خطبة الجمعة – {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَة}
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفُسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِل له، ومَن يُضلل فلن تجد له وليًّا مُرشدًا، نسأل الله هُداه، ونعوذ به من الضلالة.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن مُحمدًا عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومَن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، اتقوا الله تعالى حق التقوى؛ فنجاتكم في تقوى ربكم ومولاكم، نجاتكم في لزوم ما أمركم الله تعالى به، وترك ما نهاكم عنه، نجاتكم في قربكم منه جلَّ في عُلاه، نجاتكم في محبته وتعظيمه، نجاتكم في أن يكون العبد على خشيةٍ من الله - عز وجل - في السر والعلن؛ فإن تخلَّف ذلك في شيءٍ من حاله، ففاتته التقوى في قولٍ أو عملٍ أو حالٍ أو ظاهرٍ أو باطن، فلا بد أن يدخل عليه من النقص بقدر ما يكون معه من نقص التقوى، اللهم اجعلنا من عبادك المتقين، ومن حزبك المفلحين، وأوليائك الصالحين.
كل الناس على اختلاف أديانهم وعلى اختلاف بُلدانهم وعلى اختلاف أزمانهم جميعهم ينشدون حياةً طيبةً، يسعون لإدراك حياةٍ سعيدةٍ هنيئة، تختلف طُرقهم وتتنوع سُبلهم في إدراك ذلك، لكنهم يتفقون على هذه الغاية وذلك الهدف، وإن تباينت بهم الطُرق واختلفت بهم السُبل، إلا أن الموفق في إدراك الحياة الطيبة ذاك الذي أخذها من كتاب ربه، ذاك الذي اتبع فيها وصية الله - عز وجل - في السر والعلن، يقول الله - جلَّ في عُلاه -: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾النساء:131، فالتقوى بها تُدرك الحياة السعيدة، بها تُدرك الحياة الطيبة، بها تُدرك خيرات الدُنيا وينجو العبد من مهالكها ومضايقها، ويفوز في الآخرة وينجو من أهوالها وعذابها، لا يعني ذلك ألا يُدركه شيءٌ مما يكره في دُنياه، فالدُنيا مجبولةٌ على قدرٍ وكدر، قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾البلد:4، ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾البقرة:155.
فالدُنيا لا تخلو من مكروه للبر والفاجر، والمؤمن والكافر، والتقي والعاصي؛ جميعهم تجري عليهم الأقدار مما لا يُحبون ولا يُسرون به، لكنهم يردون موردًا واحدًا في نزول تلك الأقدار عليهم، ويتفاوتون تفاوتًا كبيرًا في الصدور عنه، فمنهم مَن يخرج من البلاء والأزمة والضغط والمكروه سعيدًا مأجورًا، صابرًا مُحتسبًا، ومنهم مَن يخرج وقد آلمه ما نزل به، وتحمَّل على تلك المصيبة مصائب من أوزار الجزع وعدم الرضا والصبر على أقدار الله - عزَّ وجل -.
أيها المؤمنون؛ الحياة الطيبة عُنوانُها تقوى الله - جل وعلا -، طريق تحصيلها بيَّنه ربُنا جلَّ في عُلاه، ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾النحل:97، لا يقتصر ذاك على سنواتٍ يقضيها الإنسان في هذه الدُنيا، بل يمتد ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾النحل:97.
إن الحياة الطيبة إذا أدركها الإنسان في الدُنيا امتدت إلى قبره، وصاحبَتْه في عرضه ونشوره، وكان مقره في الخاتمة ونهاية السير إلى جنَّةٍ عرضُها السماوات والأرض.
الحياة الطيبة ليست طيب مأكل، ولا حُسن ملبس، ولا هنيء مسكن، كل تلك الصور قد يُدرك بها الإنسان شيئًا من نعيم الدُنيا، لكن ذلك كله يتلاشى أمام ما في القلب من محبة الله وتعظيمه، أمام ما في القلب من السكن بطاعة الله والطمأنينة بذكره، كل تلك النِّعَم تنفذ وتزول؛ ولذلك ربكم قال في مُحكم كتابه قبل أن يذكر كيف تُحصِّلوا الحياة الطيبة، اقرأ قوله قبل ذلك، يقول جلَّ في عُلاه: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾النحل:96، كل النِّعَم، والمُتع، والملذات، الحسيَّة والماديَّة، والمعنوية والنفسية، جميعُها تتلاشى وتنقضي، ولا يبقى إلا نعيمٌ واحد؛ إنه نعيم عبادة الله، إنه حلاوة الإيمان، إنه طعم الإيمان الذي مَن وجده وجد السعادة بأكملها، ومَن فقده لم يُغنه شيءٌ من مُتع الدُنيا عنها.
حقيقةٌ لا بُد أن نُدركها، ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ﴾النحل:96، كل أموالك، كل مُتعك، كل ملذاتك تنتهي وتنقضي، حتى في دُنياك قبل أن تذهب؛ إما أن تذهب عنها أو تذهب عنك، أرأيتم ذاك الذي عنده من المال والجاه والسكن والولد، والنساء، وو.... ومن مُتع الدُنيا ما عنده، ينتهي حاله إلى واحدٍ من رجلين؛ إما أن يموت فيرحل عنها، وإما أن ترحل عنه بعدم قدرته على الاستمتاع بها، فإن القوى تضعف، والقدرات تزول، ولا يبقى مع الإنسان إلا ما كان قد أعدَّه ليوم العرض والنشور من صالح العمل، ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾البقرة:197.
﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ﴾النحل:96؛ فالحياة الطيبة لا تتعلق برسوم ولا بأشكال، ولا بصور ومظاهر، الحياة الطيبة نفسٌ راضيةٌ بالله، قلبٌ مُطمئن بذكره، روحٌ مُحِبةٌ له، مُعظمةٌ لله - عزَّ وجل -، مُقبلةٌ عليه، تتذوق طعم الإيمان به، «ذاق طعم الإيمان مَن رضيَّ بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمُحمدٍ نبيًّا»، اللهم أذقنا لذَّة مُناجاتك، واملأ قلوبنا بحلاوة الإيمان يا ذا الجلال والإكرام، واسلُك بنا سبيل أهل الرُشد والطاعة، بلِّغنا الحياة الطيبة التي ترضى بها عنَّا، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
***
الحمد لله حمد الشاكرين، أحمده حق حمده، له الحمد أوله وآخره، ظاهره وباطنه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن مُحمدًا عبد الله ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومَن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، اتقوا الله في السر والعلن، في مُعاملتكم للخلق في القريب والبعيد، في أداء الحقوق، في القيام بحق الله جل في عُلاه، في كل شأنٍ دقيقٍ أو جليل، فالتقوى لا تتخلف عن قلوب المتقين لا في سرٍّ ولا في إعلان، لا في حق الله، ولا في حق الخلق، بل هي حاضرة في كل ذلك كله، اللهم اجعلنا من عبادك المتقين وحزبك المفلحين، وأوليائك الصالحين يا رب العالمين.
أيها المؤمنون ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾النحل:96، ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾، ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾، والذي عنده هو ما أعدَّه لعباده المتقين، وأوليائه الصالحين فاستكثروا من الأعمال الصالحة؛ فإن الحياة الطيبة شرطُها صلاح باطنٍ واستقامة ظاهر، يقول الله - جل وعلا -: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾النحل:97، فلابد من الإيمان وهو طيب القلب وصلاحه، ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾النحل:97.
كيف نعرف الإيمان؟ وكيف نُدرك العمل الصالح؟ إنه من آيات الكتاب الحكيم، ولذلك جاء قوله - جل وعلا -: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾النحل:98 بعد ذكر الحياة الطيبة.
إن أعظم ما يحول بينك وبين الحياة الطيبة هو كيد الشيطان، ذاك العدو الذي يقف لك في كل طريق، يصُدُّك عن كل بر، ويدعوك إلى كل شر، يُنشطُك إلى كُل رذيلة، ويقعُد بك عن كل فضيلة، يأمُرك بالمنكر وينهاك عن المعروف، فاحذره، والحذر منه يكون باللجأ إلى الله، الحذر منه يكون بالاعتصام بالله والاحتماء به، قال - جل وعلا -: ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾النحل: 98، أي: احتمِ بهن واعتصم به، والتجئ إليه من هذا العدو الذي لا ينفك ليلًا ونهارًا، يقظةً ونومًا، حتى وأنت نائم، يعقد على رأسك ثلاث عُقد، ويحول بينك وبين الطاعة والإحسان، يبيت على خيشومك كما جاء في الحديث النبوي الشريف، فهو يتسلط عليك في كل أحوالك، فكُن مُعتصمًا بالله مُلتجئًا إليه مُتحصنًا بذكره، ليس فقط بلسانك بل بقلبك ولسانك وجوارحك، عندها تأمن كيد الشيطان.
اللهم اسلُك بنا سبيل الرشاد، وأعنَّا على الطاعة والإحسان، واصرف عنَّا المعصية يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنَّا نسألك من فضلك يقينًا صادقًا، وإيمانًا صالحًا، وعملًا ترضى به عنَّا في السر والعلن يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ألهمنا رُشدنا وقنا شر أنفسنا، خذ بنواصينا إلى ما تُحب وترضى، واصرف عنَّا السوء والفحشاء، اعنَّا على طاعتك، واصرف عنَّا معصيتك، واجعلنا من حزبك وأوليائك.
اللهم إنَّا نسألك من فضلك أن تنصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم بنصرك يا عزيز يا حكيم، اللهم سدِّد رميهم، واكفهم شر أعدائهم؛ إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم وانصر مَن نصر الدين، واخذُل مَن خذل عبادك المؤمنين، اللهم عليك بأعدائك الظاهرين والمستترين، اللهم اكفِ المسلمين شرَّهم، رد كيدهم في نحورهم، اللهم مَن أراد هذه البلاد وبلاد المسلمين بسوءٍ أو شر فأشغله بنفسه، واكفِ المؤمنين شره، واعسُر سعيه، وأوقِع به. اللهم عليك بمن سعى في بلادنا بفسادٍ علميٍّ أو عمليٍّ أو فكريٍّ إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم إنَّا نسألك أن تجمع كلمتنا على الحق والهُدى، أن تؤلف بين قلوبنا، أن تُصلِح ذات بيننا.
اللهم وفِّق ولي أمرنا إلى ما تُحب وترضى، اللهم وفِّق سلمان بن عبد العزيز إلى ما تُحب وترضى، خذ بناصيته إلى البر والتقوى، اللهم سدِّده في قوله وعمله، واجعل له من لدنك سلطانًا نصيرًا، اللهم أعز به دينك، وأظهر به سنتك، وأعلِ به كتابك، وادفع به عن أهل الإيمان والإسلام في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم إنَّا نسألك أن توفِّق ولاة أمور المسلمين في كل مكان.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقِنا عذاب النار.
اللهم صلِّ على مُحمد وعلى آل مُحمد؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميدٌ مجيد.