قال –رحمه الله-: "ذي النعم الواسعة الغزيرة":
(ذي) بمعنى: صاحب كما قال ابن مالك: "" من ذاك ذو إن صحبةً أبانا"
فذي هنا بمعنى: صاحب، والمراد أي صاحب النعم الغزيرة، وقوله –رحمه الله: (ذي النعم الغزيرة):
النعم جمع: نعمة، والنعم جمعها هنا لكثرتها وتنوعها، وهي في الجملة تنقسم إلى قسمين: نعمٌ دينية ونعمٌ دنيوية.
فهو صاحب النعم جلَّ في علاه ما يتعلق منها بالدين، وما يتعلق منها بالدنيا، وقوله –رحمه الله-: ذي النعم أي: صاحب النعم الغزيرة هذا وصفٌ للنعم، ولو قال قائل: ما المقصود النعم؟
(النعم) هو كل ما أفاضه الله تعالى على عباده من الإحسان إيجادًا وإمدادا، صيانةً وحفظا كل ما أفاضه الله تعالى على عباده من الإحسان إيجادًا هذا في الابتداء، وإمدادًا في الاستمرار، صيانةً، وحفظًا. حفظًا أي: إبقاءً، وصيانةً أي: إصلاحًا وتكميلنا لما يمكن أن يكون من نقص فالبصر نعمة أوجدها الله –عز وجل- كل ما تبصره فهو إمداد لهذه النعمة واستمرار لها، فهو المتفضل بهذه النعم إيجادًا وإمدادًا، فالنعم كل ما أفاض الله تعالى على عباده من الخير والإحسان إيجادًا وإمدادً، وصيانةً وحفظًا، وقوله –رحمه لله- في النظم الغفيرة: بالنعم.
• قوله –رحمه الله-: (الواسعة الغزيرة):
هذا ذكر وصفين لنعمه. "السعة" وهذا في الكيف، و"الغزيرة" وهذا في الكم فهي غزيرة كثيرة ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم:34]، وواسعة هذا في الكيف أنها شاملة سابغة كما قال تعالى: ﴿عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ [لقمان:20] فنعم الله التي أنعم بها على كل فردٍ منَّا على هذا النحو والوصف نعم واسعة ونعم غزيرة.
بعد أن ذكر ما يتعلق بالنعم المتصلة بالعباد في الظاهر والباطن رجع إلى الثناء على الله تعالى فقال: (والحكم الباهرة الكثيرة)
(والحكم) معطوفه على (النعم) فيكون المعنى: وصاحب الحكم فذي النعم وذي الحكم أي: إنه صاحب الحكم، والحكم جمع حكمة وهي الغاية، والمقصود والسر فيما يشرعه ويقدره، وقوله: والحكم يشمل: الحكم في قضاءه الكوني والحكم في قضاءه الشرعي فإن حكم الله تعالى الكوني والشرعي كله لا يخلو من حكمة. فالحكم ليست مقصورة على القضاء والحكم الشرعي بل على الأمرين، ودليل ذلك في الخلق والكون قوله -جلَّ وعلا-: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [الإنسان:30]؛ أي فيما يشاءه، فما يشاءه صادرٌ عن علمٍ وحكمة هذا فيما يتعلق بكونه حكيمًا في قضاءه الكوني القدري، وكذلك هو حكيمٌ في قضاءه الشرعي الديني دليل ذلك قول الله تعالى: ﴿الكِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود:1] والكتاب جاء لبيان الشرع، والدين وهو المضمن لأحكام الله القدرية عفوًا وهو المضمن لأحكام الله الشرعية الدينية فمن أراد الحكم الشرعي الديني قرأ الكتاب.
فقوله –رحمه الله-: (والحكم) يشمل النوعين، وقوله: (الباهرة الكثيرة) هنا لفته مهمة تتعلق بالحكم وهو أن حكم التشريع باهرة، والباهر هو الشيء الذي يندهش له العقل الذي يصاب العقل فيه بنوعٍ من الدهشة، وقد لا يدركه العقل فيقصر عن إدراك تلك الحكمة فهي حكمٌ باهرة قد تقصر عنها العقول وقد تندهش لها العقول؛ ولذلك وصفها بالباهرة؛ لأنه على هذا النحو من الإتقان، وعلى هذا النحو من السمو، وقد تخفى على الناس فلا يدركوها لا لأنها لا حكمة في خلقه وشرعه؛ لكنها مما يقصر عنه عقل الإنسان؛ ولهذا من القواعد أن الشريعة تأتي بما يبهر العقول أو بما تحاروا فيه العقول لكن لا يمكن أن تأتي الشريعة بما تمنعه العقول أو بما تحيله العقول وهذا فرقٌ بيِّن واضح بين القسمين.
• ما تحار فيه العقول: أن الشريعة تأتي بما لا يدركه العقل معناه لا لأنه لا معنى فيه؛ لكن لأنه لم يستطع أن يراه يقصر عن إدراكه ورؤيته.
- الآن لو سألتكم أترون القمر؟ هل ترون القمر الآن؟
لا ترونه.
- هل عدم رؤيتكم للقمر دليل على عدم وجوده؟
لا. لماذا؟
لأنه يوجد حائل بينكم وبينه، وهو أن أبصاركم لا تنفذ من هذا البناء لترى هل ثمة قمرٌ أو لا فقد تقصر العقول عن إدراك أسرار وحكم الشريعة لكن لا يمكن أن يكون هذا القصور دليلًا على عدم الحكمة أو عدم السر فيما شرعه الله –عز وجل- بل ما من شيءٍ قضاه الله لا شرعًا ولا كونًا إلا ولا بد فيه من حكمه، هذه الحكمة تظهر لمن فتح الله قلبه وبصيرته، وتخفى على من يدرك ذلك بفضله، وقد يكون شيء يعجز الناس عن إدراكه وهو ما يسميه الفقهاء بإيش؟
(الأحكام التعبدية). هم يقولون: تعبدي هذا حكم تعبدي؛ بمعنى: إنه ليس له علَّ معقولة لكن هذا لا يعني أنه لا علةَّ له فإذا رأيت في كلام الفقهاء أن هذا من الأحكام التعبدية ليس معنى ذلك أنه لا حكمة له أو لا حكمة فيه بل ثمة حكمة إنما ليس ثمة حكمةٌ تُطيقها العقول تدركها العقول.
- لو سألتكم صلينا المغرب كم ركعة؟
طالب: ثلاث ركعات
ثلاث ركعات.
- لماذا صلينا المغرب ثلاث؟ لماذا شرع الله المغرب ثلاث ركعات؟ هل ثمة حكمة أو لا؟ سؤال؟
نعم ثمة حكم. هل نعلم هذه الحكمة؟
فيما يظهر إنه ما وقفت على أحد ذكر الحكمة لمثل هذا لكن عدم وجود الحكمة لا يعني أنه لا حكمة على أنه ثمة حكمة يمكن أن تجيب بها على حكم لا تدرك حكمته وهو (التعبد): "أنك تطيع الله فيما عقلت معناه وفيما لم تعقل معناه" هذه الحكمة تنتظم كل التشريع جميع التشريع تنتظمه هذه الحكمة تحقيق العبودية، تحقيق الرق لله –عز وجل- أن تتعبد لله بما لم تدرك معناه تصلي الفجر ركعتين، الظهر أربعة، العصر أربعًا، المغرب ثلاثًا، العشاء أربعًا. ليش هذا العدد؟
الله أعلم لكني عبدٌ لله أطيعه فيما أمرني، ولو لم يكن إلا هذه الحكمة لكان هذا كافيًا فإنه مما تظهر به العبودية، ولو كان الإنسان لا يستجيب إلا لما أدركه عقله لكان عابدًا لعقله لا لربه، ولكن من حكمة الله أن أخفى بعض الحكم، ولم يبينها لعباده؛ حتى يتميز من يصدق، وينقاد، ومن يعارض ويأبى فيكون مهتديًا في الحالة الأولى، ويكون ضالًا في الحالة الثانية.
إذًا قوله: والحكم الباهرة أي: التي تنبهر لها العقول تندهش لها العقول، وهذا وصفٌ كيفيي أم كمي؟
طالب: كيفي
كيفي. كيفية الحكم أنها باهرة، وقوله (الكثيرة): هذا وصفٌ يتعلق بالكم أنها حكم كثيرة لا يحصيها العباد، وبهذا يكون قد تناسب وصف الحكم مع وصف النعم. فالنعم واسعة غزيرة، والحكم باهرة كثيرة كلاهما جمع وصفًا كيفيًا ووصفًا كميًا.
ثم قال -رحمه الله- بعد ذلك: (ثم الصلاة) بعد أن فرغ من الحمد لله والثناء عليه بما هو أهله، وذكر الجمع والتفريق، والحكم وهي مما يتصل بالقواعد ذكر الصلاة على النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: ثم الصلاة مع سلامٍ دائمٍ على الرسول القرشي الخاتمِ؛ أي بعد الحمد ثم هناك للترتيب الذكر، وقوله: (الصلاة) أي: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. فالأف واللام هنا للعهد الذهني؛ لأن الألف واللام تأتي للعهد الذكري وتأتي للعهد الذهني.
• العهد الذهني ما هو؟
هو ما ينصرف إليه الذهن عند الذكر، وأما العهد الذكري فهو ما سبق التنبيه إليه وما سبق ذكره في الكلام. هنا الصلاة لم يسبق لها كلام فعلم أن هذا العهد الذهني لما يقول: ثم الصلاة إيش؟
الصلاة أي: الدعاء بالصلاة على النبي صلوات الله وسلامه عليه، والدعاء بالصلاة على معناه هو سؤال الله تعالى لنبيه الخير الكثير في الدنيا والآخرة هذا معنى اللهم صلي على محمد؛ أي: أعطه خيرًا كثيرًا في دنياه وفي آخره، وهذا أجمع ما قيل في تعريف الصلاة عليه -صلى الله عليه وسلم-.
• (ثم صلاةٌ مع سلامٌ)
"مع" أي صلاةٍ مقترنة صلاةٍ مصاحبة للسلام؛ لأن الله أمر المؤمنين بأن يصلوا عليه ويسلموا تسليمًا ﴿إ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:56].
• قال –رحمه الله-: (مع سلام) أي: الدعاء له بالسلامة في دينه، وفي شرعه، وفي سنته، وفي أتباعه، وفي أهل بيته، وفي أصحابه، وفي قبره، وفي بعثه، وفي كل أحواله صلوات الله وسلامه عليه.
• (على الرسول القرشي الخاتمِ الصلاة والسلام)
(على الرسول): الألف واللام هنا أيضًا للعهد إيش؟
على العهد الذهني وهو ما ينصرف إليه الذهني عند ذكر الرسول من هو؟
محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- ثم ميزه بأوصافٍ تميزه عن غيره من الرسل؛ لأن الرسول هنا يمكن أن يقول أن الألف واللام للاستغراق للجنس كل رسول ويحتمل هذا لكن لما قال: (القرشي الخاتمِ) فقد ميزه بوصفين لا يشاركهما فيه رسول: نسب، ووصف الرسالة.
"النسب": قرشي، و"وصف الرسالة": خاتمة؛ فبذلك ميز النبي -صلى الله عليه وسلم- عن غيره.
• قال: (وآله) أي: والصلاة والسلام على آله، وآل النبي -صلى الله عليه وسلم- هم قرابته ممن آمن به ممن أدركه أو جاء بعده كل قرابات النبي -صلى الله عليه وسلم- ممن آمن به، وافقه أو جاء بعده عاصره أو جاء بعده صلوات الله وسلامه عليه، وقيل: (الآل) هنا هم كل من أتبع النبي -صلى الله عليه وسلم- وآمن به من آله من أقاربه ومن غيره .
• قال: (وصحبه الأبرار):
(وصحبه) إذا قلنا: الصحب الآل هم القربات، فالصحب هم من لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- مؤمنًا به، ومات على ذلك من غير قراباته، ويمكن أن يجمل ويقال: هم كل من لقي النبي –صلى الله عليه وسلم- مؤمنًا به ومات على ذلك فيكون هذا من باب عطف العام على الخاص، وإذا قلنا: الآل هم الأتباع فيكون من باب عطف (العكس) الخاص على العام وخص الصحابة لشريف منزلتهم، وعلو مكانتهم، وقوله: (الأبرار) جمع: بر، والبر هو الطائع القائم بالبر، والبِر مأخوذ من السعة والفسحة، وذاك أن الطاعة تتسع بها على الإنسان المضايق، ويدرك بها شرح الصدر وطمأنينة الفؤاد ﴿ألا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد:28] كما أنه يدرك الفوز في الآخرة فإن الله -عز وجل- قال: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران:92] وقد فسر جماعة من أهل العلم البر هنا من جنة لن تنالوا الجنة حتى تنفقوا مما تحبون.
• قال: (الحائزي مراتب الفخاري)
هذا وصف للآل والأصحاب فكلاهما بر، وكلاهما حائزٌ مراتب الفخار.
"مراتب" أي: منازل ودرجات، و"الفخار" أي: السمو والعلو دون افتخار كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر» أي: وليس ذلك على وجه الافتخار إنما على وجه ذكر ما منَّ الله به عليه من هذه المنزلة العظيمة العالية السامية وهو أنه سيد ولد بني آدم يوم القيامة صلوات الله وسلامه عليه.
فقوله: (الحائزي في مراتب الفخار) أي: مراتب الفخر والعلو لكن دون افتخارٍ وعلوٍ على الخلق فإنهم كانوا أشد الناس طاعةً لله –عز وجل- كانوا أبر الأمة قلوبًا، وأقومها سبيلًا وأكثرها تواضعًا، وأعظمها حرصًا على تبليغ الرسالة ونشرها.
قال بعد ذلك: الآن صلى على النبي -صلى الله عليه وسلم- عاد بعد ذلك إلى مقصوده في هذا النظم بعد الحمد والثناء قال: (اعلم) يأتي بها العرب عند لفت الانتباه إلى كلامٍ مهم في كل سياقاته (اعلم) يستعملها العرب للفت الانتباه إلى كلامٍ مهم.
﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد:19]، ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾ [الأنفال:40] فقد جاء في القرآن ذكرها في مقام التنبيه إلى مهمات: إما مهمات في ذاتها أو مهمات لغيها.
• قوله –رحمه الله-: (اعلم هُديت):
وهنا جمع المصنف -رحمه الله- في نظمه بين لفتين:
الفته الأولى: التنبيه إلى مهمٍ سيقوله، واللفت الثانية: التنبيه إلى أن هذا التعليم بعيده الحرص على هداية المتعلمين الشفقة عليهم، الرحمة لهم؛ لذلك دعا لهم بالهداية، وبهذا ينكسر حدة ما يمكن أن يتسرب إلى النفس من أنه كلامٌ من علوٍ لدون؛ لأن أحيانًا قد تمتلئ النفس من المُعلم شيئًا من العلو على المتعلمين فكثر ذلك وأزال هذا الوهم بذكر ما يؤمنه لمن يعلمه من الهداية والتوفيق.
اعلـم هديت أن أعظم المنــــــن علمٌ يُزيل الشك عنك والدرن
ولو قيل لك: أعطني ضابطًا للعلم النافع لم تجد أفضل من هذا الضابط، هذا ضابط للعلم النافع.
(العلم النافع) هو: "العلم الذي يزيل الشك والدرن، ويكشف الحق لذي القلوب، ويوصل العبد إلى المطلوب".
• هذه مكونات العلم النافع:
- أن يكون علمًا يزول به الشك والدرن من القلوب.
- أن ينكشف به الحق.
- أن تصل به إلى المطلوب.
وما هو المطلوب؟
تحقيق العبودية للملك الغلَّاب جلَّ في علاه هذا هو المقصود والمطلوب من هذا العلم، وعندما يغيب هذا المقصود عنا فإننا سنضل.
• يا إخواني عندما تغيب النية عن طالب العلم تمامًا كالذي يقود سفينة بلا بوصلة ما يدري وين يروح، ترمي به الرياح يمنة ويسرة، ويطول عناءه، ويتعب سيره ولا يدرك مطلوبًا لكن عندما تتضح الغاية، ويتوحد الهدف، ويحضر في قلبك أثناء الطلب فإنه سيوفقك الله تعالى إلى ما تريد. فاحرص على سلامة القصد والنية حتى تصل إلى المطلوب؛ لأن العلم لا يطلب لأجل الاستكثار من المعرفة إنما يطلب لتحقيق العبودية لله في نفسك، وتحقيق العبودية لله بدعوة الخلق إلى الهدى هذا هو مقصود العلم هذا هو المطلوب من التعلم: أن تحقق العبودية لله في قولك في قلبك، في قولك، وعملك، وظاهرك وباطنك، وأيضًا أن تجمع إلى هذا أن تكون سببًا لإنقاذ الناس وهدايتهم إلى الصراط المستقيم.
تعاد تتعلم إلى رفع الجهل عن نفسك. لما يقولون رفع الجهل عن نفسك مو إنك تعرف وبس، ورفع الجهل عن غيرك مو إنك تعلمهم معلومات وبس الجهل هنا ليس فقط عدم العلم. لما يقول العلماء: "رفع الجهل عن نفسك" ليس المقصود فقط عدم العلم إنما المقصود عدم العلم أن ترفع عن نفسك عدم العلم، وعدم العمل بالعلم فإن عدم العلم بالعلم جهلٌ دليل ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ [النساء:17] قوله: ﴿يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾ [النساء:17] احفظوها إيش معنى بجهالة؟
إن ما يدرون إنه حرام. لو كان ما يدرون إنه حرام ما كانوا وقعوا في إثم؛ لأن الشريعة لا تترتب إلا لا تثبت إلا بعد العلم بالحكم لكن هنا الجهالة المذكورة إ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾ [النساء:17]؛ أي: بعدم عملٍ بالعلم، لا بعدم علمٍ بالعلم؛ ولذلك الجهل ليس فقط كما يظنه البعض أنه عدم العلم بالشيء إنما عدم العلم به وعدم العمل به جهلٌ؛ ولذلك النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول لأبي ذر: «إنك امرؤٌ فيك جاهلية» والمراد بالجاهلية هنا هو: عدم العمل بالعلم، فقوله –رحمه الله- هنا في بيان ضابط العلم النافع ذكر ثلاثة أمور:
- علمٌ يزيل الشك عنك والضرر هذا الضابط الأول.
- ويكشف الحق عن القلوب هذا الضابط الثاني.
- ويوصل العبد إلى المطلوب؛ يعني لا بد من عمل
إذا زالت عن قلبك الأضرار، وانكشف له الحق ورآه فإن المطلوب هو أن تمتثل ذلك العلم عملًا فيوصلك إلى المطلوب.
•طيب لماذا بدأ بإزالة الشك قبل انكشاف الحق؟
لأته لا يمكن أن ترى الحق على وجهٍ جلي إلا إذا زالت عن عينك الشكوك والشبه والحوائل. فقوله: -رحمه الله-: (علمٌ يزيل الشك) هذه تخليه، و(يكشف الحق) هذه تحليه، وتكميل، (ويوصل العبد إلى المطلوب) هذا عمل بعد العلم.
المصنف يقول: اعلم هديت أن أفضل المنن أفضل ما يمنّ الله به على العبد، أفضل ما ينعم الله به عليك أن يرزقك العلم النافع، وهو ما بعث الله –عز وجل- به النبي –صلوات الله وسلامه فإنه بعث بالعلم النافع والعمل الصالح.
يقول الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [التوبة:33] الهدى: العلم النافع، دين الحق: العمل الصالح.
قال –رحمه الله-: لماذا سماها (منَّه)؟ ما قال نعم؟
لأن الله سمى الهداية إلى الصراط المستقيم منَّة ﴿بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ﴾ [الحجرات:17] الله ما منَّ على عباده بنعمة سوى الهداية لم يذكر الله النعم في سياق المنَّة إلا في نعمة الهداية؛ وهذا لشريفها وعظيم المنحة التي وهبها الله تعالى من شرح صدره اللهم اشرح صدورنا للهدى، كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم أي: شرح صدوركم للهداية؛ فلذلك ينبغي أن يستحضر معنى أن المصنف –رحمه الله- من دقيق نظمه أن اختار في مقام الهداية اللفظ القرآن الذي ساق الله تعالى فيه ذكر هذه النعمة نعمة الهداية وهي المنة تسميتها بالمنة ﴿بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ﴾ [الحجرات:17]
ثم قال بعد هذا: "فاحرص على فهمك القواعد"
هذا المقطع من كلام المصنف دخول في المقصود بعد الكلام عن العلم النافع على وجه العموم.