الحَمدُ لِلَّهِ حَمدًا كثيرًا طَيِّبًا مُباركًا فيهِ، مِلءَ السماءِ والأرضِ ومِلءَ ما شاءَ مِنْ شَيءٍ بَعدُ، أحمَدُه حقَّ حَمدِه، أحقُّ مَنْ حُمِدَ، وأجَلُّ مَنْ ذُكِرُ، لَهُ الحَمدُ في الأولَى والآخرةِ، ولَهُ الحُكمُ وإلَيهِ تُرجَعونَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ إلهُ الأوَّلينَ والآخِرينَ، لا إلهَ إلَّا هُوَ الرحمنُ الرحيمُ، وأشهدُ أنَّ مُحمدًا عَبدُ اللهِ ورَسولُه صَفيُّه وخَليلُه وخيرَتُه مِنْ خَلقِه، بَعثَهُ اللهُ بالهُدَى ودينِ الحَقِّ بينَ يَدَيِ الساعةِ بَشيرًا ونَذيرًا، وداعيًا إلَيهِ بإذنِه وسِراجًا مُنيرًا، بَلَّغَ الرسالةَ، وأدَّى الأمانَةَ، ونَصحَ الأمَّةَ، وتَرَكها عَلَى المَحجَّةِ البَيضاءِ، طَريقٍ واضحٍ لا لبْسَ فيهِ ولا غبَشَ حَتَّى أتاهُ اليقينُ وهُوَ عَلَى ذَلِكَ، فصَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلهِ وصَحبِه ومَنِ اتَّبعَ سُنَّتَه واقتَفَى أثرَه بإحسانٍ إلى يَومِ الدينِ، أمَّا بَعدُ:
فإنَّ اللهَ جَلَّ في عُلاه نَوَّعَ للناسِ الزمانَ، وخالَفَ بَينَ الليلِ والنهارِ، فجَعلَ الليلَ والنِّهارَ خِلفَةً، وذَكرَ العِلَّةَ مِنْ ذَلِكَ، فقالَ: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً﴾ [الفُرقانِ:61-62] ، أي: يَأتي هَذا بَعدَ هَذا، ليلٌ يَعقُبهُ نَهارٌ، ونَهارٌ يَأتي بَعدَهُ ليلٌ، وجَعلَ الليلَ والنهارَ خِلفَةً ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾[الفُرقانِ:62]، لمَنْ أرادَ أنْ يَذَّكرَ،أي: يَعتبِرَ ويتَّعِظَ، ويتفَكَّرَ في عظيمِ صُنعِ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ وكَبيرِ قُدرتِه، ويَشكُرَ اللهَ ـ تَعالَي ـ عَلَي ذَلِكَ.
﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾، ﴿أو﴾ هُنا للتنويعِ فيما يُثمِرهُ هَذا الاعتبارُ، وذَلِكَ الإدِّكارُ لتَعاقُبِ الليلِ والنهارِ، وأنَّ هَذا التعاقُبَ يُفيدُ تَذكِرةً، كما أنَّهُ يُفيدُ شُكرًا لِلَّهِ -عَزَّ وجَلَّ- عَلَى ما أنعَمَ بِهِ مِنْ هَذا التعاقُبِ الذي لَهُ مِنَ المَصالِحِ وفيهِ مِنَ المَنافعِ للعبادِ في دينِهِم ودُنياهُم ما يَستَوجِبُ شُكرَ الكريمِ المَنَّانِ -جَلَّ في عُلاه عَلَى ما أنعَمَ بِهِ وتَفضَّلَ مِنْ تَعاقُبِ اللَّيلِ والنهارِ.
لذَلِكَ جَديرٌ بالمُؤمنِ أنْ يَعتبِرَ بهَذا التعاقُبِ، وأنْ يَتَّعظَ مِنْ هَذا الإبداعِ في صُنعِ اللهِ وخَلقِه، الذي خالَفَ بَينَ الليلِ والنهارِ، وخالَفَ بَينَ الأيامِ، كما خالفَ بَينَ الفُصولِ، ولَهُ في ذَلِكَ ـ جَلَّ في عُلاه ـ الحكمَةُ البالِغةُ، ولَهُ ـ سُبحانَهُ وبحَمدِه ـ في ذَلِكَ أسرارٌ وغاياتٌ، وعِلَلٌ وآياتٌ، قالَ اللهُ ـ تَعالَي ـ:﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾[يُوسفَ:105].
فجَديرٌ بالمُؤمنِ أنْ لا تَمُرَّ عَلَيهِ هذهِ الآياتُ وتتعاقَبُ عَلَيهِ هَذهِ المُنبِّهاتُ وهُوَ في غَفلَةٍ، وهُوَ في إعراضٍ، وهُوَ لا يُحدِثُ تذكُّرًا، ولا يُثمِرُ هَذا التعاقبُ شُكرًا، وبالتالي لا ينتَفِعُ مِنْ آياتٍ كَثيرةٍ في سَماءِ اللهِ وأرْضِه؛ بَلْ في نَفْسِ الإنسانِ وخَلقِه تَستوجِبُ الذكْرَ والعِظةَ، وتُثمِرُ الاعتبارَ والاتِّعاظَ.
وإنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ خَلَقنا أيُّها الإخوَةُ لغاية بَيَّنَها في كتابهِ، ونَصَّ عَلَيها في مُحكمِ آياتهِ في مَواضعَ عَديدةٍ مِنْ ذَلِكَ:
قولُهُ ـ تَعالَي ـ: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[المُلكِ:2].
وقال ـ جلَّ في عُلاه ـ: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذارياتِ:56]..
وهذهِ الغايةُ التي خَلَقَ اللهُ الخَلقَ لأجلِها إذا نَظرْتَ في حالِ الناسِ تَجِدُ أنَّ القِلَّةَ مِنَ الخَلقِ هُمُ المُدرِكونَ لَها، هُمُ الواعونَ بهذهِ الغايةِ، هُمُ الفَطِنونَ لِما مِنْ أجلِه خُلِقوا، وأكثَرُ الناسِ في إعراضٍ وغَفلةٍ، وفي جَهلٍ وعَمًى عَنْ هذهِ الغايةِ العُظمَى التي مِنْ أجلِها خَلَقَ اللهُ الخَلقَ؛ بَلْ كَثيرٌ مِنَ الناسِ يُعرِضُ عَنِ المُذكِّرينَ بهذهِ الغايةِ، والمُنبِّهينَ إلي هَذا المَقصِدِ مِنَ الوُجودِ، فتَجِدُهم لا يُؤمِنونَ ولا يَستَجيبونَ لِما نَبَّهَ إلَيهِ رُسلُ اللهِ ـ صَلواتُ اللهِ وسَلامهُ ـ عَلَيهم، قالَ اللهُ ـ جَلَّ وعَلا ـ: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾[يُوسفَ:103].
وقالَ ـ تَعالَي ـ: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾[يُوسفَ:105]، ويَقولُ ـ سُبحانَهُ وتَعالَي ـ: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾[الأنعامِ:116]،ويقولُ ـ سُبحانَهُ وبحَمدِه ـ: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[الشُّعَراءُ:8].
هَذا هُوَ خَبرُ اللهِ عَنْ حالِ الناسِ ليسَ في زَمانٍ دُونَ زَمانٍ، ولا في مَرحلَةٍ مِنَ العُمرِ دُونَ مَرحلَةٍ؛ بَلْ هُوَ عَلَى مَرِّ اللَّيالي وتَعاقُبِ الأيَّامِ والدُّهورِ، هَذا هُوَ حالُ الناسِ، هُوَ الإعراضُ عَنْ غايةِ الخَلقِ، الإعراضُ عَنْ غايةِ الوجودِ.
وبالتَّالي يَعيشُ أكثَرُ الناسِ في شَقاءٍ، ليسَ المُرادُ بالشَّقاءِ الذي يَترتَّبُ عَلَي الغَفلةِ عَنِ هَذا الشقاءِ في المَأكَلِ والمَشرَبِ، ولا في المَلبسِ والمَسكنِ؛ بَلِ الشَّقاءُ الذي هُوَ أعظَمُ مِنْ هَذا وأكبَرُ؛ شَقاءُ القلوبِ بحَيرتِها، شَقاءُ القلوبِ بظُلمتِها، شَقاءُ القلوبِ بضيقِها، شقاءُ القلوبِ بعدَمِ مَعرفةِ مَحبوبِها الذي لا تَنعَمُ، ولا تَلتَذُّ، ولا تَسكَنُ، ولا تَبتَهِجُ، ولا تُسَرُّ إلَّا بالعِلمِ بِهِ، وتَحقيقِ العُبوديةِ لَهُ، القُلوبُ لا يُمكِنُ أنْ تَطمئِنَّ إلَّا بذِكرِه ـ جَلَّ في عُلاه ـ قالَ في مُحكَمِ كِتابهِ: ﴿أَلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[الرعْدِ:28].
ذَكرَهُ ـ جَلَّ في عُلاه ـ ليسَ هُوَ تَسبيحاتٍ وهَمهمَةً في زاويةٍ مِنْ زَوايا أماكِنِ العِبادةِ؛ إنَّما هُوَ أنْ يَكونَ القَلبُ مُقِرًّا باللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ بأنَّهُ لا إلهَ غيرُه، مُحبًّا لَهُ ـ جَلَّ في عُلاه ـ مُعظِّمًا لَهُ، ألَّا يَغيبَ عَنكَ في حالٍ مِنَ الأحوالِ، أنَّ اللهَ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ بِكَ عَليمٌ، وعَلَيكَ قَديرٌ، ولعَملِكَ مُحْصٍ، وسيُجازيكَ عَلَى ما يَكونُ مِنْ دَقيقٍ أو جَليلٍ.
فهَذا هُوَ الذي يُحقِّقُ لَكَ العُبوديةَ الدائمةَ في لَيلٍ أو نَهارٍ، أمَّا أنْ يُحقِّقَ الإنسانُ العبوديةَ في أجزاءٍ مِنْ وَقتِه فهَذا لم يُحقِّقِ الغايةِ مِنَ الوجودِ، اللهُ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ يَقولُ: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذارياتِ: 56]، فهَلْ يَكفي مِنْ هذهِ العبادةِ لحظاتٌ أو دَقائقُ مِنَ العُمرِ يَصرِفُها الإنسانُ في طاعةِ اللهِ؟ لا لا، اللهُ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ يقولُ في كتابِه آمِرًا رَسولَه ـ صلواتُ اللهِ وسَلامُه عَلَيهِ ـ أنْ يُبلِّغَ الأُمةَ كافَّةً: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي﴾[الأنعامِ:162] أي: ذَبحي، وقيلَ: عِبادَتي عَلَى وَجْهِ العمومِ، فذِكرُ الصلاةِ؛ لأنَّها أشرَفُ الأعمالِ طاعةً، وأقربُها إلى اللهِ وُصولًا، وهِيَ التي بِها يَلِجُ الإنسانُ أبوابَ الخَيرِ، ويُدرِكُ النورَ الذي بِهِ تَطيبُ القلوبُ وتَسكَنُ.
قالَ النبيُّ ـ صَلَّي اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ: «الصلاةُ نورُ»، كما في الصحيحِ مِنْ حَديثِ أبي مالكٍ الأشعريِّ صحيحُ مُسلمٍ (223) .
ثُمَّ بعدَ هَذا قالَ: ﴿وَنُسُكِي﴾أي: وعِبادَتي، قيلَ: وذَبحي، والذي يَظهرُ -واللهُ تَعالَى أعلَمُ- النُّسكُ هُنا يَشمَلُ كُلَّ التعبُّداتِ ليسَ فَقَطِ الصلاةَ؛ بَلْ كُلَّ العِباداتِ، ومِنها الذَّبْحُ لا تكونُ إلَّا لِلَّهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي﴾[الأنعامِ:162].
ثُمَّ بَعدَ ذَلِكَ حَتَّى لا يَتوهَّمَ أحَدٌ أنَّ العُبوديةَ مَحصورةٌ بأعمالٍ مَقطوعَةٍ مَنثورةٍ في اليومِ ﴿وَمَحْيَايَ﴾أي: كُلُّ حَياتي؛ بَلْ ﴿وَمَمَاتِي﴾أي: وسَببُ مَوْتي، وفيما مِنْ أجْلِه أبذُلُ حَياتي ﴿لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، هَلْ هَذا عَلَي وَجهِ النفْلِ، عَلَي وَجهِ التطوُّعِ؟ لا، ﴿وبذَلِكَ أُمرِتُ وأنا أوَّلُ المُسلِمينَ﴾[الأنعامِ:162].
فحَريٌّ بالمؤمنِ أنْ يُفتِّشَ عَنْ هذهِ الآيةِ في سُلوكِه وأخلاقِه، ونحنُ أيُّها الأخوَةُ نَستَقبِلُ مَوسِمًا عَظيمًا جَليلًا كَبيرًا، فيهِ خَيراتٌ كَثيرةٌ، فالمُؤمنُ البَسيطُ الذي أدرَكَ الغايةَ مِنَ الوجودِ أنَّهُ إنَّما خُلِقَ لعبادةِ اللهِ، يَفرَحُ بأنَّ اللهَ ـ تَعالَي ـ قَرَّبهُ مِنْ هَذا المَوسمِ، ويَتِمُّ فَرحُهُ عِندَما يُدرِكُ ذلِكَ المَوسمَ، فإنَّ إدراكَ مَواسمِ الخيرِ مِنْ أعظمِ المِنَحِ، وأجلِّ المِننِ عَلَى العبدِ بأنْ يَمُدَّ اللهُ ـ تَعالَى ـ لكَ في الأجلِ حَتَّى تُدرِكَ مَواسمَ الخيرِ، «خَيركُم مَنْ طالَ عُمرُه -لكِنِ انتَبِهْ-وحَسُنَ عَملُه» سُننُ الترمذيِّ (2330) وقالَ: هَذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ .
فمِنْ نِعمةِ اللهِ عَلَى العبدِ أنْ يبلِّغَهُ مَواسمَ الخَيراتِ صَحيحًا في بَدنِه، صَحيحًا في عَقلِه، صَحيحًا في نَفسِه، آمِنًا في بَلدِه، فيَكونُ بذَلِكَ قَدْ تَهيأَتْ لَهُ أسبابُ تَحقيقِ الطاعةِ لِلَّهِ عَزَّ وجلَّ.
فجَديرٌ بِنا نحنُ -ولِلَّهِ الحَمدُ- نَنعَمُ بنِعمٍ عَظيمةٍ، وعَطايا جَزيلةٍ، لو تَفكَّرَ الواحِدُ مِنَّا فيما أنعمَ اللهُ عَلَيهِ لوَجدَ أنَّهُ مِنْ أفرادِ الدُّنيا بالنظَرِ إلى سِتَّةِ مِليارٍ في العالَمِ يَجِدُ نِعمَ اللهِ عَلَيهِ في سِتةِ مِليارٍ عَظيمةً، ليسَتِ النِّعمُ يا إخواني دَراهِمَ مَعدودةً في الرصيدِ، ولا النِّعَمُ مَساكنَ فارِهةً، ولا النِّعمُ كَمْ عِندَك مِنْ أراضٍ، وما عِندَكَ مِنْ أملاكٍ، كُلُّ هَذا نِعَمٌ بالتأكيدِ؛ لكِنْ أعظمُ مِنْ ذَلِكَ كلِّه أنْ يكونَ قَلبُك عالِمًا باللهِ، أعظمُ مِنْ هَذا كلِّه أنْ يَكونَ قَلبُك مُقبِلًا عَلَيهِ، مُلتَذًّا بمَحبتِه، مُلتذًّا بتَعظيمِه، قائِمًا بحَقِّه.
هَذا هُوَ الأعْلَى في نِعَمِ اللهِ -عَزَّ وجَلَّ- عَلَى عِبادِه؛ ولذَلِكَ لِمَّا ذَكرَ اللهُ تَعالَي نِعمَهُ عَلَى أوليائِه وعَلَى عبادِه ذَكرَ صُورًا مِنَ النِّعمِ كَثيرةً؛ لكِنَّهُ لم يَذكُرْ نِعمَةً بصيغَةِ المَنِّ عَلَى عِبادِه كما ذَكرَ الهِدايةَ: ﴿كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾[النساءِ:94].
وكذلِكَ قالَ ـ تَعالَي ـ: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسـلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ﴾[الحُجُراتِ:17].
فكُلُّ النِّعَمِ تَأتي بسياقِ العَطاءِ والهباتِ والإحسانِ والإنعامِ؛ لكِنَّ نعمةَ الهِدايةَ عَلَى وَجهِ الخُصوصِ جاءَ ذِكرُها عَلَى وَجهِ المَنِّ، ﴿بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ﴾[الحُجُراتِ:17]؛ لأنَّ الذُّروةَ فيما يُنعِمُ اللهُ ـ عزَّ وجلَّ ـ عَلَي العبدِ، وهِيَ إذا حَصلَتْ للعبدِ لا يَضرُّهُ ما يَفوتُه مِنْ نَعيمِ الدُّنيا، بخِلافِ ما إذا سُلِبَها العبدُ، فإنَّهُ لا يَنفَعُه كُلُّ ما يُساقُ إلَيهِ مِنَ النِّعمِ.
نِعمةُ الهِدايةِ ما لها عِدلٌ، ولا لها نَظيرٌ، ولا لها مَثيلٌ، فليَحمَدِ العبدُ رَبَّهُ أنْ يسَّرَ اللهُ لَهُ الهِدايةَ، وأنْ ساقَ اللهُ ـ تَعالَى ـ قَلبِه إلى طاعَتِه، وأنْ هَيَّأَ لَهُ أسبابَ الاستقامَةِ والصلاحِ والهِدايةِ بأنْ كانَ بَينَ أهلِ الإسلامِ، ونَشأَ في ديارِهم، وعَرفَ مما ذَكرَه اللهُ في كتابِه عَنْ نَفسِه، وما جاءَ في كلامِ النبيِّ ـ صَلَّي اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ ما يَزدادُ بِهِ إيمانُه، ويَثبتُ بِهِ يَقينُه، ويَعرِفُ بِهِ حَقَّ رَبِّه ـ جَلَّ في عُلاه ـ هذهِ نِعمٌ عَظيمةٌ، كَمْ مِنَ الناسِ يَأمُلُ ولو بعُشرِ مِعشارِ ما مَنَّ اللهُ بِهِ عَلَيكَ مِنْ نِعمِ الهِدايةِ؟
أنتُم تَظنُّونَ أنَّ هذهِ البشريةَ التي أكثرُها في عَمىً، في سَعادةٍ؟ لا، واللهِ ليسَتْ في سَعادةٍ، ولا أقصِدُ بنَفْيِ السعادةِ نَفيَ المَكاسبِ المادِّيةِ.
عِمارةُ الدُّنيا، وبناءُ المساكِنِ، وكَثرةُ الأموالِ لا تُغني عَنْ قَلبٍ عَنِ اللهِ غافِلٌ، لا تُغني عَنْ قَلبٍ مَبتلىً بالضنْكِ، حاصَرَتْهُ الهمومُ والبَلايا، قالَ الله ـ تَعالَي ـ:﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾[طه:124].
انظُرْ هذهِ الصورةَ، وفي مُقابِلِها يقولُ ـ تَعالَي ـ: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾[النحلِ:97].
الآنَ تُدرِكُ نَعيمَ طاعتِكَ، أجْرَ ومُثوبةَ عَملِك الصالِحِ، مُعجَّلَ النعيمِ؛ لكِنَّه ليسَ بالضَّرورةِ أنْ يكونَ أموالًا وفيرةً، ومَساكنَ وَثيرَةٍ؛ إنَّما أهَمُّ مِنْ هَذا كُلِّه قَلبٌ لِلَّهِ مُحِبٌّ، قَلبٌ أنِسَ بذِكرِه، وتَلذَّذَ بمَعرِفتِه، واستَشعرَ حِلاوةَ الإيمانِ به، ذاقَ طَعمَ الإيمانِ مَنْ رَضِيَ باللهِ رَبًّا، وبالإسلامِ دينًا، وبمُحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ نَبيًّا.
فجَديرٌ بِنا أيُّها المُؤمنونَ ونحنُ نستقبِلُ هَذا الشهرَ المبارَكَ أنْ نَستقبِلَه بتَوبةٍ صادِقةٍ، ونيَّةٍ جازِمةٍ عازِمةٍ عَلَي العَملِ الصالِحِ، وأنْ نُنبِّهَ إلى هَذا المَعني الذي يَغفُلُ عَنهُ كَثيرٌ مِنَ الناسِ.
مِنَ الآنِ انوِ الصالحاتِ، انوِ صيامَ رمضانَ إيمانًا واحتِسابًا، ما الذي يَمنَعُكَ؟ النيةُ عَزمُ القَلبِ وجَزمُه، انوِ أنْ تَقومَه إيمانًا واحتِسابًا، انوِ أنْ تَقومَ ليلةَ القَدرِ إيمانًا واحتِسابًا، وأُبشِّرُك أنْ هذهِ النوايا مَطايا تُبلِّغُك المَقصودَ، وتَسيرُ بِك إلى الغايةِ في كُلِّ الأحوالِ.
فمَنْ نَوَى صالحًا فإنَّهُ يُكتَبُ لهُ حَسنةً بنيَّتِه حتَّي لو لم يَفعلْ، وهَذا مِنْ فَضلِ اللهِ عَلَى عبادِه، كما في الصحيحَيْنِ عنْ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ أنَّ النبيَّ ـ صلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ قالَ في الحديثِ الذي يَرويهِ عنْ رَبِّه: «إنَّ اللهَ كتَبَ الحَسناتِ والسيئاتِ، فمَنْ هَمَّ بالحَسنةِ ولم يَعملْها كَتبَها اللهُ حَسنةً كامِلةً»، قالَ: «ولم يَعملْها» صحيحُ البُخاريِّ (6491)، وصحيحُ مُسلمٍ (131)لم يَعملْها: إعراضٌ عِنها، أو لأيِّ سَببٍ مِنَ الأسبابِ، هَذا أجرُه.
وأما إذا أدرَكَ مَوسمَ الخَيرِ بهذهِ النِّيةِ كانَ هَذا عَوْنًا لهُ عَلَى العَملِ الصالحِ، فإنَّ النيةَ الصالحةَ تُسهِّلُ العملَ وتذلِّلُه، وتُبلِّغُ الإنسانَ مِنهُ ما لا يَبلُغُه بدونِ نيةٍ صالحةٍ، فأنوِ الصالحاتِ.
ثُمَّ أمرٌ آخرُ عِندَنا ضمانةٌ أنْ نُدرِكَ رَمضانَ، بَيننا وبَينَ رمضانَ أيامٌ، فكَمْ هُمُ الذينَ يُؤمِنونَ إدراكَه، ولا يُطيقونَه؟ كَثيرٌ، الأشياءُ ليسَتْ بمَعلومَةٍ، ولا مُحصاةٍ، ولا مُدرَكَةٍ.
فتَجِدُ الصحيحَ المُعافَى بَينَ أهلِه وأصحابِه وفي عَملِه يَأتيكَ خَبَرهُ عَلَي حينِ غَفلةٍ، فلانٌ ماتَ، انتَهَتِ القضيةُ، نفَسٌ دَخلَ ولم يَخرُجْ، أو خَرجَ ولم يَدخُلْ، لكُلِّ أجَلٍ كِتابٌ.
عِندَنا ضَمانةٌ ألَّا نَكونَ أنا أو أنتَ مِنْ هَؤلاءِ؟ ما عندنا ضمانَةٌ ما نَدري، ولا يَغرُّك صِحتُك وعافيتُك، وما عندَك مِنْ مالٍ، وجودُ المُستشفياتِ مِنْ حَولِك، لا يَغرُّك شَيءٌ، فالآجالُ مَحتومةٌ، ولا تَتقدَّمُ، ولا تَتأخَّرُ.
بالتالي مِنَ المُهمِّ أن نُدرِكَ أنَّ النيةَ الصالحةَ، إذا نَويْتَ الآنَ صيامَ رَمضانَ إيمانًا واحتِسابًا، وقيامَه إيمانًا واحتِسابًا، وسائرَ العملِ الصالحِ الذي يَفتحُ اللهُ تَعالَى لكَ مِنْ تِلاوةِ القرآنِ وغَيرِه إيمانًا واحتِسابًا، ولو لم تُدرِكْ رَمضانَ؛ لأنَّ الأجلَ حالَ بَينَك وبَينَه؛ أتدري ما أجرُكَ؟ أجرُكَ أنَّ اللهَ يَغفَرُ لكَ ما نَويْتَ كامِلًا كامِلًا، كمَنْ أدرَكَ رَمضانَ وصامَه وقامَه، وقَرأَ القرآنُ فيهِ، وفَعلَ الصالحاتُ، قالَ اللهُ ـ تَعالَى ـ:﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ﴾[النِّساءُ:100]، هَذا خَرجَ يُريدُ عَملًا صالحًا بَذَلَ ونَوَى بَذْلَ المُستطاعِ فيما يُمَكِنُه للعملِ الصالحِ؛ لكِنْ حالَ بَينَه وبَينَ ما يريدُ الأجلُ؛ ﴿فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾[النِّساءِ:100].
كُلُّ ما تُؤمِّلُه تُدرِكُه، أنتَ تتعامَلُ مَعَ رَبٍّ كَريمٍ جَلَّ في عُلاه، مَنْ تاجَرَ مَعَ اللهِ فتِجارَتُه مَعَ اللهِ لن تَبورَ، لا يخيبُ أبَدًا مَنْ قَصدَ اللهَ، الحَسنةُ بعَشرِ أمثالِها إلى سَبعمائةِ ضِعفٍ، إلى أضعافٍ كثيرَةٍ لا يَعلمُها إلَّا هُوَ.
المُهِمُّ الصِّدقُ، الشأنُ كلُّه في أنْ تَصدُقَ مَعَ اللهِ، إذا صَدقْتَ مَعَ اللهِ فأبشِرْ، فستَبلُغَ ما تُؤمِّلُ مِنْ خَيرٍ لا يَرِدُ لكَ عَلَى بالٍ، وفيما رَواهُ الإمامُ أحمدُ وغَيرُه مِنْ حديثِ أبي كبشةَ الأنماريِّ -رَضِيَ اللهُ تَعالَي عَنهُ- أنَّ النبيَّ ـ صَلَّي اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ قالَ: «إنَّما الدُّنيا لأرَبعَ» أو قالَ:«إنَّما مَثلُ أُمَّتي كأربعةِ نَفَرٍ: رَجلٌ أتاهُ اللهُ عِلمًا ومالًا، فأعطَى حقَّ اللهِ فيهِ، وعَمِلَ فيهِ بطاعةِ اللهِ؛ فذاكَ في أعلَى المنازلِ، ورَجلٌ أتاهٌ اللهُ عِلْمًا، ولم يُؤتِه مالًا»، هَذا الحالُ الثاني أعطاهُ عِلمٌ، يَعرِفُ به مَواقعَ الهُدَى، ويَنوي الصالحَ؛ لكِنْ ما عِندَه، ما أعطاهُ مالًا، قالَ هَذا الذي ما عندَه مالٌ، هَذا الثاني:«لو أنَّ لي مِثلَ ما لفُلانٍ لفَعلْتُ بِهِ مثلَ ما فَعلَ»، يَعني: مِنْ إعطاءِ الحُقوقِ التي فيهِ، واستِعمالِه في طاعةِ اللهِ.
هَذا نَوَى صالِحًا، ما الذي حالَ بَينَه وبينَ الصالحِ، ليش ما وجدَ العملَ الصالحَ؟ في الواقعِ إنَّهُ عاجِزٌ، ما عِندَه قُدرةٌ، ليسَ عندَه مالٌ ولا قُدرةٌ، ماذا قالَ النبيُّ ـ صَلَّي اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ ـ في هَذا الرجلِ؟ قالَ: «هُما في الأجرِ سَواءٌ»، ذاكَ الذي بَذلَ مالَه وأخرَجَ الحقَّ الذي فيهِ كذاكَ الذي نَوَى لكِنَّهُ لا يَملِكُ ما يَبذُلُ، هُما في الأجرِ سَواءٌ.
«ورَجلٌ -هَذا الثالِثُ-لم يُؤتِه اللهُ عِلْمًا، وأعطاهُ مالًا -ما عندَه عِلمٌ،ولكِنْ عِندَه مالٌ-فمَنعَ حَقَّ اللهِ فيهِ، واستَعملَه فيما لا يُرضِي رَبَّه» جَلَّ في عُلاه،«ورَجلٌ -هَذا الرابعُ-لم يُؤتِه اللهُ مالًا ولا عِلمًا، قالَ: لو أنَّ لي مِثلَ ما لفُلانٍ- هَذا الذي قَبلَه الثالِثُ الذي استَعملَ المالَ في غيرِ طاعةِ اللهِ-لفَعلْتُ فيهِ مثلَ ما فَعلَ»، قالَ:«هُما في الوِزرِ سَواءٌ»سُننُ الترمذيِّ (2325)، وقالَ: هَذا حَديثٌ حَسنٌ صَحيحٌ ؛ لأنَّ هَذا نَوَى وعَزمَ؛ لكِنْ حالَ بَينَ ما نَواهُ وعَزَمَه عَجزُه.
وهَذا تَنبيهٌ مُهمٌّ: كُلُّ ما نَوَى فاسِدًا وشَرًّا فإنَّهُ إذا نَواهُ وعَمِلَ لإدراكِهِ لكِنْ حالَ بَينَه وبَينَ إدراكِ ذَلِكَ الفاسِدِ عَجزُه، وعَدمُ قُدرتِه؛ فإنَّهُ كالذي فَعلَه مِنْ حيثُ الإثمُ؛ لأنَّ حَقيقةَ لم يَمنَعْه مِنَ الفِعلِ إلَّا العَجزُ، ومَنْ مَنعَه مِنَ الفِعلِ العَجزُ فهُوَ كالفاعِلِ، سواءٌ أكانَ في الطاعَةِ أو كانَ في المَعصيةِ.
فجَديرٌ بِنا أيُّها الأخوَةُ أنْ نَستقبِلَ هَذا الشَّهرَ المُباركَ بالنيةِ الصالحةِ، والعَزيمةِ الجازِمةِ، والدعاءِ الصادقِ أنْ يُبلِّغَك اللهُ تَعالَى رَمضانَ.
ليسَ فَقطْ أنْ يُبلِّغَك؛ بَلْ ويَرزُقَك فيهِ صالحَ الأعمالِ، فإنَّ الشاهدَ أنْ تُبلَّغَ رَمضانَ، وأنْ تُحقِّقَ طاعةَ الرحمنِ فيهِ، وليسَ أنْ تُبَلَّغَه ثُمَّ تَعصي اللهَ، أو تُقصِّرَ في حقوقِ اللهِ، فإنَّهُ في هذهِ الحالِ يَكونُ حُجَّةً عَليكَ لا حُجةً لكَ.
لو لم تُدرِكْه يُمكِنُ أنْ يكونَ أفضلَ لكَ مِنْ أنْ تُدرِكَه، وتَعصيَ اللهَ فيهِ، أو تُضيِّعَ حُقوقَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ فيهِ.
فلنَنْوِ صالحًا، ولنَستَعِنْ باللهِ ـ عزَّ وجَلَّ ـ بهذهِ النَّوايا في تَحقيقِ المَأمولِ مِنْ طاعةِ العَزيزِ الغفارِ ـ جلَّ في عُلاه ـ وهُوَ مَوسمٌ مُبارَكٌ هَنيئًا لمَنْ يَبلُغُه، هَنيئًا لمَنْ يَستَعمِلُه فيما يُرضِي رَبَّه عَنهُ.
أسألُ اللهَ العَظيمَ ربَّ العرشِ الكريمِ أنْ يُبلِّغَنا رمضانَ، وأنْ يرزُقَنا فيهِ صالحَ الأعمالِ، اللهُمَّ استَعمِلْنا فيهِ فيما تُحِبُّ وتَرضَى، واجعَلْنا يا ربَّ العالَمين مِنْ أوفَرِ عِبادِك نَصيبًا بعَطاياكَ وهِباتِك فيهِ، وأنْ تَجعلَه مَغفِرَةً للذُّنوبِ، ورِفعةً للدرَجاتِ، وأنْ ترزُقَنا صيامَه وقيامَه إيمانًا واحتِسابًا، إنَّكَ عَلَى ذَلِكَ قَديرٌ، ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾[الأعرافِ: 23].