الحَمدُ لِلَّهِ حَمدًا كثيرًا طَيِّبًا مُباركًا فيهِ، مِلءَ السماءِ والأرضِ ومِلءَ ما شاءَ مِنْ شَيءٍ بَعدُ، أحمَدُه حقَّ حَمدِه، أحقُّ مَنْ حُمِدَ، وأجَلُّ مَنْ ذُكِرُ، لَهُ الحَمدُ في الأولَى والآخرةِ، ولَهُ الحُكمُ وإلَيهِ تُرجَعونَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ إلهُ الأوَّلينَ والآخِرينَ، لا إلهَ إلَّا هُوَ الرحمنُ الرحيمُ، وأشهدُ أنَّ مُحمدًا عَبدُ اللهِ ورَسولُه صَفيُّه وخَليلُه وخيرَتُه مِنْ خَلقِه، بَعثَهُ اللهُ بالهُدَى ودينِ الحَقِّ بينَ يَدَيِ الساعةِ بَشيرًا ونَذيرًا، وداعيًا إلَيهِ بإذنِه وسِراجًا مُنيرًا، بَلَّغَ الرسالةَ، وأدَّى الأمانَةَ، ونَصحَ الأمَّةَ، وتَرَكها عَلَى المَحجَّةِ البَيضاءِ، طَريقٍ واضحٍ لا لبسَ فيهِ ولا غبَشَ حَتَّى أتاهُ اليقينُ وهُوَ عَلَى ذَلِكَ، فصَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلهِ وصَحبِه ومَنِ اتَّبعَ سُنَّتَه واقتَفَى أثرَه بإحسانٍ إلى يَومِ الدينِ، أمَّا بَعدُ:
فإنَّ اللهَ ـ تَعالَى ـ بُعِثَ مُحمدَ بنَ عبدِ اللهِ ـ صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عَلَيهِ ـ خاتَمَ الرُّسلِ بالهُدَى، ودينِ الحَقِّ بالعِلمِ النافعِ، والعملِ الصالحِ، وأمرَهُ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ بكلِّ ما يَصلُحُ به حالُ الناسِ، ويَستقيمُ بِهِ مَعاشُهم، ويَسعَدونَ بِهِ في مَعادِهم فلَمْ يَترُكْ ـ صَلواتُ اللهِ، وسَلامُه عَلَيهِ ـ خَيرًا إلَّا دَلَّ الأُمَّةَ عَلَيهِ، ولا شَرًّا إلَّا حَذَّرَها مِنهُ، فكانَ ـ صَلواتُ اللهِ، وسَلامُه عَلَيهِ ـ في غايَةِ النُّصْحِ للأُمةِ كما وَصفَه اللهُ ـ تَعالَى ـ بذَلِكَ حَيثُ قالَ ،﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[التوبَةِ:128].
هذهِ هِيَ صِفاتُه هذهِ هِيَ خِلالُه ـ صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عَلَيهِ ـ فكانَ ما جاءَ بِهِ شامِلاً لكُلِّ ما يُصلِحُ الناسَ،لم يَترُكْ في أبوابِ الخَيرِ، وسُبُلِ البِرِّ المُقرِّبةِ إلى اللهِ بابًا إلَّا بَيَّنَه، ولا طَريقًا إلَّا أوضَحَه، ولا سُنةً إلَّا جَلَّاها صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عَلَيهِ.
كما أنَّهُ لم يَترُكْ شَرًّا إلَّا حَذَّرَ مِنهُ، ولا طَريقَ غِوايةٍ إلا نَهَى عَنهُ، فكانَ في غايةِ الكَمالِ في الإيضاحِ والبَيانِ، وهَذا البيانُ وذَلِكَ الإيضاحُ ليسَ خاصًّا بشَيءٍ مِنْ أمورِ الناسِ فحَسْبُ، بَلْ هُوَ عامٌّ لكلِّ أُمورِهم، ولكلِّ شُئونِهم، فلم يَترُكْ شَيئًا ـ صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عَلَيهِ ـ إلَّا جاءَتْ بِهِ هَذهِ الشريعةُ بَيانًا وإيضاحًا.
وقَدْ قالَ اللهُ ـ جَلَّ وعَلا ـ في وَصْفِ ما أنزَلَه عَلَى رَسولِه ـ صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عَلَيهِ ـ مِنَ الهُدَى ودِينِ الحَقِّ : ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾[النحْلِ:89].
هكَذا يَقولُ اللهُ ـ جَلَّ وعَلا ـ في بيانِ ما جاءَ بِهِ النبيُّ ـ صَلَّى للهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ مِنَ الهُدَى، ودينِ الحقِّ إنَّهُ تِبيانٌ لكلِّ شَيءٍ، تَوضيحٌ لكلِّ ما يَحتاجُ الناسُ إلى إيضاحِه لم يَترُكْ شَيئًا يَحتاجُ الناسُ إلى عِلمِه،ومَعرفتِه إلَّا عَلَّمَهم إيَّاهُ، ولا شَيئًا يَحتاجونَه في أعمالِهم وفي مَسارِهم وحَياتِهم ممَّا يُقرِّبُهم إلى اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ إلَّا بَيَّنَه لَهُم صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ.
هَذا البَيانُ الواضِحُ الشامِلُ لكلِّ ما يَحتاجُه الناسُ كانَ مِنْ هِداياتِ القُرآنِ التي مَنِ استَمسكَ بِها وُفِّقَ إلى كُلِّ بِرٍّ، يَقولُ اللهُ ـ تَعالَى ـ: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾[الإسراءِ:9]
أقوَمُ في كُلِّ شَأنٍ مِنْ شُؤونِ الحَياةِ؛ ليسَ في جانِبٍ مِنْ جَوانبِ الحَياةِ فحَسْبُ؛ بَلْ في كلِّ شُؤونِ الحَياةِ؛ في أمرِكَ عَلَى وَجْهٍ خاصٍّ، وفي مُعامَلتِك لوالِديكَ ولأولادِكَ، ولزَوجِك، وفي بَيتِك، وفي سُوقِك، ومَعَ الناسِ، وفي كلِّ شَأنٍ مِنْ شُئونِ الحَياةِ.
والعِلمُ الذي جاءَ بِهِ عِلمٌ شامِلٌ لكُلِّ ما يَحتاجُه الناسُ مِنَ العُلومِ التي تَصلُحُ بِها قُلوبُهم،وتَستقيمُ بها أحوالُهم؛ يَقولُ أبو ذَرٍّ: "ما طائِرٌ يُقلِّبُ جَناحيهِ في السماءِ إلَّا وتَركَ لنا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ مِنهُ عِلمًا" المُعجمُ الكبيرُ للطبَرانيِّ (1647)، وهَذا يَدُلُّ عَلَى أنَّهُ لم يَترُكْ ـ صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عَلَيهِ ـ شَيئًا يَحتاجُ الناسُ إلى إيضاحِه، ولا إلى بَيانِه في العلمِ وفي العملِ إلا بَيَّنَه ـ صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عَلَيهِ ـ غايةَ البَيانِ، وأوضَحَه غايةَ الإيضاحِ.
فمَنْ أرادَ ذاكَ فليُقبِلْ عَلَى ما ترَكَه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ مِنَ المِيراثِ، فإنَّهُ تَركَ القُرآنَ العَظيمَ والسُّنةَ المُطهَّرةَ؛ فمَنْ أقبَلَ عَلَيهِما عَلِمَ كُلَّ ما يَحتاجُ إلى مَعرِفتِه، وهُدِيَ إلى كلِّ ما يَحتاجُ إلَيهِ مِنَ العَملِ الذي يَصلُحُ بِهِ وليسَ ذاكَ قاصِرًا عَلَى ناحيةٍ مِنْ نَواحي الحياةِ بَلْ عَلَى كلِّ نَواحيها، قالَ اللهُ ـ تَعالَى ـ:﴿ما فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾[الأنعامِ:38] هَذا جُزءٌ مِنَ الآيةِ الكريمةِ أخبَرَنا اللهُ ـ تَعالَى ـ فيهِ أنَّهُ لم يُفرِّطْ في الكتابِ مِنْ شَيءٍ والعُلَماءُ لهم في المَقصودِ بالكِتابِ في قَولِه ﴿ما فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾[الأنعامِ:38] قَولانِ:
القَولُ الأوَّلُ: أنَّهُ اللوحُ المَحفوظُ فلَمْ يَترُكِ اللهُ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ شَيئًا إلَّا وقَدْ جَرَى بِهِ قَلمُ التقديرِ السابِقِ، فهُوَ مُقيَّدٌ مُسجَّلٌ في اللوحِ المَحفوظِ، يَقولُ اللهُ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾[الأنعامِ:38] ، فالكِتابُ هُنا قالَ بَعضُ أهلِ العِلمِ أنَّهُ اللوحُ المَحفوظُ الذي حَوَى كُلَّ أقدارِ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ فما مِنْ شَيءٍ إلَّا وقَدْ سُجِّلَ في هَذا اللوحِ الذي تَضمَّنَ كُلَّ أقدارِه ـ جَلَّ في عُلاه ـ فإنَّ اللهَ خَلقَ القَلمَ وأمَرَ بأنْ يَكتُبَ ما هُوَ كائِنٌ إلى قيامِ الساعةِ، ومَوضِعُ الكتابَةِ هُنا هُوَ اللوحُ المَحفوظُ الذي حَوَى كلَّ أقدارِ الأشياءِ، وكلَّ ما قَدَّرَه اللهُ ـ تَعالَى ـ إلى ما شاءَ إلى قيامِ الساعةِ.
والقَولُ الثاني: في مَعنَى ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾[الأنعامِ:38] أنَّهُ القرآنُ العَظيمُ، فقَدْ حَوَى القرآنُ كُلَّ ما يَحتاجُه الناسُ،وهَذا يُشبِهُ قَولَه ـ تَعالَى ـ:﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾[النحل:89]. وبيانُ القرآنِ نَوعانِ، حَتَّى لا يقولَ قائِلٌ: إنَّ ثمَّةَ أمورٌ كَثيرةٌ حَدثَتْ في حياةِ الناسِ ليسَ في القُرآنِ بَيانُها بأسمائِها وأعيانِها؛ الجَوابُ: أنَّ بَيانَ القرآنِ نَوعانِ:
بَيانٌ تَفصيليٌّ: وهُوَ ما جاءَ بِهِ النصُّ عمَّا بيَّنَه اللهُ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ مِنَ الأُمورِ سَواءٌ كانَتْ في العلومِ والعَقائدِ، أو كانَ في الأعمالِ، والتطبيقاتِ العمَليةِ مِنَ التكاليفِ الشرعيةِ التي كلَّفَ اللهُ ـ تَعالَى ـ بِها عِبادَه، فاللهُ ـ تَعالَى ـ بيَّنَ في القرآنِ أصولَ الإيمانِ، عَلَى سبيلِ المِثالِ: فقالَ ـ جَلَّ وعَلا ـ:﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيكَ الْمَصِيرُ﴾[البَقرةِ:285]، فهَذا بَيانٌ مُفصَّلٌ لِما يَجِبُ الإيمانُ بِهِ، وبيَّنَ اللهُ ـ تَعالَى ـ مِنْ أحوالِ القيامةِ، ومما يَتعلَّقُ بأسمائِه وصِفاتِه، ومما يَتعلَّقُ ببَعضِ أُصولِ الإيمانِ بَيانًا مُفصَّلًا في كتابِه الحَكيمِ، ثُمَّ جاءَ النبيُّ ـ صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عَلَيهِ ـ فأتَمَّ ذَلِكَ البيانَ بما وَضَّحَ ما يَحتاجُه الناسُ في أُمورِ العَقائدِ، وكذَلِكَ في أُمورِ العباداتِ جاءَ البيانُ فيها مُفصَّلًا في كَثيرٍ مِنْ سُورِها، ومُجمَلًا في تَفاصيلِها وتَفاريعِها، فاللهُ -عَزَّ وجَلَّ- أمَرَ بإقامَةِ الصلاةِ، فقالَ ـ جَلَّ وعَلا ـ:﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾[البَقرةِ:43] وأمَرَ بإيتاءِ الزكاةِ قالَ: ﴿وَآتَوُا الزَّكَاةَ﴾[البقرَةِ:43] لكِنْ لم يَأتِ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ مُفصَّلٍ في صِفةِ الصلاةِ في القرآنِ الكَريمِ، إنَّما جاءَ في هَديِ النبيِّ -صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عَلَيهِ.
فبَيانُ القُرآنِ بَيانٌ مُفصَّلٌ وبَيانٌ مُجمَلٌ؛ وهكَذا فيما يَجِدُّ مِنْ حياةِ الناسِ، فما مِنْ شَيءٍ يَحتاجُ الناسَ إلى حُكمِه وإلى بَيانِ ما يَتعلَّقُ بمَنزِلَتِه عِندَ اللهِ مِنَ الإباحَةِ، أو التحريمِ، أو غَيرِ ذَلِكَ إلَّا وفي القرآنِ والسُّنةِ ما يُبيِّنُه، ويُوضِّحُه؛ لا يَلزَمُ أنْ يكونَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التفصيلِ، بَلْ يَكونُ ذَلِكَ في كَثيرٍ مِنَ الأحيانِ عَلَى وَجْهِ الإجمالِ الذي يَتبيَّنُ بِهِ التفصيلُ مِنْ خَلالِ النظَرِ في مَعاني كَلامِ اللهِ؛ وكَلامِ رَسولِه، وهَذا يَعرِفُه أهلُ العِلمِ المُتَخصِّصونَ، فقَولُه ـ تَعالَى ـ: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾[النحْلِ:89] تِبيانًا مُفصَّلًا وتِبيانًا مُجمَلًا، يَنفَعُ لكلِّ ما يَحتاجُ الناسُ إلَيهِ مِنْ مَسائلِ حَياتِهم ومَعاشِهم؛ وإنَّ ذاكَ لا يَختَصُّ فيما يَتعلَّقُ بمُعامَلةِ العَبدِ لرَبِّه، بَلْ هُوَ شامِلٌ لكُلِّ شَأنٍ مِنْ شُئونِ الإنسانِ في مُعامَلتِه لربِّه،وفي مُعامَلتِه للخَلقِ، لذَلِكَ قالَ اللهُ ـ تَعالَى ـ:﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾[الأنعامِ:163] .
إذا كانَتِ الحَياةُ كلُّها لِلَّهِ، والمَوتُ لِلَّهِ، فإنَّ مُقتَضَى هَذا أنْ يَعرِفَ الإنسانُ كيفَ يَحيا لِلَّهِ وكيفَ يَموتُ لِلَّهِ، وبَيانُ ذَلِكَ فيما جاءَ بِهِ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ ـ ولهَذا يَنبَغي للمُؤمِنِ أنْ يَطلُبَ هَدىَ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ وأنْ يَجِدَ في مَعرِفتِه حتَّى يَستطيعَ مِنْ خِلالِ ذَلِكَ أنْ يَعرِفَ دينَ اللهِ ـ عزَّ وجلَّ ـ فيما يَتعلَّقُ بما يَأتي ويَذَرُ، ويُحقِّقُ العُبوديةَ لِلَّهِ ـ عزَّ وجَلَّ ـ التي ذَكرَها اللهُ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ في قَولِه::﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾[الأنعامِ:163].
لنْ يَتحقَّقَ هَذا إلَّا بعَملٍ صادِقٍ واجتِهادٍ حَقيقٍ في مَعرِفةِ ما كانَ عَلَيهِ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ ومِنْ هُنا يَتبيَّنُ فَضلُ العِلمِ وعَظيمُ مَنزلتِه وكَبيرُ شَرفِ مَكانتِه، فإنَّهُ إنَّما نالَ تِلكَ المَنزلةَ وذاكَ المكانَ الرفيعَ لأنَّهُ يَعرِفُ بما يَرضَى اللهُ ـ جَلَّ وعَلا ـ يَعرِفُ باللهِ وبالطريقِ المُوصِّلِ إلَيهِ، لهَذا قالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيرًا يُفقِّهْهُ في الدينِ» صحيحُ البُخاريِّ (71)، وصَحيحُ مسلمٍ (1037) ، ومَعنَى الدينِ: أي: ما جاءَ بِهِ الرسولُ الكريمُ في الكتابِ والسُّنةِ ـ صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عَلَيهِ ـ فيَنبَغي للمُؤمنِ أنْ يَجتهِدَ في مَعرِفةِ ذَلِكَ طاقَتَه وجَهدَه ويَحتسِبُ الأجرَ، فإنَّهُ مِنْ ذِكرِ اللهِ كُلُّ طَلبٍ للعلمِ، كُلُّ مُتعلِّمٍ لكَلامِ اللهِ وكلامِ رَسولِه سَواءٌ كانَ بقِراءَةٍ، أو بسَماعٍ، أو بمُشاهدَةٍ ومُطالَعةٍ فإنَّهُ ذاكِرٌ لِلَّهِ، وذِكرُ اللهِ تَحيا بِهِ القُلوبُ ﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[الرعدِ:28].
فهَنيئًا لمَنْ سَلكَ اللهُ بِهِ هَذا السبيلَ، وشَرحَ صَدرَه لهَذا الطريقِ؛ طَريقِ مَعرفةِ كلامِ اللهِ، وكَلامِ رَسولِه، ومَعرفَةِ آثارِه ـ صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عَلَيهِ ـ فإنَّ ذاك هُوَ الطريقُ الذي يَسعَدُ بِهِ الإنسانُ، ويَنالُ بِهِ الجِنانَ؛ قالَ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ: "مَنْ سَلكَ طَريقًا يَلتمِسُ فيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَريقًا إلى الجَنَّةِ" صحيحُ مُسلمٍ (2699) .
ولهَذا لا تَعجَبْ مِنْ عَظيمِ ما ذَكرَه اللهُ مِنْ فَضائلِ العُلماءِ، ورفيعِ مَنزلَتِهم، وكَبيرِ مَكانَتِهم؛ إنَّهُم لم يَنالوا ذلِكَ لِما يَتزيَّنونَ بهِ مِنْ مَظهَرٍ أو شَكْلٍ، إنَّهُم يَحمِلونَ في صُدورِهم آياتٍ بيِّناتٍ كما قالَ ـ جَلَّ وعَلا ـ: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾[العَنكبوتِ:49]، فجَديرٌ بكُلِّ مُؤمنٍ وبكُلِّ مُؤمنَةٍ وبكلِّ مُسلمٍ ومُسلِمةٍ أنْ يَجتهِدوا في الاستِكثارِ مِنَ المَعرفةِ بكلامِ اللهِ وكَلامِ رَسولِه؛ فأنتَ لا تَزالُ بحاجَةٍ إلى مَعرِفَةِ كلامِ اللهِ وكَلامِ رَسولِه ما دُمْتَ حَيًّا لأنَّكَ بذَلِكَ تُحقِّقُ العُبوديةَ لِلَّهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ بذَلِكَ تَنالُ فَضْلَ وشَرفَ الذِّكرَ لَهُ ـ جَلَّ في عُلاه ـ الذي بِهِ تَطمئِنُّ القُلوبُ وتَسعَدُ، وبِهِ تَعلو المَنازلَ وتَسمُو، ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾[الزمرِ:9]، هَلْ هُنا بمَعنَى لا، وهُوَ استِفهامٌ للنفْيِ؛ ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾[الزُّمَرِ:9] أي: لا يَستويانِ؛ لا يَستَوي العالِمُ والجاهِلُ، فيَنبغي لنا أنْ نَحرِصَ عَلَى مَعرفةِ هَذا البيانِ الإلهيِّ الذي بِهِ تَسعَدُ قَلوبُنا، بِهِ نَعرِفُ حَقَّ رَبِّنا، بِه نُدرِكُ سَعادةَ الدُّنيا وفَوزَ الآخرَةِ.
وقَدْ بَيَّنَ لَنا رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ ذلِكَ بَيانًا واضِحًا، ولهَذا تَجِدُ الصحابَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنهُم ـ يَنقُلونَ هَدْىَ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ نَقْلًا مُفصَّلًا في دَقيقِ الأمرِ وجَليلِه؛ كَيفَ يَنامُ؟ وكيفَ يَستيقظُ؟ وكيفَ يَقضي حاجتَه؟ وكيفَ يُعامِلُ أهلَه وكيفَ يُصلِّي؟ وكيفَ يُزَكِّي؟ وكيفَ يتعامَلُ مَعَ أصحابِهِ؟ وكيفَ يتعامَلُ مَعَ أعدائِه؟، كُلُّ هَذا البيانِ الشامِلِ الواسعِ إنَّما هُوَ لأجلِ أنَّهُ ـ صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عَلَيهِ ـ القَدوَةُ، والأسوةُ التي يَأتَسي بِها أهلُ الإيمانِ ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾[الأحزابِ:21]
فجَديرٌ بِنا أيُّها الإخوةُ أن نَحرِصَ عَلَى مَعرفةِ هَدْيهِ وسُنَّتهِ عسَى أنْ ننالَ مما نالَه ـ صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عَلَيهِ ـ في الدُّنيا مِنَ السعادةِ، وفي الآخرةِ مِنَ الفَوزِ والمَقامِ المَحمودِ؛ فإنَّ ذاكَ بقَدْرِ ما مَعَك هُوَ السببُ، فالسبَبُ الذي نالَ به النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ السعادةَ في الدُّنيا تَحقيقُ العُبوديةِ لِلَّهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ في السرِّ والعَلنِ، في الظاهرِ والباطنِ، في المنشَطِ والمَكرَهِ، في العُسرِ واليُسرِ.
وأمَّا الآخرَةُ فكذَلِكَ هُوَ نالَ ذاكَ المَقامَ المَحمودَ الرفيعَ لأجلِ ما كانَ عَلَيهِ مِنْ طاعةِ رَبِّ العالَمينَ ـ صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عَلَيهِ ـ فقَدْ قالَ «أمَا واللهِ» يُقسِمُ -صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عَلَيهِ- «أما واللهِ إنِّي لَأَتقاكُم لِلَّهِ وأعلَمُكُم بِهِ»صحيحُ البُخاريِّ (20)، وبهذَيْنِ يَتحقَّقُ السُّموُ، بهذَيْنِ يَتحقَّقُ للعَبدِ العُلوُّ، بهذَيْنِ يَتحقَّقُ للعبدِ الفَوزُ في الدُّنيا والآخرةِ؛ التقوَى، والعِلمُ.
العِلمُ هُوَ أصْلُ التَّقوَى، وإنَّما قَدَّمَ التقوَى إشارَةً إلى أنَّ التقوَى هِيَ ثَمرةُ العِلمِ ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾[فاطِرِ:28]
فالعِلمُ هُوَ الذي بِهِ تَسموا المَنازِلُ، وتَعلو المَقاماتُ، وتَرتفِعُ بِهِ الدرجاتُ، لكِنْ مَتَى يَكونُ ذَلِكَ؟ إذا عُمِلَ بِهِ؛ أمَّا إذا لم يُعْمَل بِهِ فإنَّهُ وَبالٌ عَلَى صاحِبِه «القُرآنُ حَجَّةٌ لكَ أو عَلَيكَ»صحيحُ مُسلمٍ (223)، فليكُنْ حُجَّةً لكَ بتَعلُّمِه.
بعْضُ الناسِ يقولُ: لا أتعَلَّمُ القرآنَ حتَّى لا يكونَ حُجَّةً عليَّ، ونَقولُ: الإعراضُ عَنِ القُرآنِ هُوَ أعظَمُ وِزْراً وإثماً مِنْ تَعلُّمِه والتقصيرِ في العَملِ بِهِ؛ لأنَّ الإعراضَ عَنِ القرآنِ هُوَ إعراضٌ عَنْ ذِكرِ اللهِ، قالَ ـ جَلَّ وعَلا ـ: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾[طه:124].
فجَديرٌ بِنا أيُّها الإخوةُ وأيَّتُها الأخواتُ أنْ نَجتهِدَ في طاعَةِ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ أنْ نَجتهِدَ في تَعلُّمِ العلومِ الشرعيةِ مِنَ الكتابِ والسُّنةِ، العلومُ الشرعيةُ ليسَتْ مُعادَلاتٍ رياضيةً تَعجَزُ العُقولُ عَنْ إدراكِها.
اللهُ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ خاطَبَ الناسَ كافَّةً بهَذا القرآنِ، فهُوَ خِطابٌ لَنا جَميعًا؛ فكُلُّ مَنْ وَرَدَ القرآنَ وعِندَه آلاتُ الفَهمِ مِنَ اللسانِ العَربيِّ الفَصيحِ والاستِفادةِ مِنْ بَيانِ النبيِّ ـ صلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ وأصحابِه فيما هُوَ مَنقولٌ عَنهُم، فإنَّهُ سُيدرِكُ مِنْ فَهمِ الدينِ ومَعرِفتِه ما يَسعَدُ بِهِ وما ينالُ بِهِ العِلمَ الشريفَ ويُثمِرُ ذَلِكَ عَملًا صالِحًا زاكيًا.
اللهُمَّ ارزُقْنا عِلمًا نافِعًا وعَملًا صالحًا، واسلُكْ بِنا سَبيلَ الرَّشادِ، اشرَحْ صُدورَنا لمَعرفَتِك، وأعِنَّا عَلَى طاعَتِك، واسلُكْ بِنا سبيلَ الهُدَى يا ذا الجَلالِ والإكرامِ. وصَلَّى اللهُ وسَلَّم عَلَى نَبيِّنا مُحمدٍ.