الحَمدُ لِلَّهِ حَمدًا كَثيرًا طَيِّبًا مُبارَكًا فيهِ، أحمَدُهُ حَقَّ حَمدِهِ، لَهُ الحَمدُ في الأُولَى والآخرَةِ، ولَهُ الحُكمُ وإلَيْهِ تُرجَعونَ، وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ إلَهُ الأَوَّلينَ والآخِرينَ، لا إلهَ إلَّا هُوَ الرحمَنُ الرحيمُ، وأشهَدُ أنَّ مُحمدًا عَبدُ اللهِ ورَسولُه صَفيُّه وخَليلُه، خَيرتُه مِنْ خَلقِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلهِ وصَحبِهِ، بلَّغَ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونَصحَ الأُمَّةَ، فصَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحبِه ومَنِ اتَّبعَ سُنَّتَه واتَّبعَ أثرَهُ بإحسانٍ إلى يَومِ الدِّينِ، أمَّا بَعْدُ:
فإنَّ اللهَ -تَعالَى- بَشَّرَ الناسَ عامَّةً بإنزالِ هَذا الكتابِ ومَجيئِه، فقالَ -جَلَّ في عُلاه-:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ*قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾[يُونسَ:58:57].
هذهِ الآيةُ الكَريمةُ التي تَضمَّنَتْ البِشارةَ لعامَّةِ الناسِ، وكافَّةِ الوَرَى، بنُزولِ هَذا القُرآنِ ومَجيئِه، هِيَ بِشارةٌ لا تَختَصُّ بفِئةٍ مِنَ الناسِ، ولا بجَماعَةٍ، ولا بأصحابِ لِسانٍ أو لَونٍ، بَلْ هِيَ عامَّةٌ لكُلِّ الإنسِ، بَلْ والجِنِّ، فإنَّ اللهَ -تعالَى- جعَلَ هَذا الكِتابَ رِسالَةً عامَّةً للوَرَى مِنَ الإنسِ والجِنِّ، ولهَذا قالَ -جلَّ في عُلاه-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ ثُمَّ بَعدَ ذَلِكَ أمَرَهُم بالفَرحِ بهذهِ المِنَّةِ العَظيمةِ، الجَليلةِ، التي لا عِدْلَ لها لمَنْ عَرَفَ قيمَتَها، ولا يُضارِعُها نِعمَةٌ لمَنْ أدرَكَ جليلَ ما في هَذا الكتابِ، وعَظيمَ ما فيهِ مِنَ الهِداياتِ، والنِّعَمِ، والأنوارِ، فاللهُ -تَعالَى- جَعلَ هَذا الكتابَ شِفاءً لِما في الصُّدورِ، شِفاءً لِما في الصدورِ أي: يُصلِحُها، ويُعافيها، ويُنقِّيها مِنْ أمراضِها، ويُصِحُّها، وإذا صَحَّ ما في الصدْرِ؛ صَحَّ باقي البَدنِ كما جاءَ في الصحيحِ مِنْ حديثِ النُّعمانِ بنِ بشيرٍ -رَضِيَ اللهُ تعالَى عَنهُ- أنَّ النبيَّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ -قالَ: «ألَا وإنَّ في الجَسَدِ مُضغةً، إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّه، وإذا فسَدَتْ فَسَدَ الجَسدُ كُلُّه، ألَا وهِيَ القَلبُ» صحيحُ البُخاريِّ (52)، ومسلمٍ (1599). فلذَلِكَ مَنْ أرادَ طِبَّ قَلبِه، وصِحَّتَه، وشِفاءَه، فليُقبِلْ عَلَى هَذا القُرآنِ، فإنَّهُ شِفاءٌ لِما في الصدورِ، كما قالَ اللهُ -جَلَّ وعَلا-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ﴾، فهُوَ الذي يَشفي القُلوبَ مِنْ عِلَلِها، وأمراضِها، وأسقامِها، وإنَّما قَدَّمَ المَوعِظةَ؛ لأنَّهُ بها يَحصُلُ الاعتِبارُ، والاتِّعاظُ، والأذكارُ، ويَحصُلُ للإنسانِ الانتِفاعُ، فالمَواعِظُ هِيَ التي تُحيي القلوبَ، وهِيَ التي تُرِقُّها، وهِيَ التي تُصِحُّها، وهِيَ التي تُسلِمُها، وإذا سَلِمَ القَلبُ؛ نَجا العبدُ في الدُّنيا، والآخرَةِ، يقولُ اللهُ -تعالَى-: ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ*إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشُعَراءِ:89:88].
ولهَذا كُلُّ مَنْ شَكَى قَسوَةً في قَلبِه، وشَيئًا مِنَ الغَفلةِ، أو الرانِ الذي يَعلُو القلبَ، فليُقبِلْ عَلَى هَذا الكتابِ فإنَّهُ شِفاءٌ لِما في الصُّدورِ، وقَدْ وَصفَه اللهُ -تَعالَى- في كِتابِه بجُملةٍ مِنَ الأوصافِ؛ فوَصفَه بأنَّهُ شِفاءٌ، وبأنَّه هُدًى، وبأنَّه رَحمَةٌ، وبأنَّه نُورٌ، وبأنهُ مُبينٌ، وبأنَّهُ فُرقانٌ، وَصفَه بأوصافٍ كَثيرةٍ، وكُلَّما عَظُمَ قَدْرُ الشيءِ كَثُرَتْ أسماؤُهُ، وأوصافُه، فلمَّا عَظُمَ قَدرُ القرآنِ، وجَلَّ أثرُهُ، كَثُرَ في القُرآنِ وَصفُه، وتَعدَّدَ ذِكرُه، بأسماءٍ عِدَّةٍ، في كتابِ اللهِ -عَزَّ وجَلَّ- لِذا يَجِبُ عَلَى المُؤمنِ أنْ يَتدبَّرَ تِلكَ الأسماءَ، وأنْ يَعلمَ أنَّ تِلكَ الأسماءَ ليسَتْ أعلامًا لا مَعنَى لها، أو مُجرَّدةً عَنِ المَعاني، بَلْ هِيَ أعلامٌ وأوصافٌ فيها مِنْ بَيانٍ لمَنافِعِ القُرآنِ وهِداياتِه، وما يَجنيهِ الإنسانُ بالإقبالِ عَلَيهِ ما يَنبَغي أنْ يَطلُبَه كُلُّ مَنْ قَرأَ هَذا القُرآنَ وسَمِعَه، ليكونَ مِنْ أهلِ القرآنِ، فإنَّ أهلَ القرآنِ هُمُ الذينَ عَلِموا مَعانيَه، وعَمِلُوا بما فيهِ، وصَدَروا عَنهُ، وعَظَّموهُ في القلوبِ، والأقوالِ، والأعمالِ، هَؤلاءِ هُم أهلُ القرآنِ، سَواءٌ حَفِظوهُ أو لم يَحفَظوهُ، أمَّا مَنْ حَفِظهُ ولم يَعمَلْ بِهِ، ولم يكُنْ عالِمًا بِهِ فإنَّهُ ليسَ مِنْ أهلِه، ولو كانَ يُقيمُه إقامةً تامَّةً، فإنَّ أهلَ القُرآنِ هُم أهلُ الإيمانِ بِهِ، وأهلُ العَملِ بِهِ، وأهلُ تِلاوتِه، وأهلُ تَدبُّرِه، وأهلُ الاهتِداءِ بِهِ، هَؤلاءِ هُم أهلُ القرآنِ، الذينَ هُم أهلُ اللهِ وخاصَّتُه، فلهَذا يَنبَغي للمُؤمنِ أنْ يَعتبِرَ بما ذَكرَه اللهُ في كتابِه، مِنْ أوصافِ القرآنِ، وأنْ يُقبِلَ عَلَيهِ فإنَّهُ الهُدَى الذي مَنِ استَمسَكَ بِهِ هُدِيَ إلى كُلِّ رُشْدٍ، ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾[الإسراءِ:9]، وقَولُه ﴿لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ لم يُذكَرْ فيهِ شيءٌ خاصٌّ ليَشملَ كُلَّ شَأنٍ، فإنَّ القرآنَ يَهدي للتي هِيَ أقومُ في خاصَّةِ نَفسِك، في صِلَتِك، في الناسِ عامَّةً، في صِلَتِك باللهِ، في مَعاشِك، في معادِكَ، في كُلِّ أحوالِكَ، القرآنُ يَهدي للتي هِيَ أقوَمُ في كُلِّ شَأنٍ، وفي كُلِّ شَيءٍ، فالجَديرُ بالمُؤمنِ الذي يَطلُبُ هِدايتَه، ويطلُبُ النجاةَ، ويطلبُ الشِّفاءَ، ويطلبُ الهِدايةَ، ويطلُبُ السعادَةَ، أن يُقبِلَ عَلَى القرآنِ ليسَ تِلاوةً فحَسْبُ؛ بَلْ يُقبِلُ عَلَيهِ فَهْمًا، يُقبِلُ عَلَيهِ عَمَلًا، يُقبِلُ عَلَيهِ دَعوةً، يُقبلُ عَلَيهِ طَلبًا لمَواطنِ الاهتِداءِ، فإنَّهُ مَنْ رامَ الهُدَى مِنَ القرآنِ هُدِيَ، فاللهُ -تَعالَى- يقولُ: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾[العَنكبوتِ:69]. وقَدْ قالَ اللهُ -جلَّ وعَلا- في شُمولِ هِداياتِ القرآنِ: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ هذهِ مَعاني مُهِمةٌ لا سِيَّما وأننا نَشهَدُ تَخلُّفَ أثَرِ القرآنِ في حالِ كَثيرٍ مِمَّنْ يَتلوهُ، في حالِ كثيرٍ ممَّنْ يَقرأُه، وهَذا ليسَ جَديدًا أو حَديثًا، بَلْ هُوَ مِنْ سالِفِ الوَقتِ وسابقِ الزمانِ، قالَ الحسَنُ البَصريُّ -رَحِمَه اللهُ-: "إنَّ أحدَهُم ليقولُ: قَدْ أتقَنْتُ القرآنَ فلا أسقُطُ مِنهُ حَرْفًا" يقولُ: "وقَدْ أسقَطَه واللهِ كُلَّه" مصنفُ عبدِ الرزاقِ (5984)، يَقصِدُ أسقَطَه في العَملِ، أسقَطَه في الفَهمِ، أسقَطَه في الاهتِداءِ بِهِ، فجَعلَ -رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنهُ ورَحِمَه- جَعلَ التخلُّفَ عَنْ فَهمِ القُرآنِ والعَملِ بِهِ إسقاطًا لَهُ كامِلًا، ولو كانَ الإنسانُ قَدْ أقامَه بحُروفِه تِلاوةً، وقِراءةً، وقَدْ قالَ النبيُّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ- فيما رَواهُ الإمامُ مُسلِمٌ في حَديثِ ابنِ مالكٍ الأشعريِّ -رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنهُ-: «والقرآنُ حُجَّةٌ لكَ أو عَلَيكَ» صحيحُ مُسلمٍ (223) .
(حُجَّةٌ لكَ) إذا تَدبَّرْتَ مَعانيَه، وفَهِمْتَ ما فيهِ، وعَمِلْتَ بِهِ، فهُنا يَكونُ القرآنُ شافِعًا لكَ، وحُجَّةٌ لكَ عِندَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ.
وقَدْ يَكونُ حُجَّةً عَلَيكَ وهُوَ عَلَى أحوالٍ:
حُجَّةٌ عَلَيكَ إذا أعرَضْتَ عَنهُ، فإنَّ المُعرِضَ عَنِ القرآنِ تارِكٌ لهِداياتِه بإعراضِه.
وحُجَّةٌ عَلَيكَ في ما إذا عَلِمْتَه ولم تَعمَلْ بِهِ، فإنَّ كِلا الحالَيْنِ يكونُ القرآنُ حُجَّةً عَلَى المَرءِ، إذا أعرَضَ عَنهُ فإنَّهُ قَدْ قالَ -جَلَّ وعَلا-: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾[طه:124].
والإعراضُ عَنِ القرآنِ مَراتِبُ، وصُوَرٌ، ودَرَجاتٌ:
مِنها عَدمُ الاهتمامِ بِهِ، وعدَمُ العنايةِ بِهِ، وعَدمُ الاحتفالِ والاحتفاءِ بِهِ، هَذا مِنَ الإعراضِ عَنِ القرآنِ، وهُوَ مِمَّا يَدخُلُ في قولِ اللهِ -تَعالَى-:﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾.
ومِنَ الإعراضِ عَنهُ الإعراضُ عَنْ فَهمِه، والإعراضُ عَنِ العمَلِ بِهِ، الإعراضُ عَنْ تَدبُّرِه، كُلُّ هذهِ صُوَرٌ مِنْ صُورِ الإعراضِ، والمُؤمنُ يَجِبُ عَلَيهِ أنْ يَتجنَّبَ كُلَّ إعراضٍ عَنِ القُرآنِ، فالإقبالُ عَلَى القرآنِ خَيرٌ، الإقبالُ عَلَى القرآنِ سَعادةٌ، الإقبالُ عَلَى القرآنِ هدايةٌ، الإقبالُ عَلَى القرآنِ إيمانٌ، وتَقوَى، وصَلاحٌ، فاحرِصْ عَلَى ذَلِكَ، فإنَّ القرآنَ يَأتي يومَ القيامَةِ شَفيعًا لأصحابِهِ، مَنْ هُمْ أصحابُ القرآنِ؟ هَلْ هُمُ الذينَ وَضعوهُ في رُفوفِ مَنازِلِهم، وزَيَّنوا بِهِ مَجالِسَهم؟ أو وَضعوهُ في سياراتِهم؟ أو حتَّى حَملوهُ في مَخابِئِهم، وجُيوبِهم؟
الجوابُ: لا، بَلْ حتَّى الذينَ حَملوهُ في صُدورِهم، ولم يَعمَلوا بِهِ ليسَ هَؤلاءِ أصحابَ القرآنِ.
القرآنُ يَأتي شَفيعًا لأصحابِه، أصحابِه هُمُ الذينَ فَهِموهُ، أصحابِه هُمُ الذينَ عَمِلوا بهِ، أصحابِهِ هُمُ الذينَ أدرَكوا ما فيهِ مِنَ الخَيراتِ، والهِداياتِ، هَؤلاءِ هُم أصحابُ القُرآنِ، ولذَلِكَ يَتفاوَتُ الناسُ في أجرِ القرآنِ عَلَى قَدرِ ما مَعَهم مِنْ مُصاحَبَتِه، فشَفاعَةُ القرآنِ لأهلِه يَومَ القيامةِ هِيَ عَلَى قَدرِ ما يَكونُ الإنسانُ مُقبِلًا عَلَى كتابِ اللهِ، فقَدْ يَكونُ الإنسانُ مَعَه آيةٌ واحدَةٌ مِنْ كتابِ اللهِ لكِنَّهُ مُلتَزِمًا بها، عامِلٌ بأحكامِها، مُتهيِّئٌ لقَبولِ كُلِّ ما في الكتابِ والسُّنةِ مِنْ أحكامٍ، والإيقانِ بكلِّ ما فيهِما مِنَ الأخبارِ لكِنَّه لم يَتيسَّرْ لهَؤلاءِ إلَّا إدراكُ هذهِ الآيةِ، فإنَّهُ يكونُ مِنْ أصحابِ القرآنِ الذينَ يَأتونَ يومَ القيامةِ والقرآنُ شَفيعًا لَهُم.
أمَّا أولئِكَ الذينَ حَفِظوا القرآنَ، أو أكثَروا مِنْ تَلاوَتِه ولم يَحفِلوا بِهِ، ولم يَعتَبِروا بمَعانيهِ، ولم يَقوموا بما فيهِ مِنْ هِداياتٍ، فهَؤلاءِ لَيسوا مِنْ أصحابِهِ، بَلْ قَدْ يَكونونَ مِنْ أعدائِه، فإنَّ مِنْ أعداءِ القرآنِ مَنْ يَقرَؤُه لكِنَّهُ يُشَكِّكُ فيهِ، أو لا يَعمَلُ بِهِ، أو يَصُدُّ عَمَّا فيهِ مِنَ الهِداياتِ، فقِراءَةُ القرآنِ وتِلاوَتِه ليسَتْ هِيَ المُصاحَبةَ التي تَتحقَّقُ بها الشفاعَةُ، والانضِمامَ إلى هذهِ النُّخبةِ، وهَؤلاءِ الصفوَةِ الذينَ هُم أهلُ القرآنِ، الذينَ هُم أهلُ اللهِ وخاصَّتُه، فحَرِيٌّ بِنا أيُّها المُؤمِنونَ أنْ نُدرِكَ أنَّ خَيرَ هَذا القُرآنِ في تَدبُّرِه، في فَهمِ مَعانيهِ، في العمَلِ بِهِ.
قالَ اللهُ تَعالَى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ﴾[ص:29]. قَولُه: (مُبَارَكٌ) أي كَثيرُ الخَيرِ، وخَيرُه في الدُّنيا وفي الآخرَةِ، في القلبِ، وفي البَدنِ، في الدينِ، وفي الدُّنيا، فإنَّ القرآنَ يَهدي للتي هِيَ أقوَمُ في كُلِّ شَأنٍ.
فقَولُه تَعالَى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ﴾ أي كَثيرُ الخَيراتِ، كَثيرُ الهِباتِ، كثيرُ العَطايا، كثيرُ الحَسَناتِ، فهُوَ مُبارَكٌ عَلَى أهلِه في الدُّنيا، ومُبارَكٌ عَلَى أهلِه في القبورِ، ومُبارَكٌ عَلَى أهلِه يومَ البعْثِ والنُّشورِ، ومُباركٌ عَلَى أهلِه في الجَنَّاتِ، فإنَّهُ يُقالُ لقارِئِ القرآنِ، لقارِئِه الذي يَعمَلُ بِهِ، ويَعلَمُ مَعانيَه، اقرَأْ، ورَتِّلْ، وارتَقِ، فإنَّ مَنزِلتَك عِندَ آخرِ آيةٍ كُنتَ تَقرَؤُها.
فيَنبغي للمؤمنِ أنْ يَفهَمَ أنَّ تِلكَ البَركاتِ التي في القرآنِ، وأنَّ تِلكَ الخَيراتِ التي في القرآنِ ليسَ تَحصيلُها بكَثرةِ تِلاوتِه دُونَ فَهمٍ للمَعاني، دونَ عَملٍ بما في القرآنِ، يَقرَأُ قَولَ اللهِ -تَعالَى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ﴾[الحُجُراتِ:12]. وما إلى ذَلِكَ مِنَ الآياتِ، ثُمَّ هُوَ يُكثِرُ مِنَ الظنِّ -الظنِّ السيِّئِ- وهُوَ يَتجسَّسُ، وهُوَ يَغتابُ، يَنهاهُ اللهُ -تَعالَى- عَنْ أكلِ الرِّبا وهُوَ يَأكُلُ الرِّبا، يَنهاهُ اللهُ -تَعالَى- عَنْ إطلاقِ البَصرِ وهُوَ لا يَغُضُّ البصَرَ، هَذا لنْ يُحقِّقَ ما أُمِرَ بِهِ، ولا ما وُعِظَ بِهِ في هَذا الكِتابِ المُبينِ.
فيَنبغي للمُؤمنِ أن يَتدبَّرَ القرآنَ، وأنْ يَحرِصَ عَلَى العَملِ بِهِ، هَذا القرآنُ يا إخواني ما فيهِ إذا تَعاملْتَ مَعَه علَى أنَّهُ رِسالةٌ مِنَ اللهِ لكَ، خِطابُ اللهِ لكَ، ثِقْ تَمامًا أنَّهُ سَيتحوَّلُ عَملُك، ومُعامَلتُك للقرآنِ تَحوُّلًا بَيِّنًا كبيرًا، وأضرِبُ لذلِكَ مَثلًا، أصحابُ النبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ- كانَ القرآنُ يَنزِلُ بَيْنَ أظهُرِهم عَلَى رَسولِ اللهِ -صَلَّى اللهِ عَلَيهِ وسَلَّمَ- وكانوا يَتلقَّونَه تَلقِّيَ عَملٍ وليسَ تَلقِّيًا نَظريًّا، أو تَلقيًا عِلميًّا، لا عَملَ وَرائِه، بَلْ كانوا يَتلقَّونَه ليَعمَلوا بِهِ، فإذا نَزَّلَ عَلَيهم شَيءٌ مِنَ القُرآنِ وَجدوا فيهِ مَشقَّةً، أو وَجَدوا فيهِ ما يَحتاجُ إلى مُراجَعةٍ، رَاجَعوا فيهِ رَسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- واستَبانوا المَعانيَ، وطَلَبوا التخفيفَ في ما ظَنُّوا فيهِ مَشقَّةً.
ومِنْ أمثِلَةِ ذلِكَ: ما رواهُ الإمامُ مُسلمٌ في صَحيحِه، مِنْ حديثِ أبي هُريرةَ -رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنهُ- قالَ: «نَزلَ قولُ اللهِ -تَعالَى-:﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[البَقرَةِ:284]» صحيحُ مُسلمٍ (125) . هذهِ الآيةُ الكريمَةُ نَزلَتْ عَلَى النبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- وقَرأَها عَلَى أصحابِه، بَلَّغَها كما أمرَهُ اللهُ -تَعالَى-، وهِيَ تُفيدُ مَعنًى يَنبغي التدبُّرُ والتعَقُّلُ لَهُ يَقولُ اللهُ -جَلَّ وعَلا- في مُحكَمِ كِتابِه: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ وهَذا فيهِ سِعةُ مُلْكِه لكلِّ ما في السَّماواتِ، ولكُلِّ ما في الأرضِ.
﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ﴾ أي: تُظهِروا ما في قُلوبِكم، وما يَدورُ في خَواطرِكم، وما يَعتَلِجُ في أذهانِكُم مِنَ الأفكارِ.
﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾ إنْ أظهَرتُموهُ، أو كَتمتُموهُ ﴿يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ فذَكَرَ اللهُ -تَعالَى- المُحاسبَةَ على أيش؟ على أمرَيْنِ:
عَلَى ما أظهَرَه الإنسانُ، وعَلَى ما أضمَرَه، عَلَى ما أبْداهُ، وعَلَى ما أخفاهُ، عَلَى ما أعلَنْ، وعلَى ما أسَرَّ، كُلِّه واقِعٌ تَحْتَ المُحاسبَةِ،﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾.
بعدَ ذَلِكَ قالَ: ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، هذهِ الآيةُ نَقرَؤُها، ويَقرَؤُها كَثيرٌ مِنَ المُسلمينَ، لكِنْ لا أثرَ لها في كثيرٍ مِنْ أحوالِنا، لِماذا؟ لأنَّنا نَقرَأُ القُرآنَ لا لتَدبُّرِه، نَقرأُ القرآنَ ونَجهَلُ مَعانيَه، نقرأُ القرآنَ ولا نَهتمُّ لفَهمِ ما فيهِ حتَّى نعملَ بِهِ، الصحابةُ لَمَّا نزَلَتْ عَلَيهم هذهِ الآيةُ جاؤوا إلى النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ جاؤوا إلَيهِ وجَثُوا عَلَى الرُّكَبِ أي جَلَسوا عَلَى رُكَبِهم، عِندَه -صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عَلَيهِ- فقالوا: «يا رسولَ اللهِ كُلِّفْنا ما نُطيقُ». أي كَلَّفَنا اللهُ -تَعالَى- مِنَ الأعمالِ، والفرائضِ، والواجباتِ ما نُطيقُه، مِنَ الصلاةِ، والصومِ، والزكاةِ، والصدَقةِ «ونَزلَتْ عَلَينا آيةٌ لا نُطيقُها»، ليش قالوا هكَذا؟ لو كانوا يَقرَؤُونَ القرآنَ كما يَفعَلُه كَثيرٌ مِنَّا دونَ تَدبُّرٍ، وتَفكُّرٍ لمَعانيهِ، دونَ الشُّعورِ بضَرورةِ العملِ بِهِ، وأنَّهُ خِطابٌ لنَعملَ بهِ، وليسَ فَقطْ لنَتلوَهُ طَلبًا للأجْرِ، وتلاوةَ الأحرُفِ فَقطْ دونَ المَعاني، والعَملَ بما في الآياتِ مِنَ الأحكامِ، والتشريعاتِ، قالوا: «يا رسولَ اللهِ كُلِّفْنا ما نُطيقُ، ونَزلَتْ عَلَينا آيةٌ لا نُطيقُها» أي: يَصعُبُ عَلَينا العملُ بِها، ما هِيَ؟ هذهِ الآيةُ التي فيها أنَّ اللهَ -تعالَى- يُحاسِبُ الناسَ عَلَى ما تَكلَّموا بِهِ، ومَا عَمِلوا بِهِ، ويُحاسِبُهم أيضًا عَلَى ما جَرَى في أذهانِهِم مِنَ الأفكارِ، الآنَ هَلْ يَستطيعُ الإنسانُ أنْ يَحكُمَ أفكارَه؟ ويمَنعَ وَسوسةَ الشيطانِ في كلِّ أمرٍ، وفي كلِّ شَأنٍ، وفي كلِّ وَقتٍ؟
الجوابُ: لا هَذا مِنَ الأمورِ الصعبةِ جِدًّا التي لا يَستطيعُها، ولا يُطيقُها أكثَرُ الناسِ، فمَنْ ذا الذي يَسلَمُ مِنْ كيدِ الشيطانِ وتَربُّصِه، وتَرصُّدِه، بأفكارٍ وهِمَمٍ، وخَواطرَ، هِيَ مِنَ السوءِ، والشرِّ، واللهُ -تعالَى- يقولُ: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾؟ فالمُحاسبَةُ عَلَى ما ظَهرَ، وعَلَى ما خَفِيَ، فمَنْ الذي يُطيقُ هَذا؟ هُوَ في غايَةِ المشَقَّةِ، والصعوبةِ، ويَحتاجُ إلى تمامِ مُراقبَةٍ، ومُلاحظَةٍ، وأنْ يكونَ الإنسانُ عَلَى أُهْبَةِ الاستِعدادِ في كلِّ لحظَةٍ، مَعَ كلِّ نَفَسٍ، ألَّا يَدِبَّ إلى قَلبِه فِكْرٌ رَديءٌ، أو خاطِرٌ سَيءٌ، فيَكونَ ذَلِكَ سَببًا لهَلاكِه، فماذا قالَ النبيُّ-صلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- لأصحابِه؟ وهُم عَلَى هذهِ الحالِ مِنَ الانقيادِ لأمرِه، وطَلبِ التخفيفِ في هَذا الأمرِ الذي وَجَدوا فيهِ هذهِ المَشقَّةَ، حيثُ جَثوا عَلَى الرُّكَبِ، وقالوا: "كُلِّفْنا ما لا نُطيقُ، ونَزلَتْ عَلَينا آيَةٌ لا نُطيقُها"، بماذا أجابَهُم رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِه وسَلَّمَ-؟ قالَ لهم: «أتُريدونَ أنْ تَقولوا كما قالَتْ بَنو إسرائيلَ لمُوسَى "سَمِعْنا وعَصَينا"؟ قولوا سَمعْنا وأطَعْنا»، النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ - لم يَقبَلْ مِنهُم طَلبَ التخفيفِ في هَذا الأمرِ، وأمَرَهُم بالالتِزامِ بما أمَرَ اللهُ -تَعالَى- بِهِ، وأنْ يَنقادوا لحُكْمِه، فيَحفَظوا جَوارِحَهم، وألسِنتَهم، وما يَصدُرُ عَنهُم، وكذَلِكَ يَحفَظوا خَواطِرَهم، وأفكارَهُم، وما يَدورُ في قُلوبِهم ألَّا يكونَ فيها ما يُغضِبُ اللهَ -عَزَّ وجَلَّ- مِنْ هَمَّةٍ بسيِّئةٍ أو فِكرٍ برَديءٍ مِنْ قَولٍ أو عَملٍ، قالَ: «قُولوا سِمعْنا وأطَعْنا» الصحابةُ ما لهم مَناصٌ فَهُم أهلُ إيمانٍ وانقيادٍ، واللهُ -تعالَي- يقولُ: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾[الأحزابِ:36] لا خيارَ في الالتزامِ وقَبولِ الأحكامِ، ما قَضاهُ اللهُ فلا بُدَّ مِنْ قَبولِه، ولَو بَدا لكَ مَشقَّتُه، وظَهرَ لكَ صُعوبتُه يَجِبُ أنْ تَلتزِمَ بما أمرَكَ اللهُ -تَعالَى- به، وهَذا ما رَبَّى النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ - أصحابَه عَلَيه، والأُمَّةَ عَلَيهِ، قالَ: «أتُريدونَ أنْ تقولوا كمَا قالَتْ بَنو إسرائيلَ لمُوسَى "سَمعْنا وعَصَينا"؟ قولوا سَمعْنا وأطَعْنا» أيش؟ وأطَعْنا.
(سِمعْنا): سَمعُ قَبولٍ.
و(أطَعْنا) أي: امتَثلْنا عَمَلَ ما أمَرَنا اللهُ -تَعالَى- بِه بالإيجابِ، وما نَهانا عَنهُ بالكَفِّ.
يقولُ أبو هُرَيرةَ -رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنهُ-: "فلَمَّا اقتَرَأَها القومُ، وزلَّتْ بِها ألسِنَتُهم"، الصحابَةُ قالوا سَمعْنا وأطَعْنا كما أمرَهُمُ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ -، وقَرَؤُوا هذهِ الآيةَ، وزَلَّتْ بها ألسِنَتُهم، أصبَحَتْ تُقرَأُ دونَ عَناءٍ ولا مَشقَّةٍ، ولم يَجِدوا في صُدورِهم حَرجًا مِنْها امتِثالًا لأمرِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ - وامتِثالًا لأمرِ اللهِ تعالَى الذي أمَرَهم بقَبولِ ما قَضَى وحَكَمَ جَلَّ في عُلاه.
يقولُ: "فلمَّا اقتَرَأَها القومُ، وزَلَّتْ بِها ألسِنَتُهم نَزلَ التخفيفُ"صحيحُ مُسلمٍ (125)، والتخفيفُ نِعمَةٌ مِنَ اللهِ -عَزَّ وجَلَّ-، تَضمَّنَ أمرَيْنِ:
الأمرِ الأوَّلِ:الثناءُ عَلَى النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيه وسَلَّمَ ـ وأصحابِهِ الكِرامِ.
والأمرِ الثاني: وَضْعُ ما شَقَّ عَلَيهم مِنْ حِفْظِ ما أنَّهُم سَيُحاسَبونَ عَلَى ما في قُلوبِهم وخَواطرِهم مما لم يَعمَلوا بِهِ، وهُما الآيتانِ في خَتمِ سُورةِ البَقرَةِ، يقولُ اللهُ -جَلَّ وعَلا-: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة:285]مَنِ المُؤمنونَ؟ صحابةُ رَسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ -، شَهِدَ اللهُ لهم بالإيمانِ، قالَ: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾؛ مَنْ أصحابُ النبيِّ الذينَ قالوا ما قالوا مِنْ مَشقَّةِ الآيةِ عَلَيهم: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾[البَقرةِ:285].
هذهِ تَزكيَةٌ وثَناءٌ مِنَ اللهِ -عَزَّ وجَلَّ- عَلَى أولَئِكَ الصحابةِ الكرامِ، وعَلَى إمامِهم سَيِّدِ وَلدِ آدَمَ -صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عَلَيهِ-، لأنَّهُم كَمَلوا الإيمانَ حتَّى فيما شقَّ عَلَى أنفُسِهم، ووجَدوا فيهِ نَوعًا مِنَ العَناءِ إلَّا أنَّهُمُ التَزموا ما قَضَى اللهُ -تَعالَى- وشَرعَ، فقالوا: "سَمعْنا وأطَعْنا"، فشَهِدَ اللهُ لهم بالإيمانِ، وبَيَّنَ ذلِكَ بأنَّهُم آمَنوا، قَبِلوا ما جاءَ بِهِ القرآنُ مِنَ الأخبارِ، وما تَضمَّنَه مِنَ الأحكامِ: ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾.
"سَمِعْنا وأطَعنا"، لكِنْ مَعَ هَذا، مَعَ الامتِثالِ نسألُ اللهَ المَغفرَةَ، ولذَلِكَ قالوا: ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ أي: نَطلبُكَ الغُفرانَ، لأنَّهُ مَهْما بَلَغَ الإنسانُ في إتقانِ صالِحِ الأعمالِ لا بُدَّ أنْ يكونَ هُناكَ قُصورًا، وغَفلةً، ونُقصانًا، ذاكَ لا يَجبُرُه إلَّا مَغفرَةُ العَزيزِ الغفَّارِ -جلَّ في عُلاه- هَذا النقْصُ في عَملِ ابنِ آدَمَ، في عَملِه بالصالحاتِ لا يَجبُرُه إلَّا أنْ يُنزِلَ حاجَتَه باللهِ -عزَّ وجلَّ- أنْ يَغفِرَ لهُ الذنوبَ، ولذَلِكَ نحنُ نَستغفِرُ اللهَ بعْدَ الطاعاتِ، فنَقولُ بَعْدَ صَلاتِنا: "أستَغفِرُ اللهَ، أستغفِرُ اللهَ، أستغفرُ اللهَ"، وفي حَجِّنا نقولُ: "أستغفِرُ اللهَ"، وفي سائرِ صالحِ العَملِ نقولُ: "أستغفِرُ اللهَ"، وسيِّدُ وَلدِ آدمَ لَمَّا امتَثلَ ما أمرَهُ اللهُ -تَعالَى- بِهِ مِنَ القيامِ بالدعوَةِ، قالَ لَهُ -جلَّ وعَلا-: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ [النصْرِ:1-3] أمرَهُ بالاستِغفارِ في خَتْمِ دَعوتِه، لأنَّهُ مَهْما كانَ الإنسانُ عَلَى إتقانٍ في عَملِه لا بُدَّ مِنْ قُصورٍ أو تَقصيرٍ يُوجِبُ طَلبَ مَغفِرَةِ العزيزِ الغفَّارِ -جَلَّ في عُلاه-، ثُمَّ جاءَ التخفيفُ في قَولِه: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾[البَقرةِ:286].
هذهِ الآيَةُ هِيَ التي فيها التخفيفُ، فرفَعَ اللهُ -تَعالَى- المُؤاخذةَ عمَّا لا يُطيقُ الناسُ العملَ بِهِ،﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾،إلَّا ما أطاقَتْه وقَدرَتْ عَلَيهِ، وما كانَ خارِجًا عَنْ قُدرتِه وطاقَتِه فإنَّ اللهَ لا يُؤاخذُه بِهِ، وهَذا هُوَ التخفيفُ.
ولذَلِكَ اختَلفَ العُلَماءُ -رَحِمهُمُ اللهُ- في الخواطِرِ هَلْ يُحاسَبُ الإنسانُ عَلَيها أو لا؟ الخَواطرُ، والأفكارُ وهِيَ نَوعانِ:
خِواطرُ تَستقِرُّ في القَلبِ، ويَستجيبُ لها الإنسانُ، وهِيَ مِنْ أعمالِ القُلوبِ فهذهِ يُؤاخَذُ بِها كالكِبْرِ مَثلًا، الكِبرُ عَملٌ قَلبيٌّ ،الحَسَدُ عَملٌ قَلبيٌّ، العُجْبُ عَملٌ قلبيٌّ، كلُّها أعمالُ قُلوبٍ لا يَلزَمُ أنْ تكونَ ظاهرةً في السُّلوكِ والعملِ، لكِنَّها أعمالُ قلوبٍ، بحَسْبِ أمريءٍ مِنَ الشرِّ أنْ يَحقِرَ أخيهِ المُسلِمَ، والاحتِقارُ عَملٌ قلبيٌّ، ولو لم يَصدُرْ مِنهُ نَظرةُ انتقاصٍ أو كَلامٌ يَنتَقِصُ بِهِ، أو ما أشبَهَ ذَلِكَ، وبالتالي هَذا النوعُ مِنْ أعمالِ القلوبِ يُحاسَبُ عَلَيهِ الناسُ، لأنَّهُ مِنْ أعمالِ القلوبِ التي لا يَلزَمُ في المُحاسبةِ عَلَيها أنْ تَظهرَ، لكِنْ هُناكَ خَواطرُ تَتعلَّقُ بالأعمالِ التي تتعَلَّقُ بالأمورِ التي تَحتاجُ إلى عَملٍ يُترجَمُ، ويَظهَرُ إمَّا في الجَوارحِ، وإمَّا في اللِّسانِ، هَذا النوعُ مِنَ العَملِ يُؤاخَذُ بِهِ الإنسانُ إذا أوجَدَه في الخارجِ قَولًا أو عَملًا، أمَّا إذا لم يُوجِدْهُ، وإنَّما هَمَّ بِهِ ثُمَّ انصَرفَ عَنهُ تَوبةً، فإنَّهُ يُكتَبُ لهُ حَسنةٌ، وهَذا ما جاءَ في الصحيحِ: «أنَّ اللهَ عَفا عَنْ أُمَّتي» أي: "أنَّ اللهَ تَجاوزَ عَنْ أُمَّتي ما حَدَّثَتْ بِهِ أنفُسَها ما لم تَعمَلْ أو تَتَكلَّمْ" صحيحُ البُخاريِّ (5269)، ومُسلمٍ (127) فإذا هَمَّ الإنسانُ بسيئةٍ، هَمَّ بخَطَإٍ، لكِنْ لم يُترجِمْهُ عَملًا، تابَ إلى اللهِ مِنهُ، فإنَّهُ لا يُؤاخِذُه اللهُ -تعالَى- بِهِ، هَذا واحدٌ، بَلْ يَأجُرُه عَلَى تَرْكِه، فإنَّ مَنْ هَمَّ بالسيئةِ ولم يَعمَلْها كَتبَها اللهُ عِندَه أيش؟ حَسنةً كامِلةً، إذا هَمَّ بها وعَملَ، بَذَلَ جَهدَه للوصولِ إلَيها لكِنْ لم يَتمكَّنْ مِنْ عَملِها، لم يَتمكَّنْ مِنْ إيجادِها، هَمَّ بسَرِقَةٍ، هَمَّ باختِلاسٍ، هَمَّ بغَيبةٍ، هَمَّ بزِنًى، هَمَّ بنَظَرٍ مُحرَّمٍ، سَعَى إلَيهِ بقَلبِه، وبَذَلَ ما يَستطيعُ مِنْ عَملِ بَدنِه، لكِنْ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ لمانِعٍ، وليسَ خَوفًا مِنَ اللهِ وتَوبةً إلَيهِ هَذا يُكتَبُ عَلَيهِ سَيئةٌ كامِلةٌ، يُكتَبُ عَلَيهِ ما نَوَى مِنَ السيئاتِ، هَذا نَموذَجٌ، والشاهِدُ نَحنُ فَصَّلْنا في هذهِ المَسألةِ، والشاهِدُ هُوَ كيفَ تَعاملَ الصحابَةُ -رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنهُم- مَعَ هذهِ الآيةِ؟ وهَكَذا هُمْ في تَعامُلِهم مَعَ القُرآنِ، تَعامَلوا مَعَ القُرآنِ ليسَ تِلاوةَ ألفاظٍ، أو سَماعَ آياتٍ دونَ أنْ يكونَ لها أثَرٌ في القَولِ والعَملِ، بَلْ كانوا -رَضِيَ اللهُ تعالَى عَنهُم- يَمتثِلونَ ذَلِكَ في أقوالِهم وأعمالِهم، ويَعلَمونَ أنَّ القرآنَ خِطابٌ لَهُم، ولذلِكَ كانَ أحَدُهم كما ذَكرَ أبو عبدِ الرحمنِ السلَميِّ عَنْ عُثمانَ أنَّهُم كانوا يَتعلَّمونَ (العشرَ) آياتٍ لا يَتجاوَزونَها حتَّى يُدرِكوا ما فيها مِنَ العِلمِ والعَملِ.
وبهَذا يَتبيَّنُ أنَّه يَنبَغي للمُؤمنِ أنْ يَجتهِدَ طاقَتَه، وأنْ يَبذُلَ وُسعَه في أنْ يكونَ عَملُه وقِراءَتُه ليسَتْ قِراءةَ ألفاظٍ، وحُروفٍ، وتلاوةً مُجرَّدةً عَنِ المَعاني، بَلْ أنْ تَكونَ قِراءةَ تَدبُّرٍ وعَملٍ.
أسألُ اللهَ -عَزَّ وجَلَّ- أنْ يَجعلَنا وإيَّاكُم مِنْ أهلِ القرآنِ، الذينَ هُمْ أهلُ اللهِ وخاصَّتُه، وأنْ يفتَحَ لنا في كِتابِه فَتْحًا مُبينًا، أنْ يَجعلَنا ممَّنْ وُفِّقَ إلى تِلاوَتِه، وإلى تَدبُّرِه، وإلى فَهمِه، وإلى العَملِ بِهِ.