ربنَّا لا تجعلنا فتنةً للذين كفَروا
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ.
أيها المؤمنون.
إن اللهَ تعالى قصَّ في كتابه شيئاً مما كان يدْعو به إبراهيمُ عليه السلام، فقال جلَّ وعلا في دعاءِ إبراهيمَ :﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا) سورة الممتحنة: 5.
وقريبٌ منه ما دعا به موسى عليه السلام؛ حيث قال:﴿رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) سورة يونس: 85.
هكذا تواردت أدعيةُ اثنين من أولي العزمِ من الرُّسُلِ- صلوات الله وسلامه عليهم- على سؤالِ اللهِ تعالى ألا يجعلَهم ولا المؤمنين معهم فتنةً للكافرين والظالمين.
فهذا الجؤارُ النبويُّ والدعاءُ القرآني يُنبئُ عن عظيمِ ما في قلوبِ أهلِ الإيمانِ ، من العنايةِ بمصالحِ دينِ أعدائِهم ، الذين ظلموهم واعتدَوْا عليهم ، فهؤلاء الأنبياءُ تضرَّعوا إلي اللهِ تعالى هاتِفين بربوبيَّتِه ألا يكونَ في حالِهم ما يفتتنُ به أهلُ الكفرِ والظلمِ عن الدِّين القويمِ، فيتزيَّن في أعينِهم ما هم فيه من كفرٍ وظلمٍ ، فيكونوا سبباً في الصدِّ عن سبيلِ الله ، ومنعِ الناسِ من الدخولِ في دينِه.
أيها المؤمنون.
إن الناظرَ إلى ما آلتْ إليه حالُ كثيرٍ من المسلمين اليومَ ، يرى أن واقعَهم ـ أُمماً وأفرادا ًـ يشكِّل حجاباً كثيفاً يطْمِسُ نورَ الإسلامِ ، ويصدُّ عن سبيلِه ، فهذا الواقعُ المريرُ يمثِّل سدًّا حائلاً منفِّراً عن التعرُّفِ على الإسلامِ ، والاطلاعِ على ما فيه من الهدى والنورِ، فضلاً عن الانضمامِ إلى ركبِ أهلِ الإيمانِ ، واعتناقِ الإسلام.
ومن نافلةِ البيانِ أن هذا الواقعَ يتضمنُ سوأتين:
السوأةُ الأولى: تقصيرُنا في امتثالِ ما أمرنا اللهُ تعالى به من التقوى والإحسانِ.
السوأةُ الثانية: حجبْنا أنوارَ هذا الدِّينِ ، وما فيه من الهدى والصراطِ المستقيم ، عن خلقِ اللهِ تعالى، المتعطِّشين إلى أنوارِه ، المتلهِّفين إلى هدايتِه ، شَعَرْنا بذلك أو لم نشعُر، فصدقَ في كثيرٍ منَّا قولُ الأولِ:
قومٌ إذا خرَجُوا من سوأةٍ ولَجُوا ... في سَـوْأةٍ لم يـَجـْنوها بأستـارِ ديوان الحماسة 2/239
إن المسلمَ الصادقَ يجتهدُ في أن يَسلَمَ من الصدِّ عن سبيلِ اللهِ في قولٍ أو عملٍ أو حالٍ.
أيها المؤمنون! إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في صحابيٍّ كان يطيلُ الصلاةَ بأصحابه:«إن منكم منفِّرِين» أخرجه البخاري (702) ومسلم (466) عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، بل اشتدَّ غضبُه صلى الله عليه وسلم من ذلك حتى قال أبو مسعود البدري راوي الحديث رضي الله عنه : فما رأيتُ رسول الله قطْ أشدَّ غضباً في موعظةٍ منه يومئذٍ، ثم قال: «يا أيها الناس إن منكم منفرين».
وفي قصةٍ مشابهةٍ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه لما أخبر بإطالته الصلاة: «يا معاذُ، أفتانٌ أنت ؟!» أخرجه البخاري (705) ومسلم (465) عن جابر رضي الله عنه ،أي: أمنفِّر عن الدِّينِ صادٌّ عنه ؟! هذا قوله صلى الله عليه وسلم، وفعله وتغليظه على من نفَّر عن دينِ اللهِ في قضيةٍ جزئيةٍ وواقعةٍ فرديةٍ، وهي إطالةُ الصلاةِ على المأمومين، فليتَ شعري ما تراه صلى الله عليه وسلم قائلاً في أقوامٍ لهم أفعالٌ كثيرةٌ، وأعمالٌ عديدةٌ، ومناهجُ وطيدةٌ يدورُ فلكُها، ويقومُ أودُها على التنفيرِ عن سبيلِ اللهِ، والصدِّ لعبادِ الله؟! وهم مع ذلك يردِّدون: "إن أريدُ إلا الإصلاح ما استطعت" !! صدق اللهُ: ﴿أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) سورة البقرة: 12.
أيها المؤمنون.
إن من مقتضياتِ الإيمان أن ينأى المؤمنُ بنفسِه عن الدخولِ في زمرة المنفرين عن دين الله تعالى، وأن يحرص غايةَ الحرص في ترغيبِ الخلقِ وتقريب كل أحد إلى الهدى، وأن يذْكُرَ قول الله تعالى لصفوةِ الرسل:﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ) سورة آل عمران: 159.
إنَّ الرحمةَ هي العنوانُ الأكبرُ لرِسالةِ خاتمِ النبيين وإمامِ المرسلِين صلى الله عليه وسلم، قال اللهُ تعالى:﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) سورة الأنبياء: 107.
وقد جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ اللهِ، ادعُ على المشرِكِين، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنَّني لم أُبْعَثْ لعَّاناً، وإنما بُعثتُ رحمةً» أخرجه مسلم (2599) عن أبي هريرة رضي الله عنه .
فالسِّمةُ البارزةُ في هذا الدِّينِ أنه دينُ رحمةٍ، يتفيَّأُ ظلالُها، ويجني ثمارَها جميعُ الناس، مؤمنُهم وكافرُهم، من وفَّقه اللهُ تعالى ومنَّ عليه بالدخولِ فيه، وكذا من أعرض عنه ولم يقبله، فلن يعدم منه رحمةً وبراً.
أيها المؤمنون.
إن انحرافَ فئامِ من المسلمين عن وحيِ القرآنِ ، وهدي السنةِ ، في الأقوالِ أو الأعمالِ ، يُصدِّق ويعززُ ما يمارسه أعداءُ الإسلامِ في الشرقِ أو الغربِ ، من تشويهٍ لحقائقِه، وصدٍّ للناسِ عنه، فإن لومَ الأعداءِ قد يكونُ عجزاً ، فليس مجدياً أن نلومَ أعداءنا فيما ينسبُونه إلى الإسلامِ من الأوْهامِ والتشويهاتِ، لكن أن نباشرَ التشويهَ بأنفسِنا وأيدِينا !! هذا ما لا يمكنُ أن يقبلَه مسلمٌ تحتَ أيِّ مبَرِّرٍ، وفي ظلِّ أيِّ مسوِّغٍ ، فحقٌّ على الأُمَّةِ جمعَاءَ أن تأخذَ على يدِ كلِّ من يشوِّه الإسلامَ، في قَولِه أو عمَلِه ؛ لئلا نكونَ فتنةً للقومِ الظالمين.
إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان في غايةِ الانتباهِ لهذا المعنى، فترَكَ صلى الله عليه وسلم قتل من يستحقُّ القتلَ؛ دفعاً لمقالةِ السُّوءِ عنه وعن شريعتِه، ودرءاً لاعتداءاتِ المشوهين الصادِّين عن سبيلِ اللهِ، ففي "الصحيحين" أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لعمرَ بن الخطاب رضي الله عنه حين استأذنه في قتلِ منافقٍ من المنافقين ظهرَ أذاه ونفاقُه: « دعْهُ؛ لا يتحدثُ الناسُ أن محمدا يقتلُ أصحابَه » صحيح البخاري" (4905)، ومسلم (2584) عن جابر رضي الله عنه ، وصدقَ القائلُ:
ومن دعا الناسَ إلى ذمِّه ذمُّوه بالحقِّ وبالباطلِ الأغاني 14/166
أيها المؤمنون.
إن تورطَ فئامٍ من الناس في الاستخفافِ بالدماء والاستهانةِ بشأنها ، من أعظمِ أنواعِ الفساد في الأرضِ، وهو من أعظمِ ما يحصلُ به الصدُّ عن سبيلِ الله، ويستندُ إليه المتربصون في تشويهِ الإسلامِ، وإلصاقِ أبشعِ الأوصافِ به ، كقولِ من يصفُ الإسلامَ : بأنه دينٌ دمويٌّ، يحرِّض على الكراهيةِ والانتقام، وقتلِ الناس على الهويةِ، وغير ذلك من الزورِ والبهتانِ والهذيانِ، الذي لا يقرُّه الإسلامُ؛ فإن دينَ الإسلامِ دينُ الرحمةِ والعدلِ، لا يخطئ هذه النتجةَ من عرفَ شيئاً من تعاليمِه ، أو طالعَ نُبَذاً من أحكامِه ونظامِه.
إن نظرةً عجلى في نصوصِ الكتاب والسنةِ تبينُ عظيمَ حرمةِ الأنفسِ ، وخطورةِ الدماءِ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « لنْ يزالَ المرءُ في فُسْحةٍ من دينِه ما لم يُصِبْ دَماً حرَاماً» أخرجه البخاري (6862) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
؛يعني :في سعةٍ، وطُمأنينةٍ، وسلامةٍ.
إننا أيها المسلمون نُنكِرُ هذا الاستخفافَ بالدِّماءِ الذي تورَّطَ فيه أهلُ الطَّيْشِ والسَّفهِ، مهما جهدوا في تبريره ، أو تكلفوا في تسوِيغِه ، أو بحثُوا عن حُجَجِه.
إن الأصلَ المكِينَ تحريمُ قتلِ النفسِ التي حرَّمَ اللهُ إلا ببيِّنةٍ كالشمسِ ، وحجةٍ كالفلقِ، إن إزهاقَ الأرواحِ لا يكون إلا وفقَ ضوابطَ محددةٍ ، وقواعدَ بينةٍ ، وسننٍ جليةٍ ، فلا يجوزُ لأحد أن يتهوكَ في دمٍ حرامٍ ، أو نفسٍ معصومةٍ مصونةٍ ، سواء كان مسلماً أو كافرا إلا ببينةٍ وبرهانٍ.
الخطبة الثانية :
أما بعد .
فإن من أعظمِ ما ترزَقُه الأُممُ والمجتمعاتُ الأمنَ على الأنفسِ والأعراضِ والأموالِ.
إن المحافظةَ على الأمنِ يا عبادَ اللهِ، ضرورةٌ شرعيةٌ ودنيويةٌ ، لا بدَّ من السَّعيِ في تحقيقِها ، فلا يمكنُ أن تصلحَ دنيا الناسِ، ولا أن يستقيمَ دينُهم إلا به.
أيها المؤمنون..
إن المحافظةَ على الأمنِ واجبُ الجميعِ، ولذلك يجبُ أن نتكاتفَ جميعاً لمنْعِ كلِّ ما يخِلُّ بأمنِنا ، مهما كانت صورةُ الخللِ أو نوعُه ، فكلُّ خللٍ يهدِّدُ الأمنَ، سواء كان ذلك من تصرفاتِ الطائِشين المنحرِفِين ، من أصحابِ الأفكار الضالةِ والأهواءِ الزائغةِ، أو كان ذلك من جناياتِ المجرِمين ، وأعمالِ المعتدِين ، من السُّرَّاقِ وقُطَّاعِ الطُّرُقِ وغيرِهم.
أيها المؤمنون.
إن محاصرةَ المخلِّين بأمنِنا والمتلاعبِين به ، من آكَدِ الواجباتِ المشتركةِ ، التي يجبُ أن يتكاتَفَ الجميعُ في تحقيقِها، فكلُّنا عينٌ حارسةٌ، تَصونُ أمنَ بلادِ الإسلامِ، وتذودُ عن حِياضِه، نرجو بذلك فوزَ الدنيا ، وثوابَ الآخرةِ، قالَ اللهُ تعالى:﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) سورة التوبة: 71 .
وإن من آكدِ مقتضياتِ ولايةِ المؤمنين بعضِهم لبعضٍ سعيَهم في جلبِ كلِّ خير لبعضهم ، وردِّ كلِّ سوءٍ ، وإن الخيرَ لا يمكن أن يتحققَ ، والسوءَ لا يمكنُ أن يندفعَ في أمنٍ مفقودٍ ، أو منقوصٍ.
﴿رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) سورة الممتحنة: 5