إِنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا وَمِنْ سَيِّئاتِ أَعْمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا.
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، إِلَهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صِفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ، بَعَثَهُ اللهُ باِلهُدَى وَدِينِ الحَقِّ بَيْنَ يَدِيِ السَّاعَةِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، بَلَّغَ الرِّسالَةَ وَأَدَّى الأَمانَةَ وَنَصَحَ الأُمَّةَ، وَجاهَدَ في اللهِ حَقَّ الجَهادِ حَتَّى أَتاهُ اليَقِينُ وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ، فَصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ بِإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ، اتَّقُوا اللهَ تَعالَى حَقَّ التَّقْوَىَ، وَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلَهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لا يَتَحَقَّقُ إِيمانُ أَحَدٍ إِلَّا بِمَحَبَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَدْ أَخْرَجَنا اللهُ تَعالَى بِهِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، عَرَّفَنا بِهِ سُبَلَ الِهدايَةِ، عَرَّفَنا بِهِ طَرِيقَ النَّجاةِ، لَمْ يَتْرُكْ خَيْرًا إِلَّا دَلَّنا عَلَيْهِ وَلا شَرًّا إِلَّا حَذَّرَنا مِنْهُ، تَرَكَنا عَلَى مَحَجَّةٍ بَيْضاءَ لَيْلُها كَنِهارِها لا يَزْيغُ عَنْها إِلَّا هالِكٌ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ تَعالَى عَنْ عَظِيمِ ما اتَّصَفَ بِهِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ بِالمؤْمِنينَ: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ التوبة:128.
هَذِهِ هِيَ خِصالُهُ وَهَذِهِ هِيَ خِلالُهُ وَهَذِهِ هِيَ صِفاتُهُ مُنْذُ أَنْ قالَ اللهُ تَعالَى لَهُ في مُحْكَمِ كِتابِهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2)وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ المدَّثِرْ:1-4 ، لَمْ يَفْتَأْ وَلَمْ يَنْفَكَّ صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ عَنْ دَعْوةٍ للهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهِدَايَةٍ لِلخَلْقِ وَدِلالةٍ عَلَى كُلِّ بِرٍّ وَإِخْراجٍ لِلنَّاسِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، سَعَى لَهُمْ بِكُلِّ خَيْرٍ وَعَمَلٍ لَهُمْ بِكُلِّ ما في وُسْعِهِ وَطاقَتِهِ في هِدايَةِ النَّاسِ وَإِخْراجِهِمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، فَحَقُّهُ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ، وَلا يَتَحَقَّقُ الِإيمانُ بِهِ إِلَّا بِتَصْدِيقِهِ في خَبَرِهِ وَالانْقِيادِ لِحُكْمِهِ وَالمحَبَّةِ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
لِذَلِكَ بَيَّنَ هَذا لأُمَّتِهِ بَيانًا واضِحًا ظَاهِرًا؛ فَفِي صَحِيحِ الإمامِ البُخارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْد اللهِ بْنِ هِشامٍ, قالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ» فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ، وَاللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الآنَ يَا عُمَرُ»البخاري(6632)؛ الآنَ كَمُلُ إِيمانُكَ، الآنَ أَدَّيْتَ ما يَجِبُ عَلَيْكَ مِنْ حَقِّ رَسُولِكَ، الآنَ هُدِيتَ الرُّشْدَ وَعَرَفْتَ مَراتِبَ الحُقوقِ في المحَبَّةِ، فَمََحَبَّةُ اللهِ فَوْقَ كُلِّ مَحَبَّةٍ لا يُضارِعُها شَيْءٌ وَلا يُساوِيها شَيْءٌ، فَحُبُّهُ لَيْسَ كَحُبِّ غَيْرِهِ، لَيْسَ لَهُ فِيِهِ شَرِيكٌ جَلَّ في عُلاهُ، قالَ اللهُ تَعالَى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا﴾ أَيْ: أَمْثالًا وَنُظَرَاءَ، ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ البقرة:165 .
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ مَحَبَّةُ رَسُولِهِ صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ، وَمَحَبَّةُ الرَّسُولِ تابِعَةٌ لمحَبَّةِ اللهِ، هِيَ فَرْعٌ عَنْها هِيَ قَرِينَتُها، فَمَنْ أَحَبَّ اللهَ؛ أَحَبَّ رَسُولَهُ، وَلَذِلَكَ جاءَتِ الأَحادِيثُ في بَيانِ الاقْتِرانِ بَيْنَ مَحَبَّتِهِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ؛ قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: «ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الإِيمانِ؛ أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِواهُما، وَأَنْ يُحِبَّ الرَّجُلَ لا يُحِبُّهُ إِلَّا للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ في الكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ كَما يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى في النَّارِ«البُخارِيُّ(16), وَمُسْلِمٌ(43).
فَمَحَبَّةُ اللهِ أَصْلُ كُلِّ مَحَبَّةٍ صالحَةٍ نافِعَةٍ رَاشِدَةٍ، فَمَحَبَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَحَبَّةِ اللهِ جَلَّ وَعَلا، وَهِيَ مُقَدَّمةٌ عَلَى مَحَبَّةٍ النَّفْس كَما مَضَى في حَدِيثِ عُمَرَ، بَلْ مُقَدّمََةٌ عَلَى مَحَبَّةِ الوَلَدِ وَالوالِدِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، جاءَ في الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»البُخارِيُّ(15), وَمُسْلِمٌ(44)، وَذَكَرَ الوالِدَ أَوَّلًا؛ لأَنَّ حُبَّهُ سابِقٌ؛ وَلأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ لا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ، فَقَدَّمَ مَحَبَّةَ الوالِدِ مَعَ كَوْنِ مَحَبَّة الوَلَدِ قَدْ تَكُونُ أَعْظَمَ في كَثِيرٍ مِنَ الأَحْيانِ، إِلَّا أَنَّهُ قَدَّمَ الوَالِدَ لِيَشْمَلَ كُلَّ إِنْسانٍ، ثُمَّ إِنَّ مَحَبَّةَ الوالِدِ مُقَدَّمَةٌ في الزَّمانِ وَالسَّبْقِ لمحَبَّةِ الوَلَدِ فِهِيَ سابِقَةٌ عَلَى مَحَبَّةِ الوَلضدِ.«لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ«البخاري(15), ومسلم(44).
وَإِنَّ تَرْجَمَةَ هَذا في انْجِذابٍ قَلْبيٍّ حَقِيقِيٍّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّ تَرْجَمَةَ المَحَبَّةِ - أَيُّها المؤْمِنُونَ - لَيْسَ أَمْرًا نَظَرِيًّا يُقالُ بِالأَلْسُنِ وَيَتَخَلَّفُ عَنْهُ عَمَلُ القَلْبِ، مَحَبَّةَ النَّبِيِّ عَمَلٌ قَلْبِيٌّ يَجِدُ فِيهِ الإِنْسانُ انْجِذابًا لِهَذا الرَّجُلِ الَّذي أَخْرَجَنا اللهُ تَعالَى بِهِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ.
تَخَيَّلْ لَوْ أَنَّكَ لمْ تَعْرِفْ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللهِ كَيْفَ سَتَكُونُ حَياتُكَ؟ وَكَيْفَ سَتَعْرِفُ الهُدَى مِنَ الضَّلالِ؟ كَيْفَ سَتَعْرِفُ اللهَ؟ كَيْفَ سَتَعْرِفُ الطِّرِيقَ الموصِلَ إِلَيْهِ؟ كَيْفَ سَتَنْجُو مِنَ النَّارِ وَتَدْخُلُ الجَنَّةَ؟ إِنَّهُ لا سَبِيلَ لِدُخُولِ الجَنَّةِ إِلَّا بِمَعْرِفَتِهِ وَالإيمانِ بِهِ صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ وَمَحَبَّتُهُ، جاءَ في الصَّحِيحِ أَنَّهُ قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنا أَوَّلُ شَفِيعٍ في الجَّنَّةِ»مُسْلِمٌ(196)؛ فَلا يَشْفَعُ أَحَدٌ في دُخُولِ الجَنَّةِ قَبْلَهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَمَّ.
وَقَدْ قالَ كَما في صَحيحِ الإِمامِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: «آتِي بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَسْتفْتِحُ، فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ لَا أَفْتَحُ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ»مُسْلِم(197)؛ فَلا سَبِيلَ لأَحَدٍ أَنْ يَصِلَ إِلَى الجَنَّةِ أَوْ أَنْ يُدْرِكَ سَعادَة ًفي الدُّنْيا أَوْ سَعادَةً في الآخِرَةِ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَلِهذا كانَتْ مَحَبَّتُهُ مَحَبَّةَ انْجِذابٍ قَلْبِيٍّ يَجِدُهُ المؤْمِنُ في قَلْبِهِ لهَذا الَّذي أَخْرَجَكَ اللهُ تَعالَى بِهِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، عَرَّفَكَ بِاللهِ وَدَلَّكَ عَلَى الخَيْرِ، اصْبِرْ وَكابِدْ لِيُوصِلِكَ إِلَى الهُدَى.
وَقَدْ قالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ أُمَّتِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَجَعَلَتِ الدَّوَابُّ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهِ، فَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ وَأَنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيهِ»البُخارِيُّ(6483), وَمُسْلِمٌ(2284) أَيْ: أَنْ تَدْخُلَ فِيها كَما هُوَ الشَّأْنُ عِنْدَما يُوقِدُ النَّارَ يَأْتِي إِلَيْهِ الفَراشُ وَنَحْوُهُ لِيَسْقُطَ فِيهِ، «فَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ » هَذا هُوَ شَأْنُهُ وَهَذا هُوَ عَمَلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَردُّنا عَنِ النَّارِ، في غايَةِ الصَّبْرِ وَالمصابَرَةِ وَالعِنايَةِ وَالحِفْظِ، فَهُوَ آخِذٌ بِحُجَزِنا، أَيْ: بِما يُعْقَدُ عَلَى أَوْساطِنا أَنْ نَقَعَ في النَّارِ شَفَقَةً مِنْهُ وَرَحْمَةً وَمَحَبَّةً لأُمَّتِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ تَمَنَّى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَلْقاكُمْ أَيُّها المؤْمِنُونَ، يا مَنْ آمَنْتُمْ بِهِ وَلَمْ تَرَوْهُ، فَقالَ كَما في الصَّحيحِ: «وَدِدْتُ لَوْ أَنَّا رَأَيْنا إِخْوانَنا» فَقالَ الصَّحابَةُ: يا رَسُولَ اللهِ أَوَ لَسْنا إِخْوانَكَ؟ قالَ: «أَنْتُمْ أَصْحابِي وَإِنَّما إِخْواني قَوْمٌ يَأْتُونَ بَعْدِي يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي» مُسْلِمٌ(2832),وَنُشْهِدُ اللهَ عَلَى أَنَّنا نَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، وَأَنَّنا نُؤْمِنُ بِهِ رَسُولًا خاتِمًا لِكافَّةِ الخَلْقِ مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ، ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ الأعراف:158 .
وَنُؤْمِنُ أَنَّ كُلَّ مَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ فَقَدْ نَجا مِنَ الهَلاكِ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْ هَدْيِهِ وَخَرَجَ عَنِ الإيمانِ بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، حَقٌّ ثابِتٌ في قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَعْتَقِدَ ذَلِكَ، فَقَدْ قالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيما رَواهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ» يُقْسِمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَسْمِعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ» وَالمقْصُودُ بِالأُمَّةِ كُلُّ مَنْ جاءَ بَعْدَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّاسِ كَافَّةً، فَهَذِهِ أُمَّةُّ الدَّعْوَةِ وَهِيَ شامِلَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، جَميعُ النَّاسِ كُلُّ البَشَرِيَّةِ الَّذينَ أَدْرَكُوا بَعْثَتَهُ وَجاءُوا بَعْدَهُ، فَهُمْ داخِلُونَ في هَذا الحَدِيثِ، «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَسْمَعُ بي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرانِيٌّ ثُمَّ لا يُؤْمِنُ بِي إِلَّا كانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» مُسْلِمٌ(153)فَمَنْ آمَنَ بِهِ دَخَلَ الجَنَّةَ وَمَنْ عَصاهُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ كانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ.
إِنَّ تَحْقِيقَ المحَبَّةِ القَلْبِيَّةِ - أَيُّها المؤْمِنُونَ - لَيْسَ دَعْوَى، إِنَّهُ انْجِذابٌ قَلْبِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُقْدِمُ الإِنْسانُ فِيهِ مَحَبَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ مَحابِّهِ، جاءَ في صَحيحِ الإِمامْ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: «مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لي حُبًّا ناسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمالِهِ»مُسْلِمٌ(2832), يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي وَدَفَعَ مُقابِلَ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ أَهْلَهُ وَمالَهُ، فَجَعَلَ الأَهْلَ وَالمالَ ثَمَنًا لِرُؤْيَتِهِ صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ، وَلهذا تَمَنَّى رُؤْيَتَهُ أَهْلُ الإيمانِ الصَّادِقُونَ، أَهْلُ الإيمانِ المحِبُّونَ لَهُ، أَهْلُ الإِيمانِ العارِفُونَ بِقَدْرِهِ.
وَقَدْ يَقُولُ قائِلٌ: هَذِهِ المحَبَّةُ كَيْفَ نُحَصِّلُها وَكَيْفَ نُدْرِكُها؟ وَإِنَّ إِدْراكَها وَتَحْصِيلَها يَسِيرٌ لمنْ يَسَّرَهُ اللهُ لَهُ، إِنَّ إِدْراكَكَ عَظِيمٌ ما مَنَّ اللهُ بِهِ عَلَيْكَ باِلإيمانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَبِعْثَتِهِ هُوَ أَوَّلُ أَسْبابِ مَحَبَّتِهِ، فَإِنَّ اللهَ أَخْرَجَكَ بِهِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، لَيْسَ ظُلْمَةً وَاحِدَةً وَإِنَّما هِيَ ظُلُماتٌ وَلَيْسَتْ ظُلماتٍ في دارٍ مِنَ الدُّورِ، ظُلُماتٌ في الدُّنْيا وَظُلُماتٌ في البَرْزَخِ في القَبْرِ وَظُلُماتٌ يَوْمَ القِيامَةِ، كُلُّ تِلْكَ الظُّلُماتِ أَخْرَجَكَ اللهُ تَعالَى مِنْها بِإِيمانِكَ وَاتِّباعِكَ لمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَفَلا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَبَّ مَنْ أَخْرَجَكَ اللهُ تَعالَى بِهِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ؟ بَلَى، وَاللهِ إِنَّنا نُحِبُّهُ وَنُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَحَبَّتِهِ، وَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُمِيتنا عَلَى مَحَبَّتِهِ وَسُنَّتِهِ، وَأَنْ يَرْزُقَنا اتَّباعَهُ ظاهِرًا وَباطِنًا.
بُشْرَى لمَنْ امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِمَحَبَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَحَبَّةٌ صادِقَةٌ، مَحَبَّةُ اتِّباعٍ وَاهْتِداءٍ بِسُنَّتِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعالَى يُذِيقُهُ في الدُّنْيا لَذَّةً وَنَعِيمًا لا يَجِدُها مَنْ فَقَدَ قَلْبَهُ مَحَبَّتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثلاثٌ مِنْ كُنَّ فيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الإِيمانِ أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِواهُما، وَأَنْ يُحِبَّ الرَّجُلَ لا يُحِبُّهُ إِلَّا للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ في الكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ كَما يَكْرُهُ أَنْ يُلْقَى في النَّارِ»البُخارِيُّ(16), وَمُسْلِمٌ(43). هَذِهِ الثَّلاثُ خِصالٍ حَقِّقْها لِتَجِدَ طَعْمَ المحَبَّةِ وَحَلاوَةَ الإيمانِ في قَلْبِكَ، هَذِهِ الثَّلاثُ خِصالٍ كُلُّها تَدُورُ عَلَى مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ، إِنَّهُ حُبُّ اللهِ، فَمَنْ أَحَبَّ اللهَ أَحَبَّ رَسُولَهُ، مَنْ أَحَبَّ اللهَ أَحَبَّ مَنْ يُحِبُّهُ اللهُ، مَنْ أَحَبَّ اللهَ أَبْغَضَ كُلَّ ما يَكْرَهُهُ اللهُ، وَكُلُّ الخِصالِ الثَّلاثَةِ دَائِرَةٌ عَلَى هَذا المعْنَى، فَأَخْلِصُوا للهِ المحَبَّةَ وَأَحِبُّوا رَسُولَهُ بِقُلُوبٍ صادِقَةٍ، وَتَمَنَّوْا كُلَّ ما يُقَرِّبُكُمْ إِلَيْهِ وَاعْمَلُوا بِهِ لِتَفُوزُوا بِمَحَبَّتِهِ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَما صَلَّيْتَ عَلَى إِبْراهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْراهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
***
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبارَكًا فِيهِ، أَحْمَدُهُ حَقَّ حَمْدِهِ، لا أُحْصِي ثَناءً عَلَيْهِ، هُوَ كَما أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ بِإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدَ:
فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ، اتَّقُوا اللهَ حَقَّ التَّقْوَى؛ فَإِنَّ تَقْوَى اللهِ تَجْلِبُ لِقُلُوبِكُمْ كُلَّ سَعادَةٍ وتَدْفَعُ عَنْكُمْ كُلَّ شَقاءٍ وَتَعاسَةٍ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنا مِنْ عِبادِكَ المتَّقِينَ وَحِزْبِكَ المفْلِحينَ وَأَوْلِيائِكَ الصَّالحينَ.
يَقُولُ اللهُ في مُحْكَمِ الكِتابِ: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ البقرة:143 ؛ فاللهُ مَنَّ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ بِالوَسَطِيَّةِ، وَالوَسَطِيَّةُ هِيَ: تَرْكُ كُلِّ انْحِرافٍ يَمْنَةٍ أَوْ يَسْرَةً عَنِ الصِّراطِ المسْتَقِيمِ، الوَسَطِيَّةِ هِيَ: الصِّراطُ المسْتَقِيمُ الَّذي سَلَكَهُ عِبادُ اللهِ الصَّالحَونَ الَّذينَ نَسْأَلُ اللهَ كُلَّ صَلاةٍ أَنْ يَهْدِيَنا صِراطَهُمْ، ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ الفاتحة:7 مَنْ هُمُ المنْعَمُ عَلَيْهِمْ؟ إِنَّهُمُّ النَّبِيُّونَ وَالمرْسَلُونَ وَعِبادُ اللهِ الصَّالحونَ، نَحْنُ نَسْأَلُ اللهَ بِصِدْقٍ أَنْ يَهْدِيَنا طَرِيقَهُمْ وَأَنْ يَسْلُكَ بِنا سَبِيلَهُمْ، وَهُوَ الطَّرِيقُ الوَسَطُ السالمُ مِنْ كُلِّ انْحِرافٍ، السَّالمُ مِنْ كُلِّ غُلُّوٍ أَوْ جَفاءٍ، السَّالمُ مِنْ الإِفْراطِ أَوِ التَّفْرِيطِ، هَكَذا في كُلِّ شَأْنٍ مِنْ شُؤُونَ الشَّرِيعَةِ، هَكَذا في كُلِّ شَأْنٍ مِنْ شُؤونِ الحَياةِ، هَذِهِ الشَّرِيعَة شَرِيعَةٌ وَسَطَ لَيْسَ فِيها إِجْحافٌ وَلا زِيادَةٌ، لَيْسَ فِيها غُلُوٌّ وَلا تَقْصِيرٌ، هِيَ عَلَى نَحْوٍ مِنَ الاعْتِدالِ يَتَحَقَّقُ بِهِ لِلنَّاسِ صَلاحُ قُلُوبِهِمْ، صَلاحُ دُنْياهُمْ صَلاحُ أُخْراهُمْ.ث
أَيُّها المؤْمِنُونَ, إِنَّ مَحَبَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ إِلَّا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَعْرِفَ بِماذا تَتَبَيَّنُ مَحَبَّتُهُ؟ كَيْفَ نَعْرِفُ أَنَّنا نُحِبُّهُ بَعْدَ مَيْلِ قُلُوبِنا وَانْجِذابُنا إِلَيْهِ وَمَعْرِفَةُ فَضْلِهِ وَمُطالَعَةُ قَوْلِهِ، وَتَعْظِيمُ ما جاءَ بِهِ؟ كَيْفَ نَعْرِفُ مَحَبَّتَنا لَهُ؟ بِاتِّباعِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَذا هُوَ المعْيارُ، هَذا هُوَ الميزانُ الَّذِي يُقاسُ بِهِ صَادِقُ المحَبَّةِ، لَيْسَتْ المحَبَّةُ دَعاوَى، كُلُّ أَحَدٍ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ: أَنَا أَحُبُّ رَسُولَ اللهِ، لَكِنَّ الحَقِيقَةَ في التَّرْجَمَةِ العَمَلِيَّةِ وَالقَوْلِيَّةِ لِهَذِه الدَّعْوَى؛ لِذَلِكَ يَقُولُ اللهُ في مُحْكَمِ كِتابِهِ: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ آل عمران:31 ، إِنْ كانَتْ هَذِهِ الدَّعْوَى صادِقَةً وَأَنْتَ تُحِبُّ اللهَ وَتُحِبُّ رَسُولَهُ فَعِنْوانُ وَمِعْيارُ وَمِقْياسُ المحَبَّةِ الحَقِيقِيُّ هُوَ اتَّباعُكَ لَهُ صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذا لمْ يَتْرُكِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الشَّرْعِ إِلَى آراءِ النَّاسِ، بَلْ جاءَ بَيانًا مُفَصَّلًا وَرَدَّ كُلَّ ما خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ في قانونِ مُطَّرَدٍ لا يَخْتِلُ وَلا يَتَخَلَّفُ وَلا يَنْخَرِمُ، قالَ صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ: «مَنْ أَحْدَثَ في أَمْرِنا هَذا ما لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»البُخارِيُّ(2697) , وَمُسْلِم(1718)، فَهُوَ رَدٌّ يَعْنِي مَرْدُودُ، وَمَهْما كان جَمالًا وبَهاءً إِذا خَرَجَ هَذا الَّذي جاءَ بِهِ الإنْسانُ عَنْ هَدْيِهِ وَعَمَلِهِ وَما كانَ عَلَيْهِ شَأْنُهُ فَإِنَّهُ مَرْدُودٌ.
لا سَبِيلَ لِلوُصُولِ إِلَى القَبُولِ إِلَّا بِمُتابَعَةِ الرَّسُولِ صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ، فَمَنْ أَرادَ قَبُولَ عَمَلِهِ لا يَنْظُرْ إِلَى كَثْرَتِهِ وَلا ما يَكُونُ فِيهِ مِنْ تَعَبٍ، وَلا ما يَكُونُ فِيهِ مِنْ جُهْدٍ، يَنْظَرُ بِمِعْيارٍ دَقِيقِ هُوَ مَدَى مُوافَقَتِهِ لما كانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَما كانَ عَلَيْهِ أَصْحابُهُ، فَإِذا وَافَقَ ما كانَ عَلَيْهِ وَما كانَ عَلَيْهِ أَصْحابُهُ فَلْيَسْتَبْشِرْ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ حُبِّهِ، دَلِيلُ قَبُولِ العَمَلِ، دَلِيلُ صَلاحِ الحالِ، دَلِيلُ السُّلُوكِ في الصِّراطِ المسْتَقِيمِ.
وَلهذا دَعُوا عَنْكُمْ كُلَّ ما يُقالُ ويُروّجُ مِنْ بِدْعَةٍ حَسَنَةٍ، بِدْعَةٍ طَيِّبَةٍ، وَالبِدَعُ أَقْسامٌ، دَعُوا كُلَّ هَذا جانِبًا، فَقَدْ قالَ صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ: «كُلُّ بِدْعَةٍعنَ ْطَرِيقِ يُوصِلُكَ إِلَى اللهِ، طَرِيقٌ تَعَبُّدِيٌّ، طَرِيقُ طاعَةٍ، لمْ يَتْرُكِ النَّبِيُّ طَرِيقًا يُوصِلُنا إِلَى اللهِ وَيُقَرِّبُنا إِلَيْهِ إِلَّا بَيَّنَهُ لَنا، «تَرَكْتُكُمْ عَلَى البَيْضاءِ»ابْنُ ماجَةَ(43) اللهُ تَعالَى في كِتابِهِ يَقُولُ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾ المائدة:3 ، فَمَنْ جاءَ بِعِبادَةٍ أَوْ طاعَةٍ أَوْ قُرْبَةٍ يَقُولُ إِنَّها تُوصِلُ إِلَى اللهِ لَيْسَ لَها أَصْلٌ في كَلامِ اللهِ وَلا كَلامِ رَسُولِهِ فَنَقُولُ لَهُ: قَدْ أَخْطَأْتَ الطَّرِيقَ، وَلَيْسَ هَذا مِمَّا يُوصِلُ إِلَى اللهِ، «مَنْ أَحْدَثَ في أَمْرِنا هَذا ما لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ«البُخارِيُّ(2697) , وَمُسْلِمٌ(1718).
مَحَبَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلا فِيها أَقْوامٌ وَجَفا فِيها آخَرُونَ، فَمِنَ الجُفاةِ وَنَبْدَأُ بِهِمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُعامِلُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَسائِرِ أَفْرادِ النَّاسِ، فيَُنْزِلُونَ قَوْلَهُ مَنْزِلَ الحُكْمِ عَلَى ما يَعْرِفُونَهُ وَما يَفْهَمُونَهُ وَما أَدْرَكَتْهُ عُقُولهُمْ، فَيَحْكُمُونَ عَلَى أَقْوالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَما جاءَ عَنْهُ بِعُقُولِهِمْ فَيَرُدُّونَ وَيَقْبِلُونَ، هَؤُلاءِ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، لَوْ آمَنُوا بِهِ لَعَلِمُوا أَنَّهُ لا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ يُعارِضُ العَقْلَ، وَمَتَى شَعَرْتَ أَوْ تَوَهَّمْتَ أَوْ دَبَّ إِلَى فِكْرِكَ أَوْ نَفَثَ الشَّيْطانُ إِلَى نَفْسِكَ مِنْ شَياطِينِ الإِنْسِ أَوْ شَياطِينِ الِجنِّ أَنَّ في شَيْءٍ مِمَّا جاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يُعارِضُ العَقْلَ؛ فاعْلَمْ أَنَّ البَلاءَ في العَقْلِ وَلَيْسَ في النَّقْلِ، فَما صَحَّ لا يُمْكِنُ أَنْ يُعارِضَ العَقْلُ، ما صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلمَ وَجاءَ هُوَ العَقْلُ وَلَوْ لَمْ يُدْرِكْهُ عَلَى وَجْهِ الكَمالِ؛ لِأَنَّ العَقْلَ لَهُ حُدُودٌ.
وَأَنا أَسْأَلُكُمْ الآنَ: كُلُّنا مُكَوَّنٌ مِنْ رُوحٍ وَبَدَنٍ، جَسَدٌ وَرُوحٌ، فَأَيْنَ أَرْواحُنا؟ ما حَقِيقَتُها؟ كَيْفَ تَحْيا؟ وَما هِيَ صِفاتُها؟ وَما تَفاصِيلُ شَأْنِها؟ هِيَ مُلاصِقَةٌ لَنا بِها نَنْتَقِلُ وَبِها نَعِيشُ وَنَذْهَبُ وَنَأْتِي، لَكِنْ لا نَسْتِطيعُ أَنْ نَعْرِفَها، ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ الإسراء:85 ، ما عِنْدَنا فِيها عِلْمٌ، وَهِيَ مُرافِقَةٌ لَنا، وَهَذا دَلِيلُ ضَعْفِنا وَقُصُورِنا وَأَنَّنا لا نَتَمَكَّنُ مِنْ إِدْراكِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، بَلْ أُمُورٌ مُقارَنَةٌ لَنا ِبها حياتُنا، فَكَيْفَ بِشَأْنِ اللهِ وَشَأْنِ ما جاءَ بِهِ الخَبَرُ عَنِ اللهِ، لا شَكَّ أَنَّ العُقُولَ تَقْصُرُ عَنْ إِدْراكِ مَعاني ما جاءَ بِهِ اللهُ فِيما جاءَ بِهِ، لا شَكَّ أَنَّ الشَّرِيعَةَ جاءَتْ بِأُمُورٍ واضِحَةٍ تُدْرِكُها العُقُولُ، لَكِنْ ثِقْ تَمامًا أَنَّ الشَّرِيعَةَ لا يُمْكِنُ أَنْ تَأْتِيَ بِما يَقُولُ العَقْلُ هَذا مُسْتَحِيلٌ، هَذا لا يُمْكِنُ أَنْ يُقْبَلَ، فالشَّرِيعَةُ تَأْتِي بِما تَحارُ فِيهِ العُقُولُ، لَكِنْ لا تَأْتِي بِما تَمْنِعُهُ العُقُولُ مُطْلَقًا.
وَبِالتَّالِي إِذا كانَ كَذَلِكَ فاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ طَعَنَ في قَوْلِ اللهِ أَوْ قَوْلِ رَسُولِهِ لأَجْلِ أَنَّ عَقْلَهُ لمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ أَوْ أَنَّ ذَوْقَهُ لَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ، فَنَقُولُ: المشْكِلَةُ لَيْسَ في النَّصِّ، لَيْسَتْ في قَوْلِ اللهِ وَلا قَوْلِ رَسُولِهِ، المشْكِلَةُ في عَقْلِكَ وَفِي تَعامُلِكَ مَعَ النَّصِّ وَفي إِدْخالِكَ لِلعَقْلِ مَدْخَلًا لا شَأْنَ لَهُ فِيهِ؛ فَإِنَّ العَقْلَ لا يُمْكِنُ أَنْ يُدْرِكَ كُلَّ شَيْءٍ، يُعْجِزُ بِقُدْرَتِهِ عَنْ أَنْ يُدْرِكَ أَشْياءَ كَثِيرَةٍ، أَنا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَحْمِلَ هَذِهِ الوَرَقَةَ، لَكِنْ عِنْدَما تَقُولُ لي: احْمِلْ هَذا المنْبَرْ، أَقُولُ: لا أَسْتَطِيعُ، لماذا؟ قُدْرَتِي دُونَ ذَلِكَ.
كَذَلِكَ العَقْلُ، العَقْلُ يُدْرِكُ أَشْياءَ وَيَفْهَمُها، لَكِنْ عِنْدَما يَأْتِي إِلَى أَشْياءَ تَتَجاوَزُ حُدُودَ العَقْلِ يَقُولُ العَقْلُ: لا أَسْتَطِيعُ أَتَوَقَّفُ هُنا، هَذا مَنْهَجُ الجُفاةِ وَهُمْ الَّذِينَ يُعامِلُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْوالَهُ كَما يُعامِلُونَ سائِرَ النَّاسِ، يَخْفَى عَلَيْهِمْ أَنَّهُ مُصْطَفًى، فَهُوَ صَفْوَةُ اللهِ مِنْ خَلْقِهِ، يَخْفَىَ عَلَيْهِمْ ما كانَ عَلَيْهِ مِنَ الفَضائِلِ، يَخْفَى عَلَيْهِمْ أَنَّهُ مَمْدُودٌ بِالوَحْيِ مِنَ السَّماءِ، وَمَنْ كانَتْ هَذِهِ صِفاتُهُ، صَفْوَةُ اللهِ مِنْ خَلْقِهِ، مِمْدُودٌ بِالوَحْيِ مِنَ السَّماءِ، كَمَّلَ اللهُ عَقْلَهُ وَسَجاياهُ وَأَخْلاقَهُ، لا يُمْكِنُ أَنْ يَجْرِي عَلىَ قَوْلِهِ قَوانِينُ العَقْلِ الَّتي تَقْصُرُ عَنْ فَهْمِ وَحْيِ رَبِّ العالمينَ.
أَمَّا القِسْمُ الثَّانِي: فَهُمُ الَّذي غَالَوْا في النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَفَعُوهُ فَوْقَ مَكانَتِهِ، وَهَؤُلاءِ يَقُولُ لَهُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَما في صَحِيحِ الِإمامِ البُخارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ: «لاَ تُطْرُونِي، كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ» ثُمَّ يُبَيِّنُ ما خَصَّهُ اللهُ بِهِ بَعْدَ بَيانِ عُبُودِيَّتِهِ وَأَنَّهُ كَسائِرِ النَّاسِ «فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ، وَرَسُولُهُ»البُخارِيُّ(3445)، أَعْلَى مَرِاتِبِهِ صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، فَمَنْ رَفَعَهُ عَنْ هَذا فَقَدْ رَفَعَهُ عَنْ المنْزِلَةِ الَّتي وَضَعَهُ اللهُ تَعالَى بِها وَلَمْ يَصْدُقْ في مَحَبَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّما عارَضَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أَصْلِ ما جاءَ بِهِ، فّالنَّبِيُّ جاءَ ناهِيًا عَنِ الغُلُوِّ: «إِيَّاكُمْ وَالغُلَّوَ؛ فِإِنَّما أَهْلَكَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ الغُلُوُّ في الدِّينِ«النَّسائِيُّ(3057)بِإِسْنادٍ صَحِيحٍ .
مِنَ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ مَحَبَّتَهُ صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ مُسَوِّغَةً لِكَثِيرٍ مِنَ المخالَفاتِ، فَتَجِدُهُ يَمْدَحُهُ مَدائِحَ شِرْكِيَّةٍ فَيَقُولُ عَلَى سَبِيلِ المثالِ:
...... *** وَمِنْ عُلُومِكَ عِلْمُ اللَّوْحِ وَالقَلَمِدِيوانُ البُوصِيرِيِّ. تَحْقِيقُ مُحَمَّد سَيِّد كِيلانِي طَبْعة مُصْطَفَى الحَلَبِيِّ مِصْرُ 1374هـ، ص200..
مِنْ عُلُومِ النَّبِيِّ عِلْمُ اللَّوْحِ وَالقَلَمِ!! وَاللهُ تَعالَى قَدْ اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِ اللَّوْحِ عِنْدَهُ فَلا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ جَلَّ في عُلاهُ؛ ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾ الأنعام:59 ، في نَصِّ القُرْآنِ وَهَذا يَقُولُ: وَمِنْ عُلُومِكَ، بَعْضُ عُلُومِكَ عِلْمُ اللَّوْحِ وَالقَلَمِ، هَذا غُلُوٌّ في النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ عَنِ الهُدَى وَالصِّراطِ المسْتَقِيمِ، يُوقِعُ فيما نَهَى عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الإِطْراءِ المذْمُومِ الَّذِي قَدْ يَهْلَكُ بِهِ الإِنْسانُ؛ فَلِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ نَضَعَ هَذا الميزانَ مِنْ وَصْفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَكْثَرَ مِمَّا وَصَفَهُ اللهُ بِهِ، وَما وَصَفَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ، فَقَدْ خَرَجَ عَنِ الصِّراطِ المسْتَقِيمِ، وَلا يُبَرِّرُ ذَلِكَ أَنَّكَ مُحِبٌّ، وَلا يُبَرِّرُ ذَلِكَ دُمُوعٌ تَتَقاطَرُ مِنَ الأَعْيُنِ في مَحَبَّتِهِ إِذا كانَ السُّلُوكُ وَالأَخْلاقُ خَارِجَةً عَنْ هَدْيِهِ، إِذا كانَ السُّلُوكُ وَالأَخْلاقُ خارِجَةً عَنْ هَدْيِهِ، فَذاكَ خِارِجٌ عَنِ الصِّراطِ المسْتَقِيمِ.
أَيُّها الإِخْوَةُ, مَوْلِدُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَّةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ بَلْ عَلَى البَشَرِيَّةِ، لَكِنْ لا يَجُوزُ لأَحَدٍ أَنْ يُحْدِثَ في هَذا اليَوْمِ أَوْ في هَذِهِ اللَّيْلَةِ شَيْئًا لمْ يُحْدِثْهُ رَسُولُ اللهِ وَلا أَصْحابُهُ، وَإِنَّما أَقُولُ هَذا؛ لأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ دَلائِلُ المحَبَّةِ أَنْ تَحْتَفِلَ بِمَوْلِدِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَهَذا بُرْهانٌ كاذِبٌ، يَقُولُ: كَيْفَ تَقُولُ كَذا وَالأُمَّةُ مُنْذُ عَشْرَةِ قُرُونٍ أَكْثَرُ عُلَمائِها يَرَوْنَ جَوازَ الاحْتِفالِ بِالمَوْلِدِ؟ أَقُولُ: قِفْ قَلِيلًا ما الَّذي أَجازَهُ هَؤُلاءِ؟ هَلْ أَجازَ هَؤُلاءِ المدائِحَ الشِّرْكِيَّةَ؟ هَلْ أَجازَ هَؤُلاءِ أَنْ يُحْيِيَ حَفْلَ مَوْلِدِهِ الفَنَّانَةُ الفُلانِيَّةُ وَالفَنَّانُ الفُلانِيُّ عَلَى المعازِفِ وَعَلَى سَيِّئِ العَمَلِ؟ هَلْ أَجازَ هَؤُلاءِ رَقْصَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ؟!وَهَذا لَيْسَ شَيْئًا مُغَيَّبًا لا يُدْرَكُ يا إِخْوَة، بَلِ انْظُروا إِلَى ذَلِكَ قائِمًا فِيما حَفِظَتْهُ التَّصاوِيرُ مِنْ أَفْعالِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ في هَذِهِ اللَّيْلَةِ الَّتِي هِيَ لَيْلَةُ الموْلِدِ مِنْ إِحْداثاتٍ خارِجَةٍ عَنْ هَدْيِهِ صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ، بَلْ هِيَ مُعارَضَةٌ لما جاءَ بِهِ، فِيها شِرْكٌ، فِيها مَعْصِيَةٌ، فِيها غُلُوٌّ، فِيها تَضْيِيعٌ لِلوَقْتِ تَضْييعٌ لِلواجِباتِ، فِيها أَلْوانٌ مِنَ الانْحِرافاتِ.
فَإِذا سَلِمْتَ مِنْ هَذا جاء الكَلامُ عَلَى ما قالَهُ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ جوازِ قِراءَةِ سِيرَتِهِ في لَيْلَةِ مَوْلِدِهِ، وَهَؤُلاءِ نَقُولُ لَهُمْ: أَيْنَ أَرْبَعَةُ قُرُونٍ لمْ يَكُنْ فِيها شَيْءٌ مِنَ الإِحْداثِ في هَذِهِ اللَّيْلَةِ؟ القَرْنُ الأَوَّلُ وَالقَرْنُ الثَّانِي وَالقَرْنُ الثَّالِثُ وَالقَرْنُ الرَّابِعُ، كُلُّها لمْ يَجْرِ فِيها احْتِفالٌ مِنَ الأُمَّةِ بِمَوْلِدِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَيُّ الإِجْماعَيْنِ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ؟ هَذا إِذا صَحَّ أَنَّ هَذا إِجْماع،ٌ أَيُّ القَوْلَيْنِ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ؟ قَوْلٌ سارَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحابُهُ وَالتَّابِعُونَ وَتابِعُوهُمْ وَالقَرْنُ الرَّابِعُ الهِجْرِيِّ؛ لَمْ يَحْدُثْ في ذَلِكَ احْتِفالٌ بِمَوْلِدِه حَتىَّ جاءَ القَرْنُ الخامِسُ وَأَطْبَقَتْ عَلَى صَدْرِ الأُمَّةِ وَجَثَمَ عَلَيْها دَوْلَةُ العُبَيْدِيِّيينَ وَهُمُ الرَّافِضَةُ فَأَنْشَأُوا هَذِهِ البِدْعَةَ وَنَشَرُوها، وَبَقِيَتْ بَعْدَ أَنْ زالَ حُكْمُهُمْ مِمَّا بَقِيَ مِنْ ضَلالِهِمْ وَانْحِرافِهِمْ في الأُمَّةِ، وَتَكَلَّمَ العُلَماءُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الاجْتِهادِ في هَذِهِ اللَّيْلَةِ عَلَى نَحْوَيْنِ، لَكِنِ الطَّرِيقُ القَويِمُ الَّذِي كانَ عَلَيْهِ سَيِّدُ المرْسَلِينَ، وَخَيْرُ القُرُونِ قَرْنُهُ ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ لَمْ يَكُونُوا عَلَى هَذا الطَّرِيقِ، لَمْ يَحْتَفِلُوا بِمَوْلِدِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
وَلِذَلِكَ انْظُرُوا إِلَى الاحْتِفالاتِ حَتَّى تَعْرِفَ ارْتِباطَ هَذا بِبِدْعَةِ الرَّافِضَةِ وَما أَحْدَثُوهُ في الأُمَّةِ مِنْ ضَلالاتٍ، انْظُرْ إِلَى مَنِ الَّذِي يَحْتَفِلُ بِمَوْلِدِهِ؟ يَحْتَفِلُ بِمَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَحْتَفِلُ بِمَوْلِدِ عَلَيِّ بْنِ أَبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ، يَحْتَفِلُ بِمَوْلِدِ الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ، يَحْتَفِلُ بِمَوْلِدِ فاطِمَةَ وَما أَشْبَهَ ذَلِكَ، لَكِنْ أَيْنَ الاحْتِفالُ بِمَوْلِدِ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ سَيِّدُ الأُمَّةِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! أَيْنَ الاحْتِفالُ بِمَوْلِدِ عُمَرَ؟! أَيْنَ الاحْتِفالُ بِمَوْلِدِ عُثْمانَ؟!
هَذا مِمَّا يُبَيِّنُ وَيُظْهِرُ أَنَّ ثَمَّةَ ارْتِباطًا بَيْنَ هَذِهِ البِدْعَةِ وَبِدْعَةِ الرَّفْضِ، دَعُونا مِنْ هَذا كُلِّهِ فَقَدْ انقْطَعَ صِلَةُ هَذا بِبِدْعَةِ الرَّفْضِ، لَكِنِّي أَقُولُ: «خَيْرُ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثاتُها» هَكَذا كانَ يَقُولُ في خُطَبِهِ: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتابُ اللهِ وَخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثاتُها»ابْنُ ماجَةَ(45)بِإِسْنادٍ صَحِيحٍ . فَيَنْبَغِي لِكُلِّ مَنْ آمَنَ أَنْ يَلْزَمَ هَدْيَهُ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَنْ خَرَجَ عَنْ هَدْيِهِ وَكُلَّ عَمَلٍ لَمْ يَأْتِ بِهِ، فَلَيْسَ فِيهِ خَيْرٌ، وَأَقْصِدُ بِالعَمَلِ العَمَلَ العِبادِيَّ الَّذِي يُقَرِّبُ إِلَى اللهِ؛ فَلَمْ يَتْرُكْ خَيْرًا إِلَّا دَلَّنا عَلَيْهِ.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَما صَلَّيْتَ عَلَى إِبْراهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْراهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ أَلْهِمْنا رُشْدَنا وَقِنا شَرَّ أَنْفُسِنا، اللَّهُمَّ ارْزُقْنا مَحَبَّةَ رَسُولِكَ عَلَىَ الوَجْهِ الَّذِي تَرْضَى بِهِ عَنَّا، اللَّهُمَّ امْلَأْ قُلُوبَنا بِمَحَبَّتِهِ وَارْزُقْنا تَعْظِيمَ سُنَّتِهِ وَارْزُقْنا اتِّباعَهُ ظاهِرًا وَباطِنًا.
اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى طاعَتِكَ وَاصْرِفْ عَنَّا مَعْصِيَتَكَ، اسْلُكْ بِنا سَبِيلَ الرَّشادِ، أَعِنَّا عَلَى الطَّاعَةِ وَالإِحْسانِ، وَفِّقْنا إِلَى ما تُحِبُّ وَتَرْضَى مِنَ الأَعْمالِ، اللَّهُمَّ قِنا شَرَّ الفِتَنِ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ، اللَّهُمَّ مَنْ أَرادَ بِالأُمَّة سُوءًا أَوْ شَرًّا فَأَشْغِلْهُ بِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَرادَ بِها خَيْرًا فَأَعِنْهُ وَسَدَّدْهُ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطانِنا وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنا وَوُلاةَ أُمُورِنا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنا إِلَى ما تُحِبُّ وَتَرْضَى، اللَّهُمَّ سَدِّدْهُ في قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ وَاجْعَلْ لَهُ مِنْ لَدُنْكَ سُلْطانًا نَصِيرًا.
اللَّهُمَّ احْفَظْنا وَاحْفَظْ بِنا وَأَعِنَّا عَلَى طاعَتِكَ وَلا تُعِنْ عَلَيْنا يا رَبَّ العالمينَ، الَّلهُمَّ أَعِنَّا وَلا تُعِنْ عَلَيْنا، اللَّهُمَّ انْصُرْنا عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْنا، اللَّهُمَّ ثَبِّتْ أَقْدامَنا عَلَى الحَقِّ وَالهُدَى، تَوَفَّنا مُؤْمِنينَ وَأَحْيِنا مُسْلِمِينَ وَأَلحِقْنا بِالصَّالِحينَ يارَبَّ العالمينَ، اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوانَنا المجاهِدِينَ المرابِطِينَ في سَبِيلِكَ في كُلِّ مَكانٍ، اللَّهُمَّ انْصُرْهُمْ في الحَدِّ الجَنُوبِيِّ، اللَّهُمَّ ثَبِّتْ أَقْدامَهُمْ وَسَدِّدْ رَمْيَهُمْ وَانْصُرْهُمْ عَلَىَ عَدُوِّكَ وَعَدُوِّهِمْ يارَبَّ العالمينَ، اللَّهُمَّ اكْفِ المسْلِمينَ شَرَّ الصَفَوِيِّينَ وَالصَّهايِنَةِ والصَّليِبيِّينَ وَالملْحِدِينَ، اللَّهُمَّ اكْفِنا شَرَّ كُلِّ ذِي شَرٍّ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
رَبَّنا أَنْجِ المسْتَضْعَفِينَ مِنْ إِخْوانِنا في سُورِيَّا وَالعِراقِ وَفي سائِرِ البُلْدانِ، أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِ المؤْمِنينَ وَأَصْلِحْ بَيْنَهُمْ، خَيِّبْ سَعْيَ مَنْ سَعَىَ فِيهِمْ بِالفَسادِ وَالهلاكِ، وَارْبِطْ عَلَى قُلُوبِ المصابِينَ وَأَعِنَّا عَلَى طاعَتِكَ وَثَبِّتْنا عَلَى الحَقِّ وَالهُدَى يا رَبَّ العالمينَ.
أَقُولُ هَذا القَوْلَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ فاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.