بسم الله الرحمن الرحيم
المجاهرة بالمعصية
أبرز المحاور:
أولًا: مفهوم المجاهرة بالمعصية.
ثانيًا: ما جاء في النهي عن المجاهرة بالمعصية.
ثالثًا: سر التشديد في النهي عن المجاهرة بالمعصية.
رابعًا: من صور المجاهرة بالمعصية.
خامسًا: المجاهرة بالمعصية والواقع المرير.
سادسًا: المجاهرة بالمعصية وسوء الخاتمة!!
أولًا: مفهوم المجاهرة بالمعصية:
أ- مفهوم المجاهرة:
عندما نقول المجاهرة؛ فالمجاهرة معناها هو إبداء المخفي، وإظهار المستتر. فالمجاهرة بالشيء: هي إبداؤه وإظهاره، وعدم الاختفاء به.
والمجاهرة لها صور عديدة هي في الجملة ترجع إلى معنيين:
المعنى الأول:هو أن يفعل الإنسان الشيء أمام الناس من غير اختفاء ولا استتار، فيأتي ما يأتي من العمل على مرأى من الناس أو على مسمع منهم، وعلى حضور وشهود ممن حوله.
هذه صورة من صور المجاهرة، وهي أعلى ما يكون من صور المجاهرة التي يُظهر فيها الإنسان عمله.
المعنى الثاني:إخبار الإنسان بما يكون من عمله الخفيِّ؛ بمعنى أن يعمل شيئًا في الخفاء، يعمل شيئًا في حال الستر، ثم يأتي يخبر به، سواء كان هذا العمل صالحًا، أم كان العمل فاسدًا.
ونحن نتكلم الآن عن أصل المجاهرة؛ ما هي؟
المجاهرة إما أن يعمل الشيء حسنًا أو قبيحًا أمام الناس.
والصورة الثانية من صور المجاهرة أن يعمل الشيء في الخفاء – حسنًا أو قبيحًا – ثم يأتي ويخبر به الناس.
ب- مفهوم المعصية:
المعصية هي ترك ما أمر الله به ورسوله، والمعصية مفهوم واسع؛ لا يقتصر على ذنب بعينه أو على مخالفة بعينها، إنما المعاصي في كل صورها ترجع إلى واحد من أمرين:
الأمر الأول:ترك الواجبات؛ فالذي يترك الصلوات قد وقع في معصية، الذي يترك الزكاة وقع في معصية، الذي يترك الصوم الواجب وقع في معصية، الذي يترك الحج مع القدرة عليه وعدم إبراء ذمته بفعل ما افترض الله عليه من الحج – فإنه وقع في معصية؛ هذا فيما يتعلق بأصول وأركان الإسلام.
الأمر الثاني:فعل ما لا يجوز؛ فالذي يكذب يكون قد وقع في معصية؛ لأنه فعل ما لا يجوز.
إذن المعصية؛ إما أن تكون تركًا لما يجب أو فعلًا لما لا يجوز؛ مثَّلنا للصورة الأولى بترك الأركان، وأيضًا مثلًا ترك بر الوالدين، ترك صلة الأرحام... ترك ما إلى ذلك من الأعمال الصالحة التي فرضها الله تعالى؛ كلها تندرج تحت هذا المعنى.
أما الصورة الثانية من المعصية؛ فهي فعل ما حرم الله تعالى من انتهاك المحرمات؛ سواء كان ذلك في غيبة، أو في نميمة، أو فيما يتعلق بالأموال بأخذ المال بغير الحق، أو فيما يتعلق بالأعراض؛ بالزنا وما أشبهه؛ كل هذا من المعاصي.
الخلاصة:
إذن المجاهرة بالمعصية هي فعل المحرم أمام الناس وتحت نظرهم، أو الإخبار بفعل المحرم.
فالمجاهرة بالمعصية واحد من أمرين؛ إما أن تفعل المحرَّم أمام الناس وعلى مرأى منهم، وإما أن تفعله في الستر والخفاء، ثم تأتي وتخبر بما فعلت من المعاصي، وتكشف ستر الله عليك؛ هذه هي المجاهرة بالمعصية في أصولها وفي معناها العام.
ثانيًا: ما جاء في النهي عن المجاهرة بالمعصية:
النصوص واضحة جليَّة في التحذير من إظهار السوء وإظهار الفساد، وأن ذلك مما يجري الله تعالى فيه عقوبات عامة وخاصة؛ عقوبات خاصة على المُجاهر نفسِه، وعقوبات عامة عندما ينتشر هذا ويظهر في الأمة ولا يكون هناك تداعٍ لكَفِّ هذا الشر بالائتمار بالمعروف والانتهاء عن المنكر، والله تعالى قد ذكر في كتابه لَعْن بني إسرائيل، وعلَّل هذا اللعن بأنهم {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79]، وهذا يبين أن سيِّئَةَ المجاهرة وخطورتها لا تقتصر على المباشر الفاعل لها، بل هي واسعة تشمل المباشر للمجاهرة، وتطال الأمة والمجتمع إذا رأى المنكر وتركه، إذا رأى المجاهرة ولم يبادر إلى معالجتها وإلى فعل ما أمر الله تعالى به تجاه هذه المعاصي؛ {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَم} [المائدة: 78] هذان نَبِيِّان كريمان لُعن بنو إسرائيل على لسانهما؛ داود من أكبر وأشرف أنبياء بني إسرائيل، وعيسى من أُولي العزم من الرسل.
ثم بيَّن الله تعالى سبب اللعن؛ {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [المائدة: 78 - 79] فجمعوا المعصية ومخالفةَ أمر الله -عز وجل- والاعتداء على الخلق.
ثم ذكر ما يتعلق بالمجموع؛ فالمعصية قد تكون من شخص، والاعتداء قد يكون من شخص، لكن عندما يشيع في المجتمع وينتشر، ولا يتناهى أهله عما نهى الله تعالى عنه من المعاصي والسيئات؛ يقول الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [المائدة: 78 - 79] وهذا فيه التحذير الشديد والتنفيرُ من هذا العمل وخطورة المجاهرة بالمعاصي وإظهار الذنوب وعدم التوقِّي منها، والله تعالى قد قرَّر في كتابه معنًى مهمًّا في هذا الأمر؛ فقال -جل في علاه-: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 148]، وهذا يبين أنه من الكبائر؛ لأن نفيَ المحبة دليل على أن ذلك مما يوجِب العقوبة في الدنيا وفي الآخرة.
ومما يدل على خطورة المجاهرة سواء كانت من فرد أو كانت من مجموعة ما جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «كلُّ أُمَّتي مُعافى» والأمة هنا هي أُمة الإجابة؛ يعني كل أمتي يُدرِك عفوَ الله -عز وجل-، ويناله معافاة الله -عز وجل-، والمعافاة هنا تشمل حمايةَ العبد في دينه ودنياه، تشمل تجاوز الله تعالى عن قصوره وتقصيره في شأنه الخاص وفي شأنه العام؛ «كل أمتي مُعافى» ثم استثنى صلوات الله وسلامه عليه؛ فقال: «إلا المُجاهِرين»، ثم بيَّن صورة من صور المجاهرة، وهي لم تَرِد في زمنه صلوات الله وسلامه عليه، قال: «وإِنَّ من المجاهرة أن يَعمَلَ الرجلُ بالليل عَملًا ثم يُصبِح وقد سَتَره الله عليه، فيقول: يا فُلان عَمِلتُ البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربُّه، ويصبح يكشِف سِترَ الله عليه»[ أخرجه البخاري (6069)، ومسلم (2990).] ، بات يستره ربه ويخفي سوأَتَه وعيبَه ومعصيته عن الناس، لكنه لم يرض بستر الله -عز وجل-، بل يصبح يكشف ستر الله عنه بالإخبار عن نفسه بما جرى من سيئ عمله، وهذا لا يلزم أن يكون بالصورة التي ذكر؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – ذكر صورة من صور المجاهرة؛ وهي أن يفعل المعصية بالليل، ثم يأتي يخبر بها في النهار.
ومن ذلك أيضًا ما يفعله كثير من الناس عندما يسرف على نفسه في معصية في زمن من أزمان عمره، ويأتي يذكرها على وجه الإخبار بسيئ العمل؛ سواء كان ذلك في سَفَر؛ فبعض الأحيان الإنسان يسافر، ثم إذا جاء إلى مجموعته أو إلى أصحابه أو إلى رِبْعِه أو إلى استراحته أو إلى مجلس من مجالسه أو إلى خاصَّته ممن يفضي إليه؛ يقول: أنا رُحت... وفعلت... ودخلت البار الفلاني... وكان عندي معشوقة... وكذا... ويتكلم بأنواع من المعصية!! يا أخي سَتَرك الله على الأقل عن هذا الذي تُخبر به، ثم تأتي تكشف ستر الله تعالى عليك؟! هذا من المجاهرة التي تدخل في قول النبي – صلى الله عليه وسلم –: «كُلُّ أمتي مُعافَى إلا المجاهرين».
ثالثًا: سرُّ التشديد في النهي عن المجاهرة بالمعصية:
هنا سؤال يمكن أن يَرِد:
لماذا كانت المجاهرة بالمعاصي على هذا النحو الذي قال فيه النبي – صلى الله عليه وسلم –: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين»[تقدم]؟
فهو سؤال يتبادر إلى الذهن: ما الذي بوَّأ المجاهرة – وهي معصية من كبائر الذنوب – أن تبلغ هذا المبلغ؟
المجاهرة بفعل المعصية إذا كانت صغيرةً هي في حدِّ ذاتها مخالفة، لكن تنتقل إلى أن تكون كبيرة عندما يُجاهَر بها.
والسبب في أن المجاهرة تبوَّأت هذه المنزلة من التحذير والتنفير النبوي وبيان الخطورة أن الجهر بالمعصية يكشف عن ضعف تعظيم الله -عز وجل- في قلب العبد، وغياب التعظيم هو من أعظم مفاسد الحياة، من أعظم أسباب الانحراف، من أعظم أسباب غياب معنى العبودية في مسلك الإنسان، الله – عز وجل – خلقنا لعبادته، وعبادتُه تقوم على محبَّتِه وعلى تعظيمه؛ فعندما لا يكون عند العبد تقديرٌ لله – عز وجل – ولا تعظيم فإنه اختلَّ ميزان العبودية، ولم يحقق ما أُمر به من عبادة الله – عز وجل –.
وإضافة إلى هذا هناك صورة من صور الاستغفار لمن عصى ولم يقدر الله – عز وجل – حق قدره؛ ولهذا كانت المجاهرة بالمعاصي كبيرِها وصغيرها بكل صورها سواء أن كانت مجاهرة بفعل المعاصي أمام الناس أو المجاهرة بالإخبار عنها؛ يقول الله تعالى: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)} [الحج: 74]، {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)} [نوح: 13].
المعنى الثاني الذي من أجله جاءت النصوص بالتحذير من المجاهرة بالمعاصي، أن المجاهرة بالمعصية سواء كانت المجاهرة بفعلها أمام الناس، وهذا أخطر ما يكون، أو كان بالخبر عنها - فإنها في حقيقة الأمر دعوة لإشاعة الفاحشة بين الناس، والله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19] انظر يا أخي!! هنا قال: {يُحِبُّونَ} والمحبة عمل قلبي؛ فكيف بالذين يسعَون إلى الإشاعة؛ فعندما يكون في قلب العبد الرغبة والمحبَّة ولو لم يعمل ولو لم يُشِع؛ هو مهدَّد بهذه العقوبة العظيمة؛ فكيف بالذي يعمل بالخبر عن المعاصي، بالمجاهرة بها، بالسعي في تكثير إظهارها، في تقبُّل المجتمع لها؟!
إنه على حال أخطر من الحال التي وصف الله تعالى؛ وهي مجرد المحبة، وهي عمل قلبي، ولو لم يعمل؛ {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19].
لذلك يجب على المؤمن أن يتقي الله، يجب على الإنسان أن يحذر المعاصي ابتداءً، فإذا تورَّط في شيء منها فليستتر بستر الله.
بعض الناس في حال الشباب والقوة والفتوة وقِلَّة مخافة الله تجده يبادر إلى الإخبار بالمعاصي؛ هذا خطر عظيم وجُرم يكاد يفسد دينه ودنياه، يكاد يُفسد حياتَه وأُخراه؛ ولذلك من المهم للمؤمن أن يستشعر خطر المعصية، وأن يفعِّل الستر في حياته ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.
من أسباب بلوغ هذه المعصية – معصية المجاهرة – هذا الوزن العظيم في الشريعة الإسلامية أنه إشارة إلى انهيار الحياء من قلب العبد؛ لأن الحياء يحمل على ترك الرذائل، على البعد عن السيئات، النأي بالنفس عن المستقبحات، لكن عندما يغيب الحياء – وهو خصلة من خصال الإيمان – يظهر الإنسان من سيئ عمله ما يكون وبالًا عليه في دنياه وأُخراه، والنبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: «الحَياء شُعبة مِنَ الإِيمان»[ أخرجه البخاري (9)، ومسلم (35)].
وإذا كان الإنسان ممنوعًا من الحديث عما أحلَّ الله سبحانه له فيما يتعلق بعلاقته مع زوجته وغير ذلك عندما يفضي الرجل إلى المرأة وتفضي إليه[سيأتي تخريجه]، إذا كان هذا الأمر فيما يتعلق بالحلال فكيف إذا تعلق الأمر بالحرام؟!
فالمطلوب هو ستر كل ما يمكن أن يكون قبيحًا من الفعل حتى ولو كان مما أحل الله تعالى؛ فقد روى الإمام أحمد من حديث أسماء بنت يزيد أنها كانت عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والرجال والنساء قُعودٌ في المسجد، فقال: «لعلَّ رجلًا يقول ما يَفعَلُ بأهلِه، ولعلَّ امرأةً تُخبر بما فَعَلَت مع زوجِها» فأرمَّ القوم؛ سكتوا، فقالت أسماء: إي والله يا رسول الله، إِنَّهن ليقُلْنَ وإنهم ليفعلون. أي: المرأة تُخبِر بما يكون بينها وبين زوجها، ومن الرجال من يخبر بما يكون بينه وبين أهله، فقال: «لا تَفعَلوا، فإنما ذلك مثل شَيطان لَقِي شَيطانة في طَريقٍ فغَشِيَها والنَّاس يَنْظُرون»[ أخرجه الإمام أحمد في المسند (27583)، والطبراني في الكبير (414).وله شاهد آخر من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أخرجه الإمام أحمد في المسند (10977).وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4008).]
وبلغ الأمر مبلغًا عاليًا؛ حيث قال النبي – صلى الله عليه وسلم –: «إِنَّ مِن أَشَرِّ الناس عند الله مَنزِلةً يوم القيامة الرجل يُفضي إلى امرأتِه وتُفضي إليه ثمَّ يَنشُر سِرَّها»[ أخرجه مسلم (1437)]فيخبربما يكون بينه وبين امرأته، فهذا يبين خطورة الأمر؛ وهو في أمر مباح كما ذكرت، لم يَنشر معصية، لكنه نشر ما ينبغي ستره.
وقد جاء في الصحيح من حديث أبي مسعود البدري أن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – قال: «إنَّ مما أَدرَك النَّاسُ مِن كلامِ النُّبوةِ: إذا لم تَسْتَحِ فاصنع ما شِئتَ»[ أخرجه البخاري (3483)]فالحياء يحمل الإنسان على البعد عن كل ما يعيبه، كل ما يكون سببًا لإشاعة الفساد والشر في الناس.
يا أخي؛ حتى في مقام السؤال، حتى المباح يُستر، حتى في مقام التوبة؛ فبعض الناس إذا تاب جاء وأخبر بما كان منه إما على سبيل النُّصح وإما على سبيل الاتعاظ والعبرة؛ والحقيقة أن هذا من الخطأ الذي يُزَينُه الشيطان لبعض الناس؛ فيقول: كنت أشرب.. وكنت أفعل المعاصي.. وما في سيئ إلا فعلتُه.
وهذا رجل جاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – كما في صحيح البخاري ومسلم؛ فقال: يا رسول الله، إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها ما دون أن أمَسَّها؛ يعني: ضَمَّها وقَبَّلها، ولكن لم يجامعْها، فاقض فيَّ ما شئت. فهذا جاء تائبًا، وأراد أن يستبرئ لنفسه. فردَّ عليه عمر – رضي الله تعالى عنه – وهو بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لقد سَتَرَك الله لَو سَتَرْتَ نفسك!! فهذا في مقام الاستفتاء، في مقام طلب براءة ذمة، ومع هذا يقول له عمر: لقد سترك الله لو سترت نفسك. يعني كان ممكنًا أن يأتيَ على انفراد ويسألَ النبي – صلى الله عليه وسلم – ويطلب منه توجيهًا وإرشادًا، ليس بين الناس يأتي ويقول: فعلت وفعلت، فاقض فيَّ ما شئت. فلم يردَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – عليه شيئًا، وهذا يدل على أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أقرَّ عمر على قوله، وأيضًا لم يرضَ بهذا المسلك. فقام الرجل فانصرف، فأَتْبَعه النبي – صلى الله عليه وسلم – رجلًا، وتلا عليه قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } [هود: 114] فقال رجلٌ: يا رسول الله، هذا له خاصة؟ فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –: «بل للناس كافة»[ أخرجه مسلم في صحيحه (2763).]
فإذا كان في مقام وفي سياق طلب البراءة من السيئات؛ لا يجهر الإنسان بسيئ عمله، بل ينبغي له أن يستتر وأن يختفي ما استطاع، وألا يبدي سيِّئًا؛ فكيف بإبراز السيئة والمعصية؟!
الموضوع خطير غاية الخطورة؛ لأن ذلك يكشف عن إيمان واهٍ، وعن ضعف في تقدير الله -عز وجل- وتعظيمه، وعن مفاسد عظيمة، ونشر الفساد في الأرض؛ ولهذا يندرج إظهار المعاصي في عموم النصوص التي جاء فيها الوعيد بإظهار السيئة؛ كما جاء فيما رواه مسلم من حديث جرير بن عبد الله أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «مَن سنَّ في الإسلام سُنَّة سيئةً كان عليه وِزرُها ووِزرُ من عمِل بها إلى يوم القيامة لا يَنقُص من أوزارهم شيئًا»[ أخرجه مسلم (1017).]
فهذا الذي يأتي ويظهر السيئات والقبائح بين الناس لا يقتصر شرُّه على نفسه، بل هو يجرِّئ غيره على معاقرة السيئات، على الإقدام عليها، نفوسٌ كثيرة قد تخاف ويمنعها وازع الخوف من أن تقدم على السيئات، عندما تهوِّن ذلك بإظهاره، وتجرؤهم على الإقدام عليه بهذه الأعمال التي تظهر فيها السيئة؛ فتتحمل وزر ظهور السيئة في المجتمع، وظهور السيئة في الأمة، ولك من الوزر بقدر ما حصل بفعلك أمام الناس.
فالواجب على المؤمن أن يبعد عن كل ما يكون سببًا لفساد غيره، عسانا نسلم من سيئاتنا التي تتعلق بنا في خفائنا وفيما يكون بيننا وبين الله – عز وجل –؛ المؤمن يسعى إلى التخفُّف من كل معصية، الذي يتيقن ويعلم أنه منقلب إلى ربه وأنه سيسأله عن الدقيق والجليل؛ بماذا يجيب الله – عز وجل – غدًا عندما يقول له: لقد أضللت عبادي بكذا؟ أضللت عبادي بإشاعة الفاحشة والشر والفساد بينهم؟ بالتأكيد أن الحمل عظيم، وأن المؤمن يجب أن ينأى بنفسه عن أن يكون مُزيِّنًا للباطل، داعيًا إليه، مسوِّقًا له؛ فإن ذلك مما يوجب العقوبات.
وقد ذكرنا أن العقوبة فيما يتعلق بالمجاهرة بالمعاصي سواء كان بإظهارها وفعلها بين الناس، أو كان ذلك بالإخبار عنها؛ هو مما يَهْلك به الفاعل؛ «كلُّ أُمَّتي مُعافَى إلا المُجاهرين»[ تقدم تخريجه.]ومما يترتب عليه فساد عريض وشر واسع في الناس إذا لم يبادروا إلى إنكاره؛ ولذلك جاء فيما رواه أحمد وغيره من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «ما ظهر في قَوم الزِّنا والرِّبا إلا أَحَلُّوا بِأنفُسِهِم عِقَابَ الله»[ أخرجه الإمام أحمد في المسند (3809)، وأبو يعلى في المسند (4981). وقال الألباني في التعليقات الحسان (4393): حسن لغيره.]
فظهور الفاحشة والمجاهرة بها يوجب عقوبات عامة تحل بالناس؛ «لم تَظْهر الفاحِشَة في قَومٍ حتى يُعلِنوا بها إلا فَشى فيهم الطَّاعون والأَوجَاع التي لم تَكُن مَضَتْ في أَسلافِهِم الذين مَضَوا»[ أخرجه ابن ماجه في السنن (4019)، والحاكم في المستدرك (8623)، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في المجمع (9615): رجاله ثقات. وصححه الألباني في صحيح الجامع (7978).]
وبه تعم العقوبات؛ قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25] وجاء في حديث عدي بن عدي قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «إِنَّ الله – عزَّ وجلَّ – لا يعذِّب العامَّة بعمَلِ الخاصَّة» انتبه؛ الله -عز وجل- لا يؤاخذ الناس بسيئة بعضهم وبخطأ بعضهم إذا كان مُستَتِرًا، لكن متى تكون العقوبة عامة؟ عندما تفشو وتظهر وتنكشف ويتقبَّلها الناس؛ يقول النبي – صلى الله عليه وسلم –: «إنَّ الله –عزَّ وجلَّ – لا يُعذِّبُ العامَّة بعمل الخاصَّة حتى يروا المُنكرَ بين ظَهرانِيهِم وهم قادِرون على أن يُنكِروه فلا يُنكِروه، فإذا فعلوا ذلك عذَّب الله الخاصَّة والعامة»[ أخرجه الإمام أحمد في المسند (17720)، والطبراني في الكبير (343). وقال الهيثمي في المجمع (12137): فيه رجل لم يسم، وبقية رجال أحد الإسنادين ثقات]
فينبغي للمؤمن أن يحذر إظهار المعاصي، ويعلم أن المجاهرة بها مما تشيع به المفاسد، ليس فقط على العاصي، وهذه قضية يجب أن تُفهَم، وبه يفسَّر؛ لماذا أمر الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي تنحصر به المعاصي، وتضيق به دائرة المجاهرة بها؛ هو حماية للمجموع؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] فالمجاهرة خطرها كبير وأمرها عظيم، وإثمها ووزرها لا يقتصر على الفاعل؛ ولذلك يجب على المؤمن أن ينأى بنفسه عن أن يظهر سيئَ عمله، بل يجب عليه العكس؛ يجب عليه أن يسعى في التخفُّف من سيئ عمله بالتوبة والاستغفار، وطلب الستر: «يا أيها الناسُ قد آنَ لكم أن تَنتَهوا عن حدودِ الله، مَن أصاب مِن هذه القَاذُوراتِ شيئًا فليَستَتِر بِسِتر الله» هكذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم؛ أمرنا أولًا بالانتهاء عن المعاصي والسيئات، ثم يقول: «مَن أصاب من هذه القاذورات» أي: المعاصي والسيئات «فليَستَتِر بسِترِ الله؛ فإنه من يُبدِ لنا صَفحَتَه نُقِم عليه كتابَ اللهِ»[ أخرجه مالك في الموطأ (12)، والحاكم في المستدرك (7615)، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وقال العراقي في تخريج الإحياء (1/ 1030): سنده حسن، وصححه الألباني في صحيح الجامع (149)]
وفي حديث آخر قال -صلى الله عليه وسلم-: «اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها؛ فمن ألمَّ» أي: من وقع «بشيء من المعاصي فليستتر بستر الله ولْيَتُب إلى الله»[أخرجه بهذا اللفظ الطحاوي في مشكل الآثار (91)، والحاكم في المستدرك (7615)، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.]، وهذا يؤكد هذا المعنى؛ وهو أنه ينبغي للمؤمن أن يحرص على الستر؛ ولذلك نهى الله تعالى عن التجسُّس، عن طلب العثرات، عن تتبع الزلات... كل هذا لأجل أن تُحصر المعصية في وقت فعلها، وألا تظهر، وألا تسوَّق؛ فالمعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا أُعلنت ولم تُغيَّر ضرَّت العامة؛ هكذا قال بلال بن سعد: "إن المعصية إذا خَفيت لم تَضُر إلا صاحبَها وإذا أُعلنت وجُوهر بها ولم تُغيَّر ضرَّت العامة"[ أخرجه ابن المبارك في الزهد (1350)، والخرائطي في مساوئ الأخلاق (404)، ورواه مرفوعًا الطبراني في الأوسط (4770)، ولا يصح رفعه؛ حيث قال الهيثمي في المجمع (12141) بعد أن عزاه إلى الطبراني: فيه مروان بن سالم الغفاري وهو متروك.]أي: ضرَّت عموم الناس.
النهي عن المجاهرة دعوة إلى الستر:
منزلة الستر في الإسلام عظيمة، الإنسان خطَّاء كما قال النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – فيما رواه الترمذي وغيره من حديث قتادة عن أنس: «كُلُّ ابنِ آدمَ خَطَّاء» أي: كثير الخطأ، والخطأ إما بفعل المحرمات أو بترك الواجبات الظاهرة والباطنة؛ «كل ابن آدم خطاء وَخَيرُ الخطَّائين التوَّابون»[ أخرجه الترمذي في السنن (2499)، وابن ماجه في السنن (4251)، والحاكم في المستدرك (7617)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وصححه ابن القطان في الوهم والإيهام (2581)، وقال الحافظ في بلوغ المرام (1491): سنده قوي. وحسنه الألباني في المشكاة (2341)]فالجميع يخطئ، لكن المطلوب هو ستر هذا الخطأ والتوبة؛ لأن التوبة هي نوع من الرجوع وطلب الاستعفاء والمغفرة. والستر في الإسلام منزلته عالية؛ فالنبي – صلى الله عليه وسلم – جعل من الدعوات التي يدعو بها المؤمن في صباحه ومسائه ما رواه أبو داود في السنن من حديث عبد الله بن عمر – رضي الله تعالى عنه – أنه قال: لم يكن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يَدَعُ هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: «اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي» ثم يقول: «اللهم استر عوراتي»[ أخرجه الإمام أحمد في المسند (4785)، وأبو داود في السنن (5074)، وابن حبان في صحيحه (961)، والحاكم في المستدرك (1902)، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (916/1200)].
العورات: هي ما يُستحيا وما يُستقبح ظهوره حسيًّا أو معنويًّا سواء كان ذلك في حق الله أو في حق الخلق، فنحن نسأل الله أن يسترنا بستره، ومندوب لنا ذلك في الصباح والمساء لأهمية الستر.
ثم إنه مطلوب أن يستر الإنسان غيره إذا وقع على معصية، لا أن يخبر بها، ولا أن يظهرها؛ ولذلك جاء في صحيح الإمام مسلم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «مَن سَتَر مُسلِمًا سَتَره الله يوم القيامة»[ سيأتي تخريجه قريبًا إن شاء الله تعالى.]، فستر المسلم مطلوب.
إذا كان سترُ غيرك فيه هذا الثواب والأجر وتكون في ستر الله – عز وجل – في الآخرة؛ «مَن سَتَر مُسلمًا ستره الله تعالى يوم القيامة»؛ فكيف بنفسك؟! بالتأكيد أن ستر نفسك من باب أولى، وأعظم منزلة وأكبر خطورة؛ لذلك ينبغي للمسلم أن يحرص على ستر نفسه.
وكما في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «ومَن سَتر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة»[ أخرجه مسلم (2699)]وفي رواية أخرى من حديث عبد الله بن عمر: «من ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة» وهو في البخاري ومسلم[ أخرجه البخاري (2442)، ومسلم (2580)]
فحريٌّ بنا أن نستر أنفسنا، إذا كان الله تعالى رتَّب هذا الأجر العظيم على الستر الذي يتضمن إخفاء السيئات وعدم فصح الإنسان بها، وجعل تحصيل هذه الفضيلة مرتبًا على أن تستر أخاك المسلم؛ فسترك لنفسك من باب أولى، لقد سترك الله لو سترت نفسك
رابعًا: من صور المجاهرة بالمعصية:
يندرج تحت هذا صور كثيرة؛ أضرب مثلًا:
- الذي يشرب الخمر أمام الناس؛ هذا مجاهر بالمعصية؛ ليس بالإخبار عنها، إنما بفعلها، هذا يفعلها أمام الناس.
- الذي يأتي إلى فرض من الفرائض ويجاهر بتركه؛ فلا يقيم الصلاة، ولا يؤتي الزكاة جِهارًا، ويمتنع من ذلك أمام الناس، ولا يتورَّع، ولا يحتاط في ألا يعلم الناس عنه؛ هذا مجاهر بالمعصية.
- الذي يفعل المعصية في الستر؛ فيزني مثلًا، ثم يأتي يخبر صاحبه: فعلتُ.. وفعلتُ.. ولي علاقة مع كذا.. ونمت مع كذا.. وسافرت إلى البلد الفلاني وفعلت كذا.. هذا كشف ستر الله عليه، ستره الله وكشف ستر الله عليه.
فكلا الصورتين من المجاهرة.
لكن فيما يتعلق بترتيب خطورة الصورتين من صور المجاهرة؛ فلا شكَّ أن الصورة التي يظهر فيها الإنسان المعصية أمام الملأ، ولا يتأدَّب مع الله – عز وجل – بسترها؛ هذا أعظم وِزرًا وأكبر إثمًا وأعظم خطرًا من الذي يفعلها فيما بينه وبين نفسه، ثم يخبر بها.
إذن من حيث الترتيب؛ فعلُ المعصية أمام الناس، فعل المعصية في الملأ، سواء كان تركَ واجبٍ أو فعل محرم – أكبر وأعظم إثمًا عند الله – عز وجل – من فعلها في الخفاء والإخبار بها.
وقد يقول قائل: هل من المجاهرة أن أفعل المعصية في بلد تَشيع فيها هذه المعصية؟ بمعنى أنه الآن في بعض البلدان شرب الخمر يكون في الكافيتريات وفي البارات وأمام أعين الناس، ولا أحد يقول: إن هذا مُنكر أو هذا حرام!! شرب الخمر في هذه الحال أمام الناس وفي الملأ؛ هل يعدُّ من المجاهرة أو أنه لا لكونه قد شاع وانتشر؟
الجواب: هذا من المجاهرة بالمعصية، سواء كان ذلك في بيئة تنتشر فيها المخالفة والمعصية أو كان ذلك في بيئة مستترة، وهذا تنبيهٌ مهم؛ لأن بعض الناس يظن أن المجاهرة بالمعصية في مكان لا تُظهر فيه، أن يظهر المخالفة في مكان لم تجرِ العادة بإظهار المخالفة فيه، في حين أن المجاهرة التي ورد الوعيد عليها لا تختلف في العقوبة وفي النهي الشرعي عن الحال التي تكون فيها المعصية غريبة على المجتمع، وجَرَت العادة بأن يُستتر بها، وبين أن تكون شائعة.
فالمقصود بالمجاهرة هو أن تظهر المعصية، ويراها الناس، ويشاهدوها، سواء كانت في حال اعتيادها، أو كانت في حال عدم الاعتياد لها؛ يعني مثلًا لما تخرج المرأة متبرِّجة في البلدان التي يكون فيها التبرج والسفور معتادًا، وتقول: لا، أنا مثلي مثل الناس. ففي هذه الحال نقول: هذا نوع من المجاهرة.
بعض الناس يحتمي من أنواع من المعاصي في بلده، لكن إذا خرج لم يُبالِ بأن يراه الناس عليها، ويقول: ما في مشكلة؛ لأن هذا شيء غير مُستغرَب، وغير معدود من القبائح؛ سواء في شرب الخمر، أو في العلاقات مع النساء، أو في الإفطار في رمضان في الخارج، وذلك في حال المقيم في الخارج، والذي له حُكم الإقامة، ويجاهر بالفطر؛ هذا مندرج فيما جاءت به النصوص من الوعيد.
حكم المجاهرة بالصغائر:
إن المجاهرة يعظم خطرُها بعظم خطر الذنب والخطأ الذي وقع، لكن فيما يتعلق بالمشترك العام، وهو معنى المجاهرة؛ فالمجاهرة بالتأكيد تشمل الإخبار بسيئ العمل الصغير والكبير، لكن ما يتعلق بما يترتب على هذه المجاهرة من سيئة وخطأ فهذا أمر مُنفَصل، مستقلٌّ، يتفاوت تفاوتًا كبيرًا بالنظر إلى أثر الذنب وخطورته.
المجاهرة بين التلميح والتصريح:
لا فَرق في المجاهرة بين التلميح والتصريح، لكن مثلما ذكرنا في تفاوت مراتب المجاهرة، وأن المجاهرة على درجات من حيث صورة المجاهرة، ومن حيث ما يترتب على المجاهرة من فعل، ففعل المعصية أمام الناس، أمام الملأ، أعظم وِزرًا في المجاهرة من الإخبار بها، والإخبار بها تصريحًا أعظم وإثمًا من الإخبار بها تلميحًا، لكن الجميع يندرج فيما ذكره النبي – صلى الله عليه وسلم – في قوله: «كل أُمَّتي مُعافى إلا المُجَاهرين»[ تقدم تخريجه.]
استعمال وسائل الاتصال في المجاهرة بالمعصية:
حيث يعمد بعض الناس إلى تصوير فَعلتِه المحرمة، ونشرها في مواقع التواصل بأسماء وهمية وغير ذلك؛ حيث يوثِّق ما يقوم به من أعمال محرَّمة وفواحش وغير ذلك بصور ومقاطع مرئية، وينشرها؛ فهذه صور من الصور التي يجاهر فيها الناس بأنواع من المعصية. يا أخي، والله العظيم – وأنا أحلف بالله غيرَ حانِث – أن المجاهرة بالسيئة هلاك لأصحابها؛ أول من يهلك هم أصحاب هذه المجاهرات التي يجاهر فيها بأنواع من المعاصي، ويفتخرون!! ويرون أن مواقعتهم لما فعلوه من سيئ الأعمال فخر وعلوًّا ومنزلةً رفيعة، ويتبوَّأ بها مكانة عند الناس، وهو في الحقيقة لا ينال في ذلك إلا سُوءًا، لا ينال في ذلك إلا هلاكًا؛ لأن أعظم ما تطيب به الحياة هو معافاة الله – عز وجل – وعافيته؛ ولذلك هذا الوِزر وهذا الذنب يحجب عن العبد معافاة الله – عزَّ وجل – فيقع في ألوان من الشرور والمفاسد.
المجاهر مُعلِنٌ بفسقه، معلنٌ بمعصيته، معلنٌ بمحادته لله ورسوله، معلنٌ بسوء عمله؛ فكيف يرجو رحمةَ ربه؟! فكيف يطلب من الله – عز وجل – أن يعافيَه ويعفو عنه وأن يتجاوز عن سيئته وقد أظهر سيئ العمل.
يا أخي؛ الله تعالى عابَ على المنافقين أن يفعلوا المعاصي في الخفاء ولا يقدرون قدر الله في فعلهم؛ {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} [النساء: 108] الآية هنا ليس المقصود أن يعمد الإنسان إلى إظهار معصيته أو إظهار سوئه، إنما عاب الله عليهم عدمَ تعظيم الله بعدم مراعاة حقه في حال الخلوة؛ فكيف بمن يأتي ويسقط حق الله – عز وجل – في السر والعلن؟! فلا يعظم الله في الخفاء ولا يعظمه بين الناس!! بالتأكيد أن هذا مما يترتب عليه فساد عظيم وخطر كبير.
لذلك من المهم أن يبادر الإنسان إلى التوبة من المجاهرة، فالمجاهرة سيئة عظمى، لكنها لا تخرج عن النصوص الدالة على التوبة في قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53] لكن ينبغي فيما يتعلق بالمجاهرة، من جاهر بالمعاصي أن يظهر التوبة، ولا يكفي أن تكون التوبة بينه وبين نفسه؛ لأن ذلك من تمام توبته، بل يظهر التوبة طلبًا لما عند الله – عز وجل – من عفو ومغفرة.
خامسًا: المجاهرة بالمعصية والواقع المرير:
القضية الآن تجاوزت حدود معاصٍ مختلف فيها إلى معاصٍ مجمع عليها؛ فهناك من يذهب ويصور نفسه في حفلات ماجنة مختلطة، مع ما لا يشكُّ عالم أنه من المحرمات، من يصور نفسه أثناء شرب الخمر، بعض الفتيات تصور نفسها وهي في حالة من التبرج والسفور، وهناك من يروِّج هذه الصور، ويدعو إلى الاقتداء بهذه النماذج، هناك من يصوِّر السيئات في الجملة، والمجتمع المنفتح الذي لا يحفظ حدود الله -عز وجل-، ولا يقيم لشرعه وزنًا على أن هذا المجتمع الذي ينبغي أن يحترس له، ينبغي أن تشيع هذه الثقافة في الأمة، وأن كل واحد ليس له دخل في الثاني، وأن منع هذا العمل أو ذاك الصورة من الخطايا من التحضر والتمدُّن، ولا شك أن المجتمع إذا انفلت حَبْلُه ولم يعِ الناس خطورة المجاهرة بالمعصية فإن ذلك سيعود عليهم جميعًا بالهلاك.
سادسًا: المجاهرة بالمعصية وسوء الخاتمة!!
هذا مما يندرج في عموم قول النبي – صلى الله عليه وسلم –: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين»[ تقدم تخريجه.]فالمعافاة هنا تشمل كل المعاني التي يأملها الإنسان في صلاح دينه وفي صلاح دنياه؛ فإن المجاهرة بالمعصية سبب لفساد حال الإنسان في دينه، سبب لفساد حال الإنسان في دنياه، سبب لفساد حال الإنسان في منقلبه وأخراه، وبالتالي قد تحجب الخاتمة الحسنة عن ذاك الذي لم يقم لله – عزَّ وجل – وزنًا، ولم يقم له حقًّا في حال الخفاء وفي حال الستر.
أسأل أن يسترني وإياكم بستره، وأن يعاملنا بعفوه، وأن يهدي ضال المسلمين، وأن يشيع بيننا الخير والصلاح والأمن والإيمان، وأن يحفظ ولاتنا وبلادنا من كل سوء وشر، وأن يقينا شر طوارق الليل والنهار.