الحمد لله رب العالمين، أحمده حق حمده له الحمد كله أوله وآخره، ظاهره وباطنه، وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، رب العالمين لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صفيه وخليله خيرته من خلقه، بعثه الله بين يدي الساعة، بين يدي القيامة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إليه بإذنه وسراجًا منيرا، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهادٍ بالعلم والبيان، والسيف والسنان حتى ترك الأمة على محجة بيضاء طريق واضح لا لبس فيه ولا اشتباه لا يزيغ عنه إلا هالك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن نعم الله تعالى على عبادة كثيرة، يقول -جل وعلا- ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾[إبراهيم:34]، إلا أنه إذا تأمل الإنسان وتفكر في أنواع المنن، وألوان النعم تيقن أن أعظم من يمن الله تعالى به على الناس أن يهديهم الصراط المستقيم، أن يرزقهم الإيمان به، والقيام بحقه، وتحقيق العبودية له، فإن هذا من أعظم من يمن الله تعالى به على الإنسان؛ لذلك كان الفلاح والنجاح والفوز والسبق ليس في تحقيق وتحصيل شيء من النعم مهما تنوعت لا في نعمة ولد، ولا في نعمة مال، ولا في نعمة غنى، ولا في نعمة جاه، ولا في نعمة منصب، ولا في أي نوع من هذه النعم على اختلافها وتنوعها؛ إنما النعمة الحقيقة التي يفوز بها الإنسان ويسبق غيره من الناس هو أن يحقق العبادة لله في هذه الدنيا، أن يكون من عباد الله المتقين، أن يكون من حزبه المفلحين أن يكون من أوليائه الصالحين، هذا هو أعظم من يمن الله تعالى به على العبد؛ فلذلك من هدي إلى الصراط المستقيم فليعرف قدر ما أنعم عليه رب العالمين، وليثني عليه خيرًا كثيرا، وليشكره على ذلك شكرًا عظيما، فإن النعم إنما تدوم بالشكر وتزول بالكفر.
ومن كفران النعم أن يغفل عنها الإنسان، من كفران النعم أن يغفل الإنسان عن إنعام ربه عليه؛ لذلك ينبغي أن يتذكر أن هدايته للصراط المستقيم نعمة تستوجب شكرًا، يقول الله مذكرًا صحابته الكرام صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ﴿ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ ﴾[النساء:94]، أي كذلك مثل ما ترون المشركين، وكما ترون حالهم من العمى والظلمة، والبعد عن الحق والهدى، كذلك كنتم من قبل ﴿ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ﴾[النساء:94]، أي تفضل عليكم بأن يسر لكم الهدى، وأن نقلكم من تلك الظلمة إلى ذلك النور يقول الله -جل وعلا- ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾[البقرة:257]، ولما أسلم قوم من الناس، ورأوا إن في إسلامهم منة على النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث آمنوا به وأسلموا وغيرهم من العرب وغيرهم من الناس لم يقبلوا على دين الإسلام أتدرون ماذا قال الله تعالى لهم ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ ﴾[الحجرات:17]، الله هو الذي يمن عليكم أن اصطفاكم واختاركم من بين سائر الناس فسلك بكم هذا الطريق، وهداكم هذا السبيل.
لهذا أيها الأخوة من المهم ونحن في مثل هذه الأعمال الصالحة المتنوعة من صيام وقيام وقراءة قرآن وصدقة وإحسان وإعانة، وغير ذلك من أوجه البر التي نتقرب بها إلى الله في مثل هذه المواسم المباركة من المهم أن نرى نعمة الله علينا أن سخرنا لهذا، كم هم اللذين حرموا هذه النعمة؟ إنهم كثر، وهذا شعورك به يقلل العبادة في نظرك، يقلل ما تقدم في جنب ربك؛ ولهذا لما عرف النبي -صلى الله عليه وسلم- عظيم حق ربه عليه لم يمن عليه بشيء من عمله، بل لما قالوا له يا رسول الله كان يقوم حتى تتورم قدماه، أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال -صلى الله عليه وسلم- «أفلا أكون عبدا شكورا».
إن الإنسان يحتاج إلى أن يتذكر هذه المعاني؛ لأنه إذا رأى عمله وظن أنه من نفسه قد يصيبه ويدب إلى قلبه شيء من العجب الذي يحبط العمل، هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام في السنة الخامسة من الهجرة جاءه العرب، وتكالبوا عليه من كل جهة، وتحالفوا على أن يستأصلوا شأفة المسلمين، فيسر الله أن حفر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخندق الذي حال بينه وبين الأحزاب، ماذا كان الصحابة يقولون وهم يحفرون الخندق يجاهدون في سبيل الله، ماذا كانوا يقولون؟ كانوا يقولون والله لو الله ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا ، فيذكرون نعمة الله عليهم أن سخرهم لهذا العمل الصالح أن جعلهم مهتدين للإسلام وقد ضل غيرهم، أن جعلهم قائمين بالصلاة وقد تركها غيرهم، أن جعلهم مهتدين بالصدقة والإحسان وسائر ألوان البر وقد تركها غيرهم. لذلك من المهم أن تتذكر نعمة الله عليك فيما أنت فيه من الصالحات، واعرف أن كل قربى وكل حسنة، وكل صالحة في صيام في صدقة في صلاة في أي نوع من أنواع القربات أعرف أن الله هو المتفضل عليك بها، والله لولا الله ما صلينا، والله لولا الله جئنا إلى مثل هذه المجالس التي يذكر فيها ربنا العالمين، والله لولا الله ما أخرجنا ريالا ولا تصدقنا بدرهم ولا دينار والله لولا الله ما انشرحت صدورنا بالطاعة والإحسان، فلنحمد الله أيها الأخوة أن سلك الله بنا هذا الطريق القويم الذي نجني نحن نفعه في الدنيا قبل الآخرة.
يظن الظانون ويتوهم بعض المتوهمين أن الطاعات يستفيد منها الله جل في علاه، حاشا فهو الغني عنا وعن عباداتنا، في الصحيح من حديث أبي ذر يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- «يقول الله» حديث إلهي «يقول الله يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم» يعني لو كان الناس كلهم، والجن كلهم على قلب محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- في التقوى والإيمان، فهو أتقى عباد الله وأخشاهم وأعلمهم به لو كان الجميع على قلبه -صلى الله عليه وسلم- ما زاد ذلك في ملكه شيئا «يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم كانوا» على العكس المقابل «على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيرًا» ماذا يصنع « فليحمد الله» يقول اللهم لك الحمد أن يسرت لنا الطاعة، وأن قبلتها منا وأن أثبتنا عليها يا ربنا، «فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه».
هذه الكلمة أيها الأخوة تذكرة أذكر بها نفس وأخواني ونحن نقبل على موسم من مواسم الله عظيم، موسم من خير أيام الزمان ولياليه، موسم فيه ليلة هي خير من ألف شهر، غدًا بغروب شمس يوم العشرين تبدأ العشر الأواخر من رمضان التي فيها خير ليالي الزمان التي قال الله تعالى فيها ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾[القدر:1، 5]
هذه الليلة تحريها وطلبها يبتدئ من غروب شمس يوم غدٍ وهو المكمل للعشرين، والعشر وما يتعلق بها من الفضائل، وما يتعلق بها من الاجتهاد، وما يتعلق بها من تحري ليلة القدر تبتدئ بغروب شمس يوم غدٍ.
وكذلك الاعتكاف الذي هو من سنن العشر الأواخر من رمضان إنما يكون بغروب شمس يوم غدٍ، يدخل المعتكفون المعتكف ويبدأ اعتكافهم كما كان رسول الله -صلى اله عليه وعلى آله وسلم- يصنع، وكما كان أصحابه يسيرون على طريقه ومنهاجه -صلى الله عليه وسلم-، فإن اعتكاف العشر يبتدئ بغروب شمس يوم العشرين.
وبهذا أقول من المهم أن نحسن القصد له والنية، وسنتكلم إن شاء الله تعالى نحن في كل ليلة بعد صلاة التراويح بإذن الله سنجلس مجلسًا نتذاكر فيه شيئا من العلم النافع الذي يفيدنا وينبهنا وسنجيب على أسئلتكم إن شاء الله تعالى.
الأمر الثاني أيضًا بعض صلاة الفجر سيكون لنا مجلس في هذا المكان نتناول فيه أيضًا جملة من المسائل التي نحتاجها في أمور هذه الأيام، وأيضا نجيب على مسائلكم إن شاء تعالى.
من المهم أيها الأخوة أن نقبل على هذه العبادة بنية صادقة، ورغبة جازمة فإن الأعمال والفضائل والخيرات تبلغ أحيانًا بالنيات أكثر منها بالأعمال، الفضائل والهبات يبلغها الإنسان أحيانا بنيته مالا يبلغ ذلك بعمله، أرئيتم ما جاء في الصحيح من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: «إذا مرض ابن آدم أو سافر كتب الله له ما كان يعمله صحيحًا مقيما» أي فضل أكبر من هذا الفضل ما الذي بلغه ذلك، ما الذي بلغه أن الله يكتب له ثوابًا وأجرًا عمله وهو لم يعمل شيء؟
الذي بلغه ذلك هو ما في قلبه من صدق الرغبة في ما عند الله من العمل الصالح الذي داوم عليه.
أريتم يا أخوة، بعض الناس يتساءل، الذي يغمى عليه ويبقى سنوات ممتدة في الإغماء وهذا يحصل لبعض المرضى يمتد ثلاثة أربع سنوات خمس عشر سنوات وهو مغمًا عليه هذا طول عمره من رحمة ربه به إذا كان له عملا صالح، هذا يكتب له صلاة كل يوم كان يصليها وهو صحيح، يكتب له صدقات ما كان يتصدق به في صحته يكتب له كل عمل صالح كان يعمله، أفرض أن ما عنده إلى الواجبات يكتب له توحيده، لا إله إلا الله هذا العقد الذي في القلب يكتب له مدة حياته، فيؤجر على ذلك ولو كان غائبًا مغمًا عليه، فضل الله واسع النوايا.
النيات إذا صدق العبد في تحريرها وتصفيتها سبق سبقا عظيما، السبق الحقيقي إلى الله هو سبق القلوب قطع المسافة بالقلوب إليك لا بالسير فوق مقاعد الركبان، ما أحد يسبق إلى الله بركب وركوب دابة يسبق بها إلى الله، لا إنما السبق الحقيقي هو سبق القلوب ثق تماما أن القلب السابق لا بد أن يتبعه البدن إلا أن يكون هناك مانع أو حاجز، أو يعجز عن ذلك، وإلا فالقلوب السابقة إلى الله لابد أن تتبعها الأبدان حتى لا يقول قائل إن من الناس من يكون نيته صالحه لكن ما يعمل صالح؟ نقول في نيته نقص، إذا كان يمكنه أن يعمل الصالح ولم يعمل فإن في نيته نقصًا، فإن في نيته نقصا هو الذي سبب هذا التأخر في العمل الصالح مع تمكنه منه.
أما إذا صدق الإنسان الرغبة ثم لم يدرك ما يريد ما تمكن من العمل الصالح لوجود ما يمنع إما عدم قدرة أو وجود حائل، أو وجود مانع هذا يكتب له أجره كاملًا كما لو عمل العمل.
ألم تسمعوا إلى ما قاله رسول الله -صلى الله عيه وسلم- في رجوعه من غزوة ذات العسرة غزوة تبوك في السنة السابعة من الهجرة، ألم تسمعوا ما قال وهو راجع في ذلك الغزو الشديد الصعب قال لأصحابه: «إن أقومًا بالمدينة» وهو في طريقه عائد من تبوك «ما سرتم مسيرًا، ولا نزلتم واديًا، إلا شاركوكم في الأجر» يعني كان لهم من الأجر كما لكم من الأجر «قالوا يا رسول الله وهم في المدينة، قال وهم في المدينة حبسهم العذر» وفي رواية «حبسهم المرض» هؤلاء قوم خرجوا بقلوبهم إلى الله -عز وجل-، خرجوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بقلوب راغبة ترجوا ما عند الله لكن الأبدان قعدت لوجود ما يمنعها، والعذر الذي يحول بينها وبين الخروج؛ لذلك يا أخواني من المهم ونحن نسعى لكسب الحسنات، والفوز بسعادة الدنيا، وطمأنينة الآخرة من المهم أن نستحضر هذه المعاني، المعنى الأساس أنك عامل الله بقلب صادق وستجد فتوحات عظيمة وتيسير كبير وإعانة على الطاعة والإحسان فوق ما تتصور، وفوق ما تظن أنه في قدرك وإمكانك بعض الناس يقول بحولي بقوتي بجهدي، لا يا أخي أنما هو فضل الله الذي إذا أصابك يسر لك الخير؛ ولهذا كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- «اللهم اهدنا» شف «ويسر الهدى لنا» ما قال اهدنا بس قال «اهدنا ويسر الهدى لنا» لأن الهدى قد يكون بينك وبينه عوائق، قد يحول بينك وبيه حوائل لكن إذا سألت الله التيسير يسره الله تعالى لك وطوى لك المراحل، وبلغك ما تتمنى من الصالحات ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾[العنكبوت:69].
اللهم اجعلنا من عبادك المتقين، اللهم اجعلنا من عبادك المتقين، اللهم اجعلنا من عبادك المتقين وحسبك المفلحين، وأوليائك الصالحين، وفقنا ربنا لقيام ليلة القدر، اللهم وفقنا لقيام ليلة القدر، اللهم يا ربي وفقنا لقيام ليلة القدر، واجعلنا من أسعد عبادك بك ومن أوفرهم نصيبا بعطائك بفضلك وإحسانك يا رب العالمين.