الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، أحمده حق حمده، له الحمد كله، أوله وآخره، ظاهره وباطنه، وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله صفيه وخليله، خيرته من خلقه، بعثه الله بالهدى ودين الحق ين يدي ساعته بشيرًا ونذيراً، وداعيًا إليه بإذنه، وسراجًا منيرًا، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمَّة، وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى آثره بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن رب العالمين إله الأولين والآخرين خلق الجن والإنس ليعبدوه، وجعل عبادته طريقًا للوصول إلى جنَّته، فمن آمن به واشتغل بما يحب ويرضى فاز بسعادة الدنيا ونجاة الآخرة، وبلغ رضوان الله، وأدرك فضله.
وبقدر ما يكون الإنسان محققًا لصالح العمل، مجتهدًا في أن يكون عمله لله خالصًا، وعلى هَدي النبي صلى الله عليه وسلم سائرًا؛ بقدر تحقيق هذين الأمرين يتحقق له السَّبق إلى الفوز، وإلى الجنة، وإلى رضوان الله عز وجل.
لهذا السباق في هذه الحياة الدنيا ليس في حصول العمل على أي وجه كان؛ بل في حصول العمل على أحسن ما يكون، وعلى أحسن الممكن، قال الله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ﴾ أيش؟ ﴿أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[الملك:2].
فالمسابقة إلى الله عز وجل ليست في أن يكون العمل للإنسان على أي وجه كان دون إتقان وإحسان، بل المسابقة إلى الله عز وجل في أن يكون العمل على أحسن ما يكون، واعلم أيها المؤمن، أيها الموفَّق، أيها الراغب فيما عند الله أنه لا يمكن أن يتحقق لك ما ترجو من حسن العمل إلا بأمرين، لابد منهما:
الأمر الأول:إخلاص العمل لله عز وجل، أن تجتهد فيما ترجوه وما تؤمله وما تقصده بعملك الله وحده لا شريك له، فلا تقصد سواه، فكل من قصده غيره فقد حبط عمله، في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عمل عملًا وأشرك فيه معي غيري تركته وشركه».
فاحذر، احذر أن يذهب عملك وسعيك وكدك هباءً منثورًا، فإن ما كان لغير الله لا يصله جل في علاه، وما كان له فإنه لا يمنعه منه مانع؛ بل يأخذه ويقبله، ويرضاه ويزيده، حتى يبلغ به العبد أعلى ما يكون من درجات الرضوان.
فاحرص على الإخلاص في عملك، واجتهد في أن يكون ما عند الله هو الذي إليه تسعى، لا يغرنك ثناء الناس، ولا يظهرنك جميل قولهم فيك، فإن ذلك لا يغنيك، مهما قالوا الناس فيك من كلام طيب حسن فإن ذلك لا يغنيك بين يدي الله عز وجل؛ إنما الذي ينفعك هو الذي بينك وبين الله، الذي ينفعك هو ما يطَّلع الله عليه في قلبك.
فإذا كان قلبك لله خالصا وله راغبا وفيما عنده طالبا أبشر؛ فإنك ستنال ما تُؤمل من خير الدنيا والآخرة، سيجعل الله لك ودًّا في قلوب الخلق، بخلاف ما إذا سعيت واجتهدت في طلب ما عند الناس؛ فإنك ستخسر الاثنين، لن تدرك رضا الله؛ لأنك طلبت سواه، ولن تدرك رضا الناس؛ لأن الناس لا يمكن أن يرضوا إلا إذا أقبل الله بقلوبهم عليك.
والقلوب بيد من؟ بيد الله جل في علاه، يصرفها كيف شاء، فيقبل بقلوب الناس على أوليائه، ولو لم يظهر عملهم، ولو لم يتحدثوا بعملهم، فذلك عاجل بشرى المؤمن، يقول الله عز وجل في محكم كتابه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾[مريم:96].
﴿وُدًّا﴾ أي: محبَّة في قلوب الخلق دون سبب، ودون مصلحة، ودون رغبة أو رهبة، محبة لا يعرفون سببها، ولا يعرفون سرَّها، ولا يدركون لها معنى ظاهرًا، إلا أنه قذف الله في قلوبهم محبة هذا الشخص، وذاك فضله جل في علاه، فإنه إذا أحب العبد أقبل بقلوب العباد إليه، وأقبل بقلوب الخلق إليه.
لذلك لا تسأل ولا تعب نفسك في طلب رضا الناس أبدا؛ إنما اجتهد في أن تطلب رضا الله، وهذا لا يعني أن تسيء إلى الناس، لا، عدم طلب رضا الناس يختلف عن حسن المعاملة، أنت أحسن إلى كل أحد، فالله عز وجل يقول: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}[البقرة:83]؛ لكن عندما يكون هناك قصد بالعمل لا تقصد ثناء الناس، ولا مدحهم، ولا المكانة في نفوسهم، ولا شيئًا من ذلك؛ فإنك لن تدرك شيئًا من هذا بقصد الناس؛ إنما تدركه برضا الله جل في علاه؛ ولهذا من قصد الله جاءه كل ما يؤمل، ومن قصد غير الله لم يدرك شيئًا.
لذلك يا إخواني في أعمالكم الظاهرة والباطنة، الخفية والمعلنة، الدقيقة والجلية اجعل عندكم قاعدة أنكم إنما تبتغون الله، لا تطلبون سواه، ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ﴾ها؟ ﴿لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً﴾يعني: مكافأة ومقابلة على هذا الإطعام، ولا حتى الشكر ﴿وَلا شُكُورًا﴾[الإنسان:9]يعني: لا نريد منكم عمل تقابلون به هذا الإحسان، ولا حتى القول الحسن والكلمات الطيبة لا نطلبها مقابل العمل الصالح، لا نطلبها من أحد، وهذا يحتاج إلى أن ينظر الإنسان في نيته، وأن يكون عليها رقيبًا، وأن يكون منها على بال، وألا يُغفل قصده ونيته؛ فإن الغفلة عن المقاصد والنيات يورد الإنسان المهالك.
وأضرب لكم مثلًا في سؤال ورد على سيد ولد آدم نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، جاء في المسند والسنن من حديث أبي إمامة الباهلي: أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا رسول الله، الرجل يقاتل" والقتال أي: الجهاد في سبيل الله، "الرجل يقاتل، يبتغي الأجر والذِّكر" يبتغي الأجر من الله عز وجل، والذِّكر من الناس، أن يثنوا عليه، أن يقولوا: شجاع، أن يقولوا: مقدام، أن يقولوا: ما أحسن عمله، ما أجرأه، وما إلى ذلك مما يطلبه الناس بالإقدام والشجاعة والقتال، ماله؟ إيش يدرك؟ الرجل يسأل يقول: هذا يقاتل يجاهد في سبيل الله، يطلب أمرين: الأجر من الله، والذكر من الناس ما له؟ أي شيء له؟، هل يدرك أجرًا وثوابًا على ذلك؟
قال النبي صلى الله عليه وسلمفي جواب بيّنٍ واضح: «لا شيء له»، قتال هو من أشد الأعمال، وأصعبها على النفوس، وأشقها على الناس، ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾[البقرة:216]، ومع هذا يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: «لا شيء له»، يعني حتى القدر الذي قصد به الله عز وجل ذهب عليه، والذِّكر لم يحصله؛ لأنه قال: «لا شيء له»، فلا يدرك أجرًا ولا ذكرًا، مَن عمل ليُذكر فلم يُذكر.
أعاد الرجل المسألة على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا رسول الله، الرجل يقاتل، يبتغي الأجر والذكر، ما له؟" ولعله استغرب الجواب كيف ما يكون له شيء ؟! فأعاد المسألة حتى يثتثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك سؤاله، ما له؟ أي شيء له؟ قال: «لا شيء له»صلى الله عليه وسلم، أعاد الجواب بنفس الأحرف.
أعاد الرجل السؤال مرة ثالثة، فقال: "يا رسول الله، الرجل يقاتل، يبتغي الأجر والذكر، ما له؟" فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا شيء له؛ إنما يتقبل الله من العمل ما كان خالصًا، وابتغي به وجهه».
تنبه لهذه الكلمات النيرات التي تمثل قاعدة قبول العمل، القاعدة والمعيار الذي يحكم به على العمل بالقبول والرد هو مدى ما في هذا العمل من تحقيق الإخلاص لله، «إنما يتقبل الله من العمل ما كان خالصًا»، خالصًا يعني: ما يقصد به سوى الله، الشيء إذا خُلِّص: نُقيّ وطُهِّر وهُذِّب، وأُخرج كل ما يكون أن يشوبه، «ما كان خالصًا، وابتغي به وجهه»، أي: طلب به وجه الله.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وابتغي به وجه الله تعالى» تأكيد لمعنى الإخلاص، وتفسير له، يعني كيف يكون عملك خالصاً ألا تقصد بعملك سوى الله جل في علاه؟ فلا تطلب سواه، ولا ترجو إلا إياه، ولا تبتغي أجرًا وثوبًا من غير الله عز وجل، فطلبك ورغبتك فيما عنده سبحانه وبحمده.
نحن نصلي يا إخوان ونصوم ونحج ونقوم ونزكي و... و... من الأعمال الصالحة، وكل حسب ما يفتح الله تعالى عليه في الفرائض والتطوعات، اعلموا ذلك كله إذا لم يقبله الله عز وجل فلا نفع فيه، ولا خير فيه، إذا لم يقبله الله فإنه عناء وكدّ وتعب، لا ثمرة له؛ لذلك لنحرص على إخلاص العمل لله، والإخلاص يحتاج إلى نفس متنبِّهة، وعقل حاضر، وفؤاد منتبه إلى ألا تجذبه دواعي الرغبة في فيما عند الناس.
ثناء الناس تهفو إليه النفوس، ومدحهم ترغب فيه القلوب؛ لكن إذا تيقنت أن الثناء الحقيقي هو ثناء الله، والرفع الحقيقي هو رفع الله، والمجد الحقيقي هو أن يقبلك الله؛ فوالله ستزهد في كل ثناء سوى ثنائه، وفي كل مدح سوى مدحه.
جاء رجل إلى نبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا رسول الله، أعطني"، طلب من النبي صلى الله عليه وسلم عطاءً، "أعطني" أي: مالًا أو مما أعطاك الله، وحتى يرغبه في العطاء،قال له: "إن مدحي زين، وذمي شين"، يعني: إن أعطيتني مدحتك، ومدحي زين، بمعنى أنه يزين الإنسان، يطير في الآفاق، وذمي إذا ذممت شخصًا شين، أي: خفضته ونزلت به، هذا ترغيب وترهيب أليس كذلك؟
يقول: "مدحي زين، وذمي شين"؛ حتى يُقدم على العطاء، ويحجم عن المنع، فبماذا أجابه سيد ولد آدم صلوات الله وسلامه، انظروا يا إخوان القاعدة التي نحقق بها الإخلاص، قال النبي صل الله عليه وسلم كلمتين: «ذاك هو الله»، الذي مدحه يزين هو الله، والذي ذمه يشين هو الله، أما مدح الناس وذمهم فسرعان ما يتبدد، «ذاك هو الله»، فإذا أردت مدحًا وثناءً ومجدًا فاطلبه من الله، لا تطلبه من سواه.
جرَّبه من عنده لا تلتفت إلى غيره، وبذلك تفوز فوزًا عظيمًا، وتسبق سبقًا كبيراً، هذا هو الشرط الأول الذي يتحقق به إحسان العمل: أن يكون عملك على أحسن ما يكون، واجعله في كل أعمالك، الظاهرة والباطنة، الخفية والمعلنة، الواجبة والمستحبة، احرص على الإخلاص، أجرك بقدر إخلاصك، فبقدر ما تخلص بقدر ما تحقق وتفوز بالأجر.
نحن نعمل، كثير من الناس يعمل واجبات ومستحبات؛ لكن قليل من الناس من يتفطن إلى عمل القلب، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكر الصيام والقيام -وهما عمل شهر رمضان- قال صلى الله عليه وسلم منبهًا إلى عدم الاقتصار على العمل الظاهر من صيام وقيام، نبه إلى عمل القلب، فقال: «مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم منه ذنبه، ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه».
فإذا صمت وقمت وإذا فعلت كل طاعة أو كل إحسان فجدّ واجتهدّ إلى أن يكون عملك إيمانًا واحتساباً، إيمانًا: تصديقًا وقبولاَ لما فرض الله، وإقرارًا بما شرع، واحتسابًا: طلبًا للأجر من عنده سبحانه وبحمده.
أما الشرط الثانيالذي يتحقق به إحسان العمل، وأن يكون عملًا محققًا للفوز والسبق والنجاة والنجاح: أن يكون وفق ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن خير الهديّ هديّ محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.
فاحرص في أعمالك أن تكون على نحو عمله، لا تتعب نفسه باجتهاد خارج سنته، فإن النبي قد أعطى قاعدةً ومعيارًا يقاس به العمل المقبول من العمل المردود، فقال كما في الصحيحين من حديث محمد بن القاسم عن عائشة رضي الله وتعالى عنها: «مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه–أي: ما ليس مما جئت به، وما ليس مما دللت عليه-فهو ردٌّ»، «رد» يعني: مردود على صاحبه.
ولذلك إياك أن تجتهد في غير سنة؛ فإن الاجتهاد في غير سنة ولو كان خالصًا لا يوصل إلى الغاية، ولا تدرك به المطلوب، فاحرص على السنة ظاهرًا وباطنًا، في كل ما تأتي وتذر.
ولاحظ أن أركان الإسلام حث فيها سيد الأنام فيها على تلقيها منه، فالصلاة -وهي عمود الدين، وهي أعظم الواجبات بعد التوحيد- يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيها: «صلوا كما رأيتموني أصلي».
فهل صلاتك كصلاته، في سكانته وحركاته وقيامه وقعوده؟ ليس ذلك فحسب؛ بل في ظاهرها وباطنها، في خشوعها، وحضور القلب فيها، وسائر ما يتعلق بأعمال القلوب، فتِّش عن صلاتك، وانظر مدى تحقيقك لمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم.
وهكذا الزكاة بيَّنها صلى الله عليه وسلم بيانًا واضحًا، وهكذا الصوم بيًّنه صلى الله عليه وسلم بيانًا واضحاً.
وهكذا الحج يقول فيه: «خذوا عني مناسككم؛ لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا»، في الصلاة والحج أمر بالأخذ عنه مباشرة؛ لأنه يتلقى بالنظر والمشاهدة، وأما الزكاة والصوم فلم يقل: زكوا كما رأيتموني أزكي؛ لأن الزكاة تختلف باختلاف أصحاب الأموال، فالنبي ما كان عنده سائمة، فلم يقل: زكي كما رأيتموني أزكي؛ إنما بيّن الزكاة كيف تكون.
والصوم ليس عملًا ظاهرًا حتى يقول: صوموا كما رأيتموني أصوم؛ بل الصوم عمل قلبيّ، سر بينك وبين الله، عماده النية، وهي أن تقصد الله عز وجل بالصوم، فلا تقصد سواه، وتكون على نحو ما فرض في ابتداء الصوم وانتهائه، نية وإمساكًا.
هذه هي الأمور التي ينبغي أن يراعيها العامل حتى يحقق العمل الصالح: أن يكون عمله وفق السنة، وأن يكون عمله خالصًا لرب العباد.
وعلى قدر ما تحقق من هذين الوصفين في عملك أبشر، فستنال من الله عطاءً وفضلًا وهباة وجزاءً عظيمًا، فاحرص على الاستكثار .
اللهم اسلك بنا سبيل الرشاد، أعنا على الطاعة والإحسان، خذ بنواصينا إلى ما تحب وترضى من الأعمال.