الحَمدُ لِلَّهِ حَمدًا كثيرًا طَيِّبًا مُباركًا فيهِ، مِلءَ السماءِ والأرضِ ومِلءَ ما شاءَ مِنْ شَيءٍ بَعدُ، أحمَدُه حقَّ حَمدِه، أحقُّ مَنْ حُمِدَ، وأجَلُّ مَنْ ذُكِرُ، لَهُ الحَمدُ في الأولَى والآخرةِ، ولَهُ الحُكمُ وإلَيهِ تُرجَعونَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ إلهُ الأوَّلينَ والآخِرينَ، لا إلهَ إلَّا هُوَ الرحمنُ الرحيمُ، وأشهدُ أنَّ مُحمدًا عَبدُ اللهِ ورَسولُه صَفيُّه وخَليلُه وخيرَتُه مِنْ خَلقِه، بَعثَهُ اللهُ بالهُدَى ودينِ الحَقِّ بينَ يَدَيِ الساعةِ بَشيرًا ونَذيرًا، وداعيًا إلَيهِ بإذنِه وسِراجًا مُنيرًا، بَلَّغَ الرسالةَ، وأدَّى الأمانَةَ، ونَصحَ الأمَّةَ، وتَرَكها عَلَى المَحجَّةِ البَيضاءِ، طَريقٍ واضحٍ لا لبسَ فيهِ ولا غبَشَ حَتَّى أتاهُ اليقينُ وهُوَ عَلَى ذَلِكَ، فصَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلهِ وصَحبِه ومَنِ اتَّبعَ سُنَّتَه واقتَفَى أثرَه بإحسانٍ إلى يَومِ الدينِ، أمَّا بَعدُ:
فإنَّ نعمَ اللهِ ـ تَعالَى ـ عَلَى عبادِه لا تُحصَى مَهْما بالغَ العادُّونَ في إحصائِها، واجتَهدَ المُجتَهِدونَ في الإحاطَةِ بها؛ فإنَّ عِدَّها مُمكِنٌ لكِنَّ إحصائَها لا سبيلَ إلَيهِ قالَ اللهُ -جَلَّ وعَلا-: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيمَ:34] .
فمَهْما اجتَهدَ الناسُ في إحصاءِ نِعَمِ اللهِ عَلَيهِم عَلَى وَجْهِ الخُصوصِ والعُمومِ، في القديمِ والحديثِ، في الحاضِرِ والماضِي؛ فإنَّهُم لا يَتمكَّنونَ مِنْ إحصاءِ تِلكَ النِّعمِ، ذَلِكَ أنَّهُ لا يَنفِكُّ الإنسانُ عَنْ نِعمةٍ مِنَ العزيزِ الغفَّارِ -جلَّ في عُلاه- فنِعَمُ اللهِ عَلَينا تَأتينا وتَتعاقَبُ عَلَينا مَعَ تَردُّدِ أنفاسِنا، واللهِ أيُّها الأخوَةُ نِعمُ اللهِ التي تَفضَّلَ بِها عَلَى عبادِه مَعَ نَبْضِ عِرْقِك ومَعَ لَحْظِ عَينِك، فلا تَزالونَ في نِعمةٍ مِنَ اللهِ -عَزَّ وجَلَّ- قائِمًا وقاعداً، صَحيحًا ومَريضًا، غَنيًّا وفَقيرًا، يَقِظًا ونائِمًا فما دامَ عِرقُك يَنبُضُ وعَينُك تَلحَظُ؛ فإنَّ نِعمَ اللهِ عَلَيكَ كَثيرةٌ نِعمَ اللهِ -جَلَّ وعَلا- عَلَيكَ تتابَعُ، والسِّباقُ في شُكرِ نِعمةِ العَزيزِ الغفَّارِ -جَلَّ في عُلاه -هُنا يَتفاوَتُ الناسُ، وهُنا يَتسابِقُ المُتسابِقونَ في شُكرِ نِعَمِ اللهِ عَلَيهِم والقيامِ بحَقِّه سُبحانَه وبحَمدِه، وإنَّ السباقَ في شُكرِ نِعمِ اللهِ -عَزَّ وجَلَّ- أفضَلُ ما اشتَغلَ بِهِ المُشتَغِلونَ لذَلِكَ يَقولُ العزيزُ الغفارُ -جَلَّ في عُلاه- {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سَبأ:13] .
فشُكرُ نِعمِ اللهِ -عَزَّ وجَلَّ- هُوَ مَيْدانُ السِّباقِ {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لُقمانَ:14] .
فشُكرُه -جَلَّ وعَلا- هُوَ عِبادتُه، هُوَ القيامُ بحَقِّه، هُوَ المَسابقَةُ إلى رِضوانِه -جَلَّ في عُلاه-، هَذا في نِعمَةِ المأكَلِ، والمَشرَبِ، والمَلبَسِ، والمَسكَنِ، نِعمةِ الغِنَى، نِعمةِ السَّكَنِ، نعمَةِ الأمْنِ، نعمةِ الولدِ، نعمةِ الزوجَةِ، نِعَمٌ مُتلوِّنةٌ ومُتنوعَةٌ، وكلُّها تَستوجِبُ شُكرَه إلَّا أنَّ أعظَمَ النِّعمِ، وأجلَّ المِنحِ، وأكبرَ العَطايا أنْ يَشرحَ اللهُ صَدرَك للهُدَى، أنْ يَرزُقَك اللهُ الاستِقامةَ هذهِ النعمةُ التي لا تُضاهيها نِعمٌ، وهِىَ نِعمةٌ ومِنحةٌ وخِصِّيصةٌ يَخُصُّ اللهُ ـ تَعالَى ـ بِها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِه، وهَذا الفارِقُ بَينَ نِعمةِ المأكَلِ والمشرَبِ فما مِنْ دابَّةٍ إلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها، يَرزُقُ اللهُ مَأكلًا، ومَشرَبًا، ومَسْكنًا، ومَأوًى كُلَّ عِبادِه؛ فما مِنْ دابةٍ في الأرضِ، ولا طائرٍ يَطيرُ بجَناحَيْهِ، ولا مُحلِّقٍ في السماءِ، ولا غائصٍ في البَحرِ إلَّا واللهُ يَسوقُ إلَيهِ رِزقَه، لكِنَّ نعمةَ الهِدايةِ، نِعمةَ الطاعَةِ، نِعمةَ العبادَةِ هذهِ لا تكونُ إلَّا لأولياءِ اللهِ، لا تكونُ إلَّا لأصفيائِه، لا تكونُ إلَّا لمَنْ خَصَّهُمُ اللهُ -عَزَّ وجَلَّ- بهذهِ المِنحةِ، واللهُ أعلَمُ حيثُ يَجعَلُ رِسالتَه وهُوَ أعلَمُ بالمُهتَدينَ فيَهدي، ويُضِلُّ، ويُقيمُ، ويَمنَعُ، ويُرشِدُ، ويُجري ذَلِكَ كُلَّه وَفْقَ حِكمةٍ بالغةٍ قَدْ لا تَبدو لكَ، قَدْ لا تَظهَرُ لكَ هذهِ الحكمةُ ولا تُحيطُ بِها إلَّا أنَّ اللهَ -جلَّ في عُلاه- أعلَمُ بالمُهتَدينَ أعلَمُ بمَنْ يَستحِقُّ الهِدايةَ أعلَمُ بمَنْ يَستحِقُّ أنْ يشرَحَ صَدرَه للهُدَى؛ فلِهَذا إذا تَفضَّلَ اللهُ عَلَيكَ بأنْ رَزقَك قَلبًا مُؤمنًا، ومُحِبًّا لهُ، ومُقبِلًا عَلَيهِ، وراغِبًا في مَرضاتِه فافرَحْ كما أمرَكَ اللهُ ـ تَعالَى ـ بقَولِه {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يُونسَ:58] .
خَيرُ ما تُعطَى وأجَلُّ ما يُنعَمُ بهِ عَلَيك أنْ يشرَحَ اللهُ صَدرَك للهِدايةِ، لذَلِكَ افرَحْ واحمَدِ اللهَ إذا وَجدْتَ مِنْ نَفسِك إقبالًا عَلَى الطاعةِ؛ فإنَّ الإقبالَ عَلَى الطاعَةِ نِعمَةٌ عُظمَى يَمُنُّ اللهُ ـ تَعالَى ـ بِها عَلَى أصفيائِه، فكُنْ مِنْ هَؤلاءِ القليلِ الذينَ قالَ فيهِم رَبُّ العالَمينَ: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سَبإٍ:13] .
إنَّها نِعمةٌ أنْ يشرَحَ اللهُ صدرَك للهدايةِ، ولا تظُنَّ أنَّ هذهِ النِّعمةَ نِعمةٌ مُستَحقَّةٌ لا تَزولُ، بَلْ هِيَ نِعمةٌ يَبتليكَ اللهُ بها ليَنظُرَ مَدَى فَرحِك بها، وصِدْقِك في القيامِ بحَقِّها، فلا تَظُنَّ أنَّكَ مٌستحِقٌّ لها ولا تَنتقِلُ عَنكَ، بَلِ اللهُ -عَزَّ وجَلَّ- يقُصُّ في كتابِه خَبرَ قَومٍ انشرَحَتْ صُدورُهم إلى الطاعةِ والإحسانِ ثُمَّ انحَرَفوا وانسَلَخوا مِنَ الهُدَى بَعدَ أنْ رُزِقوا ذَلِكَ؛ قالَ ـ تَعالَي ـ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ(175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} ثُمَّ ذَكرَ مَثلَه -جلَّ في عُلاه- في قَولِه: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعرافِ:176]؛ لذَلِكَ جَديرٌ بِكَ أنْ تَفرحَ بالهدايةِ وأنْ تَخشى فَواتَها وأنْ تَخشى أنْ تُسلَبَ مِنكَ قبلَ المماتِ فإنَّ الهدايةَ بيَدِه يُعطيها مَنْ يشاءُ ويَحرِمُها مَنْ يشاءُ ولا تظُنَّ أنَّها استِحقاقٌ لا يَزولُ، بَلِ اللهُ -عَزَّ وجَلَّ- يَهدي ويُضِلُّ ويُنعِمُ -جَلَّ في عُلاه- بالاستِقامةِ كما يَمنَعُ الاستقامةَ كما قالَ ـ تَعالَى ـ: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصفِّ:5] .
فجَديرٌ بِنا أيُّها الإخوةُ أنْ نَحمَدَ اللهَ عَلَى نِعمةِ الهدايةِ أنْ نَشكُرَه -جَلَّ في عُلاه- عَلَى مِنَّةِ الاستقامَةِ، وأنْ نَسألَه الثباتَ عَلَيها وأنْ نفرحَ بها وأنْ نَعلَمَ أنَّ المِنَّةَ مِنَ اللهِ عَلَينا بكُلِّ طاعَةٍ وإحسانٍ، بَعضُ الناسِ إذا وُفِّقَ إلى صَلاةٍ، إلى قيامٍ، إلى طاعَةٍ، إلى عُمرَةٍ، إلى حَجٍّ، إلى زكاةٍ، إلى شَيءٍ مِنَ الأعمالِ الصالحةِ؛ تَمتَلِئُ نَفسُه عُجْبًا ويَقولُ نَعمْ أنا كذا، أنا كذا، أنا سوَّيتُ، وسويت، وسويت مِنْ صالِحِ العملِ ويَغفُلُ أنَّ اللهَ هُوَ المُتفضِّلُ، وقَدْ ذَكرَ اللهُ ـ تَعالَى ـ ذَلِكَ في كِتابِه حَيثُ قالَ: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} [الحُجراتِ:17] .
فإذا وُفِّقتَ لقيامِ ليلَةٍ مِنْ ليالي رَمضانَ قُلِ الحَمدُ لِلَّهِ يا اللهُ لَكَ الحمدُ رَبي تَقبَّلْ مِنِّي أنَّكَ أنتَ السميعُ العليمُ، إذا وُفِّقتَ لصومِ يَومٍ مِنْ رَمضانَ قُلْ يا ربِّ لكَ الحَمدُ أنْ أعنْتَني عَلَى الصيامِ، إذا قُمتَ بصلاةِ الفَجرِ، صلاةِ العشاءِ، صلاةِ الظُّهرِ، أيْ: كُلِّ الفرائضِ فاحمَدِ اللهَ عَلَى كُلِّ طاعةٍ؛ لأنَّهُ لو لم يُيسِّرْها اللهُ تَعالَي لكَ ما تَيسَّرَتْ، لو لم يُعِنْك لم تُوجَدْ، هُوَ المُتفضِّلُ عَلَيكَ وقَدْ ذَكرَ اللهُ التفضُّلَ عَلَى عبادِه بالإيمانِ كلِّه، وهُوَ شامِلٌ لكُلِّ أجزاءِ العِبادَةِ، {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ}[الحجراتِ:17] فجَديرٌ بِنا أيُّها الإخوةُ ونحنُ في استِقبالِ هَذا الشهْرِ المُبارَكِ وفي لَياليهِ أنْ نَحمدَ اللهَ عَلَى بُلوغِ هَذا الموسَمِ العَظيمِ.
بُلوغُ رمضانَ مِنحةٌ ومنَّةٌ وعَطاءٌ مِنَ اللهِ -عزَّ وجلَّ- لمَنْ يُدرِكُه صَحيحًا مَعافًى قادِرًا عَلَى المُسابقةِ للخَيراتِ، بَلْ حتَّى المريضُ الذي مِنْ عادَتِه الصيامُ، ومِنْ عادَتِه القيامُ إذا أدرَكَ رَمضانَ فإنَّها مِنَّةٌ مِنَ اللهِ عَلَيه، لأنَّهُ يُكتَبُ لَهُ ما كانَ يَعملُه صَحيحًا مُقيمًا، فضْلُ اللهِ عَلَى عبادِه الصادِقينَ السائرينَ إلَيهِ بقُلوبِهم لا نَظيرَ لهُ، فالذي يَتعامَلُ مَعَ اللهِ فهُوَ يَتعامَلُ مَعَ الكريمِ المنانِ الذي يُعطي عَلَى القليلِ الكثيرَ، الذي يُعطي عَلَى ما ظَهرَ وما خَفِيَ الذي يُعطي عَلَى النَّوايا الصادقةِ الجَزاءَ الجزيلَ، والعطاءَ الكبيرَ مَنْ هَمَّ بحَسنةٍ، فلَمْ يَعمَلْها كَتَبَها اللهُ عِندَه حَسنةً كامِلةً، هَذا الشهرُ المُبارَكُ أيُّها الإخوةُ، شَهرٌ مَجَّدَه اللهُ بذِكرِ اسمِه عَلَى نَحوِ التفخيمِ، يقولُ اللهُ -جَلَّ في عُلاه-: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البَقرةِ:185] .
فذَكرَ اللهُ هَذا الشهرَ ثُمَّ ذَكرَ أبرَزَ ما اختُصَّ بِهِ هَذا الشهرُ، وأعظَمَ ما تَميَّزَ بِهِ هَذا المَوسِمُ فقالَ ـ تَعالَي ـ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}.
أعظَمُ خَصائصِ شهرِ رمضانَ أنَّ اللهَ اختارَهُ مِنْ بَينِ شهورِ الزمانِ فجَعلَه مَحَلًّا لنُزولِ القُرآنِ العظيمِ، نُزولِ هَذا الكتابِ المُبينِ، وهذهِ مِنحَةٌ مِنَ اللهِ للناسِ كافَّةً؛ لأنَّ القرآنَ لم يَنزِلْ لعَرَبٍ ولا لفِئَةٍ مِنهُم ولا لزَمانٍ بَلْ نَزلَ لكُلِّ زمانٍ، ولكُلِّ مَكانٍ، ولكُلِّ أحَدٍ، الخطابُ فيهِ أوَّلُ نداءٍ في القرآنِ أولُ نداءٍ نادَى اللهُ ـ تَعالَي ـ خَلْقَه في القرآنِ لم يَكنْ خاصًّا {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقَرةِ:21] .
فالنِّداءُ الأولُ في القرآنِ نداءٌ عامٌّ للناسِ كافَةً عَربِهم وعَجمِهم، مَنْ كانَ في زَمنِ النبيِّ -صَلَّي اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ- ومَنْ كانَ بَعدَه فليسَ خاصًّا بفِئةٍ ولا خاصًّا بأُناسٍ ولا خاصًّا بزَمانٍ دونَ زمانٍ، بلِ الخِطابُ فيهِ لجَميعِ الناسِ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
وفى سياقِ البِشارةِ بالقرآنِ لن يُبشِّرَ -عزَّ وجَلَّ- بالقرآنِ قُرَيشًا أو أهلَ مَكةَ أو أهلَ الجزيرةِ أو العربَ، بَلِ البِشارَةُ فيهِ جاءَتْ لكلِّ الناسِ يَقولُ اللهُ -جَلَّ وعَلا -:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونسَ:58] .
فجَديرٌ بِنا أيُّها الإخوةُ أنْ نَفرَحَ بكتابِ اللهِ، وأنْ نفرحَ بالمَوسمِ الذي جَعلَه اللهُ تَعالَى مَحَلًّا لإنزالِ القرآنِ، إنَّهُ شهرُ رَمضانَ الذي أُنزِلَ فيهِ القرآنُ، كيفَ الفرحُ؟ هَلِ الفرحُ بأنْ تَجعلَ فيهِ مِنَ الأعمالِ التي تُظهِرُ السرورَ؟ الفَرحُ بَيَّنَه اللهُ -عَزَّ وجَلَّ- في كِتابِه فقالَ -جَلَّ وعَلا-:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقَرةِ:185] .
هَذا شُكرُ الصيامِ الذي نَصومُه في شهرِ رَمضانَ هُوَ شُكرٌ لِلَّهِ عَلَى مِنَّةِ إنزالِ القرآنِ، هَلْ نَتذكَّرُ هذهِ النعمةَ؟ هَلْ نَستحضِرُ هذا المَعنَى ونَحنُ نصومُ؟
أننا نصومُ شُكرًا لِلَّهِ عَلَى إنزالِ القرآنِ الذي هُوَ نورُ الصدورِ، الذي هُوَ هِدايةُ القلوبِ، الذي به أخرَجَنا اللهُ مِنَ الظُّلماتِ إلى النورِ، قَليلٌ مِنَ الناسِ مَنْ يَستَحضِرُ هذهِ المَعاني في صيامِه، فتَجِدُ مَنْ يَصومُ ولكِنَّهُ يَصومُ عَلَى أنَّهُ يَومٌ مِنَ الأيامِ التي فَرضَ اللهُ صيامَها دونَ استحضارٍ ولا اعتبارٍ ولا استذكارٍ للمَعنَى المُهِمِّ الذي مِنْ أجلِه شَرعَ اللهُ الصومَ؛ وهُوَ أنَّهُ شهرُ إنزالِ القرآنِ يا إخواني، القرآن ليسَ كِتابًا يُقرَأُ وتُعبَدُ اللهُ بتِلاوةِ حُروفِه فحَسْبُ، إنَّهُ نورٌ، إنه كلامُ ربِّ العالَمينَ، إنَّهُ الذي يُخرِجُ اللهُ تَعالَى بِهِ كُلَّ أحَدٍ أقبَلَ عَلَيهِ صادِقًا مِنَ الظلماتِ إلى النورِ، ليسَ فَقطْ في الآخرةِ والمَحشَرِ؛ بَلْ في الدُّنيا قَبلَ الآخرةِ فإنَّ اللهَ يُخرِجُ الذينَ آمَنوا بالقرآنِ في دُنياهم مِنَ الظلماتِ إلى النورِ؛ لذَلِكَ جديرٌ بِنا أنْ نَعرِفَ هَذا المَعنَى وأنَّ صَومَنا شُكرٌ لِلَّهِ -عَزَّ وجَلَّ- عَلَى نِعمةِ إنزالِ القرآنِ، ثَمَّةَ حِكَمٌ، ثمةَ أشياءُ أُخرَي هِيَ مِنْ أسبابِ الصومِ لكِنْ هذا مِنْ أبرَزِها، وهُوَ الذي جَعلَه اللهُ ـ تَعالَى ـ ظاهِرًا في سَببِ المَشروعيةِ حيثُ قالَ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرَةِ:185] .
فجديرٌ بكلِّ مُؤمنٍ أنْ يَستحضِرَ هَذا المَعنَى، جَديرٌ بكلِّ راغِبٍ في الخَيرِ أنْ يَستحضِرَ أنا نَصومُ لأجلِ أنَّ اللهَ ـ تَعالَى ـ أنزَلَ القرآنَ في هَذا الشهرِ، وبالتالي يَنبَغي أنْ يكونَ للقُرآنِ في هَذا الشهرِ نَصيبٌ مُختلِفٌ عَنْ سائرِ الشهورِ، وهَذا الذي كانَ عَلَيهِ حالُ سيِّدِ ولَدِ آدمَ النبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- حيثُ كانَ يَقرأُ القرآنَ آناءَ الليلِ وأطرافَ النهارِ، يَذكُرُ رَبَّه في كلِّ حِينٍ؛ جاءَ في المُسندِ والسُّننِ مِنْ حديثِ عَليِّ بنِ أبى طالِبٍ -رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنهُ- قالَ: "لم يَكُنِ النبيُّ -صلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- يَحجِزُه شيءٌ عَنِ القرآنِ" أي يَمنَعُه مِنْ تِلاوتِه وقِراءتِه "إلَّا الجَنابةَ" الترمذيُّ (146)، وقالَ: حديثُ عَليٍّ حديثٌ حَسنٌ صَحيحٌ إلَّا أنْ يكونَ جُنُبًا فكانَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- يَمتنِعُ عَنْ قراءةِ القرآنِ، وإلَّا فقَدْ كانَ يَذكُرُ اللهَ في كلِّ أحيانِه، كما في الصحيحِ في حديثِ عائشةَ -رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنها- "يَذكُرُ اللهَ في كلِّ أحيانِه"صحيحُ مُسلمٍ (373) قائمًا، وقاعِدًا، وعَلَى جنْبٍ.
فجَديرٌ بِك في كُلِّ زمانٍ أنْ يَكونَ القرآنُ صاحبَك، أن يكونَ القرآنُ رفيقَك، أنْ يكونَ لَكَ حِزبٌ مِنَ القرآنِ، لكِنْ في شَهرِ رَمضانَ، ليَكُنْ لَهُ مِنكَ نَصيبٌ زائدٌ، ليكُنْ لهُ مِنكَ نَصيبٌ زائدٌ عَلَى سائرِ الزمانِ؛ لهَذا كانَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- يَخُصُّ هَذا الشهرَ بمُعارضةِ القرآنِ أي: يقرَأُه عَلَى جِبريلَ أو يَسمَعُه مِنهُ أو يَقرأُ شَيئًا مِنَ القرآنِ، ويَقرأُ جِبريلَ شَيئًا مِنَ القرآنِ؛ فإنَّ مُعارضةَ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- للقرآنِ مَعَ جِبريلَ قيلَ إنَّهُ يَقرأُ ويَسمَعُ مِنهُ، وقيلَ إنَّ جِبريلَ كانَ يَقرأُ شَيئًا مِنَ القرآنِ، والنبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- يَقرأُ شَيئًا مِنَ القرآنِ، ويَتذاكَرانِ بهذهِ القراءةِ لكلامِ اللهِ -عزَّ وجَلَّ-. وفي العامِ الذي قُبِضَ فيهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- قرأَ القرآنَ مَرتَيْنِ أي: خَتمَ خَتمتَيْنِ صَلواتُ اللهِ وسلامُه عَلَيهِ.
صحيحُ البُخاريِّ (3624)، وصحيحُ مسلمٍ (2450) فجَديرٌ أنْ يكونَ لكَ مِنَ القرآنِ نَصيبٌ في تَذكُّرِ آياتِه، والاعتِبارِ بما فيهِ، والاتِّعاظِ بما فيهِ مِنْ هداياتٍ ومَواعظَ.
القرآنُ أعظَمُ مَوعظةٍ؛ لذَلِكَ وصَفَه اللهُ تَعالَي بأنَّهُ مَوعِظةٌ للناسِ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [يُونسَ:57] .
والموعِظةُ: هِيَ الكَلامُ الذي فيهِ الحَثُّ عَلَى الخَيرِ، والتحذيرُ مِنَ الشرِّ عَلَى وَجهٍ فيهِ تَرغيبٌ وتَرهيبٌ؛ فإنَّ الموعِظةَ حَثٌّ عَلَى الخيرِ مَعَ تَرهيبٍ أو تَرغيبٍ؛ لذَلِكَ احرِصْ عَلَى أنْ يكونَ لكَ نَصيبٌ مِنَ القرآنِ، واحرِصْ عَلَى فَهمِه، وأنْ يكونَ لكَ شَيءٌ مِنَ الاعتِناءِ بمَعانيهِ؛ فإنَّ الشأنَ كُلُّ الشأنِ ليسَ في قراءَةِ حُروفِه فَقطْ، بَلْ في قراءةِ حُروفِه وتَدبُّرِ مَعانيهِ وتَفهُّم ما فيهِ، فإنَّهُ المفتاحُ الذي تُدرَكُ بِهِ خَيراتُ القرآنِ، القرآنُ مُباركٌ أليسَ كذَلِكَ يا إخواني؟ أسألُكُم أليسَ القرآنُ مُباركًا؟ بدليلٍ، قالَ اللهُ -جلَّ وعَلا-: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} ما طَريقُ تَحصيلِ بركةِ القرآنِ؟ مُباشرةً اقرِأْ، أكمِلِ الآيةَ {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29] هذهِ البركةُ التي في القرآنِ ليسَتْ بأنْ تَضعَه عَلَى رَفٍّ في مَنزلِك، أو في مَكتبِك، أو تَقرأَه دُونَ وَعْيٍ لمَعانيهِ، لا، بركةُ القرآنِ تَحصُلُ بتَدبُّرِه ولذلِكَ قالَ:{لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} فمِنَ المُهمِّ أنْ يَعتنيَ الإنسانُ بتَدبُّرِ القرآنِ، فتدبُّرُ القرآنِ يَفتحُ أبوابَ العِلمِ، تَدبرُ القرآنِ يفتَحُ أبوابَ الهدى، تَدبرُ القرآنِ يُعينُ الإنسانَ عَلَى التُّقَى، تدبرُ القرآنِ يجعَلُ الإنسانَ قَريبًا مِنَ الخَيرِ، بَعيداً مِنَ الشرِّ، لَهُ مِنَ الخَيراتِ شَيءٌ كَبيرٌ. ولذَلِكَ إنَّما يَنتفِعُ مِنْ آياتِ الكتابِ الذينَ فَتَحوا قُلوبَهم؛ لتَأمُّلِ مَعانيهِ وتَدبرِ ما فيهِ، ولم يَقتصِروا عَلَى تِلاوتِه وقِراءتِه هَذًّا دُونَ وَعْيٍ لمَعانيهِ. جاءَ رَجُلٌ إلى عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ فقال: "يا أبا عبدِ الرحمنِ قرأتُ المُفصَّلَ في لَيلةٍ" شو المفصل مَنْ يَعرِفُ المفصَّلَ؟ المفصلُ اسمٌ لجُزءٍ مِنَ القرآنِ، وهُوَ مِنْ سورةِ الحُجراتِ أو سورةِ ق إلى الناسِ، وسُمِّيَ مُفصَّلًا، سُمي هَذا المَقطعُ مِنْ سورةِ ق إلى الناسِ سُميَ مُفصَّلًا لماذا؟ لكَثرَةِ الفواصِلِ، آياتٌ قصيرةٌ؛ فلذَلِكَ سُمِّيَ مُفصَّلًا.
جاءَ رَجُلٌ قالَ: "يا أبا عبدِ الرحمنِ" يُكلِّمُ عبدَ اللهِ بنَ مَسعودٍ: "قرَأْتُ المفصَّلَ في لَيلةٍ" قالَ لَهُ" يَعنى مُنبِّهًا إلى ضَرورةِ الاعتِناءِ بالكَيفِ قَبْلَ الكَمِّ، بالمَعاني قَبلَ الكثرةِ في قراءةِ الآياتِ "قالَ أهَذًّا كهَذِّ الشِّعْرِ" صَحيحُ البُخاريِّ (775)، وصحيحُ مُسلمٍ (822) يَعنى قرَأتَه حَرفًا كما تَهُذُّ الشِّعْرَ، كتَتَابُعِ أبياتِه، أو أهَذًّا كهَذِّ الشَّعرِ. "قِفوا عندَ عَجائبِه وحَرِّكوا بِهِ القُلوبَ". وفي مسندِ الإمامِ أحمدَ يقولُ: "أهذًّا كهَذٍّ الشعرِ عِندَه، ونَثرًا كنَثرِ الدَّقلِ" (3968)، "قِفوا عِندَ عَجائِبِه، وحَرِّكوا بِهِ القُلوبَ" مُصنفُ ابنِ أبي شَيبةَ (8733) . أي قِفوا عِندَ ما فيهِ مِنَ العَجائبِ، كُلُّ القرآنِ عَجائبٌ، كلُّ القرآنِ أسرارٌ لكِنْ لا يَعي هذهِ المَعانيَ وتِلكَ الأسرارَ، ولا يَقِفُ عَلَى تِلكَ العَجائبِ والنُّكَتِ التي في هذا الكتابِ الكَريمِ؛ أي: اللطائفُ التي في هَذا الكتابِ الكريمِ إلَّا مَنْ وَعاهُ بقَلبِه وتَدبرِ مَعانيهِ، أقَلُّه يا أخي يَعني نَحنُ كلُّنا نَحفَظُ سورَةَ الإخلاصِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاصِ3:1] .
في أحَدٍ ما يَحفظُها مِنا، كُلُّنا نَحفظُ هذهِ السورَةَ حتَّى أظنَّ يَعني، حتَّى أولادَ العَجمِ يَحفظونَ هذهِ السورةَ، فهِيَ سُورةٌ شائعةٌ كَثيرةٌ عَلَى ألسنةِ الناسِ، لكِنْ أنا لا أسألُ العجمَ أسألُ العرَبَ وأقولُ لَهم: ما مَعنَى الصَّمَدُ؟ (اللَّهُ الصَّمَدُ)، اللهُ يُخبِرُ عَنْ نَفسِه يقولُ: (اللَّهُ الصَّمَدُ).
مَعنَى الصَّمدِ؟ كَثيرٌ مِنا ما يَعرِفُ مَعنَى الصمدِ، إذ ما تَعرِفُ مَعنَى الصمَدِ؟ كيفَ تُؤثِّرُ بِكَ آياتُ القرآنِ؟ إذا ما تَعرِفُ عَنِ الصمدِ؟ لن تَتأثَّرَ بالسورةِ هذهِ، لن يكونَ لها تَأثيرٌ في قَلبِك وعَملِك، لكِنْ عِندَما تُدرِكُ أنَّ مَعنَى الصمدِ: الذي تَصمُدُ لَهُ الخلائقَ، أي: تَقصِدُه الخلائقُ كلُّها في حَوائجِه، كيفَ سيكونُ تأثيرُها عَلَى قَلبِك؟ عِندَما تَقرَأُ (اللَّهُ الصَّمَدُ) بَعدَ أنْ تُدرِكَ أنَّ جميعَ الخلقِ في السماءِ والأرضِ، وفى البَرِّ والبحْرِ لا تُقضَى حَوائجُهم إلَّا مِنَ اللهِ ولا يَنالونَ ما يَنالونَ مِنْ مَرغوباتِهم إلَّا مِنَ اللهِ كَيفَ سيكونُ تَأثيرُها عَلَى قَلبِك مُختلِفٌ تَمامًا، لأنَّكَ أدرَكْتَ مَعنَى الصمَدِ، فالآنَ لمَّا تَقرأُ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ} وتُكَرِّرها مِئةَ مَرَّةٍ، وأنتَ لا تُدرِكُ ذَلِكَ المعنى لنْ يكونَ لها تَأثيرٌ، كما لو قَرَأْتَها مَرةً واحِدةً واستَحضرْتَ هَذا المعنَى تَأثيرُها كَبيرٌ؛ ولذَلِكَ يَقولُ ابنُ القَيِّمِ -رَحمَهُ اللهُ-: "قِراءةُ آيةٍ بتَدبُّرٍ (آيةٌ واحدةٌ بتدبرٍ) خَيرٌ مِنْ خَتَماتٍ".
يَعني أفضلُ عِندَ اللهِ مِنْ أنْ تقرأَ خَتَماتٍ مُتعاقبةً لِماذا؟ لأنَّ قِراءةَ آيةٍ بتَدبُّرٍ تُؤثِّرُ في القَلبِ تصلِحُ القلبَ تصلحُ العمَلَ؛ لكِنَّ قراءةَ خَتماتٍ بحَركةِ اللسانِ إذا كانَ القلَبُ عَنْها غائبًا والقلبُ فيها ليسَ بحاضِرٍ فمِنَ المُهمِّ يا إخواني أنْ نَعتنيَ بمَعاني القرآنِ، أنْ نحرِصَ عَلَى تَدبُّرِه، أنْ نحرِصَ عَلَى إدراكِ مَعانيهِ وعِندَها سنَرَى أثرَ القرآنِ في قُلوبِنا لِينًا، وطِيبًا، وذَكاءً، وصَلاحًا، وعِندَها ستجِدُ أنَّكَ لا تَملِكُ عَينَك لأنَّكَ فَهِمْتَ مِنْ مَعاني القرآنِ ما يُوجِلُ القلبَ؛ وإذا وَجلَ القَلبُ ذَرفَتِ العينُ، أما إذا كانَ القرآنُ كلامًا يُرتَّلُ دونَ وَعْيٍ لمَعانيهِ؛ فلن يَكونَ لَهُ تَأثيرٌ كما إذا حَضرَ القلبُ مُتفهِّمًا كلامَ اللهِ ـ تَعالَى ـ يَقولُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] .
اللهُ أوَّلَ ما ذَكرَ في نَفعِ القرآنِ أصحابِ القلوبِ، والقلوبُ إنَّما يُوصَلُ إلَيها بالتدبُّرِ، والتفهُّمِ، والتعَقُّلِ؛ لهَذا جَديرٌ بِنا أنْ نَحرِصَ عَلَى تَفهُّمِ كلامِ اللهِ -عزَّ وجَلَّ-، في هذهِ الليالي المُبارَكةِ نَحنُ نَسمَعُ القرآنَ مِنَ الأئمةِ ونَقرَأُه في مَساجدِنا، وفي بُيوتِنا، وفي مَكاتبِنا، وفي أسواقِنا جَديرٌ بِنا أنْ نُعطيَ جُزءًا مِنْ هَذا كلِّه وُقوفًا عِندَ الآياتِ فَهمًا لمَعانيها، تَدبُّرًا لِما فيها، وستَجِدُ أثَرَ ذَلِكَ عَلَى قَلبِك، وستَجِدُ أثرَ ذَلِكَ عَلَى سُلوكِك، ابدَأْ مِنَ اليومِ إذا مَرَّتْ بِكَ آيةٌ يَعني اقرَأْ ما شِئْتَ، لكِنْ خَصِّصْ آيةً أو جُزءًا أو مَقطعًا، اقرَأْ تَفسيرَه وانظُرْ كيفَ سيكونُ تأثيرُه عَلَى قلبِك، عِندَما تُدرِكُ مَعانيَ ما تَقرأُ، عِندَما تَفهَمُ ما يَمرُّ عَلَى سَمعِك، يا أخي المُشرِكونَ وهُم كَفرَةٌ يُعارِضونَ الرسولَ ويُقاتِلونَه كانوا إذا قُرِئَ عَلَيهمُ القرآنُ وَجَدوا عَلَى قُلوبِهم مِنَ القرآنِ كالصواعِقِ، هَذا جُبير بنُ مُطعمٍ قَبلَ أنْ يُسلِمَ -رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنهُ- يَقولُ: "جِئتُ إلى النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- فسَمِعتُه يَقرأُ في المغرِبِ سُورةَ الطورِ، وقَرأَ قَولَه، سَمِعْتُ مِنهُ قَولَه ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطُّورِ:35] ". سَمِعَ هذهِ الآيةَ، وهُوَ غَيرُ مُسلمٍ، ما كانَ مُسلِمًا لكِنْ سَمعَ هذهِ الآيةَ: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ يقولُ -رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنهُ ـ: "كادَ قَلبي أنْ يَطيرَ" صحيحُ البُخاريِّ (4854) ، هَلْ للَحْنِ القرآنِ وتَغنِّي النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- بِهِ؟ لا، لم يكُنْ هَذا هُوَ سَببُ التأثيرِ، سَببُ التأثيرِ ما حَمِلَتْهُ مِنْ مَعنى إثباتِ أنَّ اللهَ خالِقُ كلِّ شَيءٍ وأنَّهُ خَلقَك فهُوَ المُستَحِقُّ للعبادةِ، لا يُعبَدُ سِواهُ ولا يُتوجَّهُ إلى غَيرِه ـ سُبحانَه وبحَمدِه ـ هذهِ المَعاني لا تُدرِكُ يا إخواني إلَّا لمَنْ فَتحَ اللهُ قَلبَه لتَدبُّرِ القرآنِ وتَعقُّلِ مَعانيهِ، أرعِ سَمعَك لآياتِ الكتابِ، حاولَ أنْ تَفهَمَ القرآنَ ما هُوَ صَعْبٌ، اللهُ ـ تَعالَى ـ يَقولُ ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القَمرِ:17] يَسَّرَ اللهُ القرآنَ للعبادِ، والمُفلِحُ هُوَ الذي يُقبِلُ عَلَى القرآنِ، وكلُّ مَنْ أقبلَ عَلَى القرآنِ صادِقًا في طَلبِ الهُدَى مِنهُ، لا بُدَّ أنْ يَخرُجَ بهِدايَةٍ، ما يُمكِنُ أنْ يَرُدُّ اللهُ أحَدًا قَصدَ كتابَه طالِبًا الهِدايةَ يَقولُ اللهُ ـ تَعالَى ـ في مُحكَمِ كِتابِه: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العَنكبوتِ:69] وَعدٌ مِنَ اللهِ أنَّ كلَّ مَنْ جاهَدَ صادِقًا في طَلبِ الهِدايةِ مِنَ اللهِ، أنَّ اللهَ لا يَردُّه، وأعظَمُ ما تُنالُ بِهِ الهدايةُ وتُدرَكُ بِهِ الأنوارُ ويُوصَلُ بِهِ إلى رَحمةِ الرحيمِ الرحمَنِ -جلَّ في عُلاه- هَذا الكتابُ، هذهِ الرسالةُ الإلاهيةُ؛ ولأنَّهُ سببُ الهِدايةِ، حَفِظَهُ اللهُ للأوَّلينَ والآخِرينَ، ما وكَّلَ اللهُ -عَزَّ وجَلَّ- أحَدًا بحِفظِه؛ بَلْ قَدْ حَفِظَه وتَكفَّلَ بِهِ ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر:9]فجَديرٌ بِنا أيُّها الإخوةُ ونَحنُ في شَهرِ القرآنِ ونَسمَعُه مِنْ أئِمَّتِنا، وما مِنَّا أَحَدٌ إلَّا ويَقرأُ شَيئًا مِنَ القُرآنِ، الجَميعُ حتىَّ المُقصِّرونَ يُمسِكَ المُصحفَ في رَمضانَ ويَقرأُ شَيئًا مِنَ القرآنِ قَليلًا أو كثيرًا، جَديرٌ بِنا أنْ نَحرِصَ عَلَى تَدبُّرِ مَعانيهِ وطَلبِ الهدايةِ مِنهُ فإنَّ القُرآنَ حَوَى كُلَّ هِدايةٍ، ما في هدايةٍ إلَّا وجاءَ القرآنُ بها، يقولُ اللهُ ـ تَعالَى ـ في مُحكَمِ كتابِه: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أقْوَمُ﴾ [الإسراءِ:9] في ماذا؟ أقوَمُ في أيِّ شَأنٍ، ما بَينَ لأنَّهُ يَشمَلُ كُلَّ الهِداياتِ في هِدايةِ، يَهديكَ للتي هِيَ أقوَمُ في عِلاقتِك مَعَ رَبِّك، في عَلاقتِكَ مَعَ الناسِ، في خاصةِ نَفسِكَ، في شَأنِكَ العامِّ، في كلِّ شأنٍ مِنَ الشُّؤونِ، هِدايةُ القرآنِ أوسَعُ الهِداياتِ وأعظمِها وأجلِّها.
فجَديرٌ بِنا أنْ نَحرِصَ عَلَى تَدبُّرِ القرآنِ وعَلَى تَفهُّمِه وعَلَى طَلبِ الهِدايةِ مِنهُ ولنَبِشِّرْ، واللهِ لا يَخيبُ مَنْ طَلبَ الهِدايةِ مِنْ كتابِ رَبِّنا -جَلَّ في عُلاه- ولا يُضِلُّ مَنْ قَصدَ ما عِندَ اللهِ مِنْ خَيرٍ، لذَلِكَ جِدُّوا أيُّها الأخوَةُ، نَحنُ في أوَّلِ هَذا المَوسمِ المُباركِ، واللهِ ما أسرَعَ أنْ نقولَ غَدًا العيدُ، الليالي تَنقَضي، واللهُ -عَزَّ وجَلَّ- تَرغيبًا وتَخفيفًا وحَثًّا لَمَّا ذَكرَ فَرْضَ الصيامِ، قالَ: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ [البقرَةِ:184] قالَ: مَعدوداتٍ؛ لأنَّ كُلَّ مَعدودٍ سيَنقَضي، وكلَّ مَعدودٍ مَحدودٌ، وكلَّ مَحدودٍ لا بُدَّ أنْ يَفنَى، وبالتالي احرِصْ عَلَى المُبادَرةِ إلى الخَيراتِ بكُلِّ صُنوفِها وبكُلِّ أبوابِها وهَذا مَيدانُها، وهَذا أوانُها، وأنتَ مَنَّ اللهُ عَلَيكَ بجَمعِ فَضيلةِ زَمانٍ وفَضيلةِ مَكانٍ في هَذا الحرمِ المُبارَكِ وهَذا المكانُ الطيِّبُ فاجمَعْ إلى هاتَيْنِ النِّعمَتيْنِ قَلْبًا صالحًا، قَلبًا إلى اللهِ مُقبِلًا، وإلَيهِ وأبشِرْ فلَنْ تَجِدَ مِنَ اللهِ إلَّا العَطايا، لن تَجِدَ مِنَ اللهِ إلَّا الهِباتِ، سيُعطيكَ اللهُ ما لا يَرِدُ لكَ عَلَى بالٍ، واللهِ يا إخواني الذي يُعامِلُ اللهَ -عزَّ وجَلَّ- بصِدقٍ سيَجِدُ مِنْ لذَّةِ الإيمانِ وانشراحِ الصدرِ، وابتهاجِ الخاطِرِ، وطَمأنينةِ النفْسِ، وصلاحِ الشأنِ ما لا يَجِدُه بغَيرِه مِنَ الأسبابِ، الناسُ يَدفعونَ الملايين ليُدرِكوا راحَةً، ويَدفَعونَ كلَّ ما يَملِكونَ ليُدرِكوا سَعادةً، لكِنْ لا يُدرِكونَها بمِثلِ طاعَةِ اللهِ، كُلُّ ذَلِكَ لا يَأتي عُشرَ مِنْ أعشارِ الهِدايةِ إذا مَنَّ اللهُ تَعالَى بِها عَلَيكَ لِما فيها مِنْ شَرحِ الصدرِ، اللهُ -عَزَّ وجَلَّ- يقولُ: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ﴾ [الأنعامِ:125] ومِنْ نِعمةِ اللهِ يا إخواني، مِنْ نِعمةِ اللهِ عَلَينا وعَلَى الناسِ أنَّ اللهَ يُذيقُ الإنسانَ بَعْضًا مِنْ نَعيمِ الآخرةِ في الدُّنيا إذا عَمِلَ صالحًا، كما أنَّ مِنْ نِعمتِه أنْ يُذيقَه ألمَ وعَذابَ مَعصيتِه في الدنيا قَبلَ الآخرةِ، وهَذا مِنْ رَحمةِ اللهِ بعبادِه، يقولُ اللهُ تَعالَى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النَّحلِ:97] هَذا الآنَ، الحياةُ الطيِّبةُ تُدرِكُها الآنَ ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾ [الانفِطارِ:13] يَقولُ ابنُ القيِّمُ: "في نَعيمٍ ليسَ فَقطْ في الآخرةِ، في نعيمٍ في الدنيا وفي نعيمٍ في البَرزَخِ ونَعيمٍ في الآخرةِ" فيُدرِكُ المُؤمِنُ مِنْ لَذَّةِ الطاعَةِ، مِنْ نَعيمِ الاستقامَةِ، مِنْ حَلاوةِ الإيمانِ ما يُشجِّعُه عَلَى الزِّيادةِ، ما يَبعثُه عَلَى الاستِكثارِ مِنَ الخَيراتِ إنْ وَجدَ لَذةً، ولهَذا يقولُ اللهُ ـ تَعالَى ـ عَنْ أوليائِه الذينَ جِدُّوا في طاعتِه ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ [السَّجدةِ:16] تَتَجافَى جُنوبُهم عَنِ المَضاجعِ أي جُنوبُهم ما تَرقدُ، ما تَهدأُ، ما تَطمئِنُّ، ما تَرتاحُ، هِيَ نَفسُها تَتَجافَى عَنِ المَضاجعِ، لِماذا؟ قالَ العُلَماءُ: لأنَّها وَجدَتْ مِنْ لذَّةِ مُناجاةِ اللهِ ما جَعَلَها تَستصغِرُ لذَّةَ المنامِ وطِيبَ الفِراشِ أمامَ لذَّةِ القيامِ بَينَ يَدَيهِ -جلَّ في عُلاه- نسألُ اللهَ مِنْ فَضلِه، اللهُ يُبلِّغنا وإيَّاكُم هَذا الشعورَ وهذهِ النعمةَ، نِعمةٌ عُظمَى أنْ يُذيقَك اللهُ لذَّةَ الطاعةِ عِندَ ذَلِكَ تَنخلِعُ مِنْ كلِّ شَيءٍ لأنَّكَ تَجِدُ أنَّ ما عِندَ اللهِ خَيرٌ، ما عندَ اللهِ أفضلُ، ما عندَ اللهِ أعظَمُ، ولهَذا لا تَعجَبْ مِنْ ذَلِكَ الرجلِ الذي قالَ بَينَ يَدَيِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- وكانَ مَعَه تَمَراتٌ كيفَ طاحَتْ وهُوَ في القِتالِ، قالَ: "لئِنْ بَقيتُ حَتَّى آكُلَ هذهِ إنَّها لحَياةٌ طَويلةٌ" صحيحُ مسلمٍ (1901) ، أو زَهيدةٌ أو نَحوها، كلمَةٌ قالها يُبيِّنُ أنَّهُ أيقَنَ ورأَى مِنْ عَظيمِ عطاءِ اللهِ وإحسانِه ما يكونُ مَعَه العطاءُ الدُّنيَويُّ كلَا شيءٍ؛ لذَلِكَ يا إخواني جِدُّوا في الطاعةِ وأمِّلوا مِنَ اللهِ خَيرًا، «ذاقَ طَعْمَ الإيمانِ مَنْ رَضِيَ باللهِ رَبًّا، وبالإسلامِ دِينًا، وبمُحمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ نَبيًّا» صحيحُ مسلمٍ (34) ، هذهِ موعظَةٌ وذِكْرَى لي ولَكُم في استقبالِ هذهِ الليالي المُباركةِ، أنْ نَجِدَّ ونَجتهِدَ، وأنْ يكونَ مِنَّا صِدقٌ وإقبالٌ وبَذلٌ بما نَستطيعُ مِنْ أوجُهِ الإحسانِ لنَصِلَ إلى مَرضاةِ العزيزِ الغفَّارِ، نحنُ في هَذا المَوسمِ المُباركِ نَرجو أمرَيْنِ:
الأمرَ الأوَّلَ: حَطُّ السيئاتِ والخَطايا.
والأمرَ الثاني: التزوُّدُ بالتقوَى التي بِها تَعلُو المَراتبُ وترتفِعُ الدرَجاتُ.
هَذا هُوَ مَشروعُنا في هذهِ اللَّيالي والأيامِ في شهرِ رمضانَ «مَنْ صامَ رمضانَ إيمانًا واحتِسابًا غُفرَ لَهُ ما تَقدَّمَ مِنْ ذَنبِه» صحيحُ البخاريِّ (38)، ومسلمٍ (760) و«مَنْ قامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ لَهُ ما تقدَّمَ مِنْ ذَنبِه» صحيحُ البخاريِّ (37)، ومسلمٍ (759) لكِنْ تَنبَّهْ لهذَيْنِ المَلحَظَيْنِ: "صامَ" هَذا عَملٌ، "قامَ" هَذا عملُ جوارحٍ كلِّه، الصومُ: الامتِناعُ. والقيامُ: عَملٌ بَدنيُّ تَقومُ بَينَ يَديِ اللهِ، لكِنْ هَذا لا يَنفعُكَ إلَّا إذا اقتَرنَ بِهِ عملُ قَلبِك إيمانًا واحتِسابًا، الإيمانُ والاحتِسابُ عَملانِ قَلبيَّانِ، الإيمانُ هُوَ الباعِثُ عَلَى العملِ، والاحتسابُ هُوَ الهَدفُ والغايَةُ، تَنظُرُ إلى الغايةِ والهدفِ، وهُوَ العطاءُ مِنَ اللهِ -عزَّ وجَلَّ- والأجرُ، فذَكَرَ اللهُ في عَملِك، عَملينِ قَلبيينِ، عَملِ الذي يَبعثُك والذي تَرجوهُ.
الذي يَبعثُك هُوَ الإيمانُ، والذي تَرجوهُ هُوَ عطاءُ الرحمنِ -جلَّ في عُلاه-، فاحرِصْ عَلَى تَحقيقِ هذَيْنِ الوَصفَيْنِ في هذهِ اللَّيالي، وأسأَلُ اللهَ أنْ يَسلُكَ بِنا وإياكُم سَبيلَ الرشادِ، وأنْ يُعينَنا عَلَى الطاعَةِ والإحسانِ، وأنْ يُعينَنا عَلَى الصيامِ والقيامِ وسائرِ الأعمالِ الصالحةِ إيمانًا واحتِسابًا، وأنْ يَرزُقَنا القَبولَ، وأنْ يُوفِّقَنا إلى ما يُحِبُّ ويَرضَى مِنَ الأعمالِ.