المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلا بكم مستمعينا الكرام، إلى هذه الحلقة المباشرة من برنامجكم "الدين والحياة"، والذي يأتيكم عبر أثير إذاعة "نداء الإسلام" من مكة المكرمة، نحييكم جميعًا مستمعينا الكرام في هذه الحلقة، والتي نتحدث فيها عن قول الله -سبحانه وتعالى- في القرآن الكريم:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة : 83] هذا هو حديثنا، كما يسعدنا أيضا مستمعينا الكرام أن نرحب بضيفنا وضيفكم في هذه الحلقة وفي هذا البرنامج، ضيفنا الدائم صاحب الفضيلة، الشيخ الأستاذ الدكتور: خالد بن عبد الله المصلح، أستاذ الفقه بجامعة القصيم، والمشرف العام على فرع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء في منطقة القصيم، والذي نسعد أن نرحب بفضيلته، السلام عليكم ورحمة الله شيخ خالد.
الشيخ: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، مرحبا بك أخ عبد الله، وحياك الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، وأسأل الله أن يكون لقاء نافعا مباركا.
المقدم: اللهم آمين، كما يسعد بصحبتكم من خلال فريق العمل من الإعداد والتقديم محدثكم عبد الله الداني، ومن التنفيذ على الهواء الزميل: محمد باصويلح، ومن التنسيق واستقبال الاتصالات الزميل: خالد فلاتة، مستمعينا الكرام، حديثنا في هذه الحلقة عن قوله -سبحانه وتعالى-: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة : 83]يمكنكم التواصل والتفاعل معنا من خلال موضوع حلقتنا لهذا اليوم على الأرقام التالية0126477117، 0126493028، كما يمكنكم أيضا المشاركة عبر هاشتاج "الدين والحياة"، إذا على بركة الله نبدأ حلقتنا هذه ونرحب بجميع المستمعين، فأهلا وسهلا بكم.
فاصل.
المقدم: حياكم الله من جديد مستمعينا الكرام في هذه الحلقة والتي نتحدث فيها عن قوله -سبحانه وتعالى-: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة : 83]نرحب أيضا مجددا بضيفنا وضيفكم الشيخ: خالد بن عبد الله المصلح، شيخ خالد عندما نتحدث عن قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء : 23]بشكل خاص فيما قاله -سبحانه وتعالى- عند قوله -سبحانه وتعالى- في سورة الإسراء: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء : 23] يبرز هنا جانب مهم ألا وهو حق الوالدين، هذا الحق العظيم الذي قرنه الله -سبحانه وتعالى- بحقه، وتضافرت نصوص الكتاب والسنة في الترغيب في برِّهما، إضافة إلى بيان حقهما والترهيب من عقوقهما، أيضا هناك الكثير من الفضائل التي تتعلق ببرِّ الوالدين وتحريم عقوقِهما، لعلنا نتعرف على ذلك من خلال هذه الحلقة، ومن خلال حديثكم معنا من خلال هذا الموضوع المهم، في البداية ما هو تفسير قوله تعالى:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة : 83]ماذا يُعنى بذلك؟ وما هو المقصود بالإحسان الوارد في هذه الآية الكريمة؟
الشيخ: الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد، فالأمر الرباني في هذه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء : 23]يبرز أهمية البر بالوالدين وضرورة العناية بهما، وأن القيام بذلك ليس شيئا هامِشِيًّا ولا شيئا كماليًّا، بل هو شيء في مرتبة سامية ومنزلة عالية، فإنه قَرين حقِّ الله -جل وعلا-، حيث قال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء : 23]، وهذا بيان لحقِّ الخالق وحق المخلوق، حق الخالق -جل في علاه- أن يُعبد وحدَه لا شريك له، والإخلال به فساد الدنيا والآخرة، وحق الخلق البرُّ والإحسان بالوالدين في رأس ذلك وأولُه، ثم بعد ذلك ذكر الله تعالى بقية الحقوق للخلق، لكن أول ما يكون للحقوق هو ما يكون للوالدين وهو ما ذكره الله -جل وعلا- في هذه الآية في قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}[البقرة : 83] وقوله -جل وعلا-: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة : 83] هو أمر منه -جل وعلا- في البر والإحسان، وإيصال كل خير وفضل إلى الوالدين واحتساب الأجر في ذلك عند الله عز وجل، ولهذا تنوعت كلام العلماء رحمهم الله في بيان معنى الإحسان المأمور به في هذه الآية، فمن أهل العلم من قال: الإحسان هو لِين الجانب وطَيُّب الكلام، ومنهم من قال: الإحسان هو عدمُ إِغضابِهِما، وعدم قطعهما، وعدم نقص حقهما، وترك الإساءة إليهما مهما كانت صغيرة، ولذلك ذكر الله تعالى نموذجا من التقصير فقال:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء : 23] والذي يظهر والله تعالى أعلم أن الأمر هنا شامل لكل ما يكون من أوجه الإكرام والإحسان، وهو أمر من الله تعالى بأن يَبْذُل الإنسان قصارى جهده وألا يدَّخِرَ وُسعا، ولا يألوا جُهدا في إيصال كل ما يَسُرُّ إلى والديه في كل ما يدخل عليهما البَهجَة والسرور، وأن يدفع عنهما النَّقصَ والسوء، ولهذا التوصية هنا جاءت بهذا النص المفهم للإلزام، (وقضي) هو فصل وحكم وإلزام وبيان لما يجب{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء : 23]،وهي وصية الله تعالى للناس، حيث قال تعالى:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [الأنعام : 151]، وهذه من الوصايا التي اتفقت عليها الرسالات، ولهذا هذه الآية تضمَّنت عشرَ وصايا أولها حق الله تعالى وهو عبادته وحده لا شريك له، وثانيها في أول ما ذكر من الحقوق بعد ذلك حق الوالدين بالإحسان إليهما والسعي في كل ما يدخل السرور عليهما، والإحسان مجموع حتى لا تتشتَّت الأذهان ويَغِيب معناه، مجموعه هو أن توصِّل كلَّ خير إلى والديك وتدفع عنهما كل سوء وشر، هذا هو المفهوم العام، وهو الشامل لكل صور الإحسان والكلمات التي تكلَّم بها العلماء في بيان الإحسان هي سائرة على هذا المعنى، وهي أن توصِّلَ كل ما تستطيع من خير إلى والديك وتدفع عنهما كل سوء وشر، ولذلك تجد أن من العلماء من ذكر في معنى الإحسان ألا ترفَعَ عليهما صوتًا، وأن تسعى فيما يُحبِّان وفيما يسرُّهما من أوجه البر والإحسان، فمثلا على سبيل المثال، من المنقول عن عروة -رحمه الله- قال في معنى قوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة : 83] قال: فلا تَمتَنِع مِن شَيء أحبه، لا تمتنع من شيء أحبه، وعطاء يقول: لا ينبغي لك أن ترفع يديك على والديك، وأحمد يقول: ألا تَحرِمَهما ما يُحبِّان وألا تُحدَّ النظر إليهما، كل هذه الصور في الحقيقة وليست حصرا للإحسان، الإحسان مفهوم عامٌّ يدرَك باللغة والعرف وأولا بالشرع، كل ما يندرج تحت معنى الإحسان فإنك مأمور به في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } [الإسراء : 23]وأن تلاحظ أن الله -جل وعلا- كرر الوصية بالوالدين، وجاء بها بألفاظ مختلفة وليس لفظا واحدًا قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء : 23] وفي آية أخرى قال: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [الأنعام : 151]، وفي آية أخرى قال: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا}[العنكبوت : 8] {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف : 15].
الآيات كثيرة في الأمر بالإحسان إلى الوالدين والتوصية بهما والحث على إكرامهما والقيام بحقهما.
المقدم: يعني هذا أن كل أَمرٍ حَسَن هو يدخل ضمن هذه الآية الكريمة.
الشيخ: نعم، كل ما يَسُرُّ وتحصل به الحال مشمول بهذا الأمر الرباني:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء : 23]وداخل في وصية الله تعالى:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا}[العنكبوت : 8].
المقدم: يعني أن هذا ربما يتضمن عندما نتحدث عن الإحسان وتقديم كل أمر حسن للوالدين، يعني ذلك كَفَّ الأذى عنهم أيًّا كان هذا الأذى.
الشيخ: بالضرورة، لن يتحقق إحسان مع وجود الأذى، لن يتحقق إحسان مع وجود الأذى، الإحسان مرتبة عالية، ويسبقها هو أن يكفَّ الإنسان كل ما يكون من أوجه الإساءة، وأوجه إدخال الضيق على الوالدين ولو كان ذلك صغيرا، مهما صغر في عينك فإنه كبير عند الله -عز وجل-، والله تعالى يقول في محكم كتابه، يعني ما يبين ذلك على وجه واضح أنه أمر بالإحسان إلى الوالدين وأكد ذلك عند ضَعفِهما{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء : 23]هذا مزيد بيان وإيضاح لمعنى الإحسان المأمور به، فيقول -جل وعلا-:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء : 24]وهذا بيان أن الإحسان لا يقتصر فقط على إيصال الخير، بل من الإحسان أن يدفع عنهما من الأذى والشر ما يكون سببا لإدخال السرور عليهما، ولهذا مما ذكر في نفس قوله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}[الإسراء : 24]قال مجاهد: تمُيط عنهما من الأذى والخلاء والبول كما كانا لا يقولانه فيما كانا يميطان عنك من الخلاء والبول، يعني لا تقل لهما أف عندما تَضطرُّ إلى، تضطر إلى أن تزيل عنهما الأذى بسبب كِبَر، بسبب عَرَض، بسبب مَرَض، فإنما كانا يفعلان ذلك بك صغيرا، ولا يتأفَّفان، بل الأم تفعل ذلك وهي في غاية السرور، أن يكون ابنها، أن يكون ولدها، أن تكون بنتها على أكمل ما يكون من الصورة والهيئة والجمال، فقوله: { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}[الإسراء : 24]أي فلا تتأفَّف من شيء تراه من أحدهما أو منهما مما يتأذى به الناس، ولكن اصبر على ذلك منهما واحتسب في الأجر صبرك عليه منهما كما صبرا عليك في صغرك، ولذلك قال: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء : 24]تذكير لك بحالك لما كنت محتاجا إليهما، فبهما كَبُرت، وبهما بلغت ما بلغت من كمال، وبهما حصل لك ما حصل من خير، فجزاء الإحسان الإحسان، فلا ينبغي لأحد أن يتصوَّر أن الإحسان فقط هو في أن توصل لهم خيرًا وأنت على فَظاظة وغِلظة، وأنت على تأفُّف وكُره، بل ينبغي أن تجود النفس بكل بر للوالدين مع طيب النفس بذلك واحتساب الأجر عند الله، هذا لا يعني أن البر لا يكون شاقًّا في بعض الأحيان، لا، البر أكيد في أحوال يكون البرُّ فيه شاقًّا على النفس، لكن الإنسان يتحامل في ذلك.
المقدم: كلما شقَّ العمل، كلما كَثُر الأجر.
الشيخ: نعم، يتحامل في ذلك على نفسه ويصبر رَغبة فيما عند الله تعالى من أجر، فقد رتَّب الله تعالى على البر أجورًا عظيمة وآثارًا كريمة في الدنيا قبل الآخرة، فالبرُّ سببٌ لبسط الرزق وسعته وطيب الذكر وجمال الحال، وقد وَرَد من النصوص الشيء الكثير في بيان فضل البر وجميل عاقبته.
المقدم: هل هذا يعني أيضا شيخ خالد عندما نتحدث عن الإحسان إلى الوالدين أن الإحسان مراتبٌ ومَنَازل وأنه ليس درجة واحدة، أو أن الإحسان درجة واحدة لا يتفاضل
الشيخ: لا، بالتأكيد البرُّ درجات ومراتب ومنازل، وهو سُلَّم للوصول إلى العالي من الأخلاق والكريم من الأجر والثواب، وليس منزلة واحدة، والناس في هذا مُتفاوتون، كسائِر الأعمال الصالحة، فإن الإنسان يبلغ من البر بقدر ما يفتح الله تعالى عليه من الحرص على أداء حقِّ والديه وعلى إكرامهما، فإن ذلك مما يختلف فيه الناس، يعني الحد الأدنى مما يتعلق ببر الوالدين هو قطع كل شرٍّ عنهما، ثم بعد ذلك مراتب الإحسان، مراتب الفضل، مراتب السَّبْق، هذا مما يتفاوت فيه الناس تفاوتًا كبيرا والموفق هو من سعى بحق والديه في كل ما يدخل السرور عليهما، ويحتسب الأجر عند الله تعالى في ذلك، يعني قصة ذلك الرجل الذي أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – خبَرَه في قصة الثلاثة، الحديث في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر[صحيح البخاري:2272]، في قصة الثلاثة الذين آووا إلى الغار وانطبَقت عليهم الصخرة وكان ما كان من شأنهما، من شأن من قالوا يعني لا نَجاةَ لكم إلا بأن يدعو كل واحد منكم الله -عز وجل- بأرجى عمل يرجو ثوابه عنده، فكل منهم قال ما فتح الله تعالى عليه من عمل يرجو عقباه عند رب العالمين، وكان منهم ذلك الرجل الذي قال: إنه كان لي أبوان كَبيران، وكنت لا أَغْبِقُ أحدًا قبلهما، يعني ما أطعم أحدا قبل أبويَّ من سائر ما يأتيه من الطعام وهو الحليب الذي يشربه الناس طعاما وهو كفاية، المقصود أنه قال: اللهم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا، يعني ما أقدم على إطعامهما أحدا من الناس ولو كان من أهلي، لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فنأى بي في طلب شيءٌ يوما فلم أُرِح عليهما حتى ناما، يعني تأخَّرت في بعض أشغالي وأعمالي، فلم أَرْجِع حتى ناما، فَحَلبْتُ لهما غَبوقَهما، يعني الطعام الذي اعتادا أن يتناولاه، فوجدتهما نائمين، إذًا فاته الآن إطعامَهما قبل أن يناما، وهو الآن يعني المسألة ليس فيها ضِيق، إنما فيها تقديم، يعني الحليب الذي عنده، ليس قاصرا على والديه، يعني ليس فقط أنه ما يكفي إلا والديه وبالتالي سيُضَيِّق عمن بعده فقدم والديه، لا، الآن المسألة فيها علوٌّ، أنه اعتاد ألا يسبق في إطعام أحد والإحسان إلى أحد من الأهل قبل والديه، فلذلك قال: فكرِهت أن أَغبِق قبلهما أهلا أو ولدا، فلَبِثْتُ والقدح على يدي أنتظر استيقاظَهما، يعني ما يحِبُّ أنه يؤرِّقهما ويوقظهما من نومهما، فانتظر حتى بَرَق الفجر فاستيقظا، كل الليل وهو على هذه الحال، القدح في يديه أو الإناء في يديه ينتظر استيقاظ والديه ليطعمهما قبل أي أحد من أهله ومن ولده، قال: فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت هذا ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا، هذا نموذج من نماذج السمو والعلو في البر وهو أن يكون الإنسان على أعلى ما يكون في الإحسان إلى والديه، حتى إنه انتظر على هذه الحال وتأخَّر في إطعام بقيَّة أهله لإكرام والديه وتقديمهما على غيرهما في الإحسان والبر، هذا نموذج يجيب على السؤال الذي ذكرت، وهو: هل البر مرتبة واحدة أم أنه مراتب ودرجات.
المقدم: طيب نذكِّر بأرقام التواصل معنا في برنامج الدين والحياة على الأرقام التالية0126477117، 0126493028، شاركونا أيضا عبر هاشتاج "الدين والحياة" في موضوعنا لهذا اليوم عن قوله تعالى{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة : 83] شيخ خالد عندما نتحدث عن الإحسان إلى الوالدين هناك أنواع يكثر الحديث عنها فيما يتعلق بحال الأبناء مع والديهم، النوع الأول: العاقُّ الذي يفعل أو لا يفعل ما يأمره به والداه، والآخر الذي كما يقال أنه لا يؤجر؛ لأنه يفعل ما يؤمر به، يعني الناس يقولون أنه لا يؤجر لأنه يفعل ما يؤمر به وهو كاره.
أما الثالث يفعل ما يُؤمَر به ويُتبِع هذا الأمر بالمنِّ والأذى والتأفف ورفع الصوت، فهذا يؤزَر على ما يفعل.
والرابع، الصنف الرابع الذي يفعل ما يُؤمَر به بطيب نفس فهذا هو المأجور.
والخامس الذي يفعل ما يريده والداه قبل أن يأمراه به، هل هذا التصنيف صحيح بهذا التفصيل.
الشيخ: والله يا أخي أنا ما أدري هذا التصنيف بهذا التفصيل المفصَّل، لكن في الجملة بر الوالدين هو إيصال كل خير وجميل فعل في الظاهر والباطن، وفي السر والعلن، وفي الحضور والغيبة للوالدين، ففضل الوالدين كبير، وإحسانهما سابق عظيم، وتذكَّرْ رعايتهما لك مما يوجب إقبالك على الإحسان إليهما، وهنا أذكر بكلمة قالها رجل لعمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه-، وقد رأى أنه أحسن بوالدته وقدَّم لها كل ما يستطيع من الإحسان، فظن أنه يعني بَلَغ في ذلك مبلغا، فسأَلَه وقد رآه عمر رضي الله عنه يحمل والدته، هل جَزَيت والديَّ حقهما بهذا العمل، وهو أني حججت بها وقد حَمَيتُها، قال: ولا بِزَفرةٍ واحدة من زَفْراتِ ولادتها[أخرجه البخاري في الأدب المفرد(ص8)وصحَّحه]، وهذا يبين أنه يعني مما يحثُّ النفوس ويشجِّعها على برِّ الوالدين والقيام بحقهما أن يتذكر الإنسان ما تحمَّلاه في سبيل خروجه إلى الدنيا، ما تحمَّلاه في سبيل تكميله والقيام بحقِّه كما قال عمر -رضي الله تعالى عنه- لهذا الرجل الذي يَظُن بأنه جزى والدته بما جرى من حملها، حيث قال: أتراني جزيتها؟ قال: ولا بِزَفْرَةٍ واحدة من زفرات ولادتها، فينبغي أن نسعى بكل إحسان فالإحسان مراتب ودرجات.
المقدم: لكن فيما يتعلق، الإحسان بالمبادرة، والإحسان عندما يكون هناك طلب من الوالد، يعني إجابة الطلب يختلف عن المبادرة، مبادرة الشخص مثلا إلى الإحسان دون أن يطلب والداه منه شيئا.
الشيخ: بالتأكيد، لا شك {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة : 10] {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران : 133] فما في شك أنه المبادرة إلى الإحسان ليست كما لو كان ردًّا لطلب أو إجابة لسؤال، لا شك أن هذه مرتبة من الإحسان أعلى، لكن ذاك الذي لم يبادر إلى ما يرغب الوالد، إنما فعله لما طلبه منه، هذا مُحسن أيضا، لكن إحسانه دون ذاك، وأيضا من فعل هذا الوجه من الإحسان وهو قد سَمَحت نفسه به وكان يعني طيب الخاطر في بَذلِه ليس كذاك الذي يفعل على نحو من التأفُّف أو الضيق حتى ولو لم يُظهِر ذلك، فكيف إذا أظهره؟ فبالتالي الإحسان مراتب ودرجات كما أن العقوق مراتب ودرجات، فينبغي أن نَعرِف أن الإحسان مما يُفرِّج الله تعالى به عن العبد الكُرُبات ويبلغه المنازِلَ العاليات، هذا مثال للحديث الذي ذكرناه قبل قليل حديث الثلاثة، حيث إنه توسَّل إلى الله -عز وجل- بعمل صالح وهو بِرُّه للوالدين على هذا الوجه الكامل، فكان سببا للتفريج، تفريج الكُربة وإزالة السوء، يعني خلاصة ما أريد أن أقولَه في الفضائِل، فضائل بر الوالدين أن الحد الأدنى يحقق لك سِعةَ الرزق وطُولًا العمر وبركة المعاش « مَن سرَّه أن يُبسَطَ له في رِزْقِه وأن يُنسأَ له في أَثَرِه فَلْيَصِل رَحِمَه»[صحيح البخاري:2067] وبر الوالدين أعلى وأعظم صور صلة الأرحام، الثاني أنه سبب للخروج من المكروهات والمضائق كما هو في قصة الرجل الذي مَكَثَ كل الليل حاملا طعاما والديه حتى يستيقظا ويطعمهما.
المقدم: الآن نتحدث عن العواقب والآثار يا شيخ، الآثار الجميلة التي تكون بعد هذا البر وبعد هذا الإحسان بشكل يعني مستفيض إن شاء الله، ولكن عندما نتحدث عن البر أو الإحسان هناك من يعمل ويبذل كل جهده لكنه لا يبلغ رضا والديه، أحيانا حتى يكون هناك نوع من التذمُّر والتأفُّف منهما مثلا، وهو لم يقصر في شيء تجاههما، ما الجواب في هذا الجانب؟
الشيخ: لو تعيد علىّ النقطة لو سمحت.
المقدم: يعني بعض الأبناء يعمل ويجتهد لإرضاء والديه، لكنه لا يبلغ هذا الرضا، ولا يبلغ منهما الكلام الطيب ولا يجد منهما الرضا، في المقابل هو يبذل ويعمل كل ما يمليه عليه الشرع ويمليه عليه الواجب تجاه والديه.
الشيخ: هو يا أخي الكريم أولا ينبغي ألا نستكثر ما نبذله لوالدينا، هذه النقطة الأساس، حتى لا يقول الإنسان: أنه يعني والله أنا بَذَلت وحقَّقت ما أؤمل من رضا والدي، لا تستكثر ما بذلت من خير، واحتسب الأجر فيه عند الله -عز وجل- طاعة لله -عز وجل- وتحصل لك به خيرات عظيمة، فينبغي لك أن تستقل ما تبذله في سبيل تحقيق هذا المأمور الشرعي، ولذلك كلمة عمر -رضي الله تعالى- عنه للرجل تبين أنه ينبغي أن نستحضر أن ما نقدمه ليس بكثير في حق والدينا، عمر -رضي الله تعالى عنه- جاءه رجل فقال: "إن لي أُمًّا قد بلغ منها الكبر أنها لا تقضي حوائجها إلا وظهري لها مَطِيَّة، فهل أديت حقَّها؟ فقال له الفارق: لا؛ لأنها تفعل ذلك وهي تتمنى بقاءك، وأنت تفعله وأنت تتمنى فراقَها"[أخرجه ابن وهب في جامعه:(ح90)، وفي سنده ابن لهيعة، وهو ضعيف]، يا أخي تأمَّل هذا الفرق الكبير في المشاعر التي تمتلئ بها القلوب يعني هذا إحسان في غاية الذروة، أنه ما تنتقل ولا تصل إلى ما تريد إلا وهي على ظهره، ومع هذا عمر يقول لا، لن تؤدي لها الحق كاملا لأن ثمة فارقًا، ليس الفارق في الصورة، قد تقول هي متفقة، هي حَمَلَتك صغيرا وأنت حملتها كبيرا، لكن الفارق هو في الروح والنفسيَّة التي وراء هذه الصورة، قال: لا؛ لأنها كانت تفعل بك ذلك وهي تتمنى بقاءك، يعني لو أصاب الصغير ما أصابه كانت الأم في غاية المشقَّة في حين أنه عندما تصيب الأم أو الأب وقد بلغ من الكبر مَبلَغا أصبح يعني يثقُل على من حوله، هي يعني تعرف بعض الناس يقولوا: الله يستخير له الخير، الله يحسن له الخاتمة، وما أشبه ذلك من الكلمات التي هي دعاء وحسن وطيب، لكن يعني هي تشير إلى ما ذكر عمر- رضي الله تعالى عنه- أن ما يفعله والداك بك وأنت صغير، يفعلانه وهما يتمنيان بقاءك، وأنت في المقابل تفعله وأنت تتمنى فراقهما، ولهذا ينبغي للإنسان أن يبتغي الإحسان ويرجو العقبى عند رب العالمين، وهنا نقطة يعني أنا أحب أن أختم بها هذا السؤال الذي ذكرتَه أنه أحيانا نحسن إلى والدينا ولا نجد ما يطيِّب نفوسنا في مقابل هذا الإحسان، يعني لا نَجد إقرارا بالإحسان، بل أحيانا قد نواجه ذلك بنوع من الجحود، يعني، وأنت ما سويت شيئا، وأنت إيش سويت، وأنت ما شوفت منك خير، وغير ذلك، مع أنه قد بَذَل الجهد في الإحسان والبر، في هذه الحال ما المخرج؟ أذكِّر بقضيتين، النقطة الأولى أنه يعني طبيعة الإنسان أنه كَنود، وهو الكنود في حق ربه، الكَنود هو الجحود، الذي يجحد الفضل والإحسان، قال الله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات : 6] الكنود هو الجحود، أي شيء في الكون أعظم إحسانا إليك من الله عز وجل؟ ليس هناك أعظم إحسانًا من الله إلى، ليس ثمة إحسان إلى العبد أعظم من إحسان الله إليك، إحسان الله إلينا أعظم ومع هذا، الجحود واضح والله -عز وجل- يخبر به ويخبر بشهادة الإنسان عليه {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [العاديات : 7ـ8] هو الذي يشهد على كنوده وجحوده لفضل الله وإحسانه الذي لا ينقطع عنك لحظة ولا نَفسًا، فإذا كانت هذه الطبيعة البشرية فينبغي أن نستحضرها وأن نقول: أن نحن نعمل الإحسان لا لكسب رضا الناس، إنما نعمله طاعة لله وطلبا لرضاه جل في علاه، وعند ذلك نحقق المعيار الذي تَطيب به نفوسُنا ويحملنا على مزيد عطاء؛ لأننا لا نرجوا العُقبى من الناس، ولا نرجوا العقبى من الوالد، نرجوا العقبى من الذي بيده الخير كله -جل في علاه-: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان : 9] هذه نقطة، النقطة الثانية بعد ما، لعل عندك شيئا.
المقدم: لعل عندي اتصالًا يا شيخ خالد، نأخذ اتصالًا ثم نستكمل إن شاء الله، أذكِّر بأرقام التواصل معنا في هذه الحلقة مستمعينا الكرام في برنامج الدين والحياة في حديثنا في هذه الحلقة عن قوله سبحانه وتعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة : 83] الرقم الأول0126477117، والرقم الثاني0126493028، معنا اتصال من محمد أحمد من مكة، تفضل يا أخ محمد.
المتصل: السلام عليكم.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله.
المتصل: أحب أن أدخل معكم في الموضوع على البرنامج هذا، وطبعا {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة : 83] هذا طبعًا غريزي في حب الوالدين أنه نعمل لهم ونسعى لرضاهم « رضا الله في رضا الوالدين»[أخرجه الترمذي في سننه بلفظ«رِضَى الرَّبِّ فِي رِضَى الوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ»:1899، من حديث عبد الله بن عمروt، ورجح وقفه عليه. وصححه الألباني مرفوعا في الصحيحة:516]،المهم عندي سؤال مختصر إن شاء الله، ما هي واجباتنا نحو الوالدين؟ وما هي أهم شيء يسعدهما ويرضوا به عنا وأمام الله في تلبية رغباتهما رغم أننا كل واحد يسعى لرزقه ويتمنى أنه إيش، أنه يسعدهم وبيحاول أنه يتمنى لهم الخير والبركة، طبعا الوالدة مقعدة، ونحن خمسة أولاد وابنتان، وبنحاول بقدر الإمكان نلبي طلباتهم، ولذلك الحمد لله نحن قدر إمكاننا في تلبية رغباتهم، حيث أن أبي توفي من 30 سنة.
المقدم: إن شاء الله يجبك الشيخ وشكرا لك أخ محمد على اتصالك، طيب شيخ خالد قبل أن نجيب على سؤال الأخ محمد ممكن تستكملون النقطة الثانية التي كنتم تتحدثون عنها
الشيخ: أذكر بالنقطة أنه نحن الآن يعني أحيانا يكون الإحسان من الولد، لكن لا يَشهد أثره في حياته، هذه النقطة قلت المَخْرَج من تأثيراتها النفسية علينا في التقصير في البر أن أولا: أن نعامل الله -عز وجل- في برِّ والدينا، ونرجوا العقبى منه ونطلب رضاه، والناس يعني أمرهم إلى الله، إن جاء منهم إحسان فأمره إلى الله، إن لم يأت منهم إحسان فإننا لا نقطع إحساننا عن أحد لأجل أنه قصر في حقنا{أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور : 22]
الثاني: هو ما ذكره الله بعد آية البر، النقطة الثانية هي ما ذكره الله تعالى في آية البر، وأن الله أمر بالبر ثم قال:{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء : 25]، وهذه إشارة إلى معنى مهم وهو أنه يعني عندما لا تجد مقابلا لهذا البر، أو تعجز عن بلوغ الغاية والذروة في ذلك فلا تتأفف ولا تضق بذلك، بل ارجو العقبى من الله، فإن كنت صادقا في طلب برِّ والديك والإحسان إليهما، فإن الله تعالى عليم بما في نفسك، ولن يلحقك من قبله بخس ﴿فَاستَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾[آل عمران:195]، وقال تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء : 25].
اللهم اجعلنا من الأوَّابين يا رب العالمين
المقدم: طيب، سؤال الأخ محمد كان يتحدث عن والدته المقعدة ويقول: ما هي الواجبات التي ينبغي علينا أداؤها تجاهها؟، وكذلك أيضا ما هي الأمور التي يمكن أن ترضيَها وتحسنَ إليها؟
الشيخ: أولا: أسأل الله تعالى أن يأجركم على بركِّم بوالدتكم وقيامكم بها، وأن يعينكم على تكميل ذلك وعدم التقصير فيه، عندما يكون الوالد في حال ضعيف، حقهم في البر أعظم، وحقه في جهتين، في جهة أن تُبعد عنه كل ما يوهِم أنَّك مانٌّ عليه أو أنك متضايق من حاله، ولذلك الله تعالى يقول:{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا } [الإسراء : 23] يعني واحد من الوالدين أو بلغ الجميع الكبر{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } [الإسراء : 23]
بدأ بإزالة الأذى النفسي الذي يمكن أن يقع لهما بالتأفف، لأنهم بلغوا من الكبر، يعني حال الكبر حال ضعف، حال يعني شعور بالنقص، شعور بالحاجة إلى الغير فإذا انضم إلى هذه الحاجة أذى نفسي بكلام ولو كان على وجه التأفف كان ذلك من زيادة ما يمكن أن يكون سببًا لبرهما وعدم راحتهما، ولذلك يقول:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء : 23]هذا فيما يتعلق بالقول، أزل عن والديك كل ما يمكن أن يتوهم من خلاله أنك متضايق منهما { وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء : 23]أي كثير البر، كثير الإحسان، طيب، القول الكريم هو القول الحسن الذي تنشرح به النفوس، الذي تنطلق به المعاني المباركة، هذا هو القول الكريم، هو شامل لكل لفظ تطيب به النفوس، وتحسن به الحال، وتسمو به نفوس هؤلاء، وتنشط إلى الخير، بعد ذلك ذكر الله -جل وعلا- العمل، قال:{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء : 24]وعاد بعد تتميم ما ينبغي أن يكون من القول الحسن والعمل الحسن إلى أنه لا يقتصر البر على هاتين الصورتين، وهو أن تقول لهما قولا كريما، وأن تخفض لهما جناح الذل، بل ثمة برٌّ لا ينقطع في حياتهما وبعد موتهما وهو الدعاء لهما{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء : 24].
وهذا غاية البر والإحسان مجموع في هاتين الآيتين الكريمتين على وجازة واختصار.
البر: قول كريم، فعل جميل، حسن سؤال وطلب لهما في السر والإعلان بالرحمة والخير من رب العالمين.
المقدم: نعم، ولعل البر بعد موتهما أبلغ أثرا وأجرا من الله -سبحانه وتعالى-؛ لأن الكثير ينسى هذا الفضل ويكون أيضا من باب الوفاء الذي أمر الله -سبحانه وتعالى- به.
طيب، نذكِّر بأرقام التواصل قبل أن نأخذ اتصالات 0126477117، 0126493028
المقدم: طيب، شيخ خالد، دعنا نجيب على سؤال الأخ أحمد، تحدث عن أن والده متزوج
الشيخ: لو سمحت أخ عبدالله يعني أرغب في التعليق قليلا، قبل أن أدخل وأجيب على أسئلة الإخوان وحالاتهم، أنا قلت: الموضوع حقيقة مثل ما ذكر الأخ المتصل الأخير، الموضوع حسَّاس، وثمة شواهد في حياة الناس مُفجِعة فيما يتعلق ببر الوالدين وعدم القيام بحقِّهما، ويعني هناك أمر أيضا أشار إليه أحد المتصلين وهو أنه هل الحال التي يعيشها الناس اليوم من الانفتاح الإعلامي والانشغال بشبكات التواصل، هل هذا مؤثِّر على ما يعني، هل له أثر في ما نشاهده من حالات ضعف برِّ الوالدين أو لا؟ كل هذه القضايا الحقيقة يعني هي قضايا رئيسة، يعني نحن لا نريد أن نتحدَّث فقط عن فضل بر الوالدين على وجه العموم مع وجوب التحدث عنها في المقدمة، وأنها مقدمة ضرورية، لكن يبقى أن هناك مشاكل، يعني المحاكم يصلها من حالات العقوق ما تَشيب منه الرؤوس فجعةً واستغرابا، وهذا الذي يصل طبعا هناك قضايا قد تكون مثل التي وَصَلت أو أكثر عددًا لم تصل لوجود ما يمنع من الإيصال، يعني هناك من يؤثِر السلامة وما إلى ذلك، فالحوادث كثيرة، لكن من المهم أن نؤكِّد على معنى وهو أنه لا تستقيم الحياة، ولا يصلح الدين، ولا يمكن أن يحقِّق الإنسان السعادة في الدنيا ولا في الآخرة إلا بأداء الحقوق، الله -جل وعلا- يقول:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء : 58]، ويقول -جل وعلا-:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل : 90]، فبدأ بالمرتبة الدنيا ثم انتقل إلى العليا، الدنيا هي العدل وهو إعطاء كل ذي حق حقه، والإحسان هو فضل زائد على هذا، ما يتعلق بحق الوالدين هو أعظم الحقوق، التفريط في حق الوالدين هو مؤشِّر لخراب كل بقية الحقوق، فيما يتعلق بحق الأقارب، فيما يتعلق بحق الأزواج، فيما يتعلق بحق الأولاد، فيما يتعلق بحق المجتمع، فيما يتعلق بحق العقود والوظائف والأعمال، هناك يعني علاقة ترادُفيَّة عندما يختل ويسقط أصل العلاقات، فلن يقتصر على هذا، بل سيكون ثمة ظلال وتأثيرات على كل ما يكون من العلاقات الأخرى.
المقدم: طيب، أحمد إبراهيم يقول: إن والده متزوج من الثانية، وطبعا حصل هناك بعض الإشكاليات حتى اضطرت زوجة والده للخروج من المنزل والذهاب لبيت أهلها، ثم استدان أخونا أحمد قرضا وأعطاه لوالده، وبالتالي أيضا قام بإهداء هدية لأمِّه حتى يكون هناك نوع من العدل في هذا الجانب، بالإضافة إلى أنه يقول: أنه كذب عليها وقال: إن هذه هدية مقدمة لك، كما أني قدمت هدية أسوة بوالدي، يقول كذب في هذا الأمر، هل عليه إثم؟
الشيخ: الكذب في هذه الأشياء ليس محرَّما، فليس من الكذب المحرم ما يحصل به إشاعة خير، وهذا كذب للإصلاح، والكذب للإصلاح مما جاء الإذن فيه، لكن ينبغي الحرص على أن يكون ذلك يعني بنوع من التورية، بنوع من التعريض، وإذا حرص على هذا كان ذلك مما يحصل به الخير، وإذا حرص على هذا كان ذلك مما يحصل به الخير للوالد والوالدة.
المقدم: أبو مشعل يقول: إن لديه أخ مقصِّر في حق والده رغم أنه مجتهد في الطاعة والعبادة، يقول: هل نقطع أخانا، نقاطعه أم نصل أخانا، وأيضا يقول: هل ينفع هذا العمل الذي يؤديه في العبادة والاجتهاد في الطاعة وهو مقصر في حق والده؟
الشيخ: بالتأكيد إن الأخ هذا عنده اختلال يعني، كونه كما يصف أنه صاحب طاعة، وصاحب إحسان، ويقصر في حق والده، هذا واضح أنه ثمة إشكالية، ولهذا أنا أقول يعني نحن دائما نفكِّر في معالجة الأمور بطريقة سلبيَّة، هل نقاطعه؟ هل نبعد عنه؟ لماذا لا يكون هناك عوضٌ عن أن نبحث عن المقاطعة وما إلى ذلك، ينبغي أن نحدِّد السبب الأول قبل أن نبحث عن العلاج المناسب، لا بد من معرفة السبب إذا كان يمكن معرفة السبب، لماذا هذا الولد الذي هو فيما تشرح أنه على خير وصلاح وتُقى ويحافظ على الصلاة والأعمال الصالحة، لماذا أخلَّ بهذا الأصل الأصيل؟
المقدم: عفوًا يا شيخ خالد قد يكون هناك نوع من عدم عدل فيتسبَّب، وليس هذا مبررًا، فيتسبب في هذا النوع من العقوق، الذي يكون شخص واحد فقط هو العاق والبقية بارِّين بوالديهم مثلا، قد يكون هذا، لذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – أشار (أَيَسرُّك أن يكونوا في البرِّ سواءً؟)[صحيح مسلم:1623/17]يعني المقصود أنه، يعني نحن الآن لا نطلب عذرا لهذا المقصِّر، ليس ثمة ما يُعذر به الإنسان بتقصيره في حق والديه، أعظم إساءة يقدِّمها الوالد لولده هو أن يسعى في إضلاله، والله تعالى يقول:{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [لقمان : 15]، هذا فيما يتعلق بما يطلبانه من الانحراف{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان : 15]أمر الله تعالى هذا الوالد الساعي في إفساد ولده مع عظيم إجرامه أن يصاحبه الولد في الدنيا معروفًا، فما هناك مبرِّر، لكن أنا أقول: في معالجة الحالات ينبغي أن نسعى إلى فهم أسباب المشكلة لنستطيع أن نحلَّها، الهجر قد يكون علاجا، لكن قد تتفاقم المشكلة، يوقع فيما هو أشد مما هو واقع به، فلذلك السعي في بحث الأسباب واختيار الطريق المعالج، والنصيحة فيها خير عظيم، أسأل الله أن يهدي قلوبنا وأن يجمعنا على طاعته!
المقدم: شيخ خالد لعلنا قبل أن نختم نتحدث عن جانب مهم ولو باختصار شديد ولو في دقيقة عن الإحسان إلى الأبناء، أليس سبيلا إلى إحسان الأبناء إلى آبائهم في المستقبل؟
الشيخ: بالتأكيد أن إحسان الوالد لولده هو من أسباب إعانته على البر، لكن هذا ليس بالضرورة مطَّرَد في كل الأحوال والصور، ولذلك أنت تشهد ما قصه الله تعالى في كتابه من خبر نوح -عليه السلام- مع ولده، نوح نبيٌّ من أولي العزم من الرسل، وهو أول رسول أرسله الله تعالى لأهل الأرض، لم يحصُل من ولده استجابة له رغم عظيم الشفقة الواضحة الجلية في معاملة نوح لابنه لم يستجب له: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا } [هود : 42] يا بني شوف التلطف، يا بني: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود : 42]أخذته العزة بالإثم{قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود : 43]هل انتفت تلك الشفقة والرحمة؟ لا، {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود : 45]سأل الله حتى بعد أن حصل ما حصل أن ينجِّي ولده وأن يعيده إلى جادة أهل الإيمان{قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } [هود : 46]، وفي قراءة {عَمِلَ غَيرَ صالح}[هذه قراءة الكسائي وحده. انظرحجة القراءات(
ص341)] {فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود : 46]وهذه القراءة (عَمِلَ غَيرَ صالح) إشارة إلى أن من أسباب عقوق الوالدين أن يكون الإنسان مشتغلا بعمل سيء، لأن العمل الصالح يفتح أبواب العمل الصالح، كما أن العمل السيئ يفتح للإنسان أعمال سيئة، أسأل الله أن يعيننا على طاعته وأن يصلح أحوالنا وذرياتنا، والحقيقة يعني.
المقدم: لعل يا شيخ كلمة يا شيخ، كلمة نختم بها لنا جميعا حتى نركِّز، المقصر يعني يعدل هذا التقصير ويتجاوزه ويصلح الأخطاء وأيضا المحسن يزيد في إحسانه.
الشيخ: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يعيننا وإياكم على البر والإحسان وأن يفي لكل من كان أهله بين يديه من والد أو والدة أو حتى من فقد والديه أن يجد في البر، إن أبر البر أن تسعى في كل ما يقربك إلى الله جل وعلا« إِنَّ الرجلَ ليرتفعُ في الجنَّة، فَيُقَال أَنَّى لي هذا، فيُقالُ باستغفارِ ولدِك لك»[سنن ابن ماجه:3660، مسند أحمد:10610، وصححه الألباني في الصحيحة:1598] فاسع إلى بر والديك بالدعاء لهما والإحسان إليهما والصبر على الأذى، في ذلك عاقبة لك جميلة، وأختم بأن البر لا يقتصر فقط حال حياة الوالد، وهذا يدل على شرف العبادة، يعني كثير من أوجه الإحسان تنتهي بالموت، لكن الإحسان إلى الوالدين ليس مقتصِرا على حال الحياة، « جاءَ رجل إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال يا رسول الله، هل بَقِيَ من برِّ أبويَّ شيء أَبرُّهما به بعد موتهما؟، قال: نعم، الصلاة عليهما، وإِنفاذُ عهدِهما من بعدهما، وصلةُ الرحم التي لا تُوصَل إلا بهما، وإكرامُ صديقِهِما، وصِلَةُ أهلِ ودِّهما»[سنن أبي داود:5142، ومسند أحمد:16059، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب:1482] كل ذلك مما يحصل به برُّ الوالدين، أن وصيتي لنفسي وإخواني أن نستغل الفرصة وهذا باب من أبواب الجنة، باب من أبواب الخير، باب من أبواب زيادة الأعمال الصالحة، باب من أبواب صلاح الحال والمآل أن نصلح صلتنا بوالدينا وأن نحتَسب الأجر عند الله في ذلك، سواء كانوا أحياءً بإيصال الإحسان إليهم، أو كانوا أمواتًا بتعهد ما أخبر به النبي – صلى الله عليه وسلم – من أوجه البر بعد موتهما
المقدم: شكر الله لكم صاحب الفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور: خالد بن عبد الله المصلح، أستاذ الفقه بجامعة القصيم، والمشرف العام على فرع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء بمنطقة القصيم على ما تحدثتم به من حديث شيق وماتع في هذه الحلقة في قوله -سبحانه وتعالى-:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة : 83]، أسأل الله ألا يحرمكم الأجر والمثوبة.
الشيخ: بارك الله فيكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ولكم مستمعينا الكرام الشكر والتقدير على حسن استماعكم لنا في هذه الحلقة، حديثنا كان عن الإحسان إلى الوالدين، بر الوالدين ليس مناوبات وظيفية بينك وبين إخوانك، بل مزاحمات على أبواب الجنة، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن ييسر لنا هذا الطريق وأن يفتح علينا أجمعين، نشكركم مستمعينا الكرام مرة أخرى على حسن استماعكم لنا وتفاعلكم معنا من خلال هذه الحلقة من برنامجكم الدين والحياة، تقبلوا في الختام تحيات محدثكم عبد الله الداني، ومن التنسيق واستقبال الاتصالات الزميل خالد فلاتة، ومن التنفيذ على الهواء الزميل محمد باصويلح، لقاؤنا يتجدد بكم بإذنه -سبحانه وتعالى- في تمام الساعة الثانية ظهرًا من يوم الأحد المقبل، حتى ذلكم الحين، أستودعكم الله، وإلى اللقاء.