الحمد لله رب العالمين، أحمده حق حمده، لا أحصي ثناءً عليه كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه- ومن اتبع سنته بإحسانٍ إلى يوم الدين .. أما بعد،،،
فقد استمعنا في صلاة فجر هذا اليوم، يوم السادس والعشرين من شهر رمضان المبارك عام ستةٍ وثلاثين وأربعمائةٍ وألف من هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هذه القراءة من خواتيم سورة التوبة، وجاء فيها قول الله -جل وعلا-: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾[التوبة:122].
هذه الآية للعلماء في تفسيرها قولان:
- ذهب جماعةٌ من أهل العلم إلى أن هذه الآية متصلة بما تقدم من آيات أحكام الجهاد، فإن ما سبق بين الله تعالى فيه جملة من أحكام الجهاد، فكانت هذه الآية تتمة لذلك، وتعقيب على ما تقدم، فإن الآيات السابقة أكد الله تعالى فيها عظيم قدر هذه الفريضة الشعيرة، ثم ندب إلى المبادرة إلى القيام بها، بعد ذلك نبه إلى أن هذه الفضائل فضائل الجهاد التي جاءت بها النصوص، لا تقتضي أن ينفر المؤمنون جميعًا، ويخلو بلاد الإسلام، ويخلو مدنهم من الرجال، فإن الفضائل لا تستدعي ذلك، ولا تسوغ هذا.
ولذلك قال: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً﴾، الكون المنفي هنا، كونٌ شرعي، وهو يدل على التحريم، وقد يأتي للنفي القدري، فهو إما:
- نفيٌ كوني.
- أو نفيٌ شرعي في كلام الله -عز وجل-.
لكن في هذا السياق، هو نفيٌ شرعي، ما كان أي لا يكون شرعًا ولا أمرًا أن ينفر المؤمنون كافة، ثم قال: ﴿فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ﴾، ينفر عدد يحصل بهم حماية المسلمين، وسد الثغور والكفاية، ورد الشر، لماذا؟
قال: ﴿لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ﴾، ليتفقهوا أي الذين بقوا، ولم يخرجوا يشتغلوا بالفقه في الدين، لينفعوا أنفسهم، وينفعوا أقوامهم هذا هو القول الأول في تفسير الآية.
- والقول الثاني في تفسير هذه الآية: أن النفير هنا ليس النفير للجهاد، إنما هو النفير لطلب العلم، قال فيه -جل وعلا-: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً﴾، أي جرى حكم الله ألا يكون الخروج لطلب العلم والرحلة في تحصيله من المؤمنين كافة، فإن النفوس لا تقوى على ذلك، ولا تنشط لحمل العلم.
وإنما يكون هذا من فئة، ولذلك قال: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ﴾، والطائفة هم الجماعة القليلة، ﴿لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ﴾، أي لأجل أن يحصل لهم الفقه في الدين، وهو تعلم معاني كلام الله، ومعاني كلام رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
فإن الفقه في الدين، هو معرفة معنى قول الله وقول رسوله، ومعرفة الأحكام من كلام الله، وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- ﴿لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ﴾، ولينذروا قومهم، أي ينذروا من يحتاج إلى إنذار، ويعلم من يحتاج إلى تعليم إذا رجعوا إليهم، يعني بعد طلبهم للعلم، وتحصيلهم له.
﴿لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾، أي لأجل أن يحذروا مغاضب الله، ويحذروا مساخطه، ويحذروا ما يوقعهم في الإثم والوزر، هذا معنى الآية في كلام المفسرين، والأقرب والله تعالى أعلم:
أن الآية صادقة على المعنيين، لكن فيما يظهر أن القول الثاني، هو الأقرب إلى دلالة الآية؛ لأنه قال: ﴿لِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ﴾، يعني بعد النفير، وهذا في حق من خرج لطلب العلم، وتحصيله والرحلة في إدراكه، فإنه إذا رجع ينفع قومه.
ومن أبرز ما تفيده هذه الآية، لها فوائد كثيرة، ولا نريد أن نطيل في ذكر الفوائد؛ لأن الإخوان قالوا الأسئلة كثيرة، ولم نتمكن من الإجابة، فنعطيها اليوم قدرًا أوسع من غيرها من المجالس، وبالتالي نقتصر فقط على هذه الفائدة:
- أن من طلب العلم ينبغي له حتى يكون طلبه للعلم صحيحًا مأجورًا عليه، أن ينوي نيتين بالعلم:
- النية الأولى: رفع الجهل عن نفسه، ينوي رفع الجهل عن نفسه، ليتفقه في الدين، يفقه قول الله وقول رسوله.
- والنية الثانية: أن ينفع غيره، ولذلك قال: ﴿وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ﴾.
فمن استحضر هاتين النيتين صلحت نيته في طلب العلم، ولذلك منزلة عليا، وكبرى حتى قال الإمام أحمد لما سئل عن أفضل العمل، قيل له: ما أفضل العمل؟ قال: طلب العلم، لمن صحت نيته.
قال: طلب العلم لا عدل له لمن صحت نيته، قالوا: كيف تصح نيته؟ فذكر أمرين قال:
- أن ينوي رفع الجهل عن نفسه، أن ينوي نفع نفسه، ونفع غيره.
وهذا هو الذي ذكره الله تعالى هنا في حق النافرين لطلب العلم، قال: ﴿لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ﴾، هذا لنفع أنفسهم، ﴿وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ﴾، وهذا نفع غيرهم، وبه يكتمل صحيح نيته، وسليمها.
اللهم اجعلنا من عبادك المتقين وحزبك المفلحين، وأوليائك الصالحين، ربنا ارزقنا الفقه في الدين، علمنا التأويل، واجعلنا ممن نفعه علمه، وارتفع به في الدنيا والآخرة يارب العالمين.