمر الله تعالى به؛ لأن الصلاة عبادة جليلة بها تدرك المطالب.
أما هذا الحديث فهو حديث في ثُبوته نظر، وقد قال بعضهم أنه لم يقف على إسنادٍ له، ويبعُد أن يكون أحد الصحابة على هذا النحو من ظهور الفاحشة ثم لا يدع شيئاً من الفواحش إلا ارتكبه، فأخبروا النبي –صلى الله عليه وسلم- بذلك فقال: صلاته تنهاه، لو كان كذلك لكان ثمة معالجةٌ للأمر على نحوٍ مختلف، فالحديث هذا لا يثبت، وذكره بعضهم من جملة ما لا يصح من الأحاديث.
المذيع: الجانب المتعلق يا شيخ خالد فيما يخصُّ تعامل الإنسان أو خلق الإنسان في بيته مع أهله؟
الشيخ: نعم، أما هذا صلة ما كنا نتكلم عنه قبل قليل، أن محاسن الأخلاق مطلوبة مع كل أحد، لكن يجتهد الإنسان في إحسان الخلق وتقييمه مع أحق الناس بالحق، ويستعين على ذلك بسؤال الله -عزَّ وجلَّ- أن يعينه على محاسن الأخلاق.
عندما تتنبَّه يا أخي ويا أختي أن ثمة قصوراً في سلوكك احرص على تكميل ذلك، من الناس من يأنس بالخطأ، يألف التقصير، لا يتنبه إلى تعديل المسار، وهذا لا يتحقق به الكمال؛ لأن الكمال لا يكون إلا بمجاهدة وبذل وصبر ومعاناة، والخبر الذي ذكره أخونا قبل قليل وهو في مسند الإمام أحمد من حديث حذيفة قال: كنت رجلاً ذَرْبَ اللسان على أهلي، يعني في لسانه شيءٌ من الخشونة، وشيء من الصلب، قد خشيت أن يدخلني لساني النار، وهذا بشكواه للنبي –صلى الله عليه وسلم-، فقال له النبي –صلى الله عليه وسلم-: ((أين أنت من الاستغفار)). [ابن ماجه في سننه:3817، أحمد في مسنده:23340. وإسناده ضعيف]
فوجَّهه النبي –صلى الله عليه وسلم- إلى الاستغفار، هو في استشعار الإنسان بخطئه وسعيه في تصويب وإصلاح مسيرته؛ لأنه عندما يأنس الإنسان في الخطأ فلن يغيِّرَه، عندما يألف السوءَ لن يعدِّله، وبالتالي من المهم أن نستذكر هذا الأمر، وأننا بحاجة إلى أن نواجهَ أنفسنا بقصورها، بنقصها، بأخطائها، وأن نسعى إلى التكميل، وأن نطلب ذلك من خلال ما يسأل الله تعالى من الأسباب.
فالذي عنده قصورٌ في أخلاقه، في معاملة أهله، في معاملة زوجته، في معاملة أولاده؛ لأن من الناس من عنده عنفٌ ولا يعرف للكلمةِ الطيبة والابتسامةِ الرقيقة والمعاملة الحسنة، لا يعرف لها سبيلاً وليست في وارد استعماله أو معاملته للناس، وهذا من الخطأ، وقد يتصور بعض الناس أن هذه هي الرجولة أو أن هذا هو السلوك القويم الذي يكتسب به الاحترام، وهو يخطئ بهذا، النبي –صلى الله عليه وسلم- كان أرقَّ الناس وأكمل الناس وأحسن الناس معاملة، وكان على كل هذه الرقة والحسن واللطف في المعاملة من أعظم الناس مهابةً، المهابة لا تُكتسب بالعنف، والرشد والولاية والحزم ليس من لازمه أن يكون الإنسان عنيفاً.
"ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه"[مسلم:2594/78]، فلطِّف كلماتِك، عزِّبها رطبها أحسن، انتق الكلمة الطيبة، عندنا كلمتان كلاهما يرسل الغاية والمقصود فاختر أرقَّهما وألطفهما واحتسب الأجر في ذلك، يعني أنت مأجورٌ على هذا، هذا العمل ليس فقط لأجل أن ترضي الناس، بل أنت مأجورٌ على ذلك فيما بينك وبين الله عزَّ وجلَّ، فلنجتهد ونسأل الله عزَّ وجلَّ، ونجزم أنه عندما نجتهد، ونبذل الأسباب، وندعو الله تعالى أن يرزقنا محاسن الأخلاق، ويصرفَ عنا سيئها فإننا سندرك ما نأمل وستتقوى أخلاقنا، ونتذكر أن الكلمة الطيبة صدقة، وأن الابتسامة في وجه أخيك صدقة، فلا تحقرن المعروف شيئاً.
المذيع: جميل، الشيخ خالد أيضاً يبرُز في هذا الأمر جانبٌ مهم ألا وهو أن من آكد الناس أن يكونوا متخلقين بخلق الإسلام هم الدعاة، وكما يقال أيضاً أن من إمكانية، يمكن كل مسلم أن يكون داعية إلى الله سبحانه وتعالى فقط بحسن خلقه، وأنتم تعلمون أن كثيرًا من المجتمعات دخلت في دين الله أفواجًا بحسن الخلق، ما هي الكلمة التي ربما تُوجَّه إلى الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى وهم يتحملون العبء الأكبر فيما يتعلق بدعاية الناس وهدايتهم وإرشادهم ودلالتهم إلى طريق الله سبحانه وتعالى؟
الشيخ: ما في شكٍّ أننا لن نسع الناس بما عندنا من علوم هذا بالنسبة لأصحاب العلوم والمعارف والإرشاد والهداية والدعوة، ولن نسع الناس بما عندنا من أموال هذا بالنسبة لأصحاب الأموال والثراء، إنما يسعهم منا حسنُ الخلق، أوسع ما تستقبِل به الناس، وتستوعب به عمومَهم أن تحسِّن الخلق معهم، وأما الصلابة وسوءُ العشرة فإنها سبيل للتنفير، والله تعالى يقول لرسوله في محكم كتابه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران:159]، فالله تعالى يذكر لرسوله الذي أوحي إليه الحق المحض والهدى البيِّن الذي لا غبش فيه، والكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، مع ذلك يقول: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}[آل عمران:159]، فكان اللين ولطافة المنطق وحسن المعاملة السببَ الذي جذب به القلوب، {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا} على خلاف ذلك ولو معك الحق ولو كنت رسولا ونبيًّا {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران:159]، فإذا كانت الفظاظةُ وسوءُ العشرة وسوء الخلق تدفع الناس وتصرفهم عن الحق ولو كان ذلك ممثلاً في رسوله –صلى الله عليه وسلم- فكيف بمن دونه؟!
لذلك المهم أن يتلطَّف الإنسان في توجيه غيره وفي دعوته وأن يصبر، وأنا كما ذكرت قبل قليل في معاملتك لأهله، احتسب الأجرَ في انتقاء الأفضل في معاملة الولد لوالده، احتسب الأجر في معاملتك لانتقاء الأفضل، الوالد أقصد الأب والأم والولد أقصد الابن والبنت، الجميع في معاملتك، في معاملتك لإخوانك لأخواتك لأقاربك لذوي رحمك، اجتهد في الصبر عليهم، الناس معاملتهم فيها صعوبة، وهذه القضية في غاية الوضوح في القرآن الكريم: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ}[العاديات:6] أي جحود، فينبغي لنا أن نتعامل مع الناس بحسن الخلق ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.
وجُماع حسنِ الخلق في معاملة الناس أن تحسن إليهم ما استطعت من أوجه الإحسان، وأن تبذل لهم ما كان في مقدورك من أوجه البر، وأن تحتسب الأجر في ذلك عند الله عزَّ وجلَّ، فإن الاحتساب يختصر عليك شيئاً كثيراً من المعاناة التي تلقاها بسبب الجحود، والقاعدة الكبرى التي تنبثق منها فضائل الأخلاق، وتصدر عنها مكارم الآداب، يقول الله -جلَّ وعلا-: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}[الأعراف:199]، هذه الآية هي أجمعُ آية لمحاسن الأخلاق، وطريق تحسين الخلق في معاملة الخلق، {خُذِ الْعَفْوَ} يعني لا تُحمِّل الناس ما لا يطيقون، {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} يعني كن في معاملتك آمراً بكل خير وإحسان وبرٍّ، طيب قد يصدر منهم إساءة فهنا {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}.
المذيع: جميل جميل، الشيخ خالد لعل أيضاً هذا الحديث يمتدد ربما إلى الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ومن يشتغلون بهذا العمل الجميل، وهذا العمل الذي هو بصراحة رسالة عظيمة وشريفة يؤدِّيها المسلم في هذه الأرض، يعني يمكن ربما أن تكون هناك رسالة لو في حدود دقيقة يا شيخ خالد؟
الشيخ: بالتأكيد أن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر من أحوج الناس أن يتخلَّقوا بهذا الخلق، وهو أن تكون أخلاقهم على أكمل ما يستطيعون من محاسن الأخلاق، وذلك أن من دواعي قبول الحق حسنَ عرضه، فكلما أحسنا عرضَ الحق، ودعوةَ الناس إليه بهدى ورفق وإحسان، كان ذلك من دواعي القبول.
لكن أحياناً قد تقتضي المسألة والمعالجة لقضايا معينة أن يكون فيها شيءٌ من الحزم، أن يكون فيها شيء من إظهار جانب القوة والأخذِ بالحق بوضوح، هذه قضايا تبقى هي القضايا خلاف الأصل في المعاملة، الأصل في المعاملة الإحسان، الأصل في المعاملة اللطف، الأصل في المعاملة اللين، وإذا اقتضت المصلحة خلافَ ذلك، فإن ذلك هذا يُقَدَّر بقدره؛ لأنه علاج، والعلاج عندما يزيد قد يُهلِك، وعندما ينقُص قد لا يعالج.
المذيع: غفر الله لكم، طبعاً في ختام حديثنا وفي ختام حلقتنا لهذا اليوم نركِّز على أنه كما يقال: هناك أخلاقٌ أربعة هي أصلٌ لما ورائها من الأخلاق الفاضلة، وهي: الصبر والعفة والشجاعة والعدل، وهو ما أتينا عليه في حديثنا في هذه الحلقة مع ضيفنا وضيفكم صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور خالد بن عبد الله المصلح عضو الإفتاء وأستاذ الفقه بجامعة القصيم، الذي أيضاً نشكره على هذا الحديث الشيق والماتع والذي كنا نودُّ أن نطيل فيه لولا أن وقت الحلقة قد شارف على الانتهاء، أشكركم صاحب الفضيلة وأدعو لكم بالتوفيق والسداد.
الشيخ: آمين، ولك وللإخوة والأخوات، وأسأل الله التوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المذيع: وعليكم السلام ورحمة الله، وأنتم لكم الشكر الجزيل مستمعينا الكرام على حسن استماعكم وإنصاتكم وتفاعلكم معنا في هذه الحلقة، على أمل إن شاء الله أن نلقاكم في حلقة الأسبوع المقبل في هذا الوقت بإذن الله سبحانه وتعالى.