المذيع : في بدء هذه الحلقة تقبلوا أجمل التحايا من فريق العمل في هذا البرنامج، من الإعداد والتقديم محدثكم عبدالله الداني، ومن استقبال المكالمات الزميل خالد فلاته، ومن التنفيذ على الهواء الزميل محمد باصويلح،
كما يسعدنا أيضًا مستمعينا الكرام أن نرحب بضيفنا وضيفكم الدائم -إن شاء الله- في هذا البرنامج فضيلة الشيخ الدكتور :خالد بن عبدالله المصلح المشرف العام على فرع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء بمنطقة القصيم، والذي نسعد بالترحيب به وبكم.
السلام عليكم ورحمة الله شيخ خالد.
- الشيخ: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ومرحبًا بك وحيا الله الإخوة والأخوات، أهلًا وسهلًا.
- المذيع: في هذه الحلقة مستمعينا الكرام نستعرض موضوعًا مهمًّا جدًّا ألا وهو محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- بين الغلو والجفاء، ومعروفٌ أن محبَّة النبي -صلى الله عليه وسلم- هي أصلٌ عظيمٌ من أصول الدين، فلا إيمان لمن لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين.
شيخ خالد نتحدث في هذه الحلقة عن محبة النبي -صلى الله عليه وسلم -بين المحبة والجفاء، في أول نقطة يمكن أن تُثار في هذا العنوان المهم والكبير ماهي أصل هذه المحبة؟ وكيف تكون هذه المحبة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- صادقةً خالية من الغلوِّ والجفاء؟
- الشيخ: السلام عليكم ورحمه الله وبركاته.
- المذيع: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
- الشيخ: كما أحيي الإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات في كل مكان، وأسأل الله تعالى لي ولهم التوفيق والسداد.
هذا الموضوع موضوع ذو أهميةٍ كبرى؛ ذلك لأن محبة النبي صلى الله عليه وسلم هي من لوازم الإيمان فلا يَستَقيم إيمانُ أحدٍ ولا يصلح إسلامه ولا يثبُت له يقين ولا يسلَم من المؤاخَذة إلا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أحبَّ إليه من كل شيء قال: الله -جلا وعلا-: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا﴾[التوبة:24].
هذه ثماني مذكورات مما تتعلق بها القلوب محبةً، ولها في حياة الإنسان حضورٌ، صلة البشرية فيما يتعلق بالمال وفيما يتعلق بالمكاسِب وفيما يتعلق بالأرض ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ﴾[ التوبة:24 ] ، هذه مما يتعلق بالعلاقات البشرية المحبَّات التي تكون بين الناس، منها ما هو طبيعي ومنها ما هو كَسبِيٌّ، ثم قال: ﴿وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا﴾، وهذا فيه حبُّ المال الذي قال فيه -جل وعلا-: ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾[الفجر:20] ، ﴿وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا﴾ وهذا حب المكان، حب الوطن، حب المكان الذي ترَعرَع فيه الإنسان وأقام، إن كانت هذه الأشياء المحبَّبة إلى النفوس (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا) أي فانتظروا العقوبة انتظروا المؤاخذَة؛ ذاك أن تقديم محبة هذه الأمور على محبة الله ورسوله ومحبة العمل الصالح موجبةً للتقصير في حقه، إذ إن حق الله وحق رسوله وحق العمل الصالح أن يكون مقدمًا على محبة كل أحد؛ ولذلك قال: ﴿حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾[التوبة:24]
فلا تتم سلامةٌ من الفسق ولا صلاح في دين الإنسان إلا بأن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- أحب إليه من كل محبوب، جاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك -رضي الله تعالى- عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بِيَده لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من وَلَدِه ووالدِه والنَّاس أجمعين)[ صحيح البخاري:14]، وقد نقل البخاري بإسناده من حديث عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذٌ بيد عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى- عنه فقال له عمر: يا رسول الله "لأنت أحبُّ إليَّ من كلِّ شيءٍ إلا من نفسي" هذا عمر المحدَّث الفاروق المُلهَم يقول في حديثه للنبي -صلى الله عليه وسلم- عند أصحاب رسول الله :يا رسول لأنت أحبُّ إلي من كل شيء إلا من نفسي، يخبرُ عن ما يجِدُه في نفسه من محبَّة النبي -صلى الله عليه وسلم- والانجِذاب إليه، فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (والذي نفسي بيده حتى أَكونَ أَحبَّ إليك من نفسك)[ صحيح البخاري:6632]، أي لا، لم تحقِّق ما يجب، ولم تأت بما فُرض، ولم تؤدي الحق الذي لي عليك الله إلا أن أكون أحب إليك من نفسك «لا والذي نفسي بيده حتى أكونَ أَحبَّ إليك من نفسك»، هنا يبلغ الإنسان الدرجةَ التي جعلها الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- من الحب والمنزلة، فقال له عمر: "فإنه الآن لأنت أحب إلي من نفسي"، هذا سرعة الانقياد وتمام الاستسلام، والتعبير الصادق عن محبة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه الآن لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الآن يا عمر»، الآن بلغت مرتبةَ الإيمان على وجه الكمال، الآن أدَّيتَ ما عليك من حقِّي حق نبيك صلى الله عليه وسلم، الآن صَلُحَ إيمانُك واستقام حالك، فمحبة النبي صلى الله عليه وسلم مُقدمة على كل شيء، على محبة الإنسان لنفسه، على محبة الإنسان لوَلَده، على محبة الإنسان لوالده، على محبة الإنسان لكل محبوب، فمحبَّتُه -صلوات الله وسلامه عليه- لا يُضارِعُها حبٌّ، ولا تُساميها مَنزلة، وقد ذكرت في الآية السابقة في قوله تعالى:﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾[التوبة:24]--، هذه الآية الكريمة دالَّةٌ على تقديم محبة النبي صلى الله عليه وسلم على كل المحبوبات.
في الحديثين الشريفين: حديث أنس، وحديث عمر تقديمُ محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- على كل محبوب، وهذه الآية أعظمُ دليل على وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي دليل على وجوب تقديم محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- على محبة كلِّ شيء، وفيه أيضًا الوعيد الشديد والمَقتُ الأكيد على من كان شيءٌ من أمور الدنيا مقدَّمٌ على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
علامة المحبة هنا هذه نقطة سنأتي عليها -إن شاء الله تعالى- بالتفصيل، ولكن على وجه الإجمال أن يقدِّم محبَّته وطاعته على كل محبوب وعلى كل مُطاع، الإيمان بالنبي -صلى الله عليه وسلم- لا يستقيم إلا بمحبته صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فمحبته بها يكمُل حقُّه، وبها يتحقق الإيمان به صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وبهذا يَعلم الإنسان أنه لابد له في محبة النبي صلى الله عليه وسلم من استحضار حقِّه وفضله، وأن ينجَذِبَ القلب إليه؛ لأن المحبة يعني لو قيل: ما هي هذه المحبة التي هي من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم؟ ما هي مَعالِمها وما هي حقيقتها؟ حقيقة محبة النبي صلى الله عليه وسلم هي انجذاب القلب إليه ميلًا يتجلَّى فيه إيثارُه على كل محبوب، ميلًا يتبين فيه أنه مقدَّمٌ على النفس، أنه -صلى الله عليه وسلم- مقدَّم على الولد، أنه صلى الله عليه وسلم مقدمٌ على الوالد، أنه مقدمٌ على الناس أجمعين، أنه مقدم على صُنوف المال، وعلى صنوف المَحابِّ، فبالجملة أصل محبة النبي صلى الله عليه وسلم هي ميل القلب إليه إقرارًا بفضله، وانجذابًا لحسن صنيعه، فإنه قد أخرجنا الله تعالى به من الظلمات إلى النور؛ لذلك ليست المحبة فقط تقريرًا نظريًا لا أثر له في القلب ولا ثمر له في العمل؛ بل هي أمرٌ يقَرُّ في القلب ينعكس على الجوارح عملًا ومعالما.
- المذيع: جميل، شيخ خالد إذا ما تحدثنا عن الأصل يعني بيَّنا أصل هذه المحبة، ننطلق إلى مسألة محبة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وضبط هذه المحبة بأن نكون وَسَطيين بين الغلوِّ والجفاء، كيف يمكن للمسلم أن يحقق هذا الأمرَ قبل أن ندخل إلى جانب المظاهر واللوازِم التي تكون في محبة النبي صلى الله عليه وسلم؟
الشيخ: الله -جل وعلا- بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، بعثه وأنزل عليه الكتاب والميزان، والميزان هو: القِسط والعدل؛ ولذلك كانت الشريعة قائمة على إعطاء كلِّ ذي حقِّ حقَّه، كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾[النساء:58]
أن تعطوا الحقوق إلى مُستحقِّيها، وقال -جل وعلا-: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ﴾[النحل:90]، فبين الله تعالى قَوام هذه الشريعة على العدل، وعلى إعطاء الحقوق.
من حق النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يُحَب؛ فإنه من أعظم الخلق إحسانًا إلينا، ليس في الدنيا أحدٌ أعظم إحسانًا عليك وعلى كل مؤمن من النبي صلى الله عليه وسلم، استشعارُك هذا المعنى يتجلَّى في لماذا نحبه؟ نحبُّه صلى الله عليه وسلم لأنه من أعظم خلق الله إحسانًا إلينا، فبه أخرَجَنا الله تعالى من الظلمات إلى النور، به هدانا سُبل السلام، به بلَّغنا سعادة الدنيا، به عرَّفنا كيف نصل إلى الله عز وجل؟ فقد بين الطريق الموصِّلَ إليه، فإحسانُه إلينا فوق كل إحسان؛ لذلك يقول الله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾[الأحزاب:6]، وهذه من الآيات العظيمة الدالَّة على عظيم حقِّ النبي صلى الله عليه وسلم، وأن حقَّ النبي على المؤمنين وعلى كل مؤمن وعلى كل مسلم مقدَّم على نفسه؛ ولهذا قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من وَلَدِه» وفي الحديث الآخر قال -صلى الله عليه وسلم- لعمر: «حتى أَكونَ أحبَّ إليك من نفسك»[سبق] فهذا الحق النبوي الذي جعله الله تعالى للنبي -صلى الله عليه وسلم- على كل مؤمنٍ ومؤمنة ينبغي أن يُعرف أنه وِفقَ ميزان وقسطٍ وعدلٍ، وعلى نحو ما جاءت به الشريعة من الوسطية التي ميَّزتها عن كل غلوٍّ وجفاء، عن كل إفراطٍ وتفريط، يقول الله -جل وعلا-: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [البقرة:143]
هذه الأمة أمةٌ وسط بين أُمة الغلوِّ وأمة الجفاء، وأنت إذا نظرت إلى الأُمَّتين اللتين سَبَقت هذه الأمةَ وجدْتَ أنهما قد ضَرَبا في طريقين إما في طريق الغلو كما هو شأن النصارى، وإما في طريق الجفاء كما هو شأن اليهود، وهذه الأمة سلَّمها الله تعالى من الغلوِّ ومن الجفاء فكانت أمَّةً وسطا تُعطي كلَّ ذي حقٍّ حقه؛ ولهذا محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأدلة الجلِيَّة الثابتة بالكتاب والسنة وتواطأت عليها كلمات الأئمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم بإحسانٍ من علماء هذه الأمة، هو أمرٌ جليٌّ واضح ينبغي أن لا يخرج فيه الإنسان عن الصراط المستقيم، النبي -صلى الله عليه وسلم- منزلتُه عُليا ومكانته عظمى لكن لا يمكن لمؤمنٍ صادقٍ في إيمانه ولا محبٍّ صادق في محبته للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في منزلة رب العالمين، فالله -جل في علاه- ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:11]، وهو إله الأولين والآخرين، لا إله غيره، لا يستحق العبادة سواه، فكل الخلق إليه فقراء، وهم مربوبون لا يستحقون شيئًا من صفاته ولا شيئًا من منزلته، فمن محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- ألا يرفَعَه الناس فوق قَدره، وأن لا يغلو في شأنه صلى الله عليه وسلم فيُجعل له من خصائصَ ربِّ العالمين، ومن حقوق الإلهية ما يجعلُهم خارجين عن الصراط المستقيم، فإن الله تعالى يَغَار على حقِّه، وذلك بأنه لا يرضى أن يُعبد سواه؛ ولذلك جعل لكل ذي حقٍّ حقَّه؛ فمن حقِّه -صلى الله عليه وسلم- أن لا يُرفع فوق منزلته، الحديث أخي عبدالله وأيها الإخوة والأخوات المستمعون والمستمعات الحديث الذي ذكرنا في وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم بل وجوب تقديم محبة النبي صلى الله عليه وسلم على محبَّة كلِّ أحد، حديث رواه عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- حيث قال: يا رسول الله إنك لأحب إلي من كل شيء إلا من نفسي قال: «لا يا عمر، والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك»، قال عمر -رضي الله تعالى عنه-: "الآن يا رسول الله لأنت أحبُّ إليَّ من نفسي"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الآن يا عمر»[تقدم تخريجه]، هذا الحديث في صحيح البخاري، أيضًا عن عمر -رضي الله تعالى عنه- نفسه وهذا من عجائب الموافقات، أن راوي وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب تقديم محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- على كل أحد وعلى النفس هو نفسه راوي حديث النهي عن الغُلوِّ في محبته، صلى الله عليه وسلم، حيث جاء في صحيح البخاري عن عمر -رضي الله تعالى عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تُطْرُوني كما أَطْرَتِ النصارى المسيحَ ابن مريم، إنما أنا عبدُ فقولوا: عبد الله ورسوله)[البخاري:3445]، وهذا من عجائب الموافَقات أن الذي روى وجوبَ محبته صلى الله عليه وسلم ووجوب تقديم محبته على كل أحد هو الذي روى وجوبَ الاعتدال فيه، وعدم الغلو فيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لذلك ينبغي للمؤمن أن يتجنَّب كلَّ ما يكون غلوًّا سواءً كان ذلك قولًا أو فعلًا، وأن عمل ذلك مما حذَّر منه النبي صلى الله عليه وسلم في مواضيع عَدِيدةٍ، وأنا أذكر نماذِجَ من تحذير النبي صلى الله عليه وسلم لأُمَّته وأصحابه من الغلو، بعض الحديث العام الشامل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تُطروني كما أَطْرَتِ النصارى المسيحَ ابن مريم، إنَّما أنا عبدٌ فقولوا: عبدُ الله ورسوله». فقد جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين من حديث عائشة وعبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنهم- قالا: لما نزل بالنبي -صلى الله عليه وسلم-يعني أصابه الاحتضار نزل به الموت صلى الله عليه وسلم (طَفِقَ يَطْرح خَمِيصَةً له على وجهه) قطعةً من القماش كان يضَعُها على وجهه -صلى الله عليه وسلم- من شدَّة ما يصيبه من سكرات الموت، فإذا اغتَمَّ كشَفَها؛ يعني إذا احتاج إلى هواء ونفس كشفها عن وجهه، فقال وهو في هذا الحال حالِ سكرات الموت ومعاناتها قال: (لَعْنة اللهِ على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)[صحيح البخاري:534]، تقول عائشة وعبد الله بن عباس يحذِّر ما صنعوا، يحذر الغلوَّ الذي وقعوا فيه فأخرجهم عن عبادة الله -عز وجل-، عن ما يجب له سبحانه من إفرادِه بالعبادة.
موقف آخر أيضًا فيما يتعلق بوجوب الاعتدال في محبة النبي، وأن محبَّة النبي ليست مُسوِّغةً للخروج عن الصراط المستقيم، يجب أن يُنزل منزلتَه دون أن يُرفع إلى منزلة ربِّ العالمين، أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم هذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنه- أن رجلًا قال للنبي -صلي الله عليه وسلم-: (ما شاءَ اللهُ وشِئْتَ)، فسوَّى بين مشيئة الله وبين مشيئة النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (جَعَلتَنِي لله نِدًّا؟ جعلتني لله عِدلا؟ بل قل ما شاء الله وحدَه)[مسند أحمد:3247، وصححه الألباني في الصحيحة:139، وقال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: إسناده حسن(ص1056)، وقال محققو المسند: صحيح لغيره]، هذا يبين أنه ينبغي أن يحتاط المؤمن في لفظه فلا يسوِّي بالله غيرَه لا مَلكًا مقرَّبًا ولا نبيًا مرسلًا، ولا صالحًا ولا غير ذلك، بل يجب أن يعرف أن كلَّ هؤلاء لا يبلغون شيئًا من منزلة الإلهية فالله -عز وجل- ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾[الشورى:11]
لم يكن له كفوًا أحد، ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾[الإخلاص:1]﴿رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة:22]
﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾[مريم:65]
ما شاء الله وشئت جعلتني لله نِدًّا؟، لم يترك النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الرجل يقول: ما أقصد، أراد معنى سليمًا لا بل عالج الموضوع؛ لأن الموضوع إذا تطرَّق إليه الغلو، وقع الإنسان في مأزقٍ لا سلامة فيه، وقد ذكر أنس -رضي الله تعالى- عنه فيما أخرجه أحمد وغيره من حديث القوم الذين جاءوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أورَدَ أن رجلًا قال يا محمد يا سيدَنا وابن سيدنا، ويا خيرَنا وابن خيرنا، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يا أيها النَّاس) استمعوا أيها الإخوة والأخوات إلى هذا البيان والنصح النبوي لأمته خشيةَ أن تقع في ما لا يُحمَد عُقْبَاه (يا أيها الناس عليكم تقواكم، ولا يستهوينَّكم الشيطان)[مسند أحمد:13529. وصححه الألباني في الصحيحة:1097 ] وفي رواية لما قالوا له: يا سيدنا وابن سيدنا ويا خيرنا وابن خيرنا ويا أعظمنا فضلًا وأوسعنا طولًا قال: (قولوا بقولكم أو ببعض قولكم ولا يستهوينكم الشيطان أنا محمد ابن عبد الله عبد الله ورسوله)[أبوداود في سننه:4806.وصححه الألباني في الصحيحة1097] والله ما أحب أن أقول لكل مؤمن يسمع هذا الحديث يمتَثِل وصيَّة النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «والله ما أُحب أن ترفعوني فوق مَنزلتي التي أنزلني الله عز وجل».[أحمد في مسنده:12549، وقال محققو المسند: صحيح على شرط مسلم]
فنهى النبِيُّ صلى الله عليه وسلم أمَّته أن ترفعه فوق منزلته التي أنزله الله تعالى إياها، وينبغي للمؤمن أن يحذَر وأقول: أن يحذر الغلوَّ فيه، فإن الغلو فيه مخرِجٌ عن الصراط المستقيم، ليس هو دليل المحبة، والله لو كان دليل محبةٍ لما تأخَّر عنه أشد الناس محبةً للنبي -صلى الله عليه وسلم- وهم أصحابه، المحبة الحقيقية هي المحبة التي تعرف للنبي صلى الله عليه وسلم قدرَه وتنزِلُه مكانته، ولا ترفعه عن منزلته التي أنزله الله تعالى إياها؛ فإن ذلك مما يوقع الإنسان في ضلالٍ عظيم.
قد يقول قائل: إن الصحابة قصَّروا في محبة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا كاذبٌ، فالصحابة تعالى عنهم كانوا أشدَّ الناس محبةً للنبي صلى الله عليه وسلم، وأعظمَ الناس قيامًا بحقه صلى الله عليه وسلم، هم الأسوة والقدوة، وقد ذكر صاحبُ الشفاء في محبة النبي صلى الله عليه وسلم أن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- سُئِلَ كيف كان حبُّكم؟ يعني كيف كان حب أصحاب النبي صلى عليه وسلم له؟ كيف كان حبكم لرسول الله؟ قال رضي الله تعالى عنه: "كان والله أحبَّ إلينا من أموالنا وأولادنا وأبنائنا وأمهاتنا، يقول ومن الماء البارد على الظَّمَأ"[الشفا بتعريف حقوق المصطفى:2/22].
هكذا كانوا في محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وعمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنه- يذكر أنه من إجلاله للنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يملأ عينَه منه؛ ولذلك قال: "ما كان أحدٌ أحب إلي من رسول الله ولا أجل في عيني منه" يقول: "وما كنت أطيق أن أملئ عيني منه إجلالًا له"ولو سُئِلتُ هذا عمرو بن العاص يقول: "لو سُئِلتُ أن أَصِفَه ما أَطَقْت" [مسلم:192/121] يعني ما قدرت أن أَصِفَه لأني لم أكن أملئ عيني منه إجلالًا له -رضي الله تعالى عنهم أجمعين-.
فمنزلةُ محبة الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- ومكانة النبي صلى الله عليه وسلم في قلوبهم مكانة عظمى ليس لها في حال المتأخرين نظير، ولذلك صار التابعون على نحوِ المِنوال في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم دون غلوٍّ ولا جفاء، فكانوا يحبونه صلى الله عليه وسلم، وتحنُّ قلوبهم إليه شوقًا، ومع هذا لم يكونوا يغلون فيه صلى الله عليه وسلم، هذا الأصل ينبغي أن يُستَحضر؛ فإن الغلو فسادٌ للدين قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إياكم والغلوَّ، إياكم والغلو، إياكم والغلو؛ إنما أهلك من كان قبلكم الغلوُّ في الدين).[سنن ابن ماجه:3029، مسند أحمد:3248، والحاكم في مستدركه:ح1711, وقال:هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ]والله تعالى قال:﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾[النساء:171]
وقال -جل وعلا-: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾[المائدة:77]
فحريٌّ بالمؤمن أن يجتَنِب كلَّ أوجه الغلو والتعمُّق والزيادة في القول أو في العمل أو في الاعتقاد، وأن لا يرفع النبي -صلى الله عليه وسلم- عن منزلتِهِ ولا مكانتِه، وذلك الذي أوصى به فقال: (فوالله ما أحب أن ترفعوني عن منزلتي التي أنزلني الله تعالى إياها)[تقدم تخريجه]
المذيع: أحسن الله إليكم، أستأذنكم يا شيخ خالد في الاتصال الأول في هذه الحلقة من المستمع عبد العزيز الشريف من الرياض حياك الله أخ عبدالعزيز.
- المتصل: السلام عليكم ورحمه الله وبركاته.
- المذيع: وعليكم السلام ورحمه الله وبركاته.
- المتصل: حياك الله كيف حالك يا شيخ خالد بارك الله فيك ما العلاقة بين محبة رسول الله ومحبة صحابته؟
حيث نجد أن هناك من يقع في الصحابة يسبُّهم يشتمهم يسيء إليهم، يقع في الزوجات الطاهرات المطهرات ويدَّعي محبَّة رسول الله، هل هناك علاقة بين محبة رسول الله والصحابة؟ بارك الله فيك.
الأمر الثاني بارك الله فيك، الذين يحتفلون بمولد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: إن الحجيَّة عندهم أن هؤلاء يحبون رسول الله، وأيضًا أن هناك شُبَه يقولون: إن هذا الاحتفال فيه ذكر الله والصلاة على رسول الله وغير ذلك فما توجيهكم بارك الله فيكم؟
- المذيع: طيب شكرًا يا عبدالعزيز، شيخ خالد كنت سأتطرق إلى موضوع لوازم المحبة، لكن إذا أحببتم نُجيب على السؤالين اللذين طَرَحهما المستمع عبدالعزيز، تحدث عن العلاقة بين محبة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومحبة صحبه رضوان الله عليهم، وحبِّهم وحب النبي صلى الله عليه وسلم ما هو الرابط بين هاتين الحالتين؟
- الشيخ: بالتأكيد أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم تستلزم محبة كل ما يحبُّه، وتستلزم اتباعَه وطاعته، ونعرِّج على هذا إن شاء الله بالتفصيل في النقطة القادمة، لكن بالتأكيد إن كل ما يطعن في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هو يطعن في النبي صلى الله عليه وسلم شاء أو أبى؛ لأن هؤلاء قومٌ اصطفاهم الله لصحبة نبيه ونصرِه وحفظ شريعته فمن طعن في الصحابة فكفَّرهم أو فسَّقَهم أو فسق غالبَهم واتهمهم بالرِّدة ونَالَ من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بالتأكيد من لازم قوله تَنَقُّص النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- زكَّاهم وأحبَّهم وعايشهم، وأثنى عليهم، وبيَّن عظيمَ منزلَتِهم، فلو كان هؤلاء على ما يَصِفون، هؤلاء المعْتَدون على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته، لو كان كما يقولون لكان ذلك نقصًا في حقِّه صلى الله عليه وسلم، أخي الكريم أختم قضيَّةَ المبالغةَ بكلام للشيخ محمد رشيد رضا يقول: "من تَتبَّع التاريخ يعلم أنَّ أشد المؤمنين حبًّا واتباعًا للنبي صلى الله عليه وسلم أقلُّهم غُلوًّا فيه ولا سيما أصحابه رضي الله تعالى عنهم ومن يليهم من خير القرون، وأن أضعفَهم إيمانًا وأقلَّهم اتباعًا لهم أشدهم غلوًّا في القول واتباعًا في العمل" هذا الاستقراء المتين من الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله وهو من علماء القرن الماضي -غفر الله له ورحمه- يبيِّن لنا أن هناك تناسبًا بين الاتباع وتركِ الغلوِّ، وأن هناك تناسبًا بين الغلو والابتداع في الدين، فكلما كان الإنسان أشدَّ حبًّا للنبي صلى الله عليه وسلم كان أعظم اتباعًا له، وأبعد عن الإِحداث في دين الله، وكلَّما ضعُف الإيمان وتسلَّط عليه الشيطان على الإنسان بالغلوِّ والزيادة في دين الله -عز وجل- وفي محبَّة النبي صلى الله عليه وسلم كان ذلك ملقيًا له في الغلو قولًا وعملًا، وهنا مسألة أحب أن أختم بها أنه الكثير من الذين يتحدثون عن محبة النبي صلى الله عليه وسلم يُزَيِّنون كثيرًا من المخالفات ويُبَرِّرون كثيرا من الخُروجات عن الصراط المستقيم، وعما كان عليه الصحابة الكرام، وما كان عليه خِيار الأُمة وما جَرَى عليه علماؤها الأَجِلَّاء في محبة النبي صلى الله عليه وسلم، يبرِّرون ذلك بالمحبَّة بل ويزيد الأمر سوءًا عندما يُتَّهم من يدعو إلى السنة ولزومها، ويعظِّم هديَ النبي صلى الله عليه وسلم، ويحذر من الغلو، عندما يُتهم هؤلاء بأنهم جُفاة، وأنهم لم يحبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم لو كانوا يحبونه لأقاموا الاحتفالات والمناسبات، وقالوا الأشعار والأناشيد والترنُّمات، وأحدثوا من الرقْصات ومجالس الذكر التي يتمايلون فيها ما يحتفلون به بمولد النبي صلى الله عليه وسلم أو بسيرته أو ما أشبه ذلك، وهذا بالتأكيد تضليل وهو زائد على مجرد أن يحدث الإنسان؛ لأنه قد تُحدِث أو تقع في خطأ، وأما أن تجعل هذا الخطأ هو معيارَ المحبة، فهؤلاء نقول لهم: لو كانت محبة النبي صلى الله عليه وسلم على النحو التي تفعلونه لكان أسبقَ الناس إليها هم أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومنا هذا.
- المذيع: شيخ خالد عندما نتحدث أيضًا عن هذه الجوانب وأننا بيَّنا أهميةَ الاعتدال في محبَّة النبي عليه الصلاة والسلام نأتي هنا إلى اللوازم، لوازم هذه المحبة كيف تكون هذه المحبة، وما هي لوازِمُها؟
- الشيخ: يعني نحن تكلَّمنا عن الغلو وإذًا لَمحة مختصرة عن الجفاء، والجفاء هو أن يُتَنقَّص حق النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا وللأسف أنه جاري في حال كثير من الناس بدعوى العقلانية، بدعوى البعد عن القيام بحق تعظيم الشخصيات، يعني ثمة تبريرات كثيرة يبرر بها هؤلاء الذين يشكُّون في حقه فيعاملون النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما يعاملون أيَّ شخصية في التاريخ البشري، وهذا ظلم وجور ونزولٌ بالنبي صلى الله عليه وسلم عن منزلته التي جعله الله تعالى فيها، بالتأكيد أنه بشر كما قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إلي ﴾ [الكهف:110]، لكن ذكر الله مع بشريته ما مَيَّزه الله به، وهو ما أمدَّه الله به من الوحي، وهو ما كان عليه -صلى الله عليه وسلم- من طِيب الشمائل، وهو ما كان عليه من الأدب العظيم، وهو ما كان عليه من الشفقة بهذه الأمة، وما كان عليه من الحرص في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وكل هذه تجعله في منزلةٍ مختلفة، فهو صَفوة الله من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قد اصطفاه الله واختاره، وهو صلى الله عليه وعلى آله وسلم الممدود بالوحي من السماء، الذي قوله وعمله وكل ما يصدر عنه وحي يُؤتَسى به ويُقتدى به ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾[الأحزاب:21]
وهو معيار الإيمان، فمن آمن به وصدَّقه وأحبه كان مؤمنًا، ومن قصَّر من ذلك نقَصَ من إيمانه بقدر تقصيره؛ ولذك ينبغي أن يتقيَ الله تعالى هؤلاء الذين يعاملون أقوالَ النبي صلى الله عليه وسلم وأحوالَه وما جاء عنه كما يعاملون سائر المنقولات عن سائر البشر ممن لم يخصهم الله تعالى بالرسالة وهذه المنزلة العظمى، هذا من صور الجَفاء، ومن الجفاء الآن تطاول بعض الناس على سُنة النبي صلى الله عليه وسلم، يعني الذي يأتي ويستهزئ بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- إما لعدم فهمه أو لعدم إدراكه لغايته، أو لأنه خالف ذَوقه ويجعل ذوقه وعقله ومعارفه الضيَّقَةَ حاكمةً على قول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقبل منها ما يشاء ويرد منها ما يشاء، هذا خارج بالتأكيد عن ما يجب للنبي صلى الله عليه وسلم من المحبة التعظيم والطاعة وحفظ المكان.
- المذيع: جميل طيب، قبل أن ندخل في اللوازم يا شيخ خالد آخذ فقط الاتصال من أحمد عمر من جدة أخ أحمد تفضل.
- المتصل: السلام عليكم ورحمة الله.
- المذيع: وعليكم السلام تفضل.
- المتصل: كيف حالكم طيبين؟
- المذيع: حياك الله أهلًا وسهلًا.
- المتصل: دكتور خالد أنا أسأل الذين يحتفلون بالمولد النبوي لو خرج عليهم النبي وهم في هذا الاحتفال لو سألوا أنفسهم هل يرضاه الرسول أو لا؟ والله لو حكَّموا ضميرَهم والله أعتقد أنهم لم يحتفلون بهذا المولد مرة أخرى، لأنه اعتقد ابن عباس لما خرج على بعض الصحابة ووجدهم يُسبِّحون بالحصى أنكر عليهم[الأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه الدارمي في سننه:ح210 ، وصححه الألباني في الصحيحه:5/11]، فما بالك بمن يحضر المولد ويتراقص، وأشياء يفعلونها من هذا القبيل، أسأل الله لهم الهداية.
- المذيع: اللهم آمين شكرًا لك.
- المتصل: شكرًا لكم.
- المذيع: طيب تُعلِّقون يا شيخ خالد على مُداخلة الأخ أحمد.
- الشيخ: على كل حال كما ذكرت الميزان في الحكم على الأقوال والأعمال هو هَدي السنة، وهدي الكتاب المبين وهذا الهدي الذي تركه النبي صلى الله عليه وسلم لا يحكم على شيء بذوق ولا بما تشتهي، ولا بما تحب، ولا بمالك، ولا بما اعتدت ولا بما ساد في بلدك، إنما نحكم على الأقوال والأعمال والأحوال وكلِّ ما يكون من شئون الناس بميزان قسطٍ وعدل، بالكتاب والسنة، وما كان عليه سَلُف الأمة، هذا الميزان هو الذي يَفرِز ويبين الصحيحَ من الخطأ، ويبين الصوابَ من الضلال، ويبين الهُدى من الغيِّ، فينبغي أن نخرج عن كل يعني كل أنواع المماحكات والانتصارات لما يألفه الإنسان أو ما يشتهيه أو ما يحبه، نحن نتيقن أنه لو كان هذا الغلوُّ محبوبًا للنبي صلى الله عليه وسلم وأمر به لكنا أعظم الناس غلوًّا، لكن نعلم أنه لا يرضاه ونعلم أنه كما نهى عن الجفاء فيه نهى عن الغلو فيه، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا تُطروني كما أَطْرتِ النَّصارى المسيحَ ابن مريم، إنما أنا عبد)[سبق] هذا هو الوصف الذي أكَّدَه صلى الله عليه وسلم لأمته في مواضع عديدةٍ حتى لا يرفعه أحد عن منزلته التي بوَّأه الله تعالى إياها؛ ولذلك وصف العبودية هو من أشرف أوصافه وصفه الله تعالى بهذا الوصف في أشرف مقامات النبي صلى الله عليه وسلم ففي إسرائه يقول: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى﴾[الإسراء:1]، وفي المعراج يقول: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾[النجم:10]، وفي مقام الرسالة يقول:
﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾[الجن:19]، وما إلى ذلك من المواضع الشريفة والمنازل العالية وصفه الله تعالى بأنه عبد صلى الله عليه وسلم، فهو لا يخرج عن كونه عبدًا لله، لكن الله خَصَّه وميَّزه؛ لأنه رسوله فيجب أن يُعرف حقُّه، وأن تُعرف منزلته دون غلوٍّ ودون جفاء، فكلاهما خروج عن ما يجب له صلى الله عليه سلم.
- المذيع: جميل، شيخ خالد لم يَبْق الكثيرُ من الوقت لكن ربما نأتي بسرعة على لوازم هذه المحبة، وكذلك أبرز ما يكون من لوازم هذه المحبة للنبي عليه الصلاة والسلام.
- الشيخ: أخي الكريم وأيها الإخوة والأخوات! محبة النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرت في بادئ الحديث أنها عملٌ قلبي، وهو انجذاب القلب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك بعد الإيمان به ومعرفة عظيم منزلته عند رب العالمين ومعرفة اصطفاء الله تعالى له، ومعرفة ما جاء به من الهدى ودين الحق، ومعرفة عموم رسالته، ومعرفة عظيم الجهد الذي بذله لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومعرفة مدى النفع العظيم الذي أدرَكْنا بالإيمان به وباتباعه صلوات الله وسلامه عليه، هذا أمرٌ ينبغي أن يكون حاضرًا في القلب، وإذا حضر هذا في القلب تُرجِم في العمل، تُرجِم اتباعًا لسنته؛ فإن الله تعالى أنزل القرآن وهو خاتم الرسالات على النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل من مَهامِّه صلى الله عليه وسلم أن يبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم، قال الله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾[النحل:44]، فرض الله تعالى طاعته فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾[محمد:33]
أوجب الله تعالى الأخذَ بكل ما جاء به فقال: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾[الحشر:7]، وحذَّر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من معارضة ما جاء به من الهدى ودين الحق فقال: (يوشِك الرجل متكأ على أَريكَتِه) (شَبْعَان على أريكته) في لفظٍ آخر يحدَّث بحديثٍ من حديثي؛ يعني ينقل إليه قول من أقوالي فيقول: (بَينَنا وبينكم كتابُ الله فما وَجَدْنا فِيه من حَلالٍ استحللناه)[سنن أبي داود:4604، مسند أحمد:17172، والترمذي في سننه:2664. وقال: حسن غريب]وهذه دعوى موجودة الآن.
القرآنيون هم أبرز فئة، لكن ثمة مِن غيرهم مَن يردد هذا الكلام، يقول -صلى الله عليه وسلم- في وَصْفِ حالِ هذا الرجل الذي يَرُدُّ السنَّةَ ولا يُقِيم لها وزنًا (بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلالٍ استحللناه وما وجدنا فيه من حرامٍ حرَّمناه، ألا وإن ما حرَّم رسول الله مثلُ ما حرم الله) هكذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم.
ومما جعله الله تعالى من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم الذي يترجم به ما في القلب من المحبة: الاتباع، وهنا الفيصل، هنا الميزان القسط، هنا البرهان الصادق العدل الذي لا يَكذِب، فإن من أحب النبيَّ اتَّبَع سنتَه، يقول الحسن البصري وهو من الزهاد العُبَّاد العلماء أصحابِ الفضل والفقه قال: "زعم قومٌ أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾[آل عمران:31]". [تفسير ابن كثير:2/27]
فمعيار محبةِ الله الدليل البرهان على محبة الله وعلى محبة رسوله صلوات الله وسلامه عليه هو أن يسير على الطريقة المحمدية، وأن يسلك الطريقة المُصطَفويَّة، وأن يكون على نهج النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله وفي فعله وفي حاله، وأن لا يخرج عن ذلك بشيء، وأن لا يقدم مَحابَّه ومُشتَهَياتِه وأراءَه على هديه صلى الله عليه وسلم، (من عَمِل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ)[البخاري:2697]، فمُحبُّ الله ورسوله يغار على الله ورسوله، فتجد عنده من تقديم محبة الله ومحبةِ رسوله واتباع ما جاء في الكتاب والسنة، وطاعة الله ورسوله ما يجعله يمتنِع من تقديم أيِّ قول، أو أي رأي، أو أي أمر فيما أمر الله تعالى به وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
- المذيع: في نقط مهمة أيضًا فيما يتعلق بالاستجابة فيما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك نُصرَتِه والدفاع عنه إضافةً إلى العديد ممكن من النقاط التي يمكن أن نأتي عليها في هذا الهدي.
- الشيخ: بالتأكيد إن من محبته إذا امتلأ القلب بمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- لابد أن يغار عليه، لابد أن يغضب للنَّيل منه، لابد أن يجد في نفسه ألمًا عندما تُمتَهن سنتُه، وعندما يُنتقَص شرعُه، وعندما يُنال من هديه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هذا من اللوازم فإن المؤمن يُقدِّم النبي وعرضه على كل محبوب كما قال حسان بن ثابت:
فإن أبي ووالده وعرضي ***** لعرض محمد منكم فداءُ
ولذلك فداؤه صلى الله عليه وسلم أنفسنا وأموالنا وأهلينا وأعراضنا، وكل ما نملك فهو المقدَّم صلوات الله وسلامه عليه على كل محبوبٍ في الدنيا، ولزوم سنته واتباع هديه ترجمان ذلك وعلامته؛ لذلك أقول يا إخواني ويا أخواتي لنعلم أن المحبة ليست شيئًا عمليًّا فقط بل مِفتاح المحبة الحقيقية هو أن تميل بقلبك إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهنا أذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (وَدِدتُ لو أنا رأينا إِخواننا قالوا: أَلسْنا إِخوانَك يا رسول الله؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنتم أصحابي وإِخواني قومٌ يأتون من بعدي _أي يأتون بعده صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يؤمنون بي ولم يَرَوني يَوَدُّ أحدهم لو بَذَل مالَه وأهلَه ورآني)[مسلم:249/39] فهذا الحديث النبوي يبين أن المحبة ليست فقط أمرا نظريًّا إنما هي أمر نظري وعملي وقلبي ومَسلكي ينبغي أن يُفتح له الباب في كل أحواله حتى تكون محبة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- واتباع هديه وسنته نسأل الله أن يحشرنا في زمرته، وأن يجعلنا من أحبابه ومن أوليائه صلى الله عليه وسلم.
- المذيع: وهناك الكثير من نماذج بصراحة من أصحابه -رضوان الله عليهم-، وكذلك التابعين له بإحسانٍ ممن كانت لهم الكثير من القصص التي كان فيها الفِدائيَّة والتضحية من أجله عليه الصلاة والسلام، والسِّيَر والمعارك والحروب هي شاهدة على هذا الأمر، وغير ذلك من كتب التاريخ والسير ممن شهدت من هذه المواقف التي تُجلِّي الحقيقةَ من حب هذا النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام، لو أحببتم أن تختموا هذه الحلقة في دقيقة يا شيخ خالد.
- الشيخ: نعم أنا أقول مطالعة حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع النبي وما كان عليه -رضي الله تعالى عنهم- من عظيم الطاعة له وعظيم المحبة له وعظيم البذل في حفظه وصيانته، وقد أشرت إلى شيءٍ من ذلك في أول الحلقة، هو مما يترجم به هذا الحبُّ الصادق الذي ميَّز ذلك الجيل -رضي الله تعالى عنهم- عن سائر طبقات الأمة، فمن أراد أن يحب النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الكمال فلينظر إلى ما كان عليه أصحابه -رضي الله تعالى عنهم-، فإن أصحابه جميعَهم صغيرهم وكبيرهم من تَقدَّم منهم ومن تأخر منهم كانوا على منزلةٍ من محبته هم فيها أُسوة وقدوة دون غلوٍّ وتفريط، محبة أعطوا النبي صلى الله عليه وسلم مُهجَهم فدوه بأموالهم وأنفسهم، وكان هذا قيامًا بحقِّه الذي جعله الله تعالى له صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
- المذيع: شكر الله لكم صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور خالد بن عبدالله المصلح المشرف العام على فرع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء بمنطقة القصيم، وأستاذ الفقه بجامعة القصيم، بارك الله لكم فيما أفدتم به من خلال هذه الحلقة وجعل الله هذا في موازين حسناتكم.
- الشيخ: الله يحفظ بارك الله فيك وفي الإخوة والأخوات وأستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
- المذيع: وعليكم السلام ورحمة الله، ونحن في ختم هذه الحلقة نقول:
بأبي وأمي أنت يا خير الوَرَى *** وصلاة ربي وسلام معطَّرا
يا خاتم الرسل الكرام محمدٌ *** بالوحي والقرآنِ كنت مطهَّرا
لك يا رسول الله صدق محبةٍ *** وبفيضها شهد اللسانُ وعبَّرا
نسأل الله سبحانه وتعالى حبَّ نبيه عليه الصلاة والسلام، وأن يجعلنا ممن اقتَفَوا أثرَه وحشرهم الله -سبحانه وتعالى- في زمرته عليه الصلاة والسلام.
إذًا هذه ختم الحلقة مستمعين الكرام من برنامجكم "الدين والحياة" تقبلوا أجمل التحايا من مُعدِّ ومقدم هذه الحلقة محدثكم عبدالله الداني، ومن استقبال المكالمات هذه تحية الزميل خالد فلاته، ومن التنفيذ على الهواء الزميل محمد باصويلح يحيكم ويتمنى لكم بإذنه -سبحانه وتعالى- أجمل الأوقات وأنفعها مع إذاعتكم إذاعة "نداء الإسلام" من مكة المكرمة، لقاؤنا يتجدد بكم مستمعين الكرام في حلقة الأسبوع المقبل بإذنه -سبحانه وتعالى- يوم الأحد في تمام الساعة الثانية، حتى ذلكم الحين وفي كل حين نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.