الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، أحمده حق حمده، له الحمد كله، أوله وأخره، ظاهره وباطنه،وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، بعثه الله بالهدى ودين الحقِ بين يده الساعة بشيرًا، ونذيراَ، وداعيًا إليه بإذنه وسراجًا مُنيرَ، بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، وأقتفى أثره بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد...
فإن الله -عز وجل- لما بعثَ مُحمدًا -صلى الله عليه وسلم- رسولًا، بشيرًا، ونذيرَ، أمرهُ بجملةٍ من الأمور في أولِ مبعثه، فقال -جل في علاه-: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ [المدثر:6:1] هذه الآية، أو هذه الآيات الكريمات في سورة المدثر تضمنت أصول ما دعا إليه النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، وما جاء به من الهدى ودين الحق، فأمرهُ الله -تعالى- فيها بالقيام، القيام له ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾، فأمره الله -تعالى- بما يصلح به ما بينه وبين الله -جل في علاه- بتكبيره، وتعظيمه، وإجلاله، فإن التعظيمَ أصلٌ لإقامة العبودية لله-عز وجل- فلا تقومُ العبودية لأحدٍ، ولا تصلح إلا بتعظيم الله -جل في علاه- فمَن امتلأ قلبه تكبيرًا لله وتعظيمًا له؛ حققَ العبودية، فإذا أنضاف إلى ذلك المحبة؛ كمُلَ ما تكمُل به العبادةُ لله -عز وجل- فإن العبادةَ تقوم على هذين الأصلين، على تمام المحبة لله، وعلى كمال الذُل والخضوع له الذي هو تعظيمه -جل في علاه- لا يُمكن أن تتحقق العبودية إلا بكمال الحب لله- عز وجل- وبكمال الذُل له -سبحانه وبحمده- ولذلك أمره -جل في علاه- بتكبيره، ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ وهذا التكبير، والتعظيم لله -عز وجل- والإجلال يقتضي الطهارة في الجوهر، والمظهر، وفي القلب، والبدن، ولذلك قال -جل وعلا-:﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾، وقد فُسرَ قول: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ أي قلبك، ونفسك فطهر، وذلك أن أجمل ما يُلبس في القلوب، وتتزين به النفوس، هو طاعة الله -عز وجل- يقول -جل في علاه-: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا﴾[الأعراف:26] فذكر الله -تعالى- ما أمتن به على العباد من أنواع الألبسة، التي يسترون بها العورات، ويتجملون بها في المظهر، والصورة، ثم قال بعد ذلك: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾[الأعراف:26] وهذا اللباس أصله على القلب ثم تظهر آثاره، وتبدوا ثِماره، في القول، والعمل، فإن التقوى تكون في القلب لكنها لا يُمكن أن تتعطل عنها الأقوال، وتتعطل عنها الأعمال، مع إمكانِ الامتثال، بل لابد وأن يظهر الأثر ما لم يكن ثمة مانع، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري ومسلم، من حديث النعمان بن بشير: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» صحيح البخاري (52)، ومسلم (1599) فقوله ـ جل وعلا ـ: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ أي طيب بالتقوى، وطهر بالتوحيد، وطهر بكمال الطاعةِ للحي القيوم -جل في علاه- ولا يُمكن أن يطيب الجوهر إلا وينعكس ذلك على المظهر بالطيب، والصلاح، ولهذا قال بعض أهل العلم: هذه الآية تدل على تطهير البدن، وتطهير الثياب، من الأرجاس، والأنجاس، والمستقذرات، فإن ذلك كله من ما يُطلب التطهر منه، ولهذا جاء في صحيح الإمام مسلم من حديثِ أبي مالك الأشعري -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الطهورُ شطر الإيمان» أي نصفه، والطهور هنا يشمل كل ما تحصل به الطهارة، من إزالة الأخباث، ورفع الأحداث، سواءً كان حدثًا أصغر، أو كان حدثًا أكبر، كله يندرج في قول -صلى الله عليه وسلم-: «الطهورُ شطر الإيمان»صحيح مسلم (223) أي نصفه، ونصفه الآخر يكون في القلب، من عمارته بمحبة الله وتعظيمه، والإقبال -جل في علاه- وبهما يكمُل الإيمان.