×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

مرئيات المصلح / من رحاب الحرمين / أنتم الفقراء إلى الله

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis

المشاهدات:5763

الحَمدُ لِلَّهِ حَمدًا كَثيرًا طَيِّبًا مُبارَكًا فيهِ، مِلءَ السماءِ والأرضِ، ومِلءَ ما شاءَ اللهُ مِنْ شَيءٍ بَعدُ، نَحمَدُه حَقَّ حَمدِه، لَهُ الحَمدُ كُلُّه، أوَّلُه وآخِرُه، ظاهِرُه وباطِنُه، أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، إلهُ الأوَّلينَ والآخِرينَ، لا إلهَ إلَّا هُوَ الرحمَنُ الرحيمُ، وأشهَدُ أنَّ مُحمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صَفيُّه وخُليلُه، خِيرتُه مِنْ خَلقِه، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِه وصَحبِه، ومَنِ اتَّبعَ سُنَّتَه، واقتَفَى أثَرَه بإحسانٍ إلى يَومِ الدِّينِ، أمَّا بَعدُ:

فإنَّ اللهَ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ بيَّنَ في مُحكَمِ كِتابِه أنَّ مَنِ استَقامَ وامتَثلَ أمرَ رَبِّ العالَمين فإنَّما يَنتفِعُ لنَفسِه، وما يَكونُ مِنْ طاعَةٍ أو إحسانٍ إنَّما هُوَ مِنْ فَضلِ العَزيزِ المنَّانِ جَلَّ في عُلاه، فهُوَ المُتفضِّلُ عَلَى العِبادِ بما يُيسِّرُ لَهُم مِنْ أوجُهِ الطاعةِ، وصُنوفِ البِرِّ، وألوانِ الإحسانِ؛ ولذَلِكَ يَنبغي لكلِّ عاملٍ يَشتغِلُ بشَيءٍ مِنَ العَملِ الصالِحِ أنْ يَحمَدَ اللهَ تَعالَى عَلَى ما مَنَّ بِهِ مِنْ صالِحِ العملِ، فإنَّ اللهَ أخبرَ في كتابِه: أنَّ  ﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا[الإسراءِ:15] .

وقَدْ ذَكرَ رَبُّنا ـ جَلَّ في عُلاه ـ أنَّ مَنْ تَزكَّى واشتَغلَ بصالِحِ العَملِ فإنَّما يَعملُ لنَفسِه، قالَ ـ جَلَّ في عُلاهِ ـ: ﴿وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ[فاطِرِ:18] .

﴿وَمَنْ تَزَكَّى﴾ أي: مَنِ اشتَغلَ في زَكاءِ قَلبِه وتَطهيرِه، فالزكاءُ: هُوَ الطُّهرَةُ والطِّيبُ، والنقاءُ والسلامَةُ، ﴿فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى﴾: إنَّما يَسمو ويَتطهَّرُ ويَتطيَّبُ لنَفسِه، فهُوَ المُستَفيدُ المُنتَفِعُ مما يَكونُ مِنَ الصالِحِ.

وقَدْ جاءَ هَذا بيِّنًا صَريحًا في خِطابِ رَبِّ العالَمينَ للعبادِ، فيما رَواهُ مُسلمٌ في صَحيحِه مِنْ حَديثِ أيوبٍ عَنْ أبى ذَرٍّ قالَ: قالَ رَسولُ اللهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ: «يَقولُ اللهُ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ: يا عِبادي، إنَّكم لن تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي، ولن تَبلُغوا نَفْعي فَتَنْفَعُوني، يا عِبادي، إنَّما هِيَ أعمالُكم أُحصيها لَكُم، فمَنْ وَجَدَ خَيرًا فليَحمَدِ اللهَ، ومَنْ وَجَدَ غَيرَ ذَلِكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفسَه» صحيحُ مُسلمٍ (2577) .

هَذا المَقطعُ مِنْ هَذا الحَديثِ الشريفِ الطويلِ العَظيمِ الجليلِ يُبيِّنُ أنَّ العِبادةَ لا يَنتَفِعُ مِنها المَعبودُ ـ جَلَّ في عُلاه ـ فهُوَ ـ سُبحانَه وبحَمدِه ـ غَنيٌّ عنَّا وعَنْ عِبادتِنا، عِبادَتُنا لا تَزيدُ في عِزِّه، ولا يَسمو بها مُلْكُه، ولا يَعلو بها شَأنُه، ولا يَزيدُ بها قَدرُه، ولا يَكثُرُ بها غِناهُ، فإنَّهُ ـ سُبحانَهُ ـ الغنيُّ الحَميدُ ـ جَلَّ في عُلاه ـ لن يَكتَسِبَ مِنْ فِعْلِ عِبادِه وطاعَتِهم وعِباداتِهم شَيئًا، كما أنَّه ـ سُبحانَه ـ لا يَنقُصُه شَيءٌ أنْ يَعصيَهُ العاصونَ، وأنْ يُعرِضَ عَنهُ المُعرِضونَ، ﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا[يُونَسَ:108] .

لذَلِكَ تَذكَّرْ هَذا المَعنى، واعلَمْ أنَّكَ في كلِّ ما تَأتيهِ مِنَ الطاعاتِ إنَّما تَنفَعُ نَفسَك، وفي كلِّ ما تَترُكُه مِنَ المُحرَّماتِ إنَّما تُنجِي نَفسَك، فأنتَ المُستفيدُ مِنْ طاعاتِ اللهِ، والاشتِغالِ بعباداتِه، وأنتَ المُستفيدُ مِنْ كُلِّ امتِثالٍ لأمرِه فِعْلًا ولنَهيهِ تَركًا؛ لذَلِكَ إذا وُفِّقْتَ إلى شَيءٍ مِنْ هَذا فأحمَدِ اللهَ بقَلبِك أنَّ اللهَ يَسَّرَه لكَ.

ولذَلِكَ يَقولُ: «فمَنْ وَجدَ خَيرًا فليحمَدِ اللهَ»؛ لأنَّهُ المُستحِقُّ للحَمدِ، فهُوَ الذي يسَّرَ لكَ الطاعَةَ، وهُوَ الذي أعانَكَ عَلَيها، وهُوَ الذي يَتقبَّلُها مِنكَ بفَضلِه ومَنِّه وإحسانِه، كما أنَّهُ هُوَ الذي يُثيبُكَ عَلَيها ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ فلا تَغتَرْ، واحذَرْ أنْ يدُبَّ إلى قَلبِك شَيءٌ مِنْ رُؤيةِ العَملِ، فالعَملُ مَهْما عَظُمَ وكَبُرَ فإنَّ حقَّ اللهِ عَظيمٌ، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعامِ:91] .

لِذا لو أنَّ الخَلْقَ كُلَّهم لم يَفتُروا عَنْ عِبادةِ اللهِ لحظَةً مُنذُ أنْ خَلقَهمُ اللهُ ـ تَعالَى ـ إلي آخِرِ الحياةِ؛ فإنَّهُم لن يَقوموا بحَقِّه ـ جَلَّ جَلالُه ـ فحَقُّه أجلُّ، وحَقُّه أعظَمُ، وما لَهُ مِنَ الإجلالِ والتقديرِ أكبَرُ مِنْ أنْ يُحيطَ بِهِ العبادُ.

تَيقَّنْ هَذا، وبِهِ تَعلَمُ أنَّ كُلَّ ما تَفعَلُه قَليلٌ في حقِّ رَبِّ العالَمينَ، وأنَّ كُلَّ ما تُقدِّمُه إنَّما هُوَ بُرهانُ القُربانِ، ودَليلُ صِدقٍ، وعَربونُ قَبولٍ، وإلَّا فالعَملُ مَهما كانَ عَلَى أجوَدِ ما يَكونُ وأتقَنِ ما يَكونُ لا يَرقَى في إيفاءِ اللهِ حَقَّه، ولا يَبلُغُ بِهِ العبدُ مَرضاتَه -جَلَّ في عُلاه- لَوْلا فَضلُه ورَحمَتُه.

سَيِّدُ وَلدِ آدمَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ كانَ أعبَدَ الناسِ لربِّه، فمُنذُ أنْ قالَ لَهُ رَبُّه: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّر[المُدَّثرِ:4]لم يَقعُدْ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ عَنْ طاعَةِ اللهِ، في سِرٍّ ولا في إعلانٍ، في مَنشَطٍ ولا في مَكرَهٍ، في عُسرٍ ولا في يُسرٍ، كانَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم ـ عَظيمَ العُبوديةِ لِلَّهِ في كُلِّ أحوالِه، مَعَ عَظيمِ وَعدِ اللهِ لَهُ، وكَبيرِ إحسانِه إلَيهِ، ﴿إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا[الفَتْحِ:2] ، مَعَ هَذا كانَ ـ صلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ يُقيمُ اللَّيلَ حَتَّى تَتفطَّرَ قَدماهُ -تَتفطَّرَ أي: تتورَّمُ مِنْ طولِ القيامِ- فكانَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ يَقومُ لَيلًا طَويلاً.

ولتَعرِفَ مَدَى هَذا الطولِ اسمَعْ إلى ما ذَكرَهُ أحَدُ مَنْ صَلَّى مَعَه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ في لَيلَةٍ مِنَ اللَّيالي في غَيرِ رَمَضانَ، في لَيلةٍ لم تكُنْ مِنَ لَيالي رمضانَ، كانَتْ مِنْ لَيالي السَّنةِ، والناسُ في لَيالي العامِ لا يَكونونَ في نَشاطِهم للقيامِ كما هُمْ في رَمضانَ، يَقولُ: فافتتَحَ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ البَقرةَ، فقُلْتُ: يَركَعُ عِندَ المئةِ، فمَضَي، فقُلتُ: يَركعُ بِها –أي: إذا فَرغَ مِنَ البَقرةِ- ثُمَّ افتتَحَ النِّساءَ، فقلتُ: يَركَعُ بها –أي: إذا فَرغَ مِنَ النساءِ- ثُمَّ افتتَحَ آلَ عِمرانَ، فقَرأَ في رَكعَةٍ خمسةَ أجزاءٍ: البَقرةَ، والنساءَ، وآلَ عِمرانَ، وهذهِ في قياسِ الأجزاءِ تَزيدُ عَلَى خَمسِ أجزاءٍ وشَيءٍ في رَكعةٍ واحِدةٍ، وهُوَ الذي حَطَّ اللهُ سِيئاتِه، غَفَرَ لَهُ ما تَقدَّمَ مِنْ ذَنبِه.

قالَ لَهُ أصحابُه: أتفعَلُ هَذا وقَدْ غَفرَ اللهُ تَعالَى لَكَ ما تَقدَّمَ مِنْ ذَنبِكَ وما تَأخَّرَ؟ فقالَ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ: «أفَلا أكونُ عَبدًا شَكورًا» صحيحُ البُخاريِّ (4836)، وصحيحُ مُسلمٍ (2819) .

هَذا الإنعامُ وهَذا المَنُّ لا يَستَوجِبُ غَفلةً وإعراضًا؛ إنَّما يَستوجِبُ شُكرًا وثَناءً وإقبالًا عَلَى اللهِ؛ حَتَّى تَدومَ تِلكَ النِّعَمُ، وتَثبُتَ تِلكَ المِننُ مِنَ اللهِ الكريمِ المنَّانِ سُبحانَه وبحَمدِه.

أيُّها الإخوَةُ، تَذكَّروا أنَّنا فُقراءُ إلى اللهِ ـ جَلَّ في عُلاه ـ ليسَ بِنا غِنًى عَنْ فَضلِه، ولا بِنا غِنًى عَنْ إحسانِه، يَقولُ ـ جَلَّ عُلاه ـ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ[فاطِرِ:15] ، أمَّا هُوَ ـ جَلَّ في عُلاه ـ فيَقولُ عَنْ نَفسِه: ﴿هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ[فاطِرِ:15]، فهُوَ غَنيٌّ حَميدٌ ـ جَلَّ في عُلاه ـ غَنىٌّ عَنَّا، وانظُرْ إلى قَولِه: (حميدٌ) أي: مَحمودٌ دُونَ عِبادتِنا، فعبادَتُنا لا تَزيدُه شَيئًا سُبحانَه وبحَمدِه.

يا أخي، تَذكَّرْ آيةً في كِتابِ اللهِ تُبيِّن لكَ قَدْرَ عِبادتِكَ، وكيفَ يُمكِنُ أنْ تَنظُرَ إلَيها في مَجموعِ هَذا الخَلْقِ العَظيمِ: {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الحشرِ:24] ، يَقولُ ـ جَلَّ في عُلاه ـ: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ[الإسراءِ:44] .

إدراكُكَ لهَذا يُلغي مِنْ قَلبِك أيَّ نَظرٍ إلى هذهِ العبادةِ بنَوعٍ مِنَ الافتِخارِ أو العُجْبِ، إذا وفِّقْتَ لعمَلٍ صالِحٍ فهِيَ مِنَّتُه، وهُوَ فَضلُه، وهُوَ إحسانُه، ذاكَ يَستوجِبُ شُكرَه والثناءَ عَلَيهِ، وجَميلَ ذِكْرِه ـ سُبحانَه وبحَمدِه ـ لأنَّ النِّعمَ تدومُ بالشُّكرِ، كما أنَّ النِّعمَ تَزولُ بالكُفرِ، قالَ اللهُ ـ تَعالَي ـ: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ[إبراهيمَ:7].

فاحمَدِ اللهَ عَلَى كُلِّ طاعَةٍ، احمَدِ اللهَ عَلَى كلِّ سَجْدةٍ، احمَدِ اللهَ عَلَى كلِّ صالِحٍ تَقومُ بِه، وتَضرَّعْ إلى اللهِ أنْ يَقبَلَه، فواللهِ لو لم يَقبلْهُ اللهُ كانَ هباءً مَنثورًا، فإنَّ الذي لا يَقبَلُه لا يَرفَعُه، والذي لا يَرفَعُه لا يُثيبُ عَلَيهِ.

لذَلِكَ إذا عَمِلْتَ صالِحًا لا يَتبختَرُ هَذا الصالِحُ في عَينِك، فيَكونَ سَببًا لعُجْبِكَ، ورَؤيتِكَ لنَفسِك، وإدِّلالِك عَلَى رَبِّك، اللهُ هُوَ المُتفضِّلُ عَلَينا، إذا أطَعناهُ ذاكَ فَضلُه، وإذا قَبِلَنا ذاكَ فَضلُه، وإذا أثابَنا ذاكَ فَضلُه، فلا نَخلو عَنْ فضلِه ابتِداءً وانتِهاءً، لا نَخلو عَنْ فضلِه في كلِّ أحوالِنا، فلنَقُلِ: الحَمدُ لِلَّهِ بقُلوبٍ مُستشعِرةٍ عَظيمَ مِنَّةِ اللهِ عَلَيها، وعَظيمَ فَقرِها إلَيهِ.

فبالافتِقارِ تُفتَحُ أبوابُ العَطاءِ، بالافتقارِ إلى اللهِ يَأتيكَ مِنَ العطاءِ ما لا يَرِدُ لَك عَلَى بالٍ، بخِلافِ ذاكَ الذي يَتعامَلُ مَعَ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ مُعاملَةَ الشحيحِ، الذي إذا قدَّمَ طاعَةً مَنَّ بِها عَلَى رَبِّه، ورَآها شَيئًا كَبيرًا في حَقِّ مَولاهُ، وهُوَ المُتفضِّلُ عَلَيهِ بالخَلقِ، وهُوَ المُتفضِّلُ عَلَيهِ بالقُدرَةِ، وهُوَ المُتفضِّلُ عَلَيهِ بالآلاتِ والأعضاءِ، وهُوَ المُتفضِّلُ عَلَيهِ بشَرحِ صَدرِه للإيمانِ، وهُو المُتفضلُ عَلَيهِ بتَوفيقِه لصالِحِ الأعمالِ، وهُو المتفضِّلُ عَلَيهِ بالقَبولِ لهَذا العَملِ، وهُو المتفضلُ عَلَيهِ بالإثابَةِ، فأينَ فَضلُكَ؟ كلُّكَ مَغمورٌ بفَضلِه مُنذُ أنْ خَلقَك إلى أنْ يُدخِلَك جَنَّتَه إنْ كُنتَ مِنْ أوليائِه وعبادِه، فقُلِ: الحَمدُ لِلَّهِ صادِقًا، وأقِرَّ بفَضلِه، مُوقِنًا أنَّهُ لا غِنًى بِكَ عَنْ فَضلِ اللهِ.

"واللهِ لَوْلا اللهُ ما اهتَدينا، ولا تَصَدَّقْنا، ولا صَلَّينا" صحيحُ مُسلمٍ (1802)، هَكَذا كانَ أصحابُ محمدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ يَرتَجِزونَ، يُذكِّرونَ أنفُسَهم بعَظيمِ نِعمةِ اللهِ عَلَيهِم، وأنَّ اللهَ هُوَ الذي تَفضَّلَ عَلَيهم بشَرحِ صُدورِهم، وهِدايةِ قُلوبِهم، وإعانتِهم عَلَى سُلوكِ الصِّراطِ المُستقيمِ.

لكِنْ تَذكَّرْ هَذا حَتَّى لا تَستكثِرَ في حَقِّ رَبِّك شَيئًا، فحَقُّ اللهِ عَلَينا عَظيمٌ، يَقولُ ابنُ القَيِّمِ -رَحمَهُ اللهُ - وهُوَ مُستفادٌ مِنْ حديثٍ نَبويٍّ يَقولُ: "لو أنَّ العبدَ قَدِمَ عَلَى اللهِ يومَ القيامةِ" تَخيَّلْ هَذا المَشهدَ: "لو أنَّ العبدَ قدِمَ عَلَى اللهِ يَومَ القيامةِ بأعمالِ الثقَلَيْنِ الصالحةِ -يَعنى: جاءَ واحدٌ ومَعَه أعمالُ كلِّ البَشرِ الصالحةِ كُلِّها في مِيزانِ حَسناتِه- لم يَفِ اللهَ حَقَّه، فحَقُّ اللهِ عَظيمٌ!".

والنبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ أعبَدُ الناسِ لرَبِّه يَقولُ: «واعلَموا أنَّ أحَدًا مِنكُم لن يَدخُلَ الجنَّةَ بعَملِه»، البطَّالونَ العابِثونَ يَأخذونَ مِثلَ هذهِ الأحاديثِ سَببًا لتَرْكِ العملِ وتَقليلِه وتَهوينِه، وأنَّ العملَ ما لَهُ تَأثيرٌ، صَلَّيتُ ما صَلَّيتُ، تَصدَّقْتُ ما تَصدَّقتُ، كَلُّهُ واحِدٌ، الجنَّةُ برحمَةِ اللهِ، لا، هَذا الذي قالَ: «واعلَموا أنَّ أحَدًا مِنكُم لن يَدخُلَ الجَنَّةَ بعَملِه» صحيحُ البُخاريِّ (5673)، وصحيحُ مُسلمٍ (2616)  كانَ يُقيمُ حتَّى تتورَّمَ قَدماهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ لم يَترُكِ العَملَ، ولَمَّا قِيلَ لَهُ في ذَلِكَ قالَ: «أفَلا أكونُ عَبدًا شَكورًا؟» صحيحُ البُخاريِّ (4836)، وصحيحُ مُسلمٍ (2819) .

فيَنبَغي للمُؤمِنِ أنْ يَعيَ أنَّ العَملَ إنَّما هُوَ إظهارُ صِدقِ الرغبَةِ فيما عِندَ اللهِ، لكِنْ هُوَ في ذاتِه لو وُضِعَ في الميزانِ لم يَفِ بحَقَّ الرحمَنِ، لو وُضِعَ في الميزانِ لم يَكُنْ لَهُ وزنٌ مُعتبَرٌ؛ لأنَّ نِعمَ اللهِ عَليكَ عَظيمةٌ، أنتَ مُنذُ أنْ خَلقَكَ اللهُ، اللهُ خَلقَك، أعطاكَ الحياةَ، هذهِ نِعمةُ اللهِ، أعطاكَ السمْعَ، أعطاكَ البَصرَ، أجرَى الدمَ في عُروقِك دُونَ سُؤالٍ مِنكَ، ساقَ الرِّزْقَ إلَيكَ، وأوصَلَه إلى أعضائِكَ دونَ عملٍ مِنكَ.

نَحنُ نَأكلُ، نَتصرَّفُ في الأكلِ الذي يَدخُلُ إلى أجوافِنا، ونَقومُ بتَوزيعِه إلى أعضاءِ الجِسمِ، أمِ اللهُ الذي يَتولَّى ذَلِكَ بحِكمتِه جَلَّ في عُلاه سُبحانَه وبحَمدِه؟ اللهُ ـ جَلَّ في عُلاه ـ هُوَ الذي يَتولَّى ذَلِكَ.

أنتَ الآنَ لو خَدمَك شخصٌ خِدمةً عارِضةً لرَأيْتَ لَهُ فَضْلًا عَليكَ، لو أنَّ أحَدًا مَنعَك مِنْ طَريقٍ، ثُمَّ جاءَ شخصٌ أدخلَكَ مِنْ هَذا الطريقِ لرَأيْتَ لَهُ عَلَيك مِنّةً، كُلَّما رَأيْتَه قُلتَ لَهُ: جَزاكَ اللهُ خَيرًا، ما قصرت، وقَفَ في مَوقفٍ، أليسَ كَذلِكَ؟

حَتَّى لو تَعطَّلَتْ سيارتُكَ وجاءَ واحدٌ وأعانَكَ رَأيتَها إحسانًا لا يُنسَى، تَشكُرُه في كلِّ مُناسبَةٍ تَلقاهُ فيها، فكَيفَ بالذي لا تَنفَكُّ مِنْ نِعَمِه وإحسانِه، نائِمًا ويَقظانًا، كيفَ؟ مَنِ الذي يَحرُسُك في نَومِك؟ مَنِ الذي يَكلَؤُك ويَمُدُّك بأنواعِ المَددِ في كلِّ قُواكَ وقُدراتِك؟ إنَّهُ اللهُ، فاشكُرْه، واعلَمْ أنَّ حَقَّه عَظيمٌ، وابذُلْ ما تَستطيعُ في إظهارِ حُبِّه وتَعظيمِه، والإقبالِ عَلَيهِ، وأبشِرْ فإنَّ مِنْ مِنَّتِه أنَّ مَنْ صَدقَ مَعَه في الإقبالِ عَلَيهِ أجزَلَ لَهُ العَطاءَ والثوابَ.

فنَسألُ اللهَ أنْ يَجعلَنا وإيَّاكُم مِنْ عِبادِه الصالحينَ، ومِنْ حِزبِه المُفلِحينَ، ومِنْ أوليائِه المُتقينَ، وأنْ يَسلُكَ بِنا صِراطَه المُستقيمَ، اللهُمَّ وفِّقْنا إلى ما تُحِبُّ وتَرضَى مِنَ العَملِ، وتَفضَّلْ عَلَينا بقَبولِه، والإثابَةِ عَليهِ، يا ذا الجَلالِ والإكرامِ.

الاكثر مشاهدة

4. لبس الحذاء أثناء العمرة ( عدد المشاهدات94407 )
6. كيف تعرف نتيجة الاستخارة؟ ( عدد المشاهدات90180 )

مواد تم زيارتها

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف