أسباب زيادة الإيمان
الخطبة الأولى :
إن الحمد لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد.
فاتقوا اللهَ عباد اللهِ وآمنوا به، فإن الإيمانَ به أشرفُ العباداتِ ومفتاحُ الخيراتِ وسبيلُ دخولِ الجناتِ، فالإيمانُ يا عبادَ اللهِ أعظمُ الواجباتِ، فوائدُه وخيراتُه عظيمةٌ مغدقةٌ وثمارُه باسقةٌ يانعةٌ، فهو أعظمُ ما اكتسبته النفوسُ وحصلته القلوبُ، وهو خير ما تنافس فيه المتنافسون وسعى في تحصيله الساعون.
له في قلوبِ أهلِه الصادقين حلاوةٌ ولذَّةٌ وبهجةٌ لا يُعرِبُ عنها لفظٌ، ولا يُحيطُ بها وصفٌ، وذلك فضلُ اللهِ يؤتيه من يشاءُ، واللهُ ذو الفضلِ العظيمِ.
أيها المؤمنون! إن للإيمان بينات وبراهين، وقد أقامَ اللهُ علاماتٍ بها يتميزُ الصادقُ عن صاحبِ الكذبِ والبهتانِ، فعلامةُ الإيمانِ الصادقِ، الذي يرفعُ اللهُ به العبدَ في الجنانِ، ويقيه بمنِّه وفضلِه دخولَ النيران هو أن تصدِّقَ يا عبدَ اللهِ بما جاءَ عن اللهِ وعن رسولِه تصديقاً جازماً، وأنْ تُقِرَّ بذلك مذعِناً، وأن تنقادَ له محبًّا خاضعاً، وأن تعملَ به ظاهراً وباطناً.
أن تحبَّ في اللهِ وتبغضَ في اللهِ، فإن أوثقَ عُرى الإيمانِ الحبُّ في اللهِ والبغضُ في اللهِ.
اللهم إنا نسألك إيماناً صادقاً ويقيناً راسخاً وعلماً نافعاً وقلباً خاشعاً وعملاً صالحاً.
عبادَ اللهِ، إن الإيمانَ ليس بالتمنِّي ولا بالتحلِّي، ولكن ما وَقَرَ في القلبِ وصدَّقتْه الأعمالُ، فاجتهدوا في تحقيقِ إيمانِكم والتزامِه عِلماً وعَمَلاً وحالاً، واسعَوْا في زيادتِه وتثبيتِه وإزالةِ ما يناقضُه أو ينقصُه، فإن الإيمانَ يَزيدُ وينقصُ، والناسُ فيه متفاوتون تفاوتاً عظيماً، قال الإمام أحمد لما سُئلَ عن الإيمانِ يزيدُ وينقصُ؟ قال: يزيدُ حتى يبلغَ أعلى السماوات السبعِ، وينقص حتى يصيرَ إلى أسفلِ السَّافلين؛ ولذلك أوصى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بتعاهدِ الإيمانِ وتفقُّدِه وتجديدِه، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الإيمانَ لَيخلَقُ في جوفِ أحدِكم كما يخلَقُ الثوبُ، فاسألوا اللهَ أن يجدِّدَ الإيمانَ في قُلوبِكم» أخرجه الحاكم (1/45) من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وحسنه الهيثمي في مجمع الزوائد (158).
وقد كان سلفُنا الصالحُ يتعاهدون إيمانَهم ويتفقَّدون أعمالهَم ويأخذون بأسبابِ زيادةِ الإيمانِ ونمائهِ، فإن للإيمانِ أسباباً يزدادُ بها وينمو ويزكو.
فمن أسبابِ زيادةِ الإيمانِ يا عبادَ اللهِ: الإقبالُ على كتابِ اللهِ العظيمِ وحبلِه المتينِ، تلاوةً وتدبراً وعلماً وعملاً، فإن اللهَ قد أنزلَه رحمةً للمؤمنين، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) سورة يونس (57).، وقال سبحانه: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً) سورة الإسراء (82)، قال قتادة رحمه الله: "ما جالس أحدٌ كتابَ اللهِ إلا قامَ عنه إما بزيادةٍ أو نقصانَ".
فالقرآنُ أعظمُ ما يزدادُ به الإيمانُ، فأكثِروا من سماعِه وتلاوتِه وتدبُّرِه والعملِ بما فيه، تجدوا خيراً عظيماً وتسبقوا سبْقاً كبيراً.
أيها المؤمنون.
إن من أسبابِ زيادةِ الإيمانِ: مطالعةَ سيرةِ خيرِ الأنامِ، فالنظر في سيرتِه صلى الله عليه وسلم يوجِبُ زيادةَ التقوى والإيمانِ، فإن حياتَه كلَّها طاعةٌ وجهادٌ وإحسانٌ، وقد قال الله تعالى حاثًّا على تدبُّرِ سيرتِه وحياتِه صلى الله عليه وسلم: ﴿ثمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) سورة سبأ (46).
أيها المؤمنون.
إن مما يزدادُ به إيمانُ العبدِ: تقليبَ النظرِ في بديعِ خلقِ اللهِ وعظيمِ صنعِهِ في السماواتِ وفي الأرضِ وفي الأنفسِ؛ ولذلك أمرَ اللهُ بالنظرِ والتفكُّرِ وحثَّ على ذلك فقال تعالى: ﴿ أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾،وقال تعالى: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) سورة الذاريات (21)، وقال تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) سورة فصلت (53)..
فكونوا عبادَ اللهِ من أولي الألبابِ الذين يتفكَّرون في خلقِ السماواتِ والأرضِ، ربَّنا ما خلقتَ هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار.
أيها المؤمنون.
إن من أسبابِ زيادةِ الإيمانِ: طاعةَ اللهِ الملكِ الدَّيانِ، فالتقوى والبرُّ والإحسانُ من أعظمِ أسبابِ زيادةِ الإيمانِ، فبقدرِ ما معكَ من خصالِ الطاعةِ بقدرِ ما معك من الإيمانِ، فاجتهدوا عبادَ اللهِ في امتثالِ المأموراتِ وتركِ المعاصي والسيئاتِ، واستكثروا من الباقياتِ الصالحاتِ تنالوا بذلك أعلى المراتبِ والدرجاتِ.
أكثروا من ذكرِ اللهِ، فإن ذكرَه من دواعي الإيمانِ، كما قال سبحانه: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) سورة الأنفال (2) .
تخفَّفوا من المعاصي والسيئاتِ، وأهلِكوها بالتوبةِ والاستغفارِ، فإن المعاصِيَ تضعِفُ الإيمانَ وتوقِعُ في عظيمِ الحسرةِ والخسرانِ.