مسائل مهمة تتعلق بهذه المباحث:
المسألة الأولى: اعلم أن كثيراً من العلماء من المالكية والشافعية وغيرهم يفرقون بين ما ذبحه أهل الكتاب لصنم وبين ما ذبحوه لعيسى أو جبريل أو لكنائسهم قائلين أن الأول مما أهل به لغير الله دون الثاني فمكروه عندهم كراهة تنزيه مستدلين بقوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}. والذي يظهر لمقيده عفا الله عنه أن هذا الفرق باطل بشهادة القرآن الكريم لأن الذبح على وجه القربة عبادة بالإجماع فقد قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ} الآية فمن صرف شيئاً من ذلك لغير الله فقد جعله شريكاً مع الله في هذه العبادة التي هي الذبح سواء كان نبياً أو ملكاً أو بناءً أو شجراً أو حجرً أو غير ذلك لا فرق في ذلك بين صالح وطالح كما نص عليه تعالى بقوله: {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً} ثم بين أن فاعل ذلك كافر بقوله تعالى: {أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون}. وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية. فإن قيل قد رخص في كل ما ذبحوه لكنائسهم أبو الدرداء وأبو أمامة الباهلي والعرباض بن سارية والقاسم بن مخيمرة وحمزة ابن حبيب وأبو سلمة الخولاني وعمر بن الأسود ومكحول والليث بن سعد وغيرهم، فالجواب: أن هذا قول جماعة من العلماء من الصحابة ومن بعدهم وقد خالفهم فيه غيرهم وممن خالفهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها والإمام الشافعي رحمه الله والله تعالى يقول:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} الآية فنرد هذا النزاع إلى الله فنجده حرم ما أهل به لغير الله وقوله: { لِغَيْرِ اللَّهِ} يدخل فيه الملك والنبي كما يدخل فيه الصنم والنصب والشيطان وقد وافقونا في منع ما ذبحوه باسم الصنم وقد دل الدليل على أنه لا فرق في ذلك بين النبي والملك وبين الصنم والنصب فلزمهم القول بالمنع وأما استدلالهم بقوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} فلا دليل فيه لأن قوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} ليس بمخصص لقوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} لأنه ذكر فيه بعض ما دل عليه عموم {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}.
وقد تقرر في علم الأصول أن ذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصص على الصحيح وهو مذهب الجمهور خلافاً لأبي ثور محتجاً بأنه لا فائدة لذكره إلا التخصيص وأجيب من قبل الجمهور بأن مفهوم اللقب ليس بحجة وفائدة ذكر البعض نفي احتمال إخراجه من العام، فإذا حققت ذلك فاعلم أن ذكر البعض لا يخصص العام سواء ذكرا في نص واحد كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} أو ذكر كل واحد منهما على حدة كحديث الترمذي وغيره "أيّما إهاب دبغ فقد طهر" مع حديث مسلم أنه صلى الله عليه وسلم مر بشاة ميتة فقال: "هلا أخذتم إهابها " الحديث فذكر الصلاة الوسطى في الأول لا يدل على عدم المحافظة على غيرها من الصلوات وذكر إهاب الشاة في الأخير لا يدل على عدم الانتفاع بإهاب غير الشاة لأن ذكر البعض لا يخصص العام وكذلك رجوع ضمير البعض لا يخصص أيضاً على الصحيح كقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} فإن الضمير راجع إلى قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} وهو لخصوص الرجعيات من المطلقات مع أن تربص ثلاثة قروء عام للمطلقات من رجعيات وبوائن وإلا هذا أشار في مراقي السعود مبيناً معه أيضاً أن سبب الواقعة لا يخصصها وأن مذهب الراوي ر يخصص مرويه على الصحيح فيها أيضاً بقوله:
ودع ضمير البعض والأسبابا
وذكر ما وافه من مفرد
.............ومذهب الراوي على المعتمد
وروي عن الشافعي وأكثر الحنفية التخصيص بضمير البعض وعليه فتربص البوائن ثلاثة قروء مأخوذ من دليل آخر أما عدم التخصيص بذكر البعض فلم يخالف فيه إلا أبو ثور وتقدم رد مذهبه ولو سلمنا أن الآية معارضة بقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} فإنا نجد النبي صلى الله عليه وسلم أمر بترك مثل هذا الذي تعارضت فيه النصوص بقوله: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك".
المسألة الثانية: اختلف العلماء في ذكاة نصارى العرب كبني تغلب وتنوخ وبهراء وجذام ولخم وعاملة ونحوهم فالجمهور عل أن ذبائحهم لا تؤكل قال ابن كثير: "وهو مذهب الشافعي" ونقله النووي في شرح المذهب عن على وعطاء وسعيد ابن جبير ونقل النووي أيضاً إباحة ذكاتهم عن ابن عباس والنخعي والشعبي وعطاء الخرساني والزهري والحكم وحماد وأبي حنيفة وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وصحح هذا القول ابن قدامة في المغنى محتجاً بعموم قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} وحجة القول الأول ما روي عن عمر رضي الله عنه قال: "ما نصارى العرب بأهل كتاب لا تحل لنا ذبائحهم" وما روي عن علي رضي الله عنه: "لا تحل ذبائح نصارى بنى تغلب لأنهم دخلوا في النصرانية بعد التبديل ولا يعلم هل دخلوا في دين من بدل منهم أو في دين من لم يبدل فصاروا كالمجوس لما أشكل أمرهم في الكتاب لم تؤكل ذبائحهم" ذكر هذا صاحب المهذب وسكت عليه النووي في الشرح قائلاً: "إنه حجة الشافعية في منع ذبائحهم" ويفهم منه عدم إباحة أكل ذكاة اليهود والنصارى اليوم لتبديلهم لا سيما فيمن عرفوا منهم بأكل الميتة كالنصارى.