×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

نموذج طلب الفتوى

لم تنقل الارقام بشكل صحيح

مرئيات المصلح / الحرمين / من رحاب الحرمين / إفشاء السلام من شعائر الإسلام

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis

المشاهدات:8990

الحَمدُ لِلَّهِ حَمدًا كَثيرًا طَيبًا مُبارَكًا فيهِ، كما يُحِبُّ رَبُّنا ويَرضَى نَحمَدُه، لَهُ الحَمدُ كُلُّه أولُه وأخِرُه، ظاهِرُه وباطِنُه، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ إلهُ الأولينَ والآخِرينَ، لا إلهَ إلَّا هُوَ الرحمنُ الرحيمُ، وأشهدُ أنَّ مُحمدًا عَبدُ اللهِ ورِسولُه، وصَفيُّه وخَليلُه خيرَتُه مِنْ خَلقِه، بَعثَه اللهُ بالهُدَى ودينِ الحقِّ، بينَ يَدَيِ الساعةِ بَشيرًا ونَذيرًا وداعيًا إلَيهِ بإذنِهِ وسِراجًا مُنيرًا، بلَّغَ الرسالةَ وأدَّى الأمانةَ ونصَحَ الأُمةَ، حتَّي أتاهُ اليقينُ وهُوَ عَلَى ذَلِكَ، -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِه وصَحبِه، ومَنِ اتَّبعَ سُنَّتَهُ، واقتَفَى أثرَهُ بإحسانٍ إلى يَومِ الدِّينِ، أمَّا بَعدُ:

فإنَّ اللهَ ـ تَعالَى ـ خلَقَ الخَلْقَ لعِبادَتِه، وبَيَّنَ لَهُم ما يَتحقَّقُ بِهِ صلاحُ مَعاشِهم، وفَوزُهم في ميعادِهِم؛ ولذَلِكَ كانَ في الكتابِ والسُّنةِ مِنْ دَلائلِ عِنايَةِ اللهِ ـ تَعالَى ـ بخَلقِه، وقيامِه بما يُصلِحُهم ما لا يَخفَى عَلَى ذي بَصَرٍ وعِنايَةٍ؛ فإنَّ اللهَ ـ تَعالَى ـ خَلقَ آدمَ، ونفَخَ فيهِ مِنْ روحِه، وكَرَّمَه بأنْ عَلَّمَه، وفَضَّلَه عَلَى المَلائكَةِ بِما مَيَّزَه وخَصَّه بِهِ مِنْ عِلمٍ، وأسجَدَ لَهُ مَلائكتَه، وبَيَّنَ لَهُ دارَ الكَرامةِ، وطَريقَ تَحصيلِها، فأمرَهُ بأنْ يُحقِّقَ العُبوديةَ لهُ فأسكَنَهُ دارَ كَرامَتِه، وجَعلَ لَهُ فيها مِنَ النعيمِ ما يَنعَمُ بِهِ، ويُدرِكُ كُلَّ ما يَتمَنَّى، وحَذَّرَه مِنْ عَداوَةِ الشيْطانِ، وكانَ مما عَلَّمَه إيَّاهُ ما يُحقِّقُ صلاحَ الدُّنيا، وصَلاحَ الآخرَةِ.

 فمِمَّا عَلَّمَه اللهُ ـ تَعالَى ـ آدَمَ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ ما جاءَ في الصحيحِ مِنْ أنَّ اللهَ ـ تَعالَى ـ لَمَّا خَلقَ آدَمَ، وأسكَنَه الجنَّةَ، أمرَهُ أنْ يَأتيَ نَفَرًا مِنَ المَلائكةِ كانوا جُلوسًا، وأمَرَه بأنْ يُسلِّمَ عَلَيهم، قالَ: «اذهَبْ إلى أولئِكَ النفَرِ مِنَ المَلائكةِ الجُلوسِ فسَلِّمْ عَلَيهِم، وانظُرْ بماذا يُجيبونَك فإنَّها تَحيَّتُك وتَحيَّةُ ذُريَّتَك" فجاءَ آدَمَ -عَلَيهِ السلامُ- كما أمرَهَ اللهُ -عَزَّ وجَلَّ- فسَلَّمَ عَلَى هَذا الجَمعِ مِنَ المَلائكةِ، فقالَ: "السَّلامُ عَلَيكُم"، فرَدُّوا عَلَيهِ: "وعَلَيكُمُ السلامُ ورَحمَةُ اللهِ" فزادوهُ ورَحمَةُ اللهِ" صحيحُ البُخاريِّ (3326)، ومُسلمٍ (2841) .

فهذهِ التحيَّةُ التي عَلَّمها اللهُ ـ تَعالَى ـ آدَمَ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ مُنذُ خَلقَه، هِيَ تَحيَّتُه ـ عَلَيهِ السلامُ ـ وتَحيَّةُ البَشَرِ في هذهِ الدُّنيا، كما أنَّها تَحيةُ أهلِ الإيمانِ عِندَما يَلقَوْنَ رَبَّهُم ـ جلَّ في عُلاه ـ حَيثُ قالَ ـ سُبحانَه ـ: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزابِ:44]

فهِيَ تَحيَّةُ أهلِ الإيمانِ التي عَلَّمَها اللهُ ـ تعالَى ـ آدمَ وذُرِّيتَه مِنْ بَعدِه إلى أنْ يَرِثَ اللهُ ـ تَعالَى ـ ومَنْ عَلَيها، وهِيَ تَحيةُ أهلِ الإسلامِ وأهلِ الإيمانِ يَومَ القيامَةِ عِندَما يَفِدونَ إلى رَبِّهم ـ جلَّ في عُلاه ـ فتُحَييِّهِمُ المَلائكةُ ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾،ويُحييهمُ اللهُ ـ تَعالَى ـ:﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الزُمَرِ:73]

هذهِ التحيَّةُ قَولُ: "السلامُ عَلَيكُم ورَحمَةُ اللهِ وبَرَكاتُه" فيها مِنَ الخَيرِ والبَرَكةِ ما تَولَّى اللهُ ـ تَعالَى ـ تَعليمَها آدمَ بنَفسِه، وأمرَهُ بأنْ يُلقيَها عَلَى المَلائكةِ، وزادَه خَيرًا بِما رَدَّتْ بِهِ الملائكَةُ عَلَيهِ، حَيثُ قالوا: "وعَلَيكُمُ السَّلامُ ورَحمَةُ اللهِ"، وهذهِ التحيَّةُ، تَتضَمَّنُ مَعانيَ جَليلةً؛ لذَلِكَ كانَ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ شَديدَ العِنايةِ بها، حَريصًا عَلَى نَشرِها، وإشاعَتِها بيْنَ أهلِ الإيمانِ.

أوَّلُ قُدومِ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ المَدينةَ كانَ في السنةِ الثالِثةَ عشَرَ مِنْ بِعثتِه ـ صلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ قَدِمَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهَ وسَلَّمَ ـ المَدينةَ، وقَدْ تَسامَعَ بِهِ الناسُ، تَسامَعوا بمَقدِمِه، ومَجيئِه فكانوا يتَحيَّنونَ وُصولَه ـ صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عَلَيهِ ـ كانوا يَتَحيَّنونَ وُصولَه للمَدينةِ، تَحيَّنَ ذَلِكَ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ أصحابِه الكِرامِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنهُم ـ وتحيَّنَ ذَلكَ أيضًا اليهودُ، ومَنْ لم يُؤمِنْ بِهِ، وكانَ ممَّنْ تحيَّنَ قُدومَه ـ صلواتُ اللهِ وسَلامُه ـ عَلَيهِ للمَدينةِ حَبْرٌ مِنْ أحبارِ اليهودِ، عالِمٌ مِنْ عُلَمائِهِم لَهُ فَضلٌ ومَكانَةٌ، ومَنزلةٌ عاليَةٌ، وهُوَ: عَبدُ اللهِ بنُ سَلامٍ يقولُ: "فلَمَّا قَدِمَ رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ المدينةَ انْجَفَلَ الناسُ إلَيهِ يَقولونَ: قَدِمَ مُحمدٌ، قَدِمَ رَسولُ اللهِ، فكُنتُ ممَّنِ انجفَلَ إلَيهِ" يَعني ممَّنْ اجتَمعَ إلَيهِ، وأرادَ أنْ يَنظُرَ وقَدْ سَمِعَ خَبرَه، وأحَبَّ أنْ يَعرِفَ حَقيقةَ ما جاءَ بِهِ، فهُوَ مِنْ أهلِ الكتابِ الذينَ عِندهُم أثارَةٌ مِنْ عِلمٍ، يَقولُ: "فلَمَّا قَدِمَ استَثْبتُّه" أي: تَحقَّقْتُ مِنْ شَأنِه فنَظرتُ إلى وَجهِه فإذا بوَجْهِه ليسَ بوَجهِ كَذابٍ: أي وَجْهُه لا يَأتي بالكَذِبِ، فآمَنَ بِهِ ـ رَضِيَ اللهُ تعالَى عَنهُ ـ والشاهِدُ مِنْ هَذا الخَبرِ: أنَّهُ عِندَما قَدِمَ ـ رَضِيَ اللهُ تعالَى عنهُ ـ في إخبارِه بما كانَ مِنَ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ فكانَ أوَّلُ ما قالَ: «أيُّها الناسُ أفشُوا السَّلامَ بَينَكُم، أيُّها الناسُ أفشوا السلامَ وأطعِموا الطعامَ، وصَلُّوا بالليلِ والناسُ نِيامٌ تَدخُلوا الجَنَّةَ بسَلامٍ» سُنَنُ الترمذيِّ (2485) وقالَ: هَذا حديثٌ صحيحٌ

تَأمَّلْ هذهِ الأُمورَ الثلاثةَ التي ابتَدأَ بِها رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ دَعوتَه ورِسالَتَه، وحَديثَه للناسِ عِندَ مَقدِمِه إلى دارِ الهِجرَةِ طِيبةِ الطيِّبةِ.

قالَ: «أيُّها الناسُ، أفشُوا السَّلامَ، وأطعِمُوا الطعامَ، وصَلُّوا بالليلِ والناسُ نيامٌ» ثُمَّ ذَكرَ أجْرَ ذَلِكَ وثَوابَه، قالَ: «تَدخُلُوا الجنَّةَ بسَلامٍ».

هَذا أوَّلُ ما تَكلَّمَ بِهِ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ عِندَما قَدِمَ إلى المَدينةِ في أوَّلِ قُدومِه، كما أفادَ ذَلِكَ حديثُ عَبدِ اللهِ بنِ سَلامٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنهُ ـ في بَيانِ ما كانَ مِنَ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ، وعَلَى آلِه وسَلَّمَ– عِندَ مَقدِمِه إلى المَدينةِ، وهذهِ الأُمورُ الثَّلاثةُ اثنانِ مِنها صَلاحُ ما بَيْنَ الإنسانِ والخَلْقِ، وواحِدٌ مِنْها صلاحُ ما بَيْنَ الإنسانِ والربِّ، أمَّا ما بيْنَ الإنسانِ والخَلْقِ، فالسَّلامُ وإطعامُ الطعامِ، أفشوا السَّلامَ وأطعِمُوا الطعامَ.

 وهَذا جَمْعٌ للإحسانِ إلى الخَلقِ بأنواعِه، الإحسانِ القَوليِّ: بالسلامِ، والإحسانِ العَمليِّ: بالإطعامِ، وهَذا غايَةُ الفَضلِ وغايَةُ الإحسانِ، ولذَلِكَ كانَ المُسلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسلِمونَ مِنْ لِسانِه ويَدِه، أي: سَلِمَ المُسلِمونَ مِنْ رَديءِ قَولِه، وفاسدِ مَنطِقِه، ويَدِه: أي: مِنْ فِعلِه، فلا يُؤذي، ولا يَتعَدَّى، ولا يَنتَهِكُ حُقوقَ الخَلْقِ في أموالِهم، أو في أنْفُسِهم، أو في أعراضِهم بلِسانِه، أو بفِعلِه.

هَكَذا قالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ، وعَلَى آلِه وسَلَّمَ- في بَيانِ مِعيارِ الإسلامِ، وليَتبيَّنَ أنَّهُ دِينٌ عَظيمٌ جاءَ بإصلاحِ ما بَيْنَ الإنسانِ والخلْقِ في أقوالِهم، وفي أعمالِهم، أفشُوا السلامَ وأطعِموا الطعامَ، ثُمَّ ذَكرَ الزادَ الذي يَتحقَّقُ بِهِ هَذا الامتِثالُ لأمرِ اللهِ ـ تَعالَى ـ بالاستقامَةِ عَلَى صالِحِ العَملِ والقَولِ، فقالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ، وعَلَى آلِه وسَلَّمَ ـ: «وصَلُّوا بالليلِ والناسِ نيامٌ» فالصلاةُ عَونٌ، عَونٌ يَستعينُ بِهِ الإنسانُ عَلَى تَهذيبِ خُلُقِه، وتَقويمِ قَولِه، وأداءِ الحُقوقِ إلى الخَلقِ، ولذَلِكَ قالَ اللهُ ـ تَعالَى ـ: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البَقرةِ:45] .

فأمَرَ بالاستِعانةِ بالصلاةِ لأنَّها عَونٌ يَستقيمُ بِهِ الخَلْقُ، ويَصلُحُ بهِ العَملُ، ويَتحَقَّقُ بِهِ للإنسانِ خَيرٌ كَثيرٌ، وأمَّا الجَزاءُ المُرتَّبُ عَلَى هذهِ الأعمالِ التي بِها صَلاحُ ما بَيْنَ الإنسانِ والخلْقِ، وصَلاحُ ما بينَ الإنسانِ والربِّ -جَلَّ في عُلاه- هُوَ أنْ يَدخُلَ الجَنَّةَ بسَلامٍ أي: سالِمًا مِنْ كُلِّ ما يَكونُ قبْلَ ذَلِكَ؛ لأنَّ دُخولَ الجَنَّةِ هُوَ السلامَةُ التامَّةُ الكامِلةُ التي يَتحقَّقُ بِها للإنسانِ البَراءةُ من كُلِّ نَقْصٍ وخَطَرٍ وسُوءٍ، فإنَّها دارُ السَّلامِ كما قالَ اللهُ -جلَّ وعَلا-: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ [يُونسَ:25] فدارُ السلامِ هِيَ الجَنَّةُ، مَنْ دَخَلها سَلِمَ مِنْ كُلِّ آفَةٍ، ونَجا مِنْ كُلِّ بَليَّةٍ، وفازَ بكلِّ نِعمَةٍ وطَمأنينَةٍ وراحَةٍ؛ ولهَذا سُئِلَ الإمامُ أحمدُ -رَحِمَهُ اللهُ- مَتَى يَرتاحُ العبدُ؟ قالَ: "عِندَما يَضعُ قَدمَه في الجَنةِ، لا راحَةَ قَبْلَ ذَلِكَ".

إنَّما المَقصودُ بقَولِه: «تَدخُلوا الجنَّةَ بسَلامٍ» أي: تَسلَّموا مِنَ الآفاتِ، والأخطارِ، والبَلايا التي تكونُ يَومَ القيامةِ، وتكونُ قَبلَ دُخولِ الجَنَّةِ، فإنَّهُم يَنجُونَ بذَلِكَ مِنْ آفاتٍ عَظيمةٍ، وأخطارٍ جَسيمَةٍ، وبَلايا كَثيرَةٍ تكونُ في المَحشَرِ، وتكونُ في القُبورِ.

فالسلامُ أيُّها الأخوَةُ هُوَ مِنْ شَعائرِ هَذا الدينِ، وهُوَ مِنْ عَلاماتِ صِحَّةِ الإنسانِ، وقُربِه إلى اللهِ -عزَّ وجلَّ- ولذَلِكَ جاءَ في حَديثِ أبي أُمامَة سدي بنِ العجلانِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنهُ ـ أنَّهُ قالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ: «إنَّ أَولَى الناسِ باللهِ أبدَأُهم سَلامًا» سُننُ أبي داودَ (5197) وصحَّحَه الألبانيُّ أبدَأَهُم سَلامًا: يعني الذي يُبادِرُ، ويَبتدِئُ بالسلامِ هُوَ أولَى الناسِ باللهِ، ومَعنَى أولَى الناسِ باللهِ يَعني: أقرَبُهم إلَيهِ، وأحبَّهُم إلَيهِ، فالوِلايةُ تَقومُ عَلَى مَعنيينِ، عَلَى مَعنى القُربِ والمَحبَّةِ والنُّصرةِ، القُربُ والمَحبَّةُ مُتقارِبانِ في المعنَى، والنُّصرةُ مَعنًى آخَرُ، فقَولُه: «إنَّ أولَى الناسِ باللهِ» يَعني: أقرَبُهم مِنهُ، وأحبُّهم إلَيهِ، وأولاهُم بنَصرِه، وتَأييدِه، وإظهارِه الذينَ يَبدؤونَ بالسلامِ، وكَثيرٌ مِنَ الناسِ استَخفُّوا بالسلامِ، وظَنُّوا أنَّهُ مِنَ الأُمورِ التي لا قِيمةَ لها، بَلْ بَعضُ الناسِ إذا تَحدَّثَ مُتحدِّثٌ عَنِ السلامِ وأهمِّيتِه قالوا: أيش ها الموضوع هذا؟ المَوضوعُ هَذا لا قيمةَ لَهُ، والحَقيقةُ أنَّ هَذا مِنَ الجَهلِ بمَكانَةِ هذهِ التحيَّةِ، هذهِ الألفاظُ المُختَصرةُ التي لها وَزْنٌ عَظيمٌ عِندَ ربِّ العالَمينَ، في الصحيحِ مِنْ حَديثِ أبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنهُ ـ قالَ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ: «لا تَدخُلونَ الجَنَّةَ» وفي روايَةٍ «لا تَدخُلوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤمِنوا، ولا تُؤمِنوا حتَّى تَحابُّوا، ألَا أدُلُّكم عَلَى شَيءٍ إذا فَعلتُموهُ تَحابَبْتُم؟ أفشُوا السلامَ بَينَكُم» صحيحُ مُسلمٍ (54) هَذا الحديثُ في الصحيحِ، وهُوَ دالٌّ عَلَى عَظيمِ مَنزلةِ السلامِ، وأثَرِه، وما يُحقِّقُه مِنَ المَصالِحِ بَيْنَ الناسِ، وأنَّهُ مِنْ أسبابِ حُصولِ السلامةِ للناسِ، ونَشرِ الحُبِّ بَينَهُم، فإنَّ السلامَ يُحقِّقُ مَعنَى الأُخوَّةِ التي جَعلَها اللهُ ـ تعالَى ـ رابطةً للمُؤمنينَ ليسَ فَقطْ مِنْ أهلِ الإيمانِ الذينَ تَعرِفُهم، ويَعيشونَ في بَلدِك، وتَلتَقي بِهِم، بَلِ المُؤمنينَ في كُلِّ الدُّنيا، وحيثُ ما كانوا، وفي أيِّ زَمانٍ كانوا حَتَّى مِنَ المُتقدِّمينَ، ولهَذا نحنُ نَقولُ في الصلاةِ: السلامُ عَلَيكَ أيُّها النبيُّ ورَحمَةُ اللهِ وبَرَكاتُه، السلامُ عَلَينا، وعَلَى مَنْ؟ وعَلَى عِبادِ اللهِ الصالحِينَ، وهذهِ تَحيةٌ تَشمَلُ كلَّ أحَدٍ مِنْ عِبادِ اللهِ الصالحينَ تُصيبُ كُلَّ صالحٍ في السَّماءِ والأرضِ مِنَ الحاضِرينَ والمُعاصِرينَ، ومِنَ السابِقينَ الذينَ سَبقوكَ مِنْ عبادِ اللهِ سَواءٌ مِنَ الإنسِ، مِنَ الجِنِّ، مِنَ المَلائكةِ، مِنْ غَيرِهم مِنْ خَلقِ اللهِ الصالحِ الذي يَصدُقُ عَلَيهِ قَولُه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ: «وعَلَى عِبادِ اللهِ الصالحينَ»صحيحُ البخاريِّ (831)، ومُسلمٍ (402).

لهَذا يَنبَغي للمُؤمنِ أنْ يَفطَنَ لهَذا المَعنَى، وأنَّ السلامَ رابِطةٌ بَينَه وبينَ أهلِ الإيمانِ، ليسَ فَقطِ الذينَ يُعاشِرُهم ويُعاشِروهُ بَلْ هُوَ يُسلِّمُ حتَّى عَلَى مَنْ لا يَعرِفُهم، وآدَمُ ـ عَلَيهِ السلامُ ـ عِندَما أمرَهُ اللهُ ـ تَعالَى ـ بالسلامِ، أمرَه بالسلامِ عَلَى مَنْ؟ عَلَى المَلائكةِ ليسوا مِنْ جِنسِه، يَختلِفونَ عَنهُ في الخِلقةِ، فالسلامُ مما تَطيبُ بِهِ مَسيرةُ الإنسانِ، ويَصلُحُ بِهِ عَملُه؛ ولهَذا قالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ ـ كما في الصحيحَيْنِ مِنْ حَديثِ عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ لَمَّا سَألَه رجُلٌ عَنْ أخْيَرِ ما في الإسلامِ؟ وأفضَلِ ما في الإسلامِ قالَ: "أيُّ الإسلامِ خَيرٌ؟" رَجُلٌ يسألُ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ فيَقولُ: أيُّ الإسلامِ خَيرٌ؟ أي: أيُّ الإسلامِ أخيَرُ؟ أيُّ الإسلامِ أكثَرُ خَيرًا، وأكثرُ فَضلًا، وأعلَى مَنزِلةً؟ بماذا أجابَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ؟ قالَ: «تُطعِمُ الطعامَ، وتَقرأُ السلامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ، وعَلَى مَنْ لم تَعرِفْ» صحيحُ البُخاريِّ (12)، ومُسلمٍ (39) ذَكرَ خَصلَتَيْنِ بِهِما يتَحقَّقُ للإنسانِ الخَيريةُ والكمالُ في الإسلامِ، تُطعِمُ الطعامَ وهَذا إحسانُ العَملِ، والإطعامُ هُنا يَشملُ إطعامَ الفَقيرِ، وإطعامَ المسكينِ، وإطعامَ الصديقِ، وإطعامَ الضيفِ، وإطعامَ الجارِ، وإطعامَ كلِّ أحَدٍ، وإنَّما يَعظُمُ الأجرُ في الإطعامِ بعَظيمِ النفْعِ الحاصِلِ بِهِ، يَعني بقَدرِ ما يَحصُلُ بِهِ مِنَ النفعِ، فإطعامُ الجائِعِ الذي يُشرِفُ علَى الهَلَكةِ أعظَمُ أجرًا مِنْ إطعامِ مَنْ عِندَه كِفايَةٌ، لكِنْ في كِلا الإطعامَيْنِ أجْرٌ في إطعامِ الفَقيرِ وإطعامِ الغَنيِّ، في إطعامِ القَريبِ والبَعيدِ، بَلْ قَدْ قالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ: «في كُلِّ كَبِدٍ رَطبةٍ أجْرٌ» صحيحُ البخاريِّ (2363)، ومسلِمٍ (2244) حتَّى الحَيوانُ.

مما يَدُلُّ عَلَى أنَّ الإطعامَ هُنا شامِلٌ لكُلِّ أوجُهِ الإحسانِ إلى الخَلقِ بإيصالِ الطعامِ؛ لأنَّ الطعامَ مادَّةُ الحياةِ بها يَحصُلُ حِفظُ الأبدانِ فهُوَ مِنْ أعظَمِ وُجوهِ الإحسانِ؛ ولذَلِكَ قالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِه وسَلَّمَ ـ في جَوابِ السائلِ: أيُّ الإسلامِ خَيرٌ؟ قالَ: «تُطعِمُ الطعامَ، وتَقرأُ السلامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وعَلَى مَنْ لم تَعرِفْ» وقَولُه: «تَقرأُ السلامَ» أي: تُلقيهِ وتَبتدِئُ بِهِ، ولم يَجعَلْ ذَلِكَ خاصًا عَلَى مَنْ يَعرِفُه الإنسانُ، أو عَلَى مَنْ لَهُ صِلَةٌ، أو لَهُ به قَرابةٌ، أو له بِهِ مَوافقَةٌ في بلَدٍ أو في لَونٍ، أو في عِرقٍ، أو في وظيفَةٍ بل عَلَى مَنْ عَرفْتَ ومَنْ لم تَعرِفْ، فتُلقِي السلامَ عَلَى كلِّ أحَدٍ، والسلامُ لَهُ حُرمَةٌ يَحفَظُ بِها الإنسانُ نَفسَه ومالَه؛ ولذَلِكَ جَعلَ اللهُ ـ تَعالَى ـ إلقاءَ السلامِ في أرضِ المَعركةِ والقتالِ مما يُوجِبُ التوقُّفَ، حَيثُ قالَ -جلَّ وعَلا-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [النساءِ:94] حتَّى في أرضِ المَعركةِ والقِتالِ إذا سَلَّمَ عَلَى الإنسانِ مُسلمٌ، وَجَبَ عَلَيهِ أنْ يَكُفَّ ويتبيَّنَ، فإنَّ السلامَ شِعارُ أهلِ الإسلامِ، ويُوجِبُ ذَلِكَ عِصمةَ الدمِ والمالِ والعِرضِ حتَّى يَتبيَّنَ ما يُبيحُ الدمَ، وبِهِ يَتبيَّنُ ضَلالُ وخَطَأُ أولئِكَ الذينَ يَقتلونَ الناسَ بغَيرِ حَقٍّ، ويَزعُمونَ أنَّهُ جِهادٌ وهُوَ إفسادٌ وظُلمٌ واعتِداءٌ عَلَى الخَلقِ، فتَجِدُهم يَقتلونَ أهلَ لا إلهَ إلَّا اللهُ كما قالَ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ: «يَقتلونَ أهلَ الإسلامِ ويَذَرونَ أهلَ الأوثانِ» صحيحُ البُخاريِّ (3344)، ومُسلمٍ (1064) فإذا كانَتِ المَنزِلةُ في أرضِ المَعركةِ، -وهِيَ أرضٌ مَخوفَةٌ-، تُوجِبُ أنْ تَتوقَّفَ عِندَما تسمَعُ تَحيةَ الإسلامِ، السلامُ عَلَيكُم، ولا يَجوزُ لأحَدٍ أنْ يقولَ: لسْتَ مُسلِمًا بَلْ يَنبغي أنْ يَتثبَّتَ، وأنْ يَتحَقَّقَ مِنْ مُلقي السلامِ أهُوَ مِنَ الإسلامِ فيَكونَ مَعصومَ الدمِ والمالِ والعِرضِ، أم يكونَ غَيرَ ذَلِكَ فيُعامَلُ بما يَستحِقُّه مِنَ المُعامَلةِ؟

هذهِ التحيةُ أيُّها الأخوَةُ تحيةٌ يَنبغي أن تُفشَى، وأنْ تُظهَرَ، وأن يَفعلَها الإنسانُ مَعَ مَنْ عَرَفَ ومعَ مَنْ لم يعرِفْ، فقَدْ جاءَ في مُسندِ الإمامِ أحمدَ مِنْ طُرقٍ عَنْ جابرٍ أنَّ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ قالَ: «إنَّ مِنْ أشراطِ الساعَةِ» أي: مِنْ عَلاماتِها، وهِيَ مِنَ العَلاماتِ الصُّغرَى «أنْ يكونَ السلامُ للمَعرفةِ» مُسنَدُ أحمَدَ (3664)، وقالَ مُحقِّقو المُسندِ: حديثٌ حَسنٌ يَعني أنْ لا تُسلِّمَ إلَّا عَلَى مَنْ تعرِفَ، جعَلَ ذَلِكَ مِنْ أشراطِ الساعَةِ وعَلاماتِها لِماذا؟ لأنَّهُ يُضعِفُ بذَلِكَ الرابطةَ التي تَربِطُ بَيْنَ أهلِ الإسلامِ، فبادِرْ أيُّها المُؤمنُ وأيَّتُها المُؤمنةُ بادِروا إلى إلقاءِ السلامِ عَلَى مَنْ عَرَفْتم، وعَلَى مَنْ لم تَعرِفوا، وليُعلمْ أنَّ الأفضلَ مِنَ الناسِ والأسبَقَ بالتحيةِ؛ ولهَذا قالَ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ في المُتهاجِرَينِ في المُتخاصِمَيْنِ: «يُعرِضُ هَذا ويُعرِضُ هَذا، وخَيرُهما الذي يَبدأُ بالسلامِ» صحيحُ البُخاريِّ (6077)، ومُسلمٍ (2560) وهذهِ أوسِمةٌ نَبويةٌ يَنبغي أنْ يَفوَز بها الإنسانُ، شهادَةٌ مِنَ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ أنَّ خَيرَ المُتهاجِرينَ مَنْ يبدَأُ بالسلامِ، ولو قيلَ لكَ هَذا مِنْ كلامِ بَعضِ الناسِ لعَددْتَه فَضلًا أنْ يُزكِّيَكَ فلانٌ، فكَيفَ والمُزكِّي لكَ سَيِّدُ ولَدِ آدمَ صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عَلَيهِ.

فيَنبغي للإنسانِ أنْ يُبادرَ إلى السلامِ، وأنْ يُلقيَ هذهِ التحيةَ، وأكمَلُ ذَلِكَ أنْ يقولَ: السلامُ عَلَيكُم ورَحمَةُ اللهِ وبَرَكاتُه، هذهِ أكمَلُ صيَغِ السلامِ وأوفاها، جاءَ في السُّننِ مِنْ حَديثِ عِمرانَ بنِ حُصَينٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنهُ ـ أنَّ رَجلًا جاءَ إلى النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ، وعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ ـ فقالَ: السلامُ عَلَيكُم، فقالَ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ: «وعَلَيكُمُ السلامُ» فجلسَ الرجلُ، قالَ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ: «عَشْرٌ» ثُمَّ جاءَ آخَرُ فقالَ: السلامُ عَلَيكُم ورَحمَةُ اللهِ، فقالَ لهُ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ: «وعَلَيكمُ السلامُ ورَحمَةُ اللهِ،عِشرونَ»، ثُمَّ جاءَ ثالِثٌ فقالَ: السلامُ عَلَيكم ورحمَةُ اللهِ وبَرَكاتُه، فرَدَّ عَلَيهِ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ ـ: «وعَلَيكُمُ السلامُ ورَحمَةُ اللهِ وبَرَكاتُه وقالَ: ثَلاثونَ» سُننُ أبي داودَ (5195)، وصَححَّه الألبانيُّ عَشرٌ وعشرونَ وثَلاثونَ هَذا تَفاوُتٌ في المَنزلةِ والدرجاتِ والأُجورِ المُترتِّبةِ عَلَى إلقاءِ هذهِ التحيةِ، فأوفَى التحايَا وأكملُها هِيَ أنْ يقولَ القائلُ في سَلامِه: (السلامُ عَلَيكُم ورَحمَةُ اللهِ وبَرَكاتُه)، فلو اقتصَرَ عَلَى: السلامُ عَلَيكُم ورَحمَةُ اللهِ، كانَ أنقصَ في المَنزلةِ، في الأجرِ، وإذا اقتصَرَ عَلَى (السلامِ عَلَيكُم) كانَ أنقصَ في الأجرِ، وإذا اقتصَرَ عَلَى (السلامِ) أو (سَلامٍ) كانَ ذلِكَ أيضًا أنقصَ مِنْ قَولِه: السلامُ عَلَيكُم؛ لأنَّ "سلامًا" مُطلقَةً لم تَتوجَّهْ إلى أحَدٍ، ولم يَخُصَّ بِها أحَدٌ فأكمَلُ مِنها أنْ يَخُصَ بها السامعَ فيَقولُ: (السلامُ عَلَيكُم).

ولتَعلَموا أيُّها الأخوَةُ أنَّ قَولَك: السلامُ عَلَيكُم يَتضمَّنُ ثلاثةَ مَعانٍ:

يتَضمَّنُ التبرُّكَ بذِكرِ اسمِ اللهِ،فالسلامُ اسمٌ مِنْ أسماءِ اللهِ -عزَّ وجَلَّ- كما قالَ -جَلَّ وعَلا-: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ[الحشرِ:22]، ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ[الحشْرِ:23] فقَوْلُ السلامِ، هُوَ اسمٌ مِنْ أسماءِ اللهِ، فعِندَما تقولُ: السلامُ عَلَيكُم تتبَرَّكُ بذِكرِ اسمٍ مِنْ أسمائِه جَلَّ في عُلاه.

ومِنْ مَعانيها: أنكَ تَدعو بالسلامَةِ لمَنْ تُلقيها عَلَيهِ، والسلامَةُ هِيَ النجاةُ مِنَ الآفاتِ، والفَوزُ بالخلوصِ مِنَ المَكروهاتِ، فعِندَما تقولُ: (السلامُ عَلَيكُم) أي: عَلَيكَ سَلامٌ مِنْ كُلِّ نَقصٍ، عَليكَ سَلامٌ مِنْ كُلِّ آفَةٍ، عَليكَ سَلامٌ مِنْ كلِّ ما تَخافُه، هَذا مَعنى قَولِك لمَنْ تُسلِّمُ عَلَيه السلامَ عَلَيكُم.

والمَعنَى الثالِثُ: وهُوَ الذي يَحضُرُ في أذهانِ كَثيرٍ مِنَ الناسِ عِندَ إلقاءِ "السلامِ عَلَيكُم" أنَّها تَحيةٌ، أنها تَحيةٌ مِنَ التحايَا، وهِيَ أطيَبُ التحايا لكِنْ مَنِ استَحضرَ المَعاني الأُخرَى كانَ ذَلِكَ أكمَلَ في هذهِ التحيةِ، فإنَّهُ إذا قالَ: السلامُ عَلَيكُم، واستَحضرَ أنَّها تَحيةٌ يُحِيِّ بها أخاهُ أو مَنْ يَلقاهُ، واستَحضرَ أيضًا أنَّهُ دُعاءٌ لَهُ بالسلامَةِ، واستَحضرَ أيضًا أنَّها تَوسُّلٌ باسمٍ مِنْ أسماءِ اللهِ العَظيمةِ لتحقيقِ المطلوبِ وهُوَ حصولُ السلامةِ لمَنْ ألقَى عَلَيكَ ذَلِكَ، غايَةُ الكَمالِ في إلقاءِ هذهِ التحيةُ، وإلقاؤُها مِنْ حقِّ المُسلمِ عَلَى المُسلمِ، ولذلِكَ جاءَ في الصحيحِ مِنْ حَديثِ أبي هُريرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنهُ ـ أنَّ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ قالَ: «حَقُّ المُسلمِ عَلَى المسلمِ خَمسٌ» وفي روايةٍ: «سِتٌّ»صحيحُ البخاريِّ (1240)، ومسلمٍ (2162)، وتفرَّدَ مُسلِمٌ بتَخريجِ روايتَيِ الخَمسِ والسِّتِ.

وذَكرَ مِنها "رَدُّ السلامِ"، فالسلامُ حَقٌ مِنَ المُسلمِ عَلَى المسلمِ ابتِداءً ورَدًّا، ابتداءً عَلَى وَجْهِ الاستِحبابِ، وردًّا عَلَى وَجهِ الوجوبِ، فمَنْ ألقَى عَلَيكَ السلامَ وَجبَ عَلَيكَ أنْ تَرُدَّ عَلَيهِ سَلامَه لا خِلافَ بَيْنَ العُلَماءِ في ذلِكَ، فهُوَ مِنَ الحقوقِ التي يَلحقُك إثْمٌ بتَرْكِها، دَليلُ ذلكَ قولُ اللهِ ـ جَلَّ وعَلا ـ: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ﴾ [النساءِ:86].

فجعَلَ اللهُ تعالَى المراتِبَ في رَدِّ التحيةِ مَرتَبتَيْنِ:

المَرتبةَ الأُولَى:أنْ تَرُدَّ بأحسنَ مِنها، والحسَنُ هُنَا يُمكِنُ أنْ يكونَ في اللفظِ، ويُمكِنُ أنْ يكونَ في طَريقةِ اللفظِ وصيغةِ الأداءِ، ويمكِنُ أنْ يكونَ ببَشاشةِ الوجْهِ وطَلاقَةِ المُحيَّا، كُلُّ ذَلِكَ مما يَحصُلُ به الردُّ بأحسَنَ مِنها، فإذا قالَ لكَ: (السلامُ عَلَيكُم) فرَدُّها بأحسَنَ مِنها أنْ تقولَ: (وعَلَيكُم السلامُ ورَحمَةُ اللهِ)، وأنْ تكونَ بذلِكَ طَلِقَ الوَجهِ ذا بشاشةٍ، وبِشرٍ بتَحيةِ أخيكَ، لكِنْ لو أنَّكَ زِدْتَ فقَطْ قُلتَ: (وعَلَيكمُ السلامُ) حتَّى ولو لم تَكُنْ طَلِقَ المُحيا بذلِكَ تكونُ رَددْتَ بأحسَنَ مِنها، لكِنْ كمالُ الحُسنِ أنْ يَجمَعَ ذلِكَ في المَنطقِ لَفظًا، وفي الحالِ والهَيئةِ ردًّا، فيكونُ ذَلِكَ مُحفِّزًا لأخيكَ عَلَى أنْ يُسلِّمَ عَلَيكَ، وأنْ يُبادِرَ إلى هذهِ السُّنةِ المباركةِ والتحيةِ الطيبةِ، ثُمَّ إنَّ المُسلِمَ مُحسِنٌ إلَيكَ بدُعائِه لكَ حَيثُ يقولُ: (السلامُ عَلَيكَ) فإنَّهُ يَدعو لكَ، وحَقُّ مَنْ أحسَنَ إلَيكَ إيش؟ أنْ تَرُدَّ إلَيهِ الإحسانَ بمِثلِه أو بأحسَنَ مِنهُ ﴿هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ[الرحمَنِ:60]وهُوَ مَحبوبٌ لِلَّهِ -عَزَّ وجَلَّ- واللهُ يُحِبُّ المُحسِنينَ فيَنبغي لكَ أنْ تحرِصَ عَلَى أنْ تُقابِلَ الإحسانَ بالإحسانِ، وأنْ تَجتهِدَ في رَدِّهِ بأفضَلَ مِنهُ.

أمَّا المَرتبَةُ الثانيةُ في ردِّ التحيةِ:فهِيَ أنْ تَرُدَّ التحيةَ بمِثلِها، فإذا قالَ لكَ: (السلامُ عَلَيكُم) تَرُدُّ عَلَيهِ: (وعَلَيكُمُ السلامُ)، إذا زادَ: السلامُ عَلَيكُم ورَحمةُ اللهِ زِدْتَ: وعَلَيكُم السلامُ ورَحمَةُ اللهِ، ويَنبَغي أنْ يكونَ صَوتُك قريبًا مِنْ صَوتِه حتَّى يَحصُلَ بذلِكَ الردُّ بالمِثلِ، فلا يُسوَّغُ لأحَدٍ أن يَرُدَّ بما لا يَسمَعُه المُسلِّمُ، ويقولُ: رَددْتُ؛ لأنَّ بعضَ الناسِ إذا سَلَّمَ عَلَيهِ مُسلِّمٌ، فقالَ المُسلِّمُ: السلامُ عَلَيكُم قالَ: وعَلَيكُمُ السلامُ، هَذا لم يَرُدَّ بمِثلِها، حَتَّى ولو رَدَّ بمِثلِها لَفظًا فيما بَينَه وبَينَ نَفسِه، لكِنَّه لم يَرُدَّ بمِثلِها أداءً فكمالُ المِثليةِ والمُطابَقةِ في اللفظِ، وفي الصيغةِ، وفي صِفةِ الأداءِ.

وأذكُرُ أنَّ شَيخَنا مَحمدًا العُثيمين -أسكَنه اللهُ الجنَّةَ- دَخلَ مَرَّةً إلى مَجلسٍ فيهِ بَعضُ طَلبةِ العِلمِ فسلَّمَ بصَوتٍ بَيَّنٍ قالَ: السلامُ عَليكُم ورحمَةُ اللهِ، فرَدَّ أحَدُهم برَدٍّ خافِتٍ، فقالَ لَهُ شَيخُنا ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا[النِّساءِ:86] لأنَّه قالها بصَوتٍ خافِتٍ، قالَ: رَددْتُ عَلَيكَ السلامَ يا شيخُ، قالَ: ليسَ هَكذا، لم يَكُنْ سَلامي هكَذا حتَّى تَرُدَّه بمِثلِ هَذا.

وأذكُرُ أنَّهُ مَرَّةً سَلَّمَ عَلَيهِ شَخصٌ وجَمعَ بَينَ لفظِ التحيةِ العَمليةِ التحيةَ باليَدِ، فكانَ يُسلِّمُ عَلَيهِ ويُشيرُ إلَيهِ بيَدَيْهِ فرَدَّ عَلَيهِ لَفظًا، ورَدَّ عَلَيهِ بيَديهِ كهيئَةِ سَلامِه ـ رَحِمَه اللهُ ـ ثُمَّ التفَتَ إليَّ فقالَ: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا[النساءِ:86]

وهَذا مِنَ الفِقهِ في التعامُلِ، ومِنَ استحضارِ القرآنِ في المَعاشِ ومُعاملةِ الخَلقِ، فالتحيةُ رَدَّها ليسَ بأيِّ صورَةٍ كانَ إنما تَردُّها عَلَى صِفةِ مِنْ أدَّاها، عَلَى صفةِ مَنْ ألقاها عَلَيكَ لَفظًا وحالًا وأداءً، وليحتسِبِ المُؤمنُ الأجرَ في ذَلِكَ فإنَّهُ يُدرِكُ بِهِ خَيرًا عَظيمًا، وفَضلًا كَبيرًا، وحَسناتٍ لا تَخطُرُ لَهُ عَلَى بالٍ، رَوَى الإمامُ مالكٌ في مُوطَّئِه -رَحَمِه اللهُ- عَنِ الطُّفَيلِ بنِ أُبيِّ بنِ كَعبٍ أنَّ عبدَ اللِه بنَ عُمرَ، وهُوَ مِنْ أصحابِ النبيِّ وعُلماءِ الصحابةِ حتَّى لُقِّبَ بشَيخِ الإسلامِ فقَدْ أفتَى في الإسلامِ سِتِّينَ سَنةً، عَبدُ اللهِ بنُ عُمرَ ـ رضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أفتَى في الإسلامِ ستينَ سنةً أي: كانَ يُعلِّمُ الناسَ ويُفتيهِم في دينِ اللهِ ستينَ سنةً ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ ـ وهُوَ مِنْ خيارِ الصحابةِ ـ رَضِيَ اللهُ تعالَى عنهُ وأرضاهُ ـ يَقولُ الطفيلُ: كانَ عبدُ اللهِ بنُ عُمرَ يَخرُجُ إلى أسواقِ المَدينةِ فلا يمُرُّ بثِقابٍ، ولا بصاحبِ بَيعٍ، ولا بأحَدٍ إلَّا سَلَّمَ عَلَيهِ، فجِئتُه مَرةً فاستَتْبَعني إلى السوقِ يَعني طَلبَ مِنِّي أنْ أتبَعَه وأنْ أسيرَ مَعَه إلى السوقِ فقُلتُ: "يا أبا عبدِ الرحمنِ ما تَصنعُ وأنتَ لا تَقِفُ عَلَى بَيعٍ، ولا تَقفُ عَلَى سَومٍ، ولا تَشتَري سِلَعًا، ولا تَجلِسُ في مَجالسِ السوقِ" يَعني مالكَ حاجَةٌ في الذهابِ إلى السوقِ، قالَ: "فأجلَسَني وقالَ: إنَّنا نذهَبُ فنُسلِّمُ عَلَى مَنْ لَقيَنا" البُخاريُّ في الأدبِّ المُفردِ، وصَححَّهُ الألبانيُّ في صحيحِ الأدبِ المُفرَدِ (ص385-386)، يَعني يَخرُجُ إلى السوقِ ليسَ لَهُ حاجَةٌ إلَّا أنْ يُسلِّمَ عَلَى مَنْ لَقيَه، وهَذا مِنَ امتِثالِه ـ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنهُ ـ لِما أمَرَ به النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ في قَولِه: «أفشُوا السلامَ بَينَكُم» أظهِروهُ فالإفشاءُ هُوَ إظهارٌ وإبانةٌ ووُضوحٌ.

 ويا أخواني نحنُ في هَذا الجمعِ المُباركِ، وفي هذهِ الرحابِ الطاهرَةِ في أفضلِ بُقعةٍ تَجِدُ أنَّ مِنا مَنْ لا يَشترِطُ بسَلامٍ عَلَى أحَدٍ حَتَّى مَرَّةً مِنَ المراتِ حَدَّثَني شَخصٌ قالَ لي: مُدَّةً لي في هذا المكانِ أُصَلِّي في هَذا المحلِّ، محلٍّ مِنَ مَحلاتِ المسجدِ الحَرامِ ما سَلَّمَ عَليَّ أحَدٌ مُنذُ أنْ جِئتُ إلى هذهِ اللحظةِ، وقَدْ بَقيَ مُدةً مِنَ الزمنِ فلَمَّا سَلَّمَ عَلَيهِ الذي حَدَّثني بالقصةِ قالَ: عَجِبْتُ مِنْ سَلامِك لي لأني لي فَترَةٌ لا أحَدَ سَلَّمَ عَلَيَّ، وهَذا تَقصيرٌ بَيَّنٌ وحِرمانٌ، النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ يقولُ: «أفشُوا السلامَ بَينَكُم» إذا أرَدْنا أنْ نُحقِّقَ الوِدَّ والحبَّ بَينَ أهلِ الإسلامِ، وأنْ نَنبِذَ الحَسدَ والحِقدَ والبَغضاءَ والضغائِنَ مِنَ القُلوبِ فلنَأْخُذْ بهَدْيهِ صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عَلَيهِ.

 ولذَلِكَ جاءَ في بَعضِ الأحاديثِ أنَّ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ قالَ: «دَبَّ إلَيكُم داءُ الأُمَمِ قَبلَكُمُ الحسَدُ لا أقولُ إنَّها حالِقةُ الشَّعْرِ بَلْ هِيَ حالِقةُ الدِّينِ» ثُمَّ قالَ ـ صلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ: «أفشُوا السلامَ بَينَكُم ألَا أدُلُّكم عَلَى شَيءٍ إذا فَعلتُموهُ تَحاببتُم؟ أثبِتُوا السلامَ بَينَكم» سُننُ الترمذيِّ (2510)، وحسَّنه الألبانيُّ لغَيرِه أثبِتوهُ أي: رَسِّخوهُ وأقيموهُ، فليَحرِصِ المُؤمنُ عَلَى هذهِ الخَصلةِ، ولا يَقُلْ: أُسلِّمُ ولا يُرَدُّ عَلَيَّ، إذا لم يُرَدَّ عَلَيكَ فقَدْ ثَبتَ أجرُك عِندَ اللهِ، فقَدِ ابتَدأْتَ بإحسانٍ، وكَونِه قَصَّرَ في الردِّ عَلَيكَ هَذا إثمُه عَلَيهِ، وقَدْ جاءَ في بَعضِ الأحاديثِ أنَّ المسلِمَ إذا سَلَّمَ، ولم يَرُدَّ المُسلِمُ عَلَيهِ السلامَ، رَدَّ عَلَيهِ مَنْ هُوَ أطيَبُ مِنهُ وهمُ المَلائكةُ، فيَنبغي للمُؤمنِ أنْ لا يَتوانَى في إظهارِ هذهِ السُّنةِ وإشاعَتِها ما استَطاعَ إلى ذلِكَ سَبيلًا، وليَحتسِبِ الأجرَ عندَ اللهِ -عزَّ وجَلَّ- في ذَلِكَ فإنَّها شِعارُ أهلِ الإسلامِ، هذهِ بَعضُ الكَلِماتِ المُوجَزةِ حَولَ هذهِ التحيةِ.

أسألُ اللهَ -عزَّ وجَلَّ- أنْ يُحييَنا مُسلِمينَ، وأنْ يَحشرَنا في زُمرةِ المُتقينَ، وأنْ يَجعلَنا مِنْ عِبادِه الصالحينَ، اللهُمَّ رَبَّنا أعِنَّا ولا تُعِنْ عَلَينا، وانصُرْنا عَلَى مَنْ بَغَى عَلَينا، آثِرْنا ولا تُؤثِرْ عَلَينا، احفَظْنا مِنْ بَينِ أيدينا ومِنْ خَلفِنا يا ربَّ العالَمينَ، اللهُمَّ انصُرِ هذهِ البِلادِ عَلَى مَنْ خاصَمَها وعاداها وسَعَى فيها بالفسادِ، اللهُمَّ أدِمْ أمنَها، وأقِمْ عِزَّها، واحفَظْ وُلاتَها ورَعيَّتَها، واجعَلْها خَيرًا للعِبادِ والبلادِ يا ربَّ العالَمينَ، وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ عَلَى نَبيِّنا مُحمدٍ.

الاكثر مشاهدة

4. لبس الحذاء أثناء العمرة ( عدد المشاهدات94600 )
6. كيف تعرف نتيجة الاستخارة؟ ( عدد المشاهدات90287 )

مواد تم زيارتها

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف