إنَّ الحَمدَ لِلَّهِ نَحمَدُه، ونَستَعينُه، ونَستَغفِرُه، ونعوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أنفُسِنا، ومَنْ سَيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرشِدًا، وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ إلَهُ الأَوَّلينَ والآخِرينَ، لا إلهَ إلَّا هُوَ الرحمَنُ الرحيمُ، وأشهَدُ أنَّ مُحمَّدًا عَبْدُ اللهِ ورَسولُه، وصَفيُّه وخَليلُه، خَيرتُه مِنْ خَلقِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلهِ وصَحبِهِ، بلَّغَ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونَصحَ الأُمَّةَ، وجاهَدَ في اللهِ حَقَّ الجِهادِ بالعِلمِ والبَيانِ والسَّيفِ حَتَّى أتاهُ اليَقينُ وهُوَ عَلَى ذَلِكَ؛ فـصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وصَحبِه أجمَعينَ، أمَّا بَعْدُ:
فإنَّ المُؤمِنَ يَحرِصُ في هذهِ الحياةِ الدُّنيا عَلَى الاستِكثارِ مِنَ الصالحاتِ، فإنَّ اللهَ -جَلَّ وعَلا- خَلقَ الجِنَّ والإنسَ لغايَةٍ عُظمَى، ومَقصِدٍ أثنَى وهُوَ "عِبادتُه" -جلَّ في عُلاه- فقالَ ـ جلَّ في عُلاه ـ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرَةِ:21] ففي أوَّلِ ما أمَرَ اللهُ تَعالَى بِهِ الناسَ، أوَّلِ نِداءٍ في القرآنِ العَظيمِ هُوَ نِداءٌ للناسِ كافَّةً قالَ ـ تَعالَى ـ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ فالنِّداءُ الأوَّلُ في القرآنِ العظيمِ كانَ نِداءً لكافَّةِ البَشرِ، لا تَمييزَ فيهِ لعِرْقٍ عَنْ عِرقٍ، ولا للَوْنٍ عَنْ لَونٍ بَلِ النداءُ فيهِ لجَميعِ بَني آدَمَ، والأمرُ الأوَّلُ الذي أمَرَ اللهُ ـ تَعالَى ـ بِهِ في كِتابِه هُوَ عِبادَتُه وَحدَه لا شَريكَ لَهُ، فكانَ أوَّلَ نِداءٍ في القرآنِ العَظيمِ، كانَ نِداءً عامًّا للبَشريةِ كُلِّها، وأوَّلَ أمْرٍ أمَرَ اللهُ ـ تَعالَى ـ بِهِ في كِتابِه، كانَ أمرًا بعِبادَتِه وَحدَه لا شَريكَ لَهُ.
قالَ اللهُ ـ تَعالَى ـ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾، قالَ ابنُ العبَّاسِ: (اعبُدوا رَبَّكُمْ)؛ أي: وَحِّدوهُ هَذا مَعنَى ما أمَرَ اللهُ ـ تعالَى ـ بِهِ مِنَ العِبادةِ، هُوَ تَوحيدُه -جلَّ في عُلاه- إفرادُه بالعِبادَةِ، وهُوَ مَعنَى "لا إلهَ إلَّا اللهُ" فإنَّ "لا إلهَ إلَّا اللهُ" أنْ يُعبَدَ وَحدَه لا شَريكَ لَهُ، أنْ يُعبَدَ، وأنْ يُفرَدَ بالعبادَةِ، فلا تُصرَفُ العبادَةُ لأحَدٍ سِواهُ -جلَّ في عُلاه- بَلِ العِبادَةُ حَقُّه وَحدَه لا شَريكَ لَهُ؛ ولذَلِكَ أمَرَ اللهُ تعالَى بها في أوَّلِ الأوامِرِ في كتابِه الحكيمِ، فالناسُ عَلَى اختِلافِ أجناسِهِم، وعَلَى اختِلافِ ألسِنَتِهم، وعَلَى اختِلافِ ألوانِهم، وعَلَى اختلافِ أعراقِهم، كُلُّهِم مَأمورونَ بهَذا الأمْرِ، أنْ يَعبُدوا اللهَ تعالَى، وقَدْ ذَكرَ اللهُ ـ جَلَّ وعَلا ـ دَليلُ ذَلِكَ؛ أي: دَليلُ وُجوبِ عِبادَتِه فقالَ -جَلَّ في عُلاه-: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾[البقرَةِ:21].فاللهُ ـ تَعالَى ـ هُوَ الخَالِقُ، والخالِقُ هُوَ المُستَحِقُّ للعِبادَةِ؛ ولذَلِكَ لَمَّا عابَ اللهُ ـ تَعالَى ـ عَلَى المُشرِكينَ عِبادَتَهُم غَيرَ اللهِ ذَكرَ هَذا الوصْفَ، ذَكرَ الخلقَ ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾[الطورِ:35]فإنَّ أكبرَ الأدِلَّةِ الدالَّةِ عَلَى أنَّهُ يَجِبُ عَلَى المُؤمنِ أنْ يَعبُدَ اللهَ وَحدَه لا شريكَ لَهُ أنَّ اللهَ هُوَ الخالِقُ، ولا يَستَحِقُّ العبادَةَ إلَّا مَنْ لَهُ الخلقُ ـ جلَّ في عُلاه ـ:﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾[الأعرافِ:54].
فكُلُّ مَنْ عَبدَ مِنْ دُونِ اللهِ وهُوَ لا يَملِكُ خَلْقًا، ولا يَقدِرُ عَلَى الخَلقِ فعِبادَتُه باطِلةٌ؛ لذَلِكَ كانَ هَذا مِنْ أقوَى الحِجَجِ التي تُوقِظُ البَصائرَ، وتُنبِّهُ الأفهامَ، وتُبطِلُ الشِّركَ بأنواعِه وصُورِه، لا يَستحِقُّ العبادَةَ إلَّا مَنْ يَقدِرُ عَلَى الخَلقِ.
"جُبيرُ بنُ مُطعمٍ" لَمَّا قَدِمَ إلى النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ ـ وكانَ مُشرِكًا سَمِعَه يَقرَأُ في صَلاةِ المَغرِبِ سُورةَ (الطورِ) يقولُ: فسَمِعْتُه يَقرَأُ ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾[الطُّورِ:35] قالَ: فكادَ قَلبي أنْ يَطيرَ. صحيحُ البُخاريِّ (4854)؛ لعظيمِ هذهِ الحُجَّةِ، وهَذا البُرهانِ، وهَذا السُّلطانِ الذي يُبدِّدُ ظُلماتِ الشِّرْكِ؛ ولذَلِكَ هَؤلاءِ الذينَ يَدعونَ غَيرَ اللهِ، ويَعبُدونَ سِواهُ يُقالُ لَهُم: لِماذا تَعبُدونَهم؟ أهُم يَخلُقونَ شَيئًا أمْ هُم مَخلوقونَ؟ إذا كانوا يَخلُقونَ فإنَّهُم يَستَحِقُّونَ العبادَةَ، وإذا كانوا لا يَخلُقونَ فإنَّهُم مَردودونَ فُقراءُ لمِنْ خَلَقهم، وبالتَّالي لا يَستحِقُّونَ العبادةَ، وقَدْ ذَكَرَ اللهُ ـ تَعالَى ـ هَذا الأمرَ، وهُوَ أنَّ العجْزَ عَنِ الخَلْقِ دَليلُ بُطلانِ عِبادةِ غَيرِ اللهِ، في المَثَلِ الذي أمرِ اللهُ الناسَ كُلَّهم بالاستِماعِ إلَيهِ، تَذكُرونَ هَذا المَثَلَ، مثَلًا في القُرآنِ أمرَ اللهُ الناسَ بالاستِماعِ إلَيهِ. ما هُوَ المَثَلُ؟ المَثلُ في القُرآنِ ما هُوَ؟
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ﴾[الحج:73]ضُرِبَ مَثلُ الخِطابِ أيضًا للناسِ.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾ [الحَجِّ:73] أمَرَ اللهُ الناسَ جَميعًا بالاستِماعِ لهَذا المَثلِ، لضَرورَتِهم وحاجَتِهم إلَيهِ؛ ولأنَّ بِهِ يَتبيَّنُ بُطلانُ كُلِّ الشرْكِ بصُوَرِه وأنواعِه، سَواءٌ كانَ شِرْكًا بالمَلائكةِ، شِركًا بالصالحينَ، شِركًا بالنَّبيينَ، شِركًا بالجَماداتِ.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾[الحجِّ:73].
﴿تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ﴾: أي: تَعبُدونَه مِنْ دُونِ اللهِ سَواءٌ كانَ ذَلِكَ بالدُّعاءِ والاستِغاثةِ، أو كانَ ذَلِكَ بالذبْحِ والنذْرِ، أو كانَ ذَلِكَ بأيِّ أنواعِ القُرَبِ التي يَتقرَّبُ بِها المُشرِكونَ لغَيرِ اللهِ -عَزَّ وجَلَّ- يقولُ اللهُ ـ جَلَّ وعَلا ـ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾[الحجِّ:73]وهَذا دَليلُ العَجزِ، ودَليلٌ أنَّهُ لا يَستحِقُّ أنْ يُدعَى، ولا أنْ يُستغاثَ بِهِ، ولا أنْ يُصلَّى لَهُ، ولا أنْ يُنذَرَ لَهُ، ولا أنْ يُذبَحَ لَهُ، إلَّا مَنْ كانَ قادِرًا عَلَى الخَلقِ، أمَّا مَنْ لم يكُنْ كذَلِكَ، مَنْ كانَ عاجِزًا عَلَى أنْ يَخلُقَ فلا يُسَوَّغُ لأحَدٍ أنْ يَتوجَّهَ إلَيهِ بعِبادةٍ، أو باستِغاثَةٍ، أو بطَلَبِ مَدَدٍ، أو بسُؤالِ حاجاتٍ، أو بطلَبِ كَشْفِ كُرُباتٍ، أو بطلبِ تَحصيلِ مَأمولاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ لا يَكونُ إلَّا لمَنْ لَهُ الخَلقُ والأمرُ تَبارَكَ اللهُ ربُّ العالَمينَ.
ولهَذا يَنبَغي للمُؤمنِ أنْ يكونَ عِندَه الأمرُ في غايَةِ الوضوحِ والجَلاءِ، لا يُمكِنُ أنْ يَجتمِعَ إيمانٌ مَعَ دُعاءِ غَيرِ اللهِ، لا يُمكِنُ أنْ يَجتمِعَ تَوحيدٌ مَعَ عِبادةِ غَيرِ اللهِ، لا يُمكِنُ أنْ يَصِحَّ إسلامٌ ويُستغاثَ بغَيرِ اللهِ، ويُلجَأَ إلَيهِ، فإنَّ ذَلِكَ كُلَّه بجَميعِ صُوَرِه مُنافٍ للعُبوديةِ التي أمَرَ اللهُ ـ تَعالَى ـ بِها الناسَ.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾[البقَرةِ:21]، اعبُدوا رَبَّكُم ولا تَعبُدوا سِواهُ، اعبُدوا رَبَّكم ولا تَقصِدوا غَيرَه، اعبُدوا رَبَّكم ولا تُعلِّقوا قُلوبَكم بغَيرِ اللهِ -جَلَّ وعَلا- بَلْ عَلِّقوا قُلوبَكم به وَحدَه لا شَريكَ لَهُ فإنَّهُ عُنوانُ النجاةِ، وبِهِ الصَّلاحُ، وعَلَى تَحقيقِه تَتحقَّقُ النجاةُ للناسِ في الدُّنيا والآخرَةِ.
لهَذا يا إخوةُ تَأمَّلوا القرآنَ كُلَّه تَجِدونَ أنَّهُ يُعلِّقُ القُلوبَ باللهِ، ويُحرِّرُها مِنَ التَّعلُّقِ بسِواهُ، في الآيةِ التي نَقرَؤُها في كلِّ صَلاةٍ، ونَسمَعُها في كُلِّ صَلاةٍ ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[الفاتحةِ:5] ما قالَ: (نَعبُدُ إيَّاكَ)، قالَ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ قَدَّمَ ما حَقُّه التأخيرُ؛ لبَيانِ الحَصْرِ وأنَّهُ لا يُسَوَّغُ أنْ يُعبَدَ غَيرُ اللهِ، لا يُمكِنُ أنْ تُحقِّقَ العبادَةَ لِلَّهِ إلَّا بتَرْكِ ما سِواهُ، لا يُمكِنُ أنْ تَجمعَ بَيْنَ عِبادةِ اللهِ وعِبادةِ غَيرِه؛ ولهَذا إذا كانَ قَلبُك مَعلَّقٌ باللهِ خَرجَ مِنهُ كُلُّ ما سِواهُ، وأمَّا القَلبُ المُعلَّقُ بغَيرِ اللهِ فإنَّهُ لا يُمكِنُ أنْ يَلجَأَ إلى اللهِ، لا يُمكِنُ أن يَقبَلَ اللهُ العملَ إلَّا ما كانَ خالِصًا لَهُ، وابتُغِيَ بِهِ وَجْهُه؛ ولهَذا جاءَ في الصحيحِ مِنْ حديثِ أبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنهُ ـ أنَّ اللهَ يقولُ، هَذا حَديثٌ إلاهِيٌّ، حديثٌ قُدسِيٌّ يَحكيهِ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- ويُخبِرُ بِهِ عَنِ اللهِ يقولُ: «أنا أغنَى الشُّرَكاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أشرَكَ فيهِ مَعي غَيري تَركْتُه وشِرْكَه» صحيحُ مُسلِمٍ (2985) تَرَكَه اللهُ تَعالَى وما تَوَجَّهَ إلَيهِ، فاللهُ غَنِيٌّ عَنَّا وعَنْ عِبادَتِنا، أمَرَنا بعِبادَتِه وَحدَه فإذا أشرَكْنا مَعَه سِواهُ، إذا جَعلْنا قُلوبَنا مُعلَّقَةً بغَيرِه، إذا أحبَبْنا غَيرَه مِثلَ ما نُحِبُّه فإنَّنا عِندَ ذَلِكَ نَخسَرُ الدُّنيا والآخرَةَ؛ لأنَّ اللهَ تَعالَى يَترُكُ كُلَّ عَمَلٍ نَعمَلُه، فاللهُ غَنيٌّ عَنَّا وعَنْ أعمالِنا فإذا أشرَكْنا لم يكُنْ ذَلِكَ واقِعًا مَوقِعَ القَبولِ، والأدِلَّةُ في هَذا كثيرَةٌ وواضِحةٌ.
لذَلِكَ يَنبغي للمُؤمِنِ أنْ يُحقِّقَ التوحيدَ لِلَّهِ في كلِّ أعمالِه، عَملُك لَن يُقبَلَ يا أخي إلَّا إذا تَحقَّقَ فيهِ الإخلاصُ لِلَّهِ والمُتابعَةُ للنبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ الإخلاصُ لِلَّهِ بأنْ لا تَقصِدَ سِواهُ، وأنْ تَنفيَ عَنْ قَلبِكَ طَلَبَ غَيرِه فإنَّ النجاةَ في مَحبَّتِه، والجَأْ إلَيهِ.
جاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ كما في مُسندِ الإمامِ أحمدَ بإسنادٍ جيِّدٍ. فقالَ: "يا رسولَ اللهِ الرجُلُ يُقاتِلُ"، والقِتالُ مِنْ أشَقِّ الأعمالِ ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾[البقرَةِ216] من أشَقِّ الأعمالِ وأتعَبِها للنُّفوسِ"، هَذا يُقاتِلُ في سَبيلِ اللهِ لكِنَّه سألَ سُؤالًا، قالَ: "يُقاتِلُ يَبتَغي الأجرَ مِنَ اللهِ والذِّكرَ".
فطَلَبَ أمرَيْنِ: طلَبَ الأجْرَ مِنَ اللهِ عَلَى الجِهادِ في سَبيلِه، ويَطلُبُ الذِّكرَ؛ يَعني يُريدُ أنْ يُثنَى عَلَيهِ، ويُمدَحَ، ويُقالَ هَذا ما شاءَ اللهُ، شُجاعٌ!، هَذا راعي اجتِهادٍ، هَذا مِقدامٌ، وما أشبَهَ ذَلِكَ مِنَ الأوصافِ التي يُذكَرُ بِها العامِلونَ، يَبتغي الأجرَ والذِّكرَ، يقولُ: "ما لَهُ؟". هَذا الرجُلُ يسأَلُ الرسولَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ يقولُ: "ما لَهُ؟"؛ يَعني أيش يَخرُجُ بنَتيجَةٍ؟ ما هُوَ الذي سَيُحصِّلُه مَنْ قاتَلَ لهذَيْنِ الغَرضَيْنِ، وهَذَيْنِ القَصْدَيْنِ أنْ يُقاتِلَ يَبتغي الأجْرَ مِنَ اللهِ والثوابَ مِنهُ، ومَعَ هَذا يُريدُ فائدَةً أُخرَى وهِيَ أنْ يُذكَرَ ويُثنَى عَلَيهِ، ما لَهُ؟ ما نتيجَةُ هَذا السَّعْيِ؟ ما نَتيجَةُ هَذا العَمَلِ؟
قالَ: «لا شَيءَ لَهُ» هَذا جَوابُ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ «لا شَيءَ لَهُ»؛ يَعني لنْ يُدرِكَ أجْرًا، وأيضًا لَن يُدرِكَ ذِكرًا، الذكْرُ الذي تُؤمِّلُه بالعَملِ الصالِحِ لن تُحصِّلَه بالعملِ الصالحِ. «لا شيءَ لهُ»؛ يَعني لا شيءَ لَهُ مِنَ الأجْرِ، وحتَّى الذكْرُ الذي قَصَدَه بالعملِ الصالِحِ لنْ يَنالَه، فإنَّهُ لو ذُكِرَ كانَ ذِكْرًا مَحدودًا سُرعانَ ما يَتبدَّدُ ويَزولُ، ولا يَبقَى إلَّا ما كانَ لِلَّهِ -جلَّ في عُلاه- ولذَلِكَ قالَ: «لا شيءَ لَهُ». الرجُلُ دَهِشَ مِنَ الجَوابِ وأرادَ أنْ يَستثبِتَ مِنْ سَيِّدِ وَلدِ آدَمَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ فأعادَ عَلَيهِ السؤالَ مَرَّةً ثانيةً.
قالَ: "يا رسولَ اللهِ الرجُلُ يُقاتِلُ يَبتغي الأجرَ والذِّكرَ، ما لَهُ؟" هَذا التَّكرارُ للسؤالِ؛ للتأكُّدِ والتحقُّقِ مِنَ الجَوابِ، وإلَّا فقَدْ أجابَ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ لَمَّا سَألَهُ في المَرِّةِ الأُولَى قالَ: ما لَهُ؟ أيش له عَلَى هَذا العَملِ الذي قَصدَ فيهِ هذَيْنِ الأمرَيْنِ؟
قالَ: «لا شيءَ لَهُ» كَرَّرَ الجَوابَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ ـ بنَفْسِ الصيغةِ المُتقدِّمةِ لم يَزِدْ عَلَى جَوابِه قالَ: «لا شيءَ لَهُ»، عادَ الرجُلُ السؤالَ مَرةً ثالِثةً عَلَى النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- فقالَ: "يا رسولَ اللهِ، الرجُلُ يُقاتِلُ يَبتغي الأجرَ والذِّكْرَ ما لَهُ؟" أي: أيُّ شَيءٍ يُكتَبُ لهُ عَلَى طَلبِه الأجرَ والذِّكرَ؟
قالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ ـ: «لا شَيءَ لَهُ»ثُمَّ أضافَ جَوابًا: «إنَّما يَتقبَّلُ اللهُ مِنَ العَملِ» وانتَبِهْ أيُّها المُؤمِنُ هَذا هُوَ المِعيارُ والمِقياسُ الذي يَحصُلُ بِهِ قَبولُ الأعمالِ «إنَّما يَتقبَّلُ اللهُ مِنَ العَملِ ما كانَ خالِصًا وابتُغِيَ بِهِ وَجْهُه» سُننُ النَّسائيِّ(3140)، وحسَّنَهُ الألبانيُّ هَذا تَأكيدٌ للإخلاصِ، تَفسيرٌ للإخلاصِ يَعني قَدْ يَقولُ: ما هُوَ الإخلاصُ؟
الإخلاصُ أنْ تَبتغيَ بالعَملِ وَجْهَ اللهِ لا تَبتغيَ سِواهُ.
«إنَّما يَتقبَّلُ اللهُ مِنَ العَمَلِ» (إنَّما): أداةُ "حَصْرٍ" تَدُلُّ عَلَى قَصْرِ القَبولِ عَلَى هَذا الوَصْفِ. «إنَّما يَتقبَّلُ اللهُ مِنَ العَملِ ما كانَ خالِصًا» فما هُوَ الإخلاصُ الذي يَتقبَّلُ اللهُ تَعالَى بِهِ الأعمالَ؟
قالَ: «مَنْ كانَ خالِصًا وابتُغِيَ بِهِ وَجْهُه»؛ أي: طَلَبَ بِهِ وَجْهَ اللهِ ولم يَطلُبْ بِهِ سِواهُ.
وهَذا هُوَ مَعنَى الحديثِ الآخَرِ في الصحيحَيْنِ، حَديثِ أبي مُوسَى الأشعريِّ عِندَما سُئِلَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ عَنِ الرجلِ يُقاتِلُ حَميَّةً وشَجاعةً في سبيلِ اللهِ، أيُّ ذَلِكَ في سَبيلِ اللهِ يَبتَغي الأجرَ وهُوَ أيضًا شَجاعَةٌ وحَميَّةٌ. أيُّ ذَلِكَ في سَبيلِ اللهِ؟
قالَ ـ صلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ: «مَنْ قاتلَ لتَكونَ كَلِمةَ اللهِ هِيَ العُلْيا فهُوَ في سَبيلِ اللهِ» صحيحُ البُخاريِّ (2810)، ومُسلمٍ (1904).
إذًا يَنبَغي للمُؤمنِ في كُلِّ أعمالِه، وفي كُلِّ ما يَصدُرُ عَنهُ أنْ يَتحرَّى أنْ يكونَ عَملَه لِلَّهِ، وأنا أقولُ: كُلُّ ما تَطلُبُه مِنْ فوائِدِ العَملِ مِمَّا يَتعلَّقُ بالدُّنيا سَيأتيكَ إذا قَصَدْتَ اللهَ، فاقصِدِ اللهَ يَأتِكَ كُلُّ ما تَتمناهُ، وكُلُّ ما تَأمَلُ لكِنْ إذا قَصدْتَ غَيرَه خَسِرْتَ الدُّنيا والآخرَةَ، خَسِرْتَ ما عِندَ اللهِ؛ لأنَّ اللهَ لا يَتقبَّلُ مِنَ العَملِ إلَّا ما كانَ خالِصًا، وابتَغيْتَ بِهِ وَجهَه، وخَسِرتَ أيضًا ما عِندَ الناسِ، أو المَقاصِدُ الدُّنيويةُ التي تُريدُها تَخسَرُها لا تَبقَى لكَ؛ ولذَلِكَ قالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ: «لا شَيءَ لَهُ» للرجُلِ الذي سَألَه: "الرجلُ يُقاتِلُ يَبتغي الأجرَ والذكرَ ما لَهُ؟". قالَ: «لا شَيءَ لَهُ». فلا شَيءَ لَهُ لا يُحصِّلُ شَيئًا؛ ولذَلِكَ لا تُدرِكَ بالعمَلِ الذي صَرفَتْه لغَيرِ اللهِ نَفْعًا ولا فائدَةً.
"لا إلهَ إلَّا اللهُ" مَعناها أنَّهُ لا معبودَ حَقٌّ إلا اللهُ، فكُلُّ مَنْ تَوجَّه إلَيهِ الخَلْقُ سِوَى اللهِ فإنَّهُم في ضَلالٍ، وإنَّهُم في عَمًى، ولم يُدرِكوا مَطلوبًا، ولم يُدرِكوا طَمأنينةً ولا سَعادةً.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾[الحَجِّ:73]فاعبُدوا الخالِقَ لا تَعبُدوا سِواهُ، اعبُدوا اللهَ في كُلِّ أعمالِكُم لا تَقصِدوا غَيرَه فإنَّ الذي أمَرَكمُ اللهُ ـ تَعالَى ـ بِهِ فيهِ فاتحةُ أوامرِ الكتابِ، لو قيلَ لكَ ما هُوَ أوَّلُ أمَرٍ أمَرَ اللهُ ـ تَعالَى ـ بهِ في كِتابِه؟ ما الجوابُ؟ ما أوَّلُ أمْرٍ أمَرَ اللهُ ـ تَعالَي ـ بِهِ في القرآنِ العَظيمِ؟
الأمْرُ بتَوحيدِه.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البَقرةِ:21] لنْ تُحقِّقوا التقوَى التي هِيَ مَركَبُ النجاةِ في الدُّنيا، وهِيَ خَيرُ زادٍ في الآخرةِ إلَّا أنْ تَعبُدَ اللهَ وَحدَه. عبادَةُ اللهِ وَحدَه ما مَعناها؟
أنْ لا تُحِبَّ إلَّا اللهَ، وأنْ لا تُعظِّمَ إلَّا اللهَ، وأنْ لا تَتوكَّلَ إلَّا عَلَى اللهِ، وأنْ لا تخافَ إلَّا اللهَ هَذا مَعنى ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[الفاتحةِ:5]هَذا هُوَ الذي يُحقِّقُ لكَ العبادَةَ، عِبادةَ اللهِ وَحدَه لا شريكَ لَهُ، وهُوَ مِفتاحُ النجاةِ للعَبدِ في الدُّنيا والآخرةِ.
نسأَلُ اللهَ أنْ يَرزُقَنا وإيَّاكُم طاعَتَه، وأنْ يَسلُكَ بِنا سَبيلَ النجاةِ، وأنْ يُعنينَا وإياكُم عَلَى تَوحيدِه، وأنْ يُسلِّمَنا وإيَّاكم مِنَ الشِّرْكِ ظاهِرًا وباطِنًا، نَعوذُ بِهِ أنْ نُشرِكَ بِهِ ونحنُ نَعلَمُ، ونَستغفِرُه لِما لا نعلَمُ، ونَسألُه أنْ يَختِمَ لنا بلا إلهَ إلَّا اللهُ، اللهُم اختِمْ لنا بلا إلهَ إلَّا اللهُ، اللهُمَّ اجعَلْ آخِرَ كلامِنا مِنْ الدُّنيا لا إلهَ إلَّا اللهُ، اللهُم بَلِّغْنا بِها الفِردوسَ، وارزُقْنا بِها سَعادةَ الدُّنيا والآخرةِ يا رَبَّ العالَمينَ.